توازي ظهورَ الملك بهذه الهيئة أسئلةٌ تُطرح عن طبيعة العلاقة التي تربط المغاربة بالجسد الملكي، بما يحمله من رمزيةٍ ودلالات. فقد تصادف أن شاهدتُ إحدى هذه الفيديوهات، وأنا في جلسةٍ تجمع شباباً في مقهىً وسط مدينة الرباط. وظهر في الفيديو الملك في مركزٍ تجاريٍّ بالإمارات وقد بدت عليه علامات الوهن. وعند سؤالي عن سرّ هذا الاهتمام بصحة الملك، كانت الإجابات تصبّ في الجانب الإنساني. لكن تغيرت الصورة عندما سألت عن عدم اهتمامهم بحالة بقيّة النخبة السياسية. فذهبت معظم الآراء إلى عدم جواز المقارنة شكلاً ومضموناً، لأن الملك "أبو الأمّة وأمير المؤمنين وليس مثلَهم".
ومع ذلك أجابني أحدهم واسمه أمين (28 عاماً) أنّ "الملك هو أبو المغاربة ونحن نحبّه ونبجّله. ووددت لو التقيته لأقبّل يديه الكريمتين وألتقط صورةً معه". حفّزني الجواب على نقاشه وسؤاله عن علاقته بوالده وهل يقبّل يده، ليكون جوابه بالنفي وأنه يستعيض عن ذلك بالعناق أو بالسلام إيماءً بالوجه أو المصافحة باليدين فقط. وعند سؤالي عن سبب ذلك، أجاب أن "تقبيل اليد أصبح متجاوَزاً وعادةً قديمة". وهذا الرأي اتّفق معه فيه جلّ الجالسين إلى الطاولة.
ترسم هذه المحادثة والنقاش صورةً مصغرةً عن منظور فئةٍ من الشباب المغربي للجسد الملكي، لاسيما عندما يتعلق الأمر بتقبيل يد الملك. فالموضوع هنا لا ينحصر بالملك، القائد والزعيم السياسي فقط، بل يشمل السلطان وأمير المؤمنين وسليل الدوحة النبوية والوليّ صاحب البركة. وقد سبق أن عبّر عن ذلك الملك الراحل الحسن الثاني في حوارٍ سابقٍ مع صحيفة "لو نوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية، بتاريخ 6 نوفمبر 1970، قائلاً: "ليس أنا من يتمّ تقديسه، بل وريث أسرةٍ . . . إنهم [المغاربة] ينحنون ليس أمام شخصي، لكن أمام خطّ المنحدرين من نسل الرسول".
ومع ذلك، يبدو اليوم لزاماً طرح مسألة انقياد شباب الجيل الحاليّ وخضوعهم لهذه الطقوس وجدوى استمرارها. وقد بدأت فئاتٌ واسعةٌ داخل المجتمع، بما فيها من داخل المخزن (النظام الملكي) نفسه، ترفض استمرار هذه الطقوس. فالمستجدات التي طرأت على البنية الذهنية للمجتمع تجعل من ارتباط الجيل الحالي بهذه الطقوس أوهى في حجج الإبقاء عليها. خاصّةً أنّ الشباب لا يجدون في المؤسسات التقليدية، كإمارة المؤمنين أو المسجد أو الزاوية، الفاعلية والجاذبية العقائدية والدينية.
وهكذا ارتبط تقبيل اليد وبرز مع مؤسسة الزاوية الصوفية والضريح، خاصّةً مع تعزيز حضورها داخل المجتمع بسبب حاجة الدولة المركزية إلى توطيد السلطة واستمالة الجماهير. فوُظِّفت الزوايا وصارت مراكزَ رعايةٍ اجتماعيةٍ توفّر الإيواء والطعام والملبس للمحتاجين، مما جعل العلاقة بين الزاوية والمريدين علاقة انتفاعٍ مادّيٍ تسهم في بناء قاعدةٍ شعبيةٍ للسلطة.
وقد تبنّى السلاطين هذه الآلية لتحقيق شعبيةٍ سياسية. إذ كانت الزاوية بمثابة ملاذٍ ومنطلقٍ لنشر معتقداتها الرسمية. وهذا ما يمكن استنباطه من مقال محمد شقير، المهتمّ بشؤون البلاط والشؤون السياسية والأمنية، في موقع هسبريس سنة 2017 بعنوان "عندما نافست الزوايا السلاطين". يقول شقير إنّ السلطة المغربية استخدمت الزوايا في "ملء الأفواه والبطون لاستقطاب العقول" وفي ترسيخ العلاقة بين السلطة والمؤسسات الدينية، إذ أسهمت في تشكيل رمز الشرف والقداسة التي ترتكز عليها مشروعية النظام.
خضعت الزوايا الصوفية في العقود الماضية إلى تحولاتٍ جذريةٍ أدّت إلى تراجع وظائفها التعليمية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية. فقد أُوكلت بعض مهامها إلى مؤسسات الدولة الحديثة، مثل الصحة والتعليم والقضاء والاقتصاد، وتولّت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني دورَ العمل السياسي والاجتماعي. ومع ذلك ظلّت الزوايا مصدراً رمزياً تستمد منه المؤسسة الملكية بعضاً من شرعيتها. فالعناصر المرتبطة بالقداسة والطهارة والتحكيم في النزاعات مازالت تُستَحضر في خطاب النظام، لتظلّ رموزاً تساعد على إبراز صورة الملك حاملاً للبركة والسلطة الروحية.
يتجلّى هذا في أنّ طقوس تقبيل اليد رمزاً حيّاً للحضور المادي والرمزي للجسد داخل النظام السياسي والثقافي. إذ توظَّف لتأكيد سلطة الملك أو السلطان باستحضار مفاهيم من قبيل القداسة أو البركة وما يرتبط بها من حمولةٍ رمزيةٍ تبرّر استمرار النفوذ وإخضاع الجماعات. ذلك أن الحكم بالقوة والعنف لا يكفيان للإجابة عن مدى القدرة على الاستمرارية في الضبط والسيطرة، مهما كانت الاختلافات والتناقضات بينها.
وهكذا قد يُنظر إلى العلاقة بين الملك ورعيّته نسخةً موسعةً لعلاقة الشيخ بالمريد، بتعبير عبد الله حمودي، عالم الإناسة والأستاذ بجامعة برنستون الأمريكية في كتاب "الشيخ والمريد" الصادر بالعربية سنة 2010. يرى حمودي أنّ المريد يسعى إلى إرضاء الشيخ بالخضوع المطلق، بينما يكرّس الأخير سلطته بتوظيف الطقوس والرموز الدينية والاجتماعية، بوصفه مصدراً للحياة توزع من خلاله الموارد حسب إرادة الزعيم.
وبالخضوع لسلطة المقدس، تبرز أهمية السلطة الرمزية التي تمتلكها دار الملك وتنتج بها أشكالاً تعبيريةً تضاهي في قوّتها ونجاعتها نظيراتها المادية. يضيف حمودي أنّ "النسب الشريف يفرض نفسه على عقول الجميع". إذ يزدحم الناس "أمام السلطان من أجل اتصالٍ نافعٍ، فتقبّل يداه ورجلاه وركابه . . . [ما يفسر أن] هذه الطقوس والرموز تبسط وتتكرر وتتألف ويعاد تأليفها بدون انقطاعٍ داخل مجموعاتٍ موجهةٍ ووقتيةٍ تعمل في حقل العلاقة السياسية بصفتها خطط سلطة".
وهكذا تُفعّل وظائف الزاوية تاريخياً في جانبها المادّي من مفهوم بركة الشيخ أو السلطان ذي القداسة لتكون سبباً في توفير الأمن والرخاء والاستقرار والحماية والمحصول الوفير. وبالمقابل، يسلّم الناس بقدسية شيخ الزاوية أو السلطان وحاكميته وتعاليه عن الآخرين. ووفق حمودي، تتحدد أشكال العلاقة التي تؤطّر الطرفين. فكما منحت القبيلة شيخ الزاوية عقلها ووعيها كلياً، استمدَّ الشيخ السلطة من بركته وقدسيته التي تجلب الخير وتدفع عنهم الشر. وهكذا استمر تقبيل يد الملك في المغرب رمزاً معبِّراً عن شرعية السلطة والبركة المقدسة التي تعزز صورة الملك والنظام.
إلا أنه مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية التي تشهدها المغرب اليوم، باتت الخطابات الرمزية التقليدية محلّ شكٍّ، مما يضع النظام الرمزي للمؤسسة الملكية إزاء تحديات جسيمةٍ من داخل المجتمع. وبينما يبدو النظام ساعياً إلى تجديد طقوسه أو تكييفها لتلبية مطالب مختلف الفئات، فإن الجيل الجديد يبدو أقلّ ارتباطاً بهذه الطقوس ويميل إلى إعادة النظر في طبيعة الولاء والطاعة، مع تأكيد ضرورة تجاوز المظاهر الشكلية التي يراها كثيرٌ من شباب هذا الجيل بقايا لعصورٍ مضت. وهو ما أكّده نور الدين الزاهي في حوارٍ مع جريدة القدس العربي سنة 2018، بقوله: "لم تعد المؤسسات الدينية المغربية التقليدية [إمارة المؤمنين والمسجد والزوايا والمدارس القرآنية والكتاتيب] لديها الفاعلية الأيديولوجية الدينية على الشباب الذي يشكل النسبة الديموغرافية الغالبة في المجتمع المغربي".
وقفت دراسةٌ للباحث الاجتماعي رشيد جرموني سنة 2016، عنوانها "مقترب منهجي لدراسة الظاهرة الدينية"، على مختلف هذه التحولات مركزةً على علاقة الشباب المغربي بالطقوس والمؤسسات الدينية التقليدية. وبحسب الدراسة، فقد أظهر الشباب المغربي ميولاً متزايدةً إلى ما يُسمّى "التديّن الفردي". ويعتمد الشباب في هذا الإطار على مصادر معرفيةٍ متنوعةٍ من الإنترنت ويفضّلون اكتساب المعرفة الدينية خارج المؤسسات الدينية الرسمية التقليدية. نتج عن هذا، كما يشير الباحث خالد شهبار في دراسته "مفارقات المشهد الديني المغربي" خريف سنة 2019، أنّ المؤسسة الدينية التقليدية فقدت جزءاً من مصداقيتها في نظرِ الشباب. ويرى أنَّ "[. . .] الطابع السياسي الخالص للسلطة القائمة بالمغرب يبيّن أن الدين يظلّ مجرّد أداةٍ لإرساء شرعيتها".
ويشير جرموني في دراسته إلى أن الجيل الجديد من الشباب المغربي، من 18 إلى 29 عاماً، لديه ميل إلى الطقوس الدينية ذات الصبغة العصرية، مع ميلٍ للتديّن الفردي بعيداً عن سلطة شيخ القبيلة أو شيخ الزاوية، أي انصرافاً عن المؤسسات الرسمية. فالشباب مثلاً لديه ثقةٌ في دور القرآن أكثر من إمارة المؤمنين. ولديه الثقة في جماعة العدل والإحسان، وهي جماعةٌ معارضةٌ يمكن اتخاذها زاويةً منافِسةً، تقارِب الثقة في المؤسسة الدينية الرسمية متمثلةً في المجلس العلمي الأعلى. أما المعطى الأهم، كما أورده جرموني في بحثٍ آخَر بعنوان "سوسيولوجيا التحولات الدينية في المغرب" سنة 2015، هو أن الزوايا والأضرحة حظيت بأقلّ نسبة ثقةٍ بين الشباب والجيل الحالي من باقي المؤسسات. فإذا كانت نسبة المغاربة من الذين لم يسبق لهم زيارة أيّ ضريحٍ نهائياً قد بلغت 53 بالمئة، فنسبة الشباب منهم كانت أقلّ بكثير. إذ عبّر ما يقارب 58 بالمئة من هؤلاء الشباب بأنّهم لا يثقون بالزوايا، مقابل 9.6 بالمئة فقط ممّن يثقون بها.
عاملٌ مهمٌّ آخَر أثّر في موقف الشباب من الزوايا والأضرحة، ألا وهو تراجع دورها الاجتماعي والاقتصادي، إذ فقدت دورها في استقبال الزائرين وتوفير المأوى والمأكل والمشرب لهم. وقد أشار رشيد جرموني في بحثه أعلاه إلى أنه "وقع نوعٌ من فقدان الثقة في هذا الفاعل [الضريح والزاوية]، الأمر الذي يعني ضعف الارتباط به كمكوّنٍ من مكونات المشهد الديني في المغرب".
ومع أن الطرق الصوفية، وفي صلبها الزوايا والأضرحة، كان لها دورٌ في مناسباتٍ سياسيةٍ معاصرةٍ (كالدعوة مثلاً للتصويت بالإيجاب على مقترحاتٍ دستوريةٍ أو تخليداً لمناسباتٍ وطنية)، إلّا أن ثقل دورها بات محدوداً. وهنا يؤكد الكاتبان منير ريدمي وأحمد الدهمي في دراستهما "التدين المعاصر وآلية الترميق الديني" الصادرة سنة 2022، أنه رغم الحضور في بعض المناسبات الرسمية فقد شهد العقدان الأخيران تراجعاً كبيراً في تأثيرها وأدوارها [الزوايا والأضرحة]، وأصبحت عاجزةً عن أداء دورها الديني التقليدي "بحكم الطبيعة الدينامية [تطوّر المجتمع] للمجتمع المعاصر من جهةٍ، وأيضاً بروز مصادر جديدةٍ أخرى منافسةٍ قادرةٍ على تغذية الثقافية الدينية للأفراد".
وهكذا بدأ الشباب يصنعون هويتهم الدينية المستقلة ويتخذون مواقف نقديةً تجاه الطقوس المخزنية التي كانت تعدّ جزءاً من ممارسات النظام الملكي. إلّا أن هذا التحول لا يعني رفض الدين مطلقاً، بل على العكس، إذ تشهد ظاهرة التديّن أو ما يسمّى "الصحوة" تنامياً كبيراً في حياة الشباب المغربي. فقد فاقت النسبة 19 نقطةً مئويةً بين سنتَيْ 2018 و2021 حسب استطلاع البارومتر العربي. وهو ما قد يفسّر سعي الشباب إلى إعادة صياغة قيمهم ومعتقداتهم بما يبرز واقع حياتهم وتطلعاتهم نحو التغيير الاجتماعي والاقتصادي.
مواقف هذا الجيل أكثر صلةً، كما يبدو، بضرورة تجاوز المظاهر الشكلية نحو بدائل مادّيةٍ، خاصّةً في الجانبَين الاقتصادي والاجتماعي. وفي إطار الدولة الحديثة، يحتاج الشباب من الحاكم التفاعلَ مع مشاكلهم المادّية التي تشكّل أولويةً، مثل الرشوة والبطالة والتردّي الاقتصادي، بل حتى الواقع السياسي وقضايا المواطنة وحقوق الإنسان. وهذا ما تناقشه هناء شريكي، أستاذة علم الاجتماع في جامعة شعيب الدكالي، في مقالتها سنة 2020 والمعنونة "الشباب المغربي والقيم". فتقول إنّ "مختلف المشاكل التي تعترض المجتمع المغربي، والمتمثلة في الرشوة والبطالة والزبائنية [. . .] تشكّل حالاتٍ من الإحباط الاجتماعي والسياسي وعوامل كفيلةٍ بجعل المجتمع المـغـربي يعيش 'حالـةً من التحول'. ما أدّى لبداية بروز الفرد وانفصاله التدريجي عن جماعته، وبداية بناء الشباب لتمثلاتٍ جديدةٍ حول ذواتهم وإنتاجهم لقيمٍ وانتظاراتٍ جديدةٍ، ترتبط في رغبتهم في التغيير حتى ولو تعلق الأمر بانتهاك المحرمات الدينية والجنسية".
هذا يعني أن الشباب يفضّلون بناء ذواتهم بعيداً عن الجماعة بما تشمله من أسرةٍ وعائلةٍ ومجتمع. إذ يبتكرون وينتجون أنماط حياةٍ وعيشٍ مختلفةً عن الأنماط التقليدية السائدة، حتى لو تطلب الأمر الاصطدام بهذه الأخيرة وانتهاك الثوابت أو تجاوز المؤسسات الاجتماعية والدينية القائمة.
نشر لحسن دحماني، الباحث في وزارة التربية الوطنية، دراسةً سنة 2022 عنوانها "التغير الاجتماعي والتغير القيمي في الأسرة المغربية". رأى فيها أن الأسرة المغربية عرفت تغييراً في بنيتها أسهم بتحوّلٍ في منظورها القيمي. ويشير إلى أنّ تغيّر الأسرة من ممتدةٍ إلى نوويةٍ، أي الصغيرة المتكونة من أب وأم وأبناء، أدّى إلى تجدّدٍ وتحوّلٍ في قيمها وأدوارها وعاداتها وأعرافها وطقوسها ورموزها ووظائفها ومنطقها وعقليتها وكيفية إدراكها للعالم والأشياء.
يرى التيار الداعم لطقس تقبيل اليد فيه عادةً معمولاً بها في الأسرة المغربية. وبناءً عليه، فالمَلك يُعَدّ أباً للأمّة، والاحترام الذي يحظى به الآباء والمسنّون هو الذي يتوجّه أصالةً إلى المَلك لأنه أبو الأمّة وزعيمها الروحي. وهذا حسب تعبير الأستاذ محمد العلمي في كتابه بالفرنسية "لو بروتوكول إيه ليه زاس إيه كوتوم أو ماروك" (البروتوكول والعادات في المغرب) الصادر سنة 2013. غير أنّ الأسرة نفسها، بوصفها مؤسسةً تضع الخضوع معياراً للعلاقة، قد تغيّرت كلّياً. كانت العلاقة بين الأبناء والآباء علاقة تابعٍ وخاضعٍ لسلطة ربّ الأسرة، وعليه كان ولاء الفرد. ويتجه الولاء في ظلّ هذا النظام الأبوي إلى جماعات الانتماء الأولية كالعائلة والعشيرة والقبيلة، بدلاً من الولاء لأفكارٍ مجرّدةٍ مثل الوطن والأمّة. حتى أنّ نظام التراتبية القديم تغيّر. فقد كان هرمياً يبدأ بالأكبر سنّاً، بدءاً بالجدّ إلى الأب والأمّ ثمّ الأخ الأكبر. وقد كان التناقض بين الآباء والأبناء بسيطاً وخفياً. وهذا ما لا يجري اليوم، إذ بدأ الأبناء يفرضون على الآباء اختياراتهم، سواءً في أمورهم الشخصية أو أمور الأسرة.
ويؤكد لحسن دحماني أنّ هذا الأمر يشير إلى تحوّلٍ في علاقة الطاعة والولاء والخضوع لسلطة الأب التي كانت فيما مضى. فالإكراه الاقتصادي، مثلاً، ألزم الأبوين بالخروج معاً للعمل، ما أدّى إلى تراجع مركزية الأب. تمخض عن ذلك حالةٌ فقد فيها الرجل قدرته على توفير الاستقرار المادي للأسرة. وهذا ما تؤكده إحصائيات وزارة الأسرة والتضامن والإدماج الاجتماعي سنة 2024. فحسب هذه الإحصائيات، شهد المغرب ارتفاعاً في نسبة الأسَر التي تعيلها نساءٌ من 16.2 بالمئة سنة 2014 إلى 19.2 بالمئة سنة 2024. وهذه عوامل أحدثت فراغاً أفقد الأبناء النماذج القيمية التقليدية التي يمثّلها، فبدأ الأبناء يبحثون عن نماذج قيميةٍ جديدةٍ على مستوى الإعلام أو الدين.
وقد أدّى انتشار وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي إلى إحداث طفرةٍ معرفيةٍ لا مثيل لها تعيد تشكيل الخطابات الدينية والسياسية. يتّضح أثر وسائل التواصل مع جيل ما بعد حركة "20 فبراير"، وهي حركةٌ شبابيةٌ تأسست في سياق موجة الربيع العربي سنة 2011 وتضمّ ناشطين طالبوا بإصلاحاتٍ في المغرب. إذ عُدّت تقاليد، مثل تقبيل اليد والركوع، جزءاً من إرث سلطةٍ استبداديةٍ لا تتماشى مع قيم العصر الجديد. وهذا ما أبرزه "بيان الكرامة" في 20 أغسطس 2012، وهو عريضة وقّعتها مئة وأحد عشر شخصيةً مغربيةً مطالبين بإلغاء "البروتوكول المخزي" من من انحناءٍ وركوعٍ وتقبيلٍ لأيدي المَلك وأسرته، وفي ثناياها مطالب بالديمقراطية وحقوق إنسانٍ ومواطنة.
حتى في المؤسسات الرسمية، عبّر برلمانيون شبابٌ عن رفضهم المشاركة في حفل الولاء لِما يصاحبه من طقوس ركوع وسجود. فقد كتب عادل تشيكيطو، من حزب الاستقلال المحافظ، في منشورٍ على منصة فيسبوك: "لامني البعض لأنني لم أرتدِ الجلباب والسلهام [رداء مغربي] والطربوش المخزني الأحمر وأضع رأسي بين الرؤوس الراكعة خمس مراتٍ [. . .] فكان جوابي إنما الركوع والسجود لله تعالى [. . .] نعم نحبّ المَلك [. . .] نهتف بحياته وبحياة الشعب المغربي المجاهد [. . .] لكن اعذروني فالسجود والركوع لا يكون إلّا أمام ربّ العالمين". الأمر ذاته حدث مع البرلماني عمر بلافريج، من حزب فيدرالية اليسار. ففي بثٍّ تفاعليٍّ مباشرٍ على صفحته في فيسبوك، نشره لاحقاً على منصة يوتيوب، عبّر عن مقاطعة هذه العادة ورفضها، وصرّح قائلاً: "محضرتش لحفل الولاء وما تافقش [لا أتفق] مع خطاب المَلك". وذلك في ردّه وتفاعله على أسئلة متابعيه وأنصاره. وهكذا رأى البرلمانيان، على اختلاف توجهاتهما، الحفلَ رمزاً لصعود سلطةٍ قديمةٍ مؤكّدَيْن أن التعبير الحقيقي عن الولاء يجب أن يكون مبنياً على مبادئ دينيةٍ وإنسانيةٍ، وليس على تقاليد إكراهية.
رفض الشباب هذه الطقوسَ محتجين في الشارع، كما الحال في 22 أغسطس 2012، أي بعد يومين من حفل الاستقبال الرسمي الذي تزامن مع مناسبة عيد الشباب في 20 أغسطس، عند الاحتفال بعيد ميلاد المَلك. احتجّ الشباب على تلك الطقوس وعُدّ الأمر سابقةً حينئذ. ويبدو أن هذه الاحتجاجات قد أثّرت، وإن بشكلٍ غير مباشرٍ، في موقف الديوان الملكي من عادة تقبيل اليد. فبعد ذلك بخمس سنواتٍ، يوم 21 أغسطس 2017، في حفل استقبالٍ بمناسبة عيد ميلاد المَلك، فوجئت الشخصيات التي حظيت بشرف السلام على المَلك بطلبٍ غير مألوفٍ من المسؤولين عن البروتوكول الملكي يقضي بعدم تقبيل يد الملك، وبالاكتفاء بالسلام عليه أو تقبيل كتفه وحسب.
لم يصل الأمر إلى الحسم بالإلغاء بقرارٍ رسميٍّ. لكن عُدّ إشارةً من المَلك لتقبّله فكرة التغيير والتجديد في الطقوس، مع استبعاد الإلغاء الكلّي ما دامت هذه الطقوس تدخل في الأساسيات والثنايا في نظام الحكم والمظهر الأساس للسلطة. وهذا ما يتفق معه بن أحمد حوكا، الباحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، في مقالته "المقدس والطقس والسياسية" المنشورة سنة 2015. يقول إن هذه الطقوس لا تخلو من معانٍ ودلالاتٍ، إذ تبقى الغاية الأساسية المراد تبليغها تأكيدَ فعالية آلة الحكم والتباهي بشرعيةٍ أزليةٍ دينيةٍ تعلو الشرعيةَ المدنيةَ مقاماً وأمداً. لذلك ثمّة حرصٌ شديدٌ على الإبقاء على جوهرها مصوناً وألّا يمسّ التجدّد سوى بعض العناصر الهامشية.
مع ذلك يفرض الواقع النظرَ في توجهات الشباب من الجيل الحالي وميولهم، فهي بمثابة القوة الدافعة نحو تغيير الخطابات الرمزية. فبفضل النفوذ الإعلامي والتقني، يتزايد ما يمكن وصفه "نزع القداسة" عن المؤسسات الدينية الرسمية والتقليدية التي لا تعبّر ولا تستجيب لحاجات المواطن. وهذا ما يفتح الباب أمام تداعياتٍ جذريةٍ في المشهد السياسي والثقافي. وهو الأمر يستشعره القائمون على "دار المخزن". فقد بدأت بعض الدوائر السياسية والدينية بالسعي إلى تجديد الطقوس الرمزية بما يتماشى مع المتغيرات الاجتماعية. إذ يعتمد مستقبل هذه الممارسات على مدى قدرة النظام على التوفيق بين الحفاظ على الهوية التراثية واستيعاب الحراك الفردي والمعاصر.
ما تبلور هو سعي النظام إلى إيجاد بدائل ترضي فئتين مختلفتين. فمن جهةٍ، يستمرّ كبار المسؤولين في الحفاظ على تقاليد تقبيل اليد رمزاً للولاء والشرعية. ومن جهةٍ أخرى، يحاول الشباب التعبير عن احترامهم بوسائل أكثر حداثةً وشخصيةً، مثل تحية احترامٍ عاديةٍ أو حتى وسائل إلكترونيةٍ تعبّر عن الولاء دون اللجوء إلى رموزٍ جسديةٍ مفرطة. ويُظهر هذا التباين تحولاً في كيفية تصوّر العلاقة بين السلطة والرعيّة، إذ يزداد التركيز على التعبيرات الفردية والابتكار، بعيداً عن الأداء الرمزي.
