بين التبليط والقطار الكهربائي والممشى السياحي.. الأهرامات في مواجهة "التطوير"

رغم تحذيرات اليونسكو، تمضي الحكومة المصرية في تنفيذ مشروعاتها الخرسانية بالأهرامات، ساعيةً لربطها بالافتتاح التاريخي للمتحف المصري الكبير في نوفمبر 2025.

Share
بين التبليط والقطار الكهربائي والممشى السياحي.. الأهرامات في مواجهة "التطوير"
البساط الطائر في لوحة محمد عبلة وسيلة أخيرة للهروب من واقعٍ مأزوم

في أكتوبر 2024 وقفتُ أمام أعمال الفنان التشكيلي المصري محمد عبلة في معرضه "بساط الريح". كان المعرض بمثابة رحلةٍ في الخيال الشعبي، يتحوّل البساط الطائر فيها إلى وسيلةٍ أخيرةٍ للهروب من واقعٍ مأزومٍ، فيعلو بالناس فوق مشهدٍ مصريٍّ يتغيّر بتسارع. من هذا المنظور العلويّ، التقطَ محمد عبلة التحوّلات العمرانية المتلاحقة، وصاغها في مشهد شامل يجمع بين "السريالية" والواقع.
بين كلّ الأعمال استوقفتني لوحةٌ لعائلةٍ مصريةٍ صعدت إلى بساطٍ محلّق بجوار أهرامات الجيزة، لتواجه مشهداً غير مألوف: جسرٌ شاهق وأساسات خط قطارٍ كهربائيٍّ سريعٍ يخترق قلب المنطقة الأثرية، فيما تزحف مبانٍ حديثةٌ على حرم الأهرامات. حمل أفراد العائلة معهم أشجاراً خضراء ونباتات، كأنها محاولةٌ رمزيةٌ لإنقاذ الطبيعة في مواجهة موجات اقتلاع الأشجار التي اجتاحت البلاد في السنوات الأخيرة.
لم يخطر ببالي آنذاك أن تتحوّل هذه الرؤى إلى واقعٍ ملموسٍ بهذه السرعة. فقبل أن تنقضي سنة 2024، أعلنت الحكومة المصرية خططها لتشغيل مشروع خط سكةِ حديدٍ عالي السرعة سُمّي "الخط الأخضر". يربط الخط الأخضر بين مدينة العلمين الجديدة على ساحل البحر المتوسط ومدينة العين السخنة على البحر الأحمر بحلول سنة 2026. وفي الوقت نفسه، رُوِّج لمشروع "الممشى السياحي الخرساني" الذي يصل المتحف المصري الكبير بمنطقة الأهرامات. يتضمن الممشى نحو ستمئة متجرٍ للهدايا والمنتجات السياحية ذات الطابع الفرعوني، في إطار ما وصفته الحكومة بخطةٍ شاملةٍ لتسهيل حركة الزوار وتقديم تجربةٍ سياحيةٍ متكاملة.
أثارت هذه المشاريع موجة اعتراضٍ واسعة. فقد حذّرت منظمة اليونسكو وهيئات متخصصة في صون التراث، مثل إيكوموس (الهيئة الاستشارية الدولية المعنيّة بتقييم أثر المشروعات على المواقع الثقافية المصنّفة عالمياً) من أن مسار القطار سيخترق جزءاً من المنطقة المحيطة بأهرامات الجيزة. تقع هذه المنطقة ضمن مدينة منف القديمة، المدرَجة على قائمة التراث العالمي، ما يهدد البقايا الأثرية الكامنة تحت الأرض. يضاف إلى ذلك التأثيرات البصرية السلبية للبنية التحتية المرافقة، من أعمدة كهربائية ومحطات محوّلات، فضلاً عن الضوضاء والاهتزازات التي قد تمسّ استقرار الآثار. أما الممشى الخرساني، فعُد تشويهاً لمشهد الموقع الأثري الطبيعي وتقويضاً لقيمته الاستثنائية عالمياً، ما دفع اليونسكو إلى المطالبة بمراجعة المشروعين عاجلاً.
في يوليو 2025، أصدرت لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو، في دورتها السابعة والأربعين، تحذيراً رسمياً للحكومة المصرية بتأجيل تنفيذ مشروعَي القطار السريع والممشى الخرساني حتى ديسمبر 2026 وهو موعد انتهاء إيكوموس من إعداد تقاريرها الفنية لكلّ مشروع.
لكن الحكومة مضت في سباقٍ مع الزمن لإنجاز المشروعين وربط افتتاحهما بتدشين المتحف المصري الكبير في نوفمبر 2025 قرب هضبة الأهرامات. وافتتاح المتحف حدثٌ ثقافي مهم، إذ يضم أكثر من مئة ألف قطعةٍ أثريةٍ، من بينها المجموعة الكاملة لكنوز توت عنخ آمون. ما عدّه خبراء آثار وعلماء مصريات تحدثوا للفراتس رهاناً حكومياً على استثمار الافتتاح التاريخي للمتحف من أجل إضفاء شرعيةٍ على تغييراتٍ عمرانيةٍ مثيرةٍ للجدل في منطقة الأهرامات. تغييراتٌ مُهّدَ لها منذ سبعينيات القرن العشرين تحت شعار "التطوير"، لكنها في جوهرها تغلِّب المصالح الاقتصادية والسياحية على حساب حماية أحد أهم مواقع التراث الحي في العالم.


مع ما تعرّضت له منطقة أهرامات الجيزة عبر العصور من محاولات سرقةٍ ونهب، سجّلتها الباحثة في مركز دراسات الحضارة الإسلامية بمكتبة الإسكندرية رضوى زكي في كتابها "العناصر المعمارية الفرعونية في آثار القاهرة الإسلامية" الصادر سنة 2018، إلا أن هذه المنطقة الأثرية الفريدة ظلت محافظةً على مكانتها، أحد أبرز معالم الجذب السياحي في العالم. فمنذ القرون الوسطى، استخدمت حجارة المعابد والمقابر الفرعونية في تشييد مدنٍ، مثل الفسطاط والقطائع والقاهرة. وكذلك حاول بعض الحكام هدم الأهرامات تاركين آثار محاولاتهم قائمة حتى اليوم، مثل الفجوة الشهيرة في الهرم الثالث "منكاورع" التي خلّفتها محاولة الملك العزيز عثمان بن يوسف (نجل صلاح الدين الأيوبي) في القرن الثاني عشر. ومع ذلك، استمرت الأهرامات في أسر اهتمام الرحالة والمستكشفين الأوروبيين الذين سعوا وراء كنوزها وأسرار حضارتها القديمة، قبل أن تتحوّل في العصر الحديث إلى وجهةٍ عالميةٍ تكشف عظمة التاريخ المصري وتضعها في مواجهة تحدياتٍ جديدةٍ تحت شعار "التطوير".
أدركت منظمة اليونسكو مبكراً خطورة هذه التهديدات، وتبنّت نتائج دراسة بعنوان: "مركز الجيزة التاريخي: الحفاظ على التراث المعماري المصري الخالد ضمن المنظومة العمرانية الحية". نشرت الدراسة، التي أعدّها القادر الحناوي ومحسن عبد، سنة 1967. وهي محفوظة اليوم داخل مكتبة إيكروم، المركز الدولي لدراسة صون وترميم الممتلكات الثقافية. حذرت الدراسة من تشويه طابع المكان عبر إقامة مشروعاتٍ عمرانيةٍ أو صناعيةٍ بجواره، مؤكدةً أن الهرم في شموخه ليس مجرد أثرٍ تاريخيّ، بل جزءٌ حيٌّ من التراث الإنساني. ومع اعتماد اتفاقية التراث العالمي سنة 1972، دخلت الأهرامات رسمياً ضمن قائمة التراث العالمي سنة 1979 باسم "ممفيس ومقبرتها – حقول الأهرامات من الجيزة إلى دهشور". وذلك نسبةً إلى أول عاصمةٍ لمصر القديمة منذ توحيد البلاد سنة 3000 قبل الميلاد، والتي ازدهرت مركزاً للسلطة الملكية والإدارة الحكومية، فضلاً عن كونها موقعاً مقدساً للإله بتاح، إله الخلق وراعي الحرفيين.
كانت ممفيس تقع على الضفة الغربية للنيل، وقد احتوت على قصورٍ ملكيةٍ مثل قصر أبريس. احتوت أيضاً على معابد كبرى، أبرزها معبد بتاح في ميت رهينة ومعابد الشمس في أبو غراب وأبو صير، إلى جانب السرابيوم ومعبد حب سد في سقارة. وضمّت ورش الحرفيين وأحواض بناء السفن والأحياء السكنية، بما يعكس ثراء الحياة اليومية في تلك العاصمة القديمة.
تمتد مقبرة ممفيس جنوباً من هضبة الجيزة حتى دهشور، مروراً بزاوية العريان وأبو غراب وأبو صير وميت رهينة وسقارة، لتشكّل واحدةً من أوسع وأغنى المناطق الجنائزية في العالم القديم. وتضمّ هذه المنطقة أكثر من ثمانيةٍ وثلاثين هرماً، بينها الأهرامات الثلاثة الشهيرة بالجيزة، والتي يعدّ هرم خوفو (الأكبر بينها) العجيبة الوحيدة المتبقية من عجائب العالم القديم. تضمّ المنطقة أيضاً أهرامات أبو صير وسقارة ودهشور، والهرم المدرج للملك زوسر الذي يمثل أول بناءٍ حجريٍّ ضخمٍ في التاريخ البشري، إلى جانب آلاف المقابر المنحوتة في الصخر من عصورٍ مختلفةٍ وصولاً إلى العصرَين اليوناني والروماني. وكل هذه الآثار رمزٌ للهوية المصرية وأيقونةٌ إنسانيةٌ تستوجب الحماية للأجيال المقبلة.


القيمة التاريخية الهائلة لمنطقة الأهرامات لم تحمِها من محاولات الاستغلال الاستثماري في العصر الحديث. ففي منتصف السبعينيات، بدأت خططٌ لتحويل المنطقة إلى مشروعٍ سياحيٍّ استثماريّ. وبعد سنواتٍ من النزاعات الإقليمية التي أنهكت مصر في حروبها مع إسرائيل، اتجه الرئيس الأسبق أنور السادات إلى سياسة الانفتاح الاقتصادي، ممهّداً الطريق أمام تدفق الاستثمارات الأجنبية على نحوٍ غير مسبوق. وفي هذا السياق، وقّعت الحكومة المصرية اتفاقاً مع شركةٍ أجنبيةٍ، نشر في الجريدة الرسمية سنة 1975، لبناء مدينةٍ سياحيةٍ وملاعب غولف على الأرض المسجَّلة موقعَ تراثٍ عالميّ. فكان أول محاولةٍ رسميةٍ لتحويل المنطقة الأثرية إلى مشروعٍ استثماريّ.
أثارت هذه الخطوة جدلاً واسعاً بعدما كشفتها الصحفية والكاتبة المصرية نعمات أحمد فؤاد في مقالاتها بجريدة الأهرام سنة 1977، عقب تصديق السادات على الاتفاق وإصداره قراراً جمهورياً بتخصيص عشرة آلاف فدان من الهضبة للاستغلال السياحي، متجاهلاً تحذيرات المختصّين من المخاطر التي قد تلحق بالآثار. فالمخططات، التي شملت إنشاء مبانٍ على الطراز الأندلسي وملاعب غولف، كانت تنذر بتغيير ملامح الموقع التاريخي الذي يتجاوز عمره أربعة آلاف عام.
ومع أن وزارة السياحة آنذاك عدّت منطقة الأهرامات ملكية خاصة للدولة يمكن التصرّف فيها، إلا أن المشروع واجه معارضةً واسعةً. فعارضه معماريون بارزون مثل حسن فتحي، المعروف بشيخ المعماريين المصريين، ومثقفون بارزون مثل وزير الثقافة والإعلام الأسبق عبد المنعم الصاوي. وأطلقت نعمات أحمد فؤاد حملةً تعارض المشروع عبر سلسلة مقالات منها: "مدينة سياحية عند الهرم"، و"ارفعوا أيديكم عن هضبة الأهرام" في يوليو 1977. وصفت نعمات المشروع بأنه "بيعٌ مقنَّع"، بعد أن كشفت أن سعر المتر الواحد من الأرض لم يتجاوز 23 مليماً، وهو رقمٌ صادمٌ خاصةً في ظلّ ارتفاع الأسعار بعد حرب أكتوبر 1973.
وفي منتصف نوفمبر 1977، بعد شهرين من الحملة، حققت نعمات انتصاراً ملموساً. نشرت جريدة الأهرام خبراً عن اكتشاف مقابر فرعونية تعود إلى الأسرة السادسة والعشرين (الفرعونية) أثناء أعمال الحفر بالجرّافة في الهضبة. والخبر، الذي حمل عنوان "اكتشاف آثار فرعونية خلال الحفر في هضبة الأهرام"، دفع محافظ الجيزة إلى وقف العمل وتشكيل لجنةٍ لتقييم الآثار المكتشَفة. وفي النهاية، اضطرت الحكومة إلى إلغاء المشروع وفسخ العقد مع الشركة الأجنبية.
وثّقت نعمات أحمد فؤاد هذه الواقعة في كتابها الصادر سنة 1978 بعنوان "مشروع هضبة الأهرامات.. أخطر اعتداء على مصر"، متضمناً تقرير اللجنة الأثرية التي شكِّلت وشارك فيها عبد المنعم الصاوي وحسن فتحي. وجاء في التقرير: "إن الأثر ليس مجرد مبنى مقام، ولا عمارة قديمة موروثة، بل هو مجموعة من القيم والعقائد والجهد الإنساني بكلّ ما ينطوي عليه من تفوّق وإبداع. وما يقال عن الأثر يقال عن المنطقة الأثرية، بل إن المنطقة الأثرية أكثر تمثلاً للحياة الإنسانية من الأثر المنفرد. فهي كيانٌ ثقافيٌ كاملٌ يعكس حياة المجتمع وتقاليده وقيمه وطابعه المميز".
واختتم التقرير بالقول: "إن الآثار لا تنفصل عن البيئة التي تقع فيها، فهي جزء منها لا يتجزأ ولا يجوز أن يتجزأ. ولهذا، فإن الولاء للأثر نفسه واحترام ما له من قدسية يقتضي توفير ما حوله من بيئة بحيث تكون متناسقة معه، مؤكدة لما يعكسه من معنى ثقافي وحضاري عريق".


لم تتوقف محاولات استغلال منطقة الأهرامات تجارياً عند حدود سبعينيات القرن الماضي، بل عادت بقوة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك. ففي سنة 2002 شيّد زاهي حواس، رئيس المجلس الأعلى للآثار آنذاك، سوراً بطول ثمانية عشر كيلومتراً لعزل هضبة الأهرامات عن محيطها العمراني. الأمر الذي عدته مبادرة "تضامن" المعنية بحقوق السكان في المناطق المهمشة، تمهيداً لإزالة مظاهر السكن والتجارة غير الرسمية. وبعد سنواتٍ من الإهمال، عاد الحديث عن مشروع تطويرٍ شاملٍ سنة 2009 في حكومة أحمد نظيف، حين كشف عن خطةٍ واسعةٍ تحت شعار "التطوير".
في حديثه إلى الفراتس، اعتبر رئيس اتحاد الآثاريين العرب محمد الكحلاوي أن إهمال منطقة الأهرامات ما بين سنتَي 2002 و 2009 كان متعمداً، بل "شكلٌ من أشكال العقاب" لموقف المثقفين وفي مقدّمتهم الكاتبة نعمات أحمد فؤاد، الرافضة تحويل المنطقة منتجعاتٍ سياحية.
ارتبطت خطة حكومة أحمد نظيف بمخطط "القاهرة 2050"، وهو رؤية مستقبلية ومخطط استراتيجي بعيد المدى أعدّته الحكومة في عهد مبارك. استهدف المخطط إعادة تشكيل المجال العمراني المحيط بالأهرامات عبر تهجير نحو ثلاثةٍ وخمسين ألفاً من سكان نزلة السمان، وهي منطقة سكنية قريبة من الأهرامات يقدِّم سكانها خدماتٍ للسائحين. تضمّنت الخطة إعادة تخطيط المنطقة لتشمل المتحف المصري الكبير الذي تعود فكرته إلى تسعينيات القرن الماضي ووضع حجر أساسه سنة 2002 على مساحة مئةٍ وسبعين فداناً (الفدان يساوي أربعة آلاف ومئتي متر مربع). إضافةً إلى منطقة فنادق مساحتها ستةٌ وخمسون فداناً، وساحة تجارية وترفيهية باسم "خوفو بلازا" على مساحة سبعة وعشرين فداناً، وشارع سياحي يمتد ثلاثة كيلومترات، وتخصيص مئةٍ وثلاثةٍ وأربعين ألف فدان لمشاريع فندقية مستقبلية. كان من المقرر الانتهاء من المشروع بحلول سنة 2012، غير أن ثورة يناير وما تلاها من تحولاتٍ سياسيةٍ حالت دون استكماله.
لكن الفكرة لم تُطوَ، بل عادت سنة 2016 بشكلٍ جديد وتبلورت في 2018 عبر توقيع عقدٍ بين المجلس الأعلى للآثار وشركة "أوراسكوم بيراميدز"، التابعة لرجل الأعمال نجيب ساويرس. نصّ العقد على تطوير خدمات الزوار، بدءاً من تشغيل الحافلات الكهربائية داخل المنطقة وتزويدها بمرافق حديثة كمركز زوار ومحال تجارية وقاعات عرض وخدمات طبية وترفيهية، وصولاً إلى إدخال وسائل رقمية كالخرائط التفاعلية وتطبيقات الهواتف الذكية. وفي المقابل، تحصل الشركة على عوائد من الأنشطة التجارية والخدمات، بينما تحتفظ الدولة بإيرادات التذاكر.
بلغ حجم الاستثمار نحو ثلاثين مليون دولار، على أن تدير الشركة الموقع لمدة أحد عشر عاماً في صيغة شراكة بين القطاعين العام والخاص. لكن المشروع أثار منذ البداية جدلاً واسعاً. ففي يوم التشغيل التجريبي في أبريل 2025، ظهرت شكاوى من تكدّس السياح داخل الحافلات الكهربائية وطول فترات الانتظار، قبل أن يسمح مجدداً بدخول الحافلات التقليدية لتخفيف الأزمة. هذه الانتقادات كشفت عن ثغراتٍ في خطةٍ رُوِّج أنها "تطويرٌ بيئيّ"، بينما تجاهلت تماماً دور المجتمعات المحلية، خصوصاً سكان نزلة السمان والخيالة والجمالة والباعة الذين ارتبطت سبل عيشهم بالموقع منذ عقود.
يرى عددٌ من الباحثين أن جوهر المشكلة لا يكمن فقط في الجانب التقني أو السياحي، بل في البعد الاجتماعي والثقافي. ترى مونيكا حنا، عالمة المصريات والعميدة المؤسسة لكلية التراث الحضاري بالأكاديمية البحرية، أن المشروع أغفل إشراك أصحاب المصلحة الحقيقيين – أي السكان المحليين – الذين عزلوا تدريجياً منذ تسعينيات القرن الماضي عبر الجدران والإجراءات الأمنية. وتؤكد أن دمجهم في عملية التطوير وتحويلهم إلى شركاء هو الضمانة الوحيدة لاستدامة المشروع. بينما يرى فكري حسن، أستاذ المصريات بجامعة لندن وواشنطن وأستاذ كرسي السير فلاندرز بتري في معهد الآثار بجامعة كوليدج لندن، أن الخطة تفتقر إلى رؤيةٍ ثقافيةٍ متكاملةٍ تعرِّف الزوار بقيمة الأهرامات وتاريخها في سياقها السياسي والديني والاجتماعي. ودعا إلى إنشاء متحفٍ متخصصٍ ومعارض دوريةٍ داخل المنطقة ذاتها.
أما محمد الكحلاوي، وهو عضو اللجنة العليا للتخطيط التابعة لمجلس الوزراء، فيربط بين معركة نعمات أحمد فؤاد ضدّ تحويل الأهرامات إلى منتجعٍ سياحيٍّ في السبعينيات وبين مشروع أوراسكوم الأخير. ويعتبر أن جوهر المسألة واحد، تحويل التراث إلى سلعة. فالحكومة لم تعد تبيع الأرض مباشرةً، لكنها فتحت الباب أمام عقود تشغيلٍ طويلة الأمد تتيح للشركات الخاصة جني أرباحٍ ضخمة من الخدمات التجارية، بينما يظلّ البعد الاجتماعي للسكان المحليين ثغرةً خطيرةً في المشروع.
واتفق الباحثون الثلاثة على أن تجربة تطوير منطقة الأهرامات تكشف عن صراعٍ معقدٍ بين أهداف الدولة في تعزيز السياحة وزيادة العوائد الاقتصادية، وبين حقوق المجتمعات المحلية التي لطالما ارتبطت حياتها بالهضبة. وهو صراعٌ يجعل من قضية التطوير مسألةً تتجاوز حدود "تحسين تجربة الزوار" إلى اختبارٍ حقيقيٍّ لمعادلة العدالة الاجتماعية وصون التراث في آن واحد.


واقعةٌ أخرى فرضت نفسها على الساحة العالمية، وهي واقعة "تبليط الهرم"، المشروع الذي أعلن عنه في يناير 2024. فقد شرح الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيري أسباب مشروع إعادة كساء هرم منكاورع، أصغر أهرامات الجيزة الثلاثة، وتفاصيله. وفي مقطعٍ مصوّرٍ، نشرته صفحة "مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء" الرسمية عبر فيسبوك، اعترض وزيري على مصطلح "تبليط الهرم" معتبراً أنه "غير أثري بالمرّة"، واستخدم عبارة "كساء خارجي".
وفي بيانٍ صادرٍ عن المجلس الأعلى للآثار وصف المشروع بمشروع القرن، وأشار وزيري إلى أن هدف المجلس استعادة المظهر الأصلي للهرم، الذي كان مغطى بالكامل بأحجار الغرانيت. وذكر أن هذه الأحجار سقطت عبر مئات السنين نتيجةً لعوامل التعرية والزلازل، وأن إعادة الكساء ستساعد على حماية الهرم وتجعله أكثر جاذبيةً للسياح. وأكد أن الأحجار المتناثرة حول الهرم منعت إقامة العديد من الحفريات، وأن إعادة تركيبها قد يكشف عن المراكب الجنائزية للملك منكاورع.
في البداية، نفى وزيري ما تردد عن تبليط أو استيراد غرانيت جديد، مؤكداً أن المرحلة الأولى ستقتصر على الدراسات العلمية والرسم والتصوير الفوتوغرامي والمسح بالليزر، بالتعاون مع الجانب الياباني المموِّل للمشروع، على أن يعرض الأمر لاحقاً على لجنةٍ علميةٍ دوليةٍ لاتخاذ القرار النهائي.
لكن الإعلان أحدث جدلاً واسعاً داخل الأوساط الأثرية. فقد اعتبرت مونيكا حنا المشروع غير علميّ وتدخلاً في عمل المصريين القدماء، مؤكدةً أن الأثر الناقص يجب أن يُترك كما هو، بينما شكّك آخرون بخبرة الفريق الياباني في ترميم الأهرامات. ورأى آثاريون بارزون، مثل مدير عام مناطق آثار الأقصر الأسبق منصور بريك وأمين عام المجلس الأعلى للآثار السابق محمد عبد المقصود، أن إعادة تركيب الكتل أمرٌ مستحيلٌ علمياً نظراً لصعوبة تحديد مواضعها الأصلية بدقة. وحذّروا من أن أي تدخلٍ قد يطمس أدلةً مهمةً عن تقنيات البناء القديمة، فضلاً عن المخاطر المرتبطة باستخدام الأسمنت الحديث.
انقسم علماء الآثار بين مؤيدين يرون في المشروع محاولة لإعادة الهرم إلى صورته الأولى، ومعارضين اعتبروا ذلك مساساً بالأصالة و"التراكم التاريخي للأثر"، الذي يجسّد قصته عبر العصور. وتحت ضغط الانتقادات الواسعة، إضافةً إلى اعتراضات اليونسكو التي لم تبلَّغ مسبقاً بالمشروع، تراجعت وزارة السياحة والآثار عن المشروع.
وفي نهاية المطاف، شكّلت الوزارة لجنةً عليا برئاسة الدكتور زاهي حواس، أوصت بالإجماع في فبراير 2024 بعدم إعادة تركيب أي من الكتل الغرانيتية، وأكدت على ضرورة الحفاظ على الوضع الحالي للهرم قيمةً أثريةً عالميةً استثنائية. وأشارت اللجنة إلى أن أي تدخلٍ سيؤدي إلى تغيير نسيج الهرم، وإخفاء شواهد أساسية من تاريخه المعماري، واستخدام مواد غير أثرية أو إسمنتية.
وفي مواجهة الانتقادات، قرر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي إقالة وزيري من منصبه في مارس 2024.


توقف مشروع تبليط هرم منكاورع، لكن لم يتوقف استخدام الأسمنت والمواد غير الأثرية في مشروعات التطوير داخل منطقة ممفيس ومقبرتها. ففي سبتمبر 2021، تعاقدت الحكومة المصرية مع تحالفٍ يضمّ شركات سيمنز الألمانية وأوراسكوم للإنشاءات والمقاولون العرب لتنفيذ مشروع القطار الكهربائي السريع (الخط الأخضر) الذي يمتد من العين السخنة على البحر الأحمر حتى مطروح على ساحل المتوسط بطول ستمئةٍ وستين كيلومتراً. هذا المسار يقطع مناطق أثرية حساسة، وهو ما أقرّت به الهيئة القومية للأنفاق في دراسة تقييم الأثر البيئي والاجتماعي الصادرة في ديسمبر 2022. الدراسة حدّدت مئةً واثنين وخمسين مورداً للتراث الثقافي على طول خط المشروع، منها خمسةَ عشرَ موقعاً مسجلاً رسمياً. ومن أبرزها، موقع التراث العالمي لليونسكو "ممفيس ومقبرتها"، إضافة إلى سبعةٍ وخمسين موقعاً عالي الحساسية وأربعةٍ وأربعين متوسطة، وخمسين منخفضة.
أشارت الدراسة إلى أن أعمال الحفر والإنشاء قد تؤدي إلى "إزالة موارد التراث الثقافي جزئياً أو كلياً"، واقترحت خطةً لإدارة المخاطر عبر التنسيق مع الجهات الأثرية وإتاحة آلية للتظلّم العام يمكن للناس أن يعبّروا فيها عن مخاوفهم من الخطة دون توضيح ماهيتها. لكن في يوليو 2025، في دورتها السابعة والأربعين، حذّرت لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو رسمياً من المضيّ في المشروع قبل إعداد تقريرٍ فنيٍّ من إيكوموس يقيِّم أثره على التراث، في تكرارٍ لموقف المنظمة تجاه مشروعٍ إسمنتيٍّ آخر في المنطقة ذاتها. وهو مشروع الممشى السياحي، الذي أعلنت عنه محافظة الجيزة في يونيو 2023 ليربط المتحف المصري الكبير بأهرامات الجيزة، والمقرر افتتاحه بالتوازي مع المتحف.
لكن اليونسكو طالبت بوقفه أيضاً، مؤكدةً في تقرير يوليو 2025 أن بعثة المراقبة لسنة 2022 أوصت بالإبقاء على المنطقة خاليةً من أي إنشاءاتٍ جديدةٍ، وأن مراجعة إيكوموس للمشروع أثبتت أن الممشى "سيؤثر بشكلٍ غير مقبول على الموقع الأثري ومنظره الطبيعي". وطالبت المنظمة بتعديل التصميم وتقديم دراسةٍ أثريةٍ وفنيةٍ جديدةٍ في موعدٍ أقصاه ديسمبر 2026.
تباينت المواقف محلياً تجاه مشروعات التطوير في منطقة الأهرامات. فقد عدّ مدير عام منطقة الأهرامات الأسبق حسين عبد البصير، في حديثه للفراتس، أن الاعتراض الدولي يركّز على تأثير المنظر العام للمنطقة، لكنه استبعد وجود آثارٍ في موقع القطار الكهربائي والممشى السياحي نظراً لوقوعهما عند سفح الهضبة. وأوضح عبد البصير أن مشروع الممشى السياحي كان مخططاً له في البداية أن يكون على نفقٍ لحماية المشهد العام، لكن كان من الصعب تنفيذ الفكرة. فتحوّل إلى ممشى خرساني على أرضٍ كانت مملوكةً سابقاً لفندق مينا هاوس. أضاف عبد البصير أن وزير الآثار الأسبق الدكتور ممدوح الدماطي أراد استغلال الموقع وتطويره بعد ثورة 30 يونيو 2013، لكن المشروع توقف في النهاية. قال: "وعندما توليتُ مسؤولية مشروع المتحف المصري الكبير بعد ثورة يناير، أردنا استغلال الموقع ليصبح مرآب سيارات لخدمة مشروع المتحف المصري الكبير".
وشدد عبد البصير على أن رفض اليونسكو الممشى ومشروع القطار الكهربائي سببه في الأساس تعارضها مع مفهوم الحفاظ على المنطقة الأثرية واختراق النسيج الحضاري للمنطقة المسجّلة على قوائم التراث العالمي. وأشار إلى أن الأثريين وقفوا أمام العديد من المشاريع، وخاصةً الطريق الدائري البديل بسبب اختراقه منطقة هضبة الأهرام، قبل أن يعاد طرح الفكرة في السنوات الأخيرة وتنفيذها باسم الطريق السياحي. وقد اعترضت اليونسكو أيضاً على المشروع. لكن في المقابل، وضعت الحكومة المصرية بعض الشروط للسيارات المارة بالمنطقة، مثل تحديد السرعة بنحو ستين كيلومتر في الساعة لتقليل كمية الانبعاثات الكربونية من السيارات. ويعلّق قائلاً: "من وجهة نظري، كنت أفضّل عدم تغيير طبيعة جغرافية وأثرية المنطقة، كان الأَولى المحافظة على الموقع وتوظيفه سياحياً واقتصادياً دون أي تغييرٍ في طبيعته".
وعن توظيف المنطقة أثرياً في الوقت الحالي، يرى مدير عام منطقة الهرم الأسبق أنها توظَف خطأً، مؤكداً أن إقامة الحفلات داخل منطقة الأهرامات من شأنه التأثير على المنطقة كلها. يقول عنها: "منطقة الأهرامات عاشت فتراتٍ زمنيةً طويلةً، ومرّت بظروفٍ صعبة. لذلك فإن تكرار إقامة الحفلات الغنائية والأفراح داخلها من شأنه التأثير على المنطقة بمرور الوقت، لأن معظم الآثار الموجودة داخل المنطقة شُيّدت بالحجر الجيري، أي من السهل انهيارها. وتوظيفها الخاطئ سيؤثر على قدسيتها الدينية كونها مقابر لا يجوز توظيفها بشكلٍ لا يخدم وظيفتها الأصلية". ويختم قائلاً: "من المهم وضع ضوابط ومحاذير محددة والالتزام بها، لمراعاة الاهتزازات داخل المنطقة، الناتجة عن استخدام الآلات الموسيقية. واجبنا كأثريين توظيف الأثر، لكن دون المساس به أو تدميره على المدى الطويل".
في المقابل، رأى محمد الكحلاوي، رئيس اتحاد الآثاريين العرب، أن خطورة المشاريع تكمن في أنها "تتعامل مع الأهرامات كسلعة"، محذراً من طمس مناطق أثريةٍ غير مكتشفةٍ بسبب محاور وطرق جديدة مثل الطريق السياحي. وأكد أن مثل هذه التوجهات تخاطب مستثمرين وأجانب، بدلاً من إشراك الشعب المصري وحماية تراثه.
أما عالم المصريات فكري حسن، فشدّد على أن المشاريع الحالية تكشف عن "إدراكٍ محدودٍ لقيمة المنطقة"، مشيراً إلى أن الاهتمام ينصبّ على الأهرامات نفسها بينما تُهمل ممفيس في مجملها.
بدوره، الردّ الرسمي غير موجود. حاولت الفراتس التواصل هاتفياً — وعبر رسائل نصية — مع مدير عام منطقة آثار الهرم، أشرف محيي الدين، للحصول على ردٍّ حول اعتراضات اليونسكو على مشروع القطار الكهربائي السريع والممشى السياحي. لكننا، وحتى موعد النشر، لم نتلقَّ رداً.


مع التحذيرات الدولية والانتقادات المحلية التي رافقت مشروعات التطوير داخل منطقة الأهرامات التاريخية، إلا أن الحكومة المصرية تمضي في استكمال خططها الخرسانية بخطواتٍ متسارعة.
ففي سبتمبر 2025، تفقد رئيس الوزراء مشروع الممشى السياحي، وأشاد بدور الممشى في "تحسين المظهر الجماليّ للهضبة وتقديم تجربةٍ سياحيةٍ متكاملةٍ للزوار من مختلف أنحاء العالم". ومثله وزير السياحة والآثار شريف فتحي، والمشرف العام الهندسي للمشروع اللواء عاطف مفتاح، اللذين وصفا الممشى في الزيارة نفسها بأنه يليق بأهمية منطقة الأهرامات وقيمتها.
اعتبار رئيس الوزراء الممشى أنه يساهم في تحسين المظهر الجمالي للمنطقة الأثرية ليس سوى تلخيصٍ لمشهد التباين المستمرّ بين مقاربة الدولة القائمة على الاستثمار السياحي، ورؤية الخبراء والهيئات الدولية الداعية إلى صون أصالة الموقع والحفاظ على تراثه العالمي الاستثنائي.

اشترك في نشرتنا البريدية