خزانة البيت أولى بالأموال... لماذا يخاف المغاربة البنوك؟

يكنزُ مغاربةٌ كثيرون الأوراق المالية بعيداً عن أعين الدولة، وتكشف هذه الظاهرة أزمة ثقةٍ في النظام المالي المغربي.

Share
خزانة البيت أولى بالأموال... لماذا يخاف المغاربة البنوك؟
كثيرون من المغاربة مازالوا يفضّلون التداول بالعملة النقدية | خدمة غيتي للصور

بدءاً من صيف 2024، تابعتُ أخباراً وتقارير صحفيةً تتحدث عن تفضيلِ كثيرٍ من المغاربة النقودَ الورقيةَ على التداول المصرفي الرقمي، حتى وإن كانت مدّخراتهم قليلة. تدفقَتْ هذه القصص الإخبارية بكثرةٍ على هاتفي المحمول، فتذكرت موقفاً غريباً شهدتُه لرجلٍ مسنٍّ في مصرفٍ مغربيٍّ في أبريل 2015. فقد تفاجأ الرجل بكلام موظف المصرف الذي أنبأه: "فلوسك لم تعد مقبولةً للتداول يا سيدي". سكت العجوز قليلاً ثم قال باستعطافٍ: "شوفو ليا شي حلّ، عفاكوم [من فضلكم]". نظر الموظف إلى الرجل نظرة حسمٍ قويةً، وقال له: "يا سيدي، فلوسك قديمة. هل كنت تخزنها أم ماذا؟".

يكشف موقف الرجل المسنّ حجم القطيعة التي تفصل شريحةً من المغاربة عن النظام المصرفي الرسمي. ومع تنامي عدد الحسابات المصرفية في المغرب، إلّا أن مغاربةً كثيرين مازالوا يفضّلون تخزين النقود بعيداً عن المصارف. قد يحشونها في الوسائد ويدسّونها "تحت الزليج"، أي البلاط، وفي الخزائن الخاصة أو خزانات الملابس. فهم يحبّذون تداول النقود بعيداً عن أعين الدولة ونطاق الاقتصاد الرسمي. هذا السلوك ليس وليد لحظةٍ راهنةٍ، بل ظاهرةً متجذرةً في الثقافة المحلية تعكس علاقةً معقدةً بين الفرد والدولة التي لا تستفيد من هذه السيولة المنفلتة من قبضتها.


حكَت لي عائشة عن قصةِ قريبتها المتوفاة سنة 2015، ويلفّ ما جرى بعد وفاتها سحابةٌ من الغموض. خزّنت الراحلة نقودَها بطريقةٍ ملغزةٍ. وقد خلطت الأوراق النقدية بقمامةٍ تتماهى مع لون النقود وشكلها حتى لا يتعرّف عليها أقرباؤها. تقول عائشة: "كان الأمر مريباً بالنسبة إليّ، وحتى اللحظة لم أستوعب دوافعها لاكتناز هذا الكم الهائل من المال". كان صمت عائشة المتقطع يَشي بمحاولاتها الشاقّة تذكّرَ تفاصيل قصة قريبتها. كرّست المرأة جزءاً من حياتها حتى يوم مماتها في توفير نصف أموال تَقاعد زوجها المتوفّى منذ الثمانينيات.

لا تتضمن القصة السابقة دوافع جليةً لادخار هذه السيدة أموالَها. وهذا ما جعلني أبحث عن تفسير أسباب هذا الفعل. التقيتُ لاحقاً بأحمد الذي نقل قصة قريبه الذي يقترب من الستين، ويكسب رزقه من التجارة في السلع الصينية بسوقٍ شعبيٍّ بالدار البيضاء. يخزّن التاجر أموالَه وأرباحه اليومية في منزله ويرفض إيداعها البنك متجاهلاً نصائح أقربائه. ومنهم أحمد نفسه الذي يقول: "لم يقتنع بأن يرى أرباحه مقيّدةً في حسابه المصرفي على شكل أرقامٍ، بل يحبذ لمس الأوراق المالية بيديه [...] وهذا يشعره بالاطمئنان تجاه مدخراته". ارتشف أحمد بضع رشفاتٍ من فنجانه ببطءٍ وشردَ قبل أن يفصح عن شيءٍ ما يَعدّه سرّاً: "في إحدى الليالي، رأيته يخرج علبةً خشبيةً قديمةً داخل صندوقٍ حديديٍ كبيرٍ مغلقٍ بإحكامٍ شديدٍ بقفلين. كان يخزّن أوراقاً نقديةً على شكل رزمٍ مرتّبةٍ بعنايةٍ شديدةٍ بواسطة خيطٍ بلاستيكي. بدا لي الأمر وكأنه يملك مصرفاً منزلياً!".

قادتني هاتان القصتان للتفكير في الدوافع التي تجعل كثيراً من المغاربة يكنزون أموالهم. بحثت في الأمر إلى أن صادفت استطلاع رأيٍ من مؤسسة "سونيرجيا" المغربية سنة 2022، أفصح فيه نصف المستطلَعين أنهم يلجؤون لادّخار المال وسيلةً لمواجهة الطوارئ. وقد أفاد ما يقارب 60 بالمئة من المغاربة في استطلاع رأيٍ على منصة "هسبريس" الإخبارية سنة 2025 أنهم يفضّلون عقد معاملاتهم بالنقود الورقية بدلاً من الوسائل البنكية، كالبطاقات المصرفية وبرامج التحويل المالي.

وصرح إبراهيم الحمداوي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة ابن طفيل في القنيطرة، لمنصة هسبريس الإخبارية مفسّراً ظاهرة كنز المغاربة الأموال وعزوفهم عن إيداعها البنوك بأنه "إيمان المغاربة بضرورة لمس ما يملكون". وأضاف أنها "مسألةٌ ثقافيةٌ تراكمت مع مرور الوقت ولم تصل بعد إلى نهايتها رغم التطور الحاصل على مستوى المؤسسات البنكية". ويتفق مع هذا التحليل الاجتماعي رشيد أوراز، أحد مؤسّسي المعهد المغربي لتحليل السياسات. إذ أكّد أوراز للفِراتْس أنّ "كثيراً من الأفراد والتجار تعوّدوا على استعمال النقود. وفي التداول اليومي لا يستخدمون الشيك [الصكّ] المصرفي ولا يقبله الباعة. وبالتالي، فاستخدام النقود يظلّ مسألةً ثقافيةً بامتياز".

تجلّت هذه الحقائق في مقابلةٍ جمعتني مع الحلاق عبد الرحيم، المقيم في حيٍّ شعبيٍّ بمدينة أكادير وسط غرب المغرب. سألته عن سبب تفضيله تخزينَ أمواله خارج نطاق المصرف، فأجابني بنبرةٍ ساخرةٍ: "واش باغي [أتريد] الدولة والبنكا اسرقوني؟". يرى عبد الرحيم أنّ بعض المصارف تفرض رسوماً مبالغاً فيها مقابل خدماتها. ويلوم المصارفَ لأنها لا تشرح لعملائها بوضوحٍ وبساطةٍ طبيعة هذه الاقتطاعات. عبد الرحيم أيضاً ضمن مواطنين كثرٍ يعدّون الضرائب التي تفرضها الدولة على دخل المواطنين غيرَ مبرَّرةٍ. فقلّما تقدَّم، مقابل هذه الضرائب، خدماتٌ تليق بتطلعاتهم. وهو ما يرونه شكلاً من أشكال "السرقة".

قد يكون وصف عبد الرحيم مبالغاً فيه، لكن كلامه ينمّ عن خوفٍ وحذرٍ من أن يُجرَّد من ذلك المال الملموس الذي يمثل له أماناً في زمن تقلباتٍ لا تُحتمل، بدأت ملامحها منذ جائحة كورونا سنة 2020. فقبلها، سجّلت المعاملات البنكية في المغرب تصاعداً ملحوظاً مع تزايد استخدام الوسائل الرقمية. لكن إغلاق الأنشطة الاقتصادية إبّان الحجر الصحّي أحدثَ تحوّلاً كبيراً في أساليب الدفع. فقد تحوّل الاعتماد على السيولة النقدية المباشرة إلى ضرورةٍ ملحّةٍ، ممّا أدّى إلى تصدّر المغرب قائمةَ الدول العشرين الأكثر اعتماداً على الأوراق النقدية سنة 2022. فوفق مجلة "ميرشانت ماشين"، ازدادت التداولات النقدية من 342 مليار درهم (حوالي 34 مليار دولار) سنة 2021 لتصل إلى 393 مليار درهم (حوالي 93 مليار دولار).

يفسّر الباحث رشيد أوراز ظاهرة كنز المغاربة الأموال بارتفاع كلفة التبادل والصفقات عند استخدام وسائل التداول المصرفية. ويوضّح أن المعاملات خارج المنظومة البنكية أرخص، و"الكثيرون يتفادون الخروج من امتيازات القطاع غير النظامي الذي يشكّل ثلثَي النشاط الاقتصادي تقريباً". ويدعو أوراز إلى تبنّي المؤسسات المالية المغربية ما يسمّيه "إصلاحات مؤسساتية عميقة وهيكلية"، للتخلص من تراكم المشاكل الاقتصادية المعيقة للنمو والتنمية. ويحدد الباحث الاقتصادي أوجه الضرر الذي يلحق بالاقتصاد جرّاء كنز المغاربة الأموال. بالنسبة له، فهي تتمثل في تراجع الاقتراض لتمويل الأنشطة الاستثمارية الخاصة، ونقص السيولة التمويلية لدى البنوك "وهذا له مساوئ كثيرةٌ بما في ذلك على أصحاب الثروات أنفسهم، والسوق المالية تتضرّر بسبب الحاجة المستمرّة للنقد، ما يجعل الدورة المالية أقصر".

ما ذكره أوراز جعلني أبحث عن قرارات الحكومة لمعالجة هذه المسألة المعقدة، وما اتخذَتْه من إجراءاتٍ لكسب ثقّة المدّخرين المغاربة وإعادة السيولة من خارج القطاع المصرفي إلى داخله.


طيلة عقودٍ غضّت الحكومة الطرفَ عن واقع ادّخار المغاربة نقودَهم خارج نطاق المصارف دون التصريح عنها ضريبياً، ممّا أدّى إلى الإضرار بحجم السيولة النقدية. لكنها بدأت التحرك للتصدّي لتلك الظاهرة بقراراتٍ حاسمةٍ بدءاً من شهر ديسمبر 2024، بتقديم عرضٍ بدا مغرياً للبعض. كان العرض يغريهم بدفع 5 بالمئة فقط ضريبةً، مقابل تسوية وضعهم الضريبي دون مساءلةٍ ولا متابعةٍ قانونية. سمح هذا القرار الحكومي لكانِزي النقود بتسوية وضعهم الضريبي طوعياً مقابل أداء ضريبةٍ مخفّضةٍ (مقطوعة) بنسبة 5 بالمئة فقط من مجموع الأموال المدخرة وغير المصرّح بها. ويعني هذا أن من يحتفظ بأموالٍ لم يؤدّ عنها الضرائب سابقاً يمكنه تفادي الملاحقة القانونية بدفع هذه النسبة الرمزية.

لم تكن هذه الخطوة المسمّاة "التسوية الضريبية الطوعية" محض قرارٍ ماليٍّ، بل أشبه بمقامرةٍ غير معلنة. فالحكومة رمت شباكها في بحر الاقتصاد غير النظامي بغيةَ جمع أكبر ما يمكن من السيولة النقدية. فهل نجحت في اصطياد الأسماك الكبيرة والمتوسطة من أصحاب الأموال غير المصرّح عنها ضريبياً؟

لم تكد تمرّ أسابيع على إطلاق مبادرة التسوية الضريبية حتى أماطت الحكومة اللثامَ عن تصريح المغاربة عمّا يقارب 127 مليار درهم (ما يعادل نحو 12 مليار دولار). وقد أودِعَت مباشرةً في حسابات البنوك الرسمية، لتستفيد خزينة الدولة من سيولةٍ نقديةٍ تصل إلى ستة مليارات درهم (حوالي 600 مليون دولار). وهذا ما دفع مصطفى بايتاس، الناطقَ الرسميَّ بِاسم الحكومة، إلى التصريح في يناير 2025 بأن هذه "الحملة نجحت في ضخّ سيولةٍ مهمّةٍ في شرايين الاقتصاد" وأسهمت في تقليص العجز المالي إلى 4 بالمئة بدلاً من 4.3 بالمئة. استعاد المغرب أكثر من ملياري درهم (حوالي 200 مليون دولار) من الأموال المهرّبة خارج حدوده بفضل هذا القرار الضريبي، الذي سمح للمغاربة بتسوية ممتلكاتهم الخارجية دون ملاحقاتٍ قانونية.

تبدو هذه التسوية الضريبية فرصةً ذهبيةً لمن يحتفظون بأموالهم خارج الحسابات المصرفية. فهناك من استغلّ الفرصة وسارع إلى التصريح. بينما فضّل آخرون البقاء في الظلّ، إذ يخشون اليوم الذي ترتفع فيه نسبة الضرائب بعد نهاية المهلة القانونية. كان المشهد أشبه بلعبة شطرنجٍ اقتصاديةٍ يحاول جميع لاعبيها تقدير خطواتهم القادمة بحذرٍ شديد.

التقيتُ محاسبَ ضرائب رفضَ ذكرَ اسمِه لأسبابٍ شخصيةٍ، وأبدى رأياً مثيراً يقول فيه: "هذه الحملة لم تفشل في حصد السيولة، لكنها لم تنجح في كسب المترددين والحذرين". يشتغل صاحبنا في مكتبٍ للمحاسبة، ويأتيه في العادة عملاء يسعَوْن لتسوية أوضاعهم الضريبية. أثناء حديثه، أخرج من دُرج مكتبه كومةً من الإشعارات الضريبية التي وصلَتْه من عملائه، ثمّ رسم على شفتيه ضحكةً ساخرةً قائلاً: "البعض دفع، والبعض الآخر ينتظر اللحظة الأخيرة. والمغامرون يراهنون على أن الدولة ستعيد إطلاق حملةٍ جديدةٍ بعد سنواتٍ بنفس الامتيازات". لكن المحاسبَ يشدّد على أن المغامرين هم الخاسرون. فهم يراهنون على تسويةٍ ضريبيةٍ مستقبليةٍ بامتيازات التسوية الراهنة أو أكثر. وهذا أمرٌ –وفق تقديراته– مستبعدٌ، لأنه "لا توجد ملامح أو مؤشراتٌ حاليةٌ لاعتماد هذه الخطوة التسهيلية. لذا فالرابحون هم من قاموا بتسوية أموالهم المخزنة ضريبياً في الوقت الراهن".

أما أوراز، فيرى أن هذا القرار الضريبي ليس سوى "إجراءاتٍ تقنيةٍ غير كافيةٍ، ويمكن التحايل عليها". ويؤكد أنّه وجب على الدولة أن تعالج الأسباب التنظيمية وبناء الثقة مع المستثمرين والقطاع الخاص وتحسين مناخ الأعمال، "لأن تشجيع النشاط الاقتصادي النظامي يتوقف أولاً على المحفزات التي تقدمها الحكومة للفاعلين الاقتصاديين [المستثمرين] أكثر من العقوبات الزجرية".

لا يمكن أن نحصر مسألة كنز المغاربة الأموال وتبعاتها الاقتصادية في حيّز الحاضر. فهذه المسألة ليست وليدة اللحظة، وإنما تعود جذورها إلى الفترة من القرن الثامن عشر إلى بدايات القرن العشرين. ويحوي هذا الماضي الطويل بين طياته وقائع تؤشّر على أن التاريخ يعيد نفسه أحياناً.


مع أنّ النقود كانت حاضرةً ومتداولةً عند بعض الأوساط المرفهة في المغرب، إلّا أن اقتصاد البلد كان قائماً قبل القرن التاسع عشر على التبادل العَيني والمقايضة. فالقبائل كانت تدفع ضرائبها للمخزن، الاسم التاريخي للدولة في المغرب، موادَّ أوليةً كالقمح والشعير وغيرهما بدلاً من الدراهم. كانت الحياة تسير برتابتها تلك حتى بدأت الأبواب تُفتح على مصراعيها للتسرّب الأوروبي بدايات القرن التاسع عشر، في المجالات التجارية والمالية والسياسية للبلد. فدخل الاقتصاد المغربي في متاهةٍ جديدةٍ لم يألفها من قبل.

وجد المغاربة أنفسهم أمام اقتصادٍ جديدٍ لا يعترف إلّا بالنقود، فيما اعتادوا على نظام مقايضةٍ يضمن لهم حياةً مستقرةً، وإن كان يشوبها الكفاف.

ومنذ منتصف القرن التاسع عشر أضحى التجار يتقايضون بالعملات النقدية الأوروبية، كالفرنك الفرنسي، في الأسواق المغربية وفي الموانئ خاصّة. سبّب ذلك استقرار قيمتها مقارنةً بالعملة المحلية، الريال الحَسَنيّ. وهو ما شجّع التجار على تفضيلها لتفادي تقلبات القيمة. ولم يَعد المخزن يقبل الضرائب من المحاصيل الزراعية، بل أصرّ على استلامها نقداً. فلم تجد القبائل بدّاً من التأقلم، وتحوّلت من اقتصادٍ يغلب عليه الاكتفاء الذاتي إلى اقتصادٍ يسعى إلى الربح.

أثّر هذا الواقع الاقتصادي في سلوك الادخار لدى المزارعين المغاربة. ففي السابق كان الفلاحون في مواسم الوفرة يخزّنون غلّاتهم الزراعية في مطاميرهم، وهي أماكن تخزين الحبوب، لمواجهة مظاهر الندرة في مواسم الجفاف أو الأوبئة أو الكوارث الطبيعية. لكن لاحقاً بات الفلاحون الأغنياء، الذين يحصدون غلّةً وفيرةً، في حاجةٍ إلى النقود لشراء حاجياتهم وأداء الضريبة. وهذا الواقع الحتميّ جعلهم يضطرون إلى بيع محاصيلهم الكاملة والمخزّنة في المطامير مقابل كيسٍ من النقود.

لم يكن المال في المغرب وسيلةً معتادةً للتبادل اليومي. فقد ظلّ قروناً حكراً على النخب النافذة والتجار الكبار الذين لم يكتفوا بجمعه، بل حرصوا على تخزينه بعيداً عن أعين السلطة. فهو ضمانةٌ لمواجهة النوائب أو وسيلةٌ لتوسيع النفوذ الاقتصادي والحظوة الاجتماعية. إذ لم يكن المال ضرورةً للعيش بقدر ما كان امتلاك فائضٍ منه ترفاً لا يحظى به سوى قلّةٌ قليلةٌ من المحظوظين والأثرياء.

أمّا موقف الفلاحين فكان مختلفاً. ويشرحه أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الأسبق، في كتابه "المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر" المنشور سنة 2011. ينقل فيه توفيق عن المؤرّخ الفرنسي جان لوي مييج قوله: "وكانت عادة الفلاحين الأثرياء إخفاءَ كنزهم [الماليّ]"، الذي قد يتعرّض بين الفينة والأخرى لتلفٍ ما بسبب عوامل الرطوبة. ولحمايته من هذا المشكِل، يقول مييج إنّهم "كانوا يقومون بوضعها في كسكاس [طنجرة طبخ الكسكس] وتعريضها لبخار الماء الذي يغلي في قِدرٍ تحته، ثمّ يتمّ حكّها بالنخالة".

يحفل تاريخ اختزان المال في المغرب بمثل هذه التجارب والممارسات التي توضح العلاقة الملتبسة بين المغاربة والنقود في ظلّ الاضطرابات الأمنية. وهو ما حدث مع التاجر المغربي العباس التدلاوي في أواخر القرن التاسع عشر، والذي يورد أحمد التوفيق قصّتَه في كتابه. كان العبّاس من كبار التجار المقرّبين من القائد الجيلالي الدمناتي المُعيَّن قائداً على بلدة دمنات. وقد جمع العبّاس ثروةً طائلةً في سنواتٍ طويلة. لكنه وجد نفسه محاصراً عندما اندلعت انتفاضةٌ بعد وفاة السلطان الحسن الأول. ففرّ إلى أحد الأضرحة بقرية آيت أومغار الواقعة في مدينة دمنات وسط شرق المغرب، واعتصم به. غير أنه لم يكتفِ بذلك، بل أوقد رجاله النيرانَ في سقف المخزن حيث كان يخزن ماله، كي ينهار السقف ويتلف المال مخافة أن يقع في أيدي الثوار.

يقسّم محمد أوبيهي، أستاذ التاريخ بجامعة محمد الخامس في الرباط، التجارَ في تلك الحقبة إلى فئتين رئيستَين. فئةٌ كانت منفتحةً على المعاملات المصرفية الحديثة آنذاك، وفئةٌ أخرى مالت إلى التخزين والتقوقع المالي. يوضح أوبيهي في حديثه مع الفِراتْس أن "الفئة الثانية، إلى جانب تفضيلها الاحتفاظ بأموالها في المنازل نتيجة غياب المؤسسات المصرفية الحديثة، لجأت بعض شرائحها إلى استخدام مؤسسة 'الإكودار' [أو المخازن الجماعية] لتخزين الثروات، وفق أعرافٍ صارمةٍ، خاصّةً في فترات الحروب والجفاف والأوبئة". وكانت المخازن الجماعية تقام في مواقع مرتفعةٍ ومحصّنةٍ، فوق الجبال أو الهضاب بغية حماية الأغراض المودَعة فيها. وتوضَع ممتلكات كلّ أسرةٍ في غرفةٍ صغيرةٍ محكَمة الإغلاق وموثّقةٍ بسجلٍّ يكتبه المحافظ، المعروف باستقامته، الذي لا يسمح لأيٍّ كان بأن يَلِج تلك الغرفَ إلّا أصحابها.

تأملتُ مَلِيّاً هذه الوقائع التاريخية المثقَلة بمظاهر التخزين الماليّ والتهرّب الضريبي، ما دفعني لأسأل أوبيهي عن تأثير هذا السلوك على استقرار الاقتصاد المحلّي وتحصيل المخزن مواردَه المالية. يرى أوبيهي أنّ مالية المخزن تأثرت سلباً بسبب هذه الأوضاع التي تزامنت مع انتشار نظام الحماية القنصلية في المدن الساحلية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. إذ منحت القوى الأوروبية امتيازاتٍ خاصّةً لرعاياها، منها الإعفاء من الضرائب.

أدّت هذه الظروف إلى تراجع موارد خزينة الدولة. واستغلت القوى الأوروبية هذه الأزمة لفرض مزيدٍ من الضغوط الاقتصادية والمالية على المخزن وتقديم قروضٍ مشروطةٍ أرهقت الاقتصاد المغربي. ففي أعقاب هزيمة المغرب العسكرية أمام إسبانيا في معركة تطوان سنة 1860، اضطرّ المغرب إلى الاقتراض لسداد التعويضات التي فرضتها عليها الدولة المنتصرة. وعلى النحو الذي سارت عليه سياسات الإقراض الأوروبي آنذاك كان الإنهاك الاقتصادي مقدّمةً لفرض الحماية، وقبلها الرقابة الأوروبية على الاقتصاد المغربي. يشرح أوبيهي "أن هذا الوضع ساهم في استنزاف خزينة المخزن وزاد من حدّة الأزمة الاقتصادية. فقد واجه المغرب صعوبةً في التكيّف مع التوسع الرأسمالي الأوروبي بسبب اعتماده على ممارساتٍ اقتصاديةٍ تقليديةٍ لم تواكب هذه التحولات".

إذا كانت الدولة في الزمن الحاضر لجأت إلى سياسة التسوية الضريبية الطوعية لملءِ خزينتها بالسيولة النقدية، فإن هذه الحاجة المالية كانت حاضرةً أيضاً في الماضي. ولجأت الدولة المغربية حينها لحلٍّ يواكب حقبة القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر. فأجبرت عموم المغاربة على التعامل بالقطع النقدية وتدوينها في العقود، تحت طائلة العقاب القاسي للمخالفين، حتى تتمكن من فرض الضرائب عليها. وذلك بغية جمع قدرٍ كافٍ من الأموال يمكّنها من الاعتماد على النقود رصيداً للثروة، بدلاً من الاعتماد على الحبوب والموادّ الأولية التي كانت تتحصل عليها من القبائل. وكان من أهمّ مصادر الدخل للدولة في المدّة ما بين 1900 و1910 فرض ضرائب الموانئ على كلّ السلع والأفراد الوافدين إلى المغرب. وقد أنعشت هذه السياسة خزينةَ الدولة آنذاك.

بيد أن هذا الانتعاش لم يكن خطّياً ولا مستداماً. ففي الحقبة نفسها –مطلع القرن العشرين– خسر البلد جزءاً غير يسيرٍ من الاحتياط النقدي نتيجة عوامل عديدة. أبرز هذه العوامل هجرة التجار اليهود المغاربة نحو أوروبا وأمريكا حاملين معهم ثرواتهم النقدية لتأسيس حياةٍ جديدة. يقول أوبيهي للفِراتْس: "لا يمكن الجزم بأن هجرة الأسر التجارية اليهودية أدّت بشكلٍ مباشرٍ إلى فراغٍ أو عجزٍ في خزينة الدولة المغربية".

أتت هجرة كثيرٍ من الأسر اليهودية المغربية التي راكمت ثرواتٍ من التجارة في أعقاب فرض الحماية الفرنسية على المغرب في مارس 1912. إذ حاصرت شروط الحماية الأوضاعَ الاقتصادية للمواطنين المغاربة، "ممّا جعلهم يعتبرون الهجرة إلى أمريكا خياراً آمناً لمواصلة أنشطتهم التجارية" كما يشرح أوبيهي. فأسّسوا وكالاتٍ تجاريةً في الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية أقامت علاقاتٍ اقتصاديةً مع وكالاتٍ تجاريةٍ أخرى نشطةٍ في أوروبا، وخصوصاً دول حوض المتوسط.


تأملتُ هذا السياق التاريخي وبدا لي أن الدولة تحاول أن لا تعيده. إذ أفلتت من بين يديها في الماضي فرصة فرضِ ضرائب على أموالٍ مكنوزةٍ ومهرّبةٍ، وكانت قد تعشّمت في الاستفادة قدر الإمكان من سيولتها المشدودة بأيدي التجار والمهربين.

أمّا الحلاق عبد الرحيم، فليس خائفاً من المصادرة والملاحقة قدرَ ما هو حَذِر. فقد سألته إن كان في نيّته إيداع أمواله في البنك والتصريح عنها ضريبياً في المستقبل. صمتَ طويلاً ثمّ حسم كلامه بالقول: "شوف يا أخي. أنا سأودع أموالي في المصرف، لكن جزءاً منها فقط. أنا ما زلت أحبّ أن ألمس رزقي بيدي. فهمت؟ بيدي الاثنتين، وهذا من حقّي".

هذا الكلام الذي نطقه عبد الرحيم يتّفق معه جزءٌ من المغاربة الذين يرَون المالَ كنزاً يمكن الاحتفاظ به في المنازل وفي أماكن غير متوقعةٍ وغريبة. وهذا ناتجٌ عن استمرارية حالةٍ من التوجس وعدم الارتياح تجاه المؤسسات المالية، تغذّيه تجارب تاريخيةٌ من المصادرات والإجراءات الضريبية المجحفة أحياناً. مع وجود ثقافةٍ سائدةٍ تنظر إلى المُلْكية شيئاً ملموساً، وليس محض أرقامٍ افتراضيةٍ في حسابٍ مصرفيّ.

اليوم وفي عصر الرقمنة المالية، ومع أنّ سياسات الدولة ترمي إلى هيكلة السيولة المالية المنفلتة من بين أيديها، إلّا أنها مازالت شبه عاجزةٍ عن توجيه هذه الأموال المخزنة نحو الاستثمار المنتج والشفاف. فهل سيستمر هذا التجاذب الحاصل بين نقودٍ تتصاعد رائحة حبرِها المكتوم في المنازل ونظامٍ اقتصاديٍّ شبه راكدٍ يحتاج إليها.

اشترك في نشرتنا البريدية