في البداية ظنّت منتهى أن ما يحدث حلقة جديدة في سلسلة الاضطرابات التي شهدها السودان في السنوات الأخيرة، وأن الجيش سيستعيد السيطرة سريعاً وتعود الحياة إلى طبيعتها. ولم تتوقع أن يكون الخلاف بين شريكَي "المكون العسكري" في النظام السوداني القائم، مقدّمةً لحربٍ طويلةٍ ومفتوحة.
وسط القصف العشوائي وانقطاع وسائل النقل وإغلاق الطرق والجسور، أصبحت مغادرة المدينة شبه مستحيلة. وعلى عكس من تمكّنوا من الفرار في الأيام الأولى، ظلّت منتهى محاصرة داخل الخرطوم مواجهةً واحدة من أقسى التجارب التي قد تمرّ بها النساء في زمن الحروب، حين تتحوّل أجسادهن إلى ساحاتٍ للانتقام.
توثّق شهادات الناجيات اللائي تحدثن للفراتس جانباً من انتهاكات العنف الجسدي، ومنها الاحتجاز والإجبار على الخدمة والاغتصاب المتكرر للنساء، في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع. وجدت بعض الناجيات بعد فرارهن من ذلك الجحيم ملاذاً مؤقتاً في مصر، لكنه يفتقر إلى الدعم الكافي. اضطرت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين للأمم المتحدة تقليص خدماتها، بسبب أزمة التمويل المتفاقمة منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهام عمله رئيساً في 20 يناير 2025. يضاف إلى ذلك غياب المساندة الدولية للاجئين، خاصة الفئات الناجية من العنف الجنسي من نساء وأطفال.
مآب (اسم مستعار)، وهي شابة سودانية لجأت إلى مصر بعد فرارها من الحرب، روت تجربة مشابهة. كان مسلحون من قوات الدعم السريع يقتادونها من شقتها في حي جنوبي الخرطوم إلى أخرى في المبنى نفسه، حيث كانت تُحتجز ساعاتٍ قبل أن تُعاد إلى شقتها.
تمثل معاناة منتهى ومآب نذراً من انتهاكات قوات الدعم السريع لنساء السودان وأطفالهن وعدد من كبار السن. بحسب الأمم المتحدة، فإن أكثر ضحايا العنف الجنسي أثناء النزاعات هم نساء وفتيات. ويشمل العنف الجنسي الاغتصاب والاستعباد الجنسي والبغاء القسري والحمل والإجهاض والتعقيم القسري وكذلك الزواج القسري، إضافة إلى أي شكل من أشكال العنف الجنسي على درجة مماثلة من الخطورة ويرتبط مباشرةً أو غير مباشر بالنزاعات المسلحة. ويستهدف العنف الجنسي النساء والرجال بغض النظر عن أعمارهم أو ميولهم الجنسية، بمن فيهم المقاتلون والأطفال المجندون.
استخدام العنف الجنسي في الحروب قديم قِدَم الصراعات المسلحة. ويبيّن تعريف الأمم المتحدة أن العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات يستخدم "كتكتيك حربي وإرهابي لتهجير السكان، وإحداث صدمة في المجتمعات المحلية، وتقويض الأخلاقيات والتماسك الأسري والثقافي والمجتمعي"، ويمتد تأثيره على الضحايا وأسرهم عبر الأجيال. ووفقاً للقانون الدولي "يمكن أن يشكّل العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات جريمة حرب، أو جريمة ضد الإنسانية، أو فعل تعذيب، أو فعلاً من أفعال الإبادة الجماعية، بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية"، وذلك حسب ملابسات الانتهاك.
يترافق ارتكاب العنف الجنسي غالباً مع أعمال عنف أخرى، كالقتل والنهب وتدمير الممتلكات. وينتمي مرتكبوه إلى جماعات مسلحة حكومية أو غير حكومية، مثل الجيش والشرطة والمجموعات المسلحة المحلية والكيانات أو الشبكات الإرهابية والمهرّبين والمتاجرين بالبشر، وقد يكونون أيضا أفراداً محليين أو نازحين.
استُخدم العنف الجنسي على نطاق واسع في الصراعات المسلحة التي تلت الحرب العالمية الثانية. وسُجلت وقائع لاستخدام العنف الجنسي بدرجات متفاوتة الاتساع في الحرب الأمريكية في فيتنام، حين مارس أفرادٌ من القوات الأمريكية الاغتصاب والبغاء القسري ضد الفيتناميات. وفي الصراع الأهلي الكمبودي، عرّض الحزب الشيوعي المسمى "الخمير الحمر" نساء كمبوديا للاغتصاب والزواج القسري إبان فترة حكم الحزب بين سنتَي 1975 و1979. ثم عادت الانتهاكات الجنسية لتظهر ممنهجة أثناء حروب الإبادة اليوغوسلافية (صربيا ضد البوسنة والهرسك ثم ضد كوسوفو) في تسعينيات القرن الماضي. كذلك في الحرب الأمريكية البريطانية في العراق سنة 2003 حين ظهرت وقائع عديدة لاستخدام العنف والإذلال الجنسي. ومن أشهرها واقعة "الاغتصاب والقتل في المحمدية"، كما تسميها السجلات القضائية الأمريكية، ثم ما كشفته تسريبات سجن أبو غريب التي أظهرت وقائع الانتهاك والإذلال الجنسي للرجال. وقد لجأ الجيش الإسرائيلي للنهج نفسه ضد رجال قطاع غزة في أعقاب السابع من أكتوبر 2023، بعدما ظهر أحد جنوده على شاشات التلفزيون الإسرائيلي يتفاخر بذلك ودافع برلمانيون إسرائيليون عن تلك الممارسات.
وفي النصف الثاني من القرن الماضي، ومع اندلاع العديد من الصراعات الأهلية المسلحة في دول متعددة في إفريقيا، باتت القارة إحدى أبرز ساحات استخدام العنف الجنسي. سواء من المجموعات الحاكمة. مثل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا أو مجموعات الجنجويد المسلحة التابعة للرئيس السوداني السابق عمر البشير في دارفور، أو على يد فئاتٍ مسلحةٍ متمردةٍ كما في سيراليون. استخدمت الأنظمة الحاكمة والمجموعات المسلحة في الحالات المذكورة آنفاً العنفَ الجنسي لمكافأة مقاتليهم، وكذلك في ملاحقة السكان ومعاقبتهم.
برز ذلك في السودان، سواء أثناء الصراع الأهلي الذي انتهى بانفصال جنوب السودان في 2011، أو في ما ارتكبته مجموعات الجنجويد المسلحة نفسها. هذه الجماعات التي تحولت بعد ذلك إلى جناحٍ عسكريٍّ رسميٍّ حمل اسم قوات الدعم السريع، أثناء حرب الإبادة – كما صنّفتها الأمم المتحدة – في منطقة دارفور. واستُخدم العنف الجنسي كذلك، وإن بدرجات أقل، في الصراعات الأهلية المشتعلة بين نظام البشير وفصائل سودانية معارضة في جنوب كردفان وجبال النوبة.
وثقت الأمم المتحدة في عهد البشير استخدامَ العنف الجنسي ضمن عدة آليات اتبعها البشير في مواجهة معارضيه أو القبائل والعرقيات التي تحوي أماكن تمركزها ثرواتٍ كبيرة. ومن أبرز تلك الحالات ما فعلته قوات الدعم السريع من انتهاكات في دارفور غرب السودان. فقد وجّه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية سنة 2008 اتهامات للبشير بارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية، وجميعها يندرج تحتها العنف الجنسي وفق القانون الدولي.
كانت السودان وسط تلك الجرائم ساحةً لتطوير الأمم المتحدة آليات عمل تستهدف مساعدة الناجيات والناجين من جرائم العنف الجنسي. وذلك بالتدخل الميداني عبر العيادات والمستشفيات الميدانية وفرق العمل المباشرة في أماكن ارتكاب الإبادة وجرائم الحرب. ومنح أدويةٍ فورية تساعد على الحد من انتشار الأمراض المنقولة جنسياً وخصوصاً الإيدز. إضافة إلى خدمات الحوامل قسراً والمجهضات قسراً وخدمات التدخل الجراحي في حالات الانتهاكات الجنسية العنيفة التي تسبب تهتكات عنيفة خصوصاً في حالات اغتصاب الأطفال. ووضعت الأمم المتحدة دليلاً للتعامل مع تلك الجرائم في كُتيب أصدرته للفرق الميدانية يحوي توجيهات التدخل والمساعدة في حالات العنف الجنسي.
بناء على تلك الخبرات الميدانية في السودان وشرق إفريقيا، شكلت الأمم المتحدة سنة 2007 فريق العمل الميداني "يو إن آكشن أجينست سيكشوال فيولنس" أي فريق تحرك الأمم المتحدة ضد العنف الجنسي. وتُظهر الصورة المنشورة مع بيان الإطلاق على موقع الأمم المتحدة كيف تكاد جريمة العنف الجنسي حالياً أن تكون إفريقية، مع أنها تُرتَكب في ساحاتٍ أخرى.
لمجموعة العمل المشكّلة ثلاث مهام. أولها منع انتهاكات العنف الجنسي، وثانيها تعزيز المساءلة بملاحقة مرتكبي جرائم العنف الجنسي ومحاسبتهم، عبر آليات القوانين المحلية والقانون الدولي. والمهمة الثالثة مساعدة ضحايا العنف الجنسي وتغطية احتياجاتهم. وهذه المهمة تكون ملحة في أوقات الحروب والصراعات كما في الحالة السودانية. إذ تثبت الشهادات التي حصلت عليها الفراتس أن الأمم المتحدة، والدول المنضمة إليها المسؤولة عن تطبيق آلياتها، لا تطبقها على نحوٍ كاف وهناك من لا يطبقها في الصراع السوداني الجاري.
أشار التقرير إلى أن قوات الدعم السريع "مسؤولة عن ارتكاب عنف جنسي واسع في المناطق الخاضعة لسيطرتها، بما يشمل الاغتصاب الجماعي والاختطاف واحتجاز الضحايا في ظروف ترقى إلى الاستعباد الجنسي"، لاسيما في الخرطوم الكبرى وولايات دارفور والجزيرة. وأكد التقرير أن هذه الانتهاكات استُخدمت وسيلةً لإرهاب المدنيين ومعاقبتهم على صِلاتهم المزعومة بالطرف الآخر، ولإسكات المعارضة. ووثّقت البعثة ارتكاب جرائم اغتصاب وعنف جنسي "لدوافع انتهازية"، في ظل تفشي الإفلات من العقاب وانتشار السلاح والنزوح المتكرر وغياب الأمن الغذائي والخدمات الأساسية، خصوصاً في المناطق الأفقر.
وأضاف التقرير أن أغلب هذه الجرائم نفّذها "رجال يرتدون زي قوات الدعم السريع"، وفي دارفور "عناصر مسلحون متحالفون معها (مع قوات الدعم السريع) يُعرفون بالجنجويد يرتدون الزي التقليدي ووشاحاً يخفي ملامحهم"، مما يصعّب عملية التعرف إليهم. وقد وثقت البعثة أيضاً حالات محدودة نُسبت إلى عناصر من القوات المسلحة السودانية، من بينهم أفراد في الاستخبارات العسكرية.
ردّت الحكومة بتسليح جماعاتٍ تقودها عناصر تنتمي لقبائل عربية، فيما استقدمت مقاتلين من بدو شرق تشاد. أسمى المحليون تلك القوات "الجنجويد"، أي الجن يركب جواداً باللهجة المحلية. وتسببت استعانة البشير بهؤلاء في تصعيد الصراع وما انطوى عليه من عنفٍ على أساس العرق، وكان العنف الجنسي أحد مكوّناته ممثلاً في الاغتصاب الجماعي، إلى جانب القتل وحرق القرى.
في سنة 2013، أضفى البشير على مجموعات الجنجويد المسلحة صفةً رسميةً بإعادة تسميتها "قوات الدعم السريع" ورتّب وجودها رسمياً بمرسومٍ رئاسيٍّ، وأسند قيادتها إلى محمد حمدان دقلو "حميدتي"، قائد الجنجويد وقتئذ. خضعت القوة في البداية لجهاز الأمن والمخابرات، قبل أن يقرّ البرلمان في 2017 قانوناً يحدّد تبعيتها للجيش، ويصنّفها "قوة عسكرية قومية" داعمة للقوات المسلحة.
ينحدر حميدتي من قبيلة الرزيقات العربية في دارفور. بدأ حياته تاجرَ إبل، قبل أن يصعد تدريجياً في صفوف الجنجويد ويصبح من أبرز قادتهم. منحَه البشير نفوذاً واسعاً لتأمين ولائه، لكن حميدتي شارك في الإطاحة بالبشير في انتفاضة أبريل 2019.
تواجه قوات الدعم السريع اتهامات بارتكاب انتهاكاتٍ واسعةٍ، أبرزها التورط في مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم في يونيو 2019، التي قُتل فيها عشرات المتظاهرين واغتُصبت بعض النساء والفتيات. ومع تشكيل لجنة تحقيقٍ مستقلةٍ، إلا أن المسؤولين عن المجزرة لم يحاسَبوا حتى اليوم.
أثناء المرحلة الانتقالية، تولّى حميدتي منصب نائب رئيس المجلس العسكري، ثم نائباً لرئيس مجلس السيادة بعد انقلاب 2021. ومع تصاعد الخلافات حول دمج قواته في الجيش ضمن إصلاحٍ أمنيٍّ شاملٍ، اندلع النزاع المسلح مع الجيش الرسمي في أبريل 2023، ليدخل السودان في حربٍ مدمّرة.
عزّز حميدتي نفوذ قواته بالسيطرة على مناجم الذهب في دارفور، ما وفّر له تمويلاً كبيراً. وتشير تقارير دولية إلى تلقي قوات الدعم السريع دعماً خارجياً، خاصة من دولة الإمارات (التي تنفي ذلك رسمياً). يكشف تقرير منظمة العفو الدولية المنشور في مايو 2025 عن شراء الإمارات أسلحةً صينيةً لصالح قوات الدعم السريع، رغم حث خبراء الأمم المتحدة على حظر تسليح الميليشيا السودانية.
في الليل، يسود صمتٌ ثقيلٌ لا تقطعه سوى طلقات الرصاص القريبة والبعيدة. تصف منتهى المشهد: "الليل كله ضرب نار. لا إضاءة، لا بشر، فقط صوت السلاح. أحياناً يطلقونه في الهواء لترويعنا".
كانت الأبواب تُغلق عليها والنساء اللائي تعيش معهن في شقةٍ واحدة من الخارج: "يحبسونا، ما نقدر نطلع، الخوف كان مسيطر علينا. نستجيب لأوامرهم بلا نقاش". وعندما سُئلن إن كنّ يرغبن في المغادرة، وُعدن بطريقٍ آمن متى هدأ الوضع، شرط أن "يسمعن الكلام".
تقول منتهى إنه مع مرور الوقت، قلّت الاعتداءات الجنسية، لكنها لم تتوقف. وتركّزت مطالب المقاتلين على إعداد الطعام. فكانوا يجلبون الأغنام المذبوحة والمؤن المنهوبة، ويطلبون وجباتٍ جاهزةً يحملونها معهم. "اهتمامهم بالأكل أكثر من الجنس"، تقول منتهى، مضيفةً أن الاعتداءات وقعت في الأسابيع الأولى ثم انقطعت. ويعدّ الاسترقاق والعمل القسري، الذي تعرضت له منتهى ورفيقاتها، جريمةً أخرى من الجرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي الإنساني.
تصف منتهى المعتدين أنهم شباب في العشرينات، أكبرهم لا يتجاوز الثلاثين ويبدو أنه قائدهم. اثنان منهم من دارفور والثالث يتحدث لغةً أجنبيةً، يُرجّح أنه من تشاد: "واحد منهم لا يفهم العربية، بينما الآخران يتحدثان بلهجة مختلفة". وتؤكد أنهم كانوا يتعاملون معها كأنها مملوكة لهم: "ما بيختشوا. يحسسك إنك أنتِ اللي غلطانة، وإنه هو صاحب الحق فيك". وتشير تقارير عدة، منها تقرير نشرته مجلة مونيتور التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية في سبتمبر 2023، إلى وجود مرتزقة أجانب يقاتلون ضمن صفوف قوات الدعم السريع، بينهم تشاديون وماليون ونيجيريون استُقطبوا عبر شبكاتٍ قبلية أو بالاغراءات المالية. إلى جانب مرتزقة محترفين من ليبيا تابعين لقوات المشير خليفة حفتر الذي توجد تقارير تربطه بالإمارات أيضاً، منها تقرير "أتلانتيك كاونسيل" المنشور في أكتوبر 2022، ومرتزقة روس تابعون لمجموعة فاغنر الروسية شبه الحكومية.
في شهادةٍ أخرى، تقول سندس (اسم مستعار)، وهي شابة سودانية التقتها الفِراتس في القاهرة، إنها نجت من محاولة اغتصاب "بمعجزة" أثناء رحلة نزوحها من ولاية الجزيرة إلى سنار نهاية 2023. أثناء محاولة النزوح أوقف عناصر الدعم السريع المركبةَ التي كانت تستقلها: "غطيت وجهي خوفاً، لكن اثنين منهم يتحدثان الفرنسية أمراني بالنزول واتهماني بأنني من استخبارات الجيش". اقتادها المسلحان نحو كوخ ناءٍ. ولأنها تعرف بممارسات تلك القوات، أيقنت أنهم يستهدفون اغتصابها. وأثناء توسلاتها، وصل ضابط أعلى رتبة من قبيلة الرزيقات وأمر بإطلاق سراحها. تقول سندس: "قال لهما ساخراً: دي استخبارات؟ خلّوها تمشي". وتُكمل: "مشيت حافية، شالوا الطرحة بتاعتي".
تقول منتهى إنها تعتقد أن المسلحين الذي احتجزوها ومارسوا ضدّها ورفيقات سكنها تلك الانتهاكات ليسوا متعلّمين، و"يعيشون في بيئات رعوية" على حدّ قولها، وأنهم كانوا يتعاطون المخدرات ويشربون الخمور، ويتعاملون بلا وعي أو إدراك. "ما عندهم إحساس بالذنب. هم شايفين ده عادي. يدخل عليك كأنه بيته، يشوفك ملكه. ما بيخجل، ما بيختشي. إنتِ تبقي مكسورة، لكن هو يبصّ جوّه عينك. ما بيختشوا، دول حيوانات بس".
بحسب المحكمة الجنائية الدولية، يقع الاستعباد الجنسي عندما يمارس الجاني سلطاتٍ مشابهة لحقّ الملكية على شخصٍ أو أكثر، بالبيع أو الشراء أو الاحتجاز أو تقييد الحرية. ويدفع الضحية إلى أداء أفعالٍ ذات طبيعةٍ جنسيةٍ تحت الإكراه.
وفي تقريرها الصادر في أكتوبر 2024، وثّقت بعثة الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق حول السودان حالات اختطاف نساءٍ وفتياتٍ من الشوارع أو المنازل، واحتجازهن في أماكن معزولة نُقلن إليها بسيارات تابعة لقوات الدعم السريع. تعرّضت الضحايا أثناء الاحتجاز لاغتصابٍ متكرر، وأحياناً جماعيّ، إضافة إلى الضرب والتهديد بالقتل خاصةً في الخرطوم ودارفور. وأكد التقرير أن هذه الانتهاكات شكّلت "ظروفاً مارست فيها قوات الدعم السريع سلطة التملّك على الضحايا"، وهو ما يرقى إلى جريمة الاسترقاق الجنسي المحظورة بموجب القانون الدولي.
وتعرِّف المفوضة العامة لوحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل في السودان، سليمة إسحاق، الاسترقاقَ الجنسي بأنه "اختطاف النساء والفتيات واحتجازهن بغرض الخدمة القسرية والاغتصاب المتكرر، سواء في معسكرات أو منازل مهجورة أو فنادق تمّ الاستيلاء عليها بعد فرار نزلائها". وهذا ما حدث في فندق الضمان بنيالا في جنوب دارفور صيف 2023 حيث احتُجزت مجموعة من النساء، بينهن طفلة في الثانية عشرة من عمرها وعدد من المسنات، بعد اختطافهن من الطريق أثناء توجههن للعمل من معسكر عطاش للنازحين. وفي بحري، سُجِّلت حالات لإقامة عناصر من الدعم السريع بالقوة في منازل نساء بمفردهن، ما وصفته سليمة إسحاق بأنه شكل آخر من السيطرة القسرية والاستغلال.
وفي اتصال مع الفِراتس من بورتسودان، حيث تقدّم مجموعات عملٍ محلية ودولية الدعمَ للنازحات الناجيات من العنف الجنسي تحت مظلة الأمم المتحدة، قالت سليمة إسحاق إن المفوضية وثّقت 134 حالة استرقاق جنسي ارتكبتها قوات الدعم السريع منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 وحتى مطلع مارس 2025، في مناطق متفرقة من البلاد.
وأضافت أن المفوضية سجّلت 1138 حالة اغتصاب في ولايات الخرطوم ودارفور والجزيرة في الفترة ذاتها، مشيرةً إلى أن الضحايا تراوحت أعمارهن بين الرابعة عشرة وأقل من أربعين عاماً، وبينهن عدد كبير من المراهقات. ووثقت الأمم المتحدة كذلك حالات انتهاك جنسي لأطفالٍ لم تتجاوز أعمارهم عاماً واحداً فقط. وفي تقريرٍ صدر في مارس 2025، وثقت منظمة اليونيسف 221 حالة اغتصاب لأطفالٍ منذ بداية سنة 2024. ثلثهم من الذكور، وبينهم ستة عشر طفلاً دون سن الخامسة، وأربعة أطفال لم يُكملوا عامهم الأول.
وتمنع القوات المتحاربة في السودان وخصوصاً قوات الدعم السريع والمجموعات المسلحة المعاونة لها منح حق العمل الآمن للمنظمات المحلية والدولية، القادرة على منح المساعدة لضحايا الاغتصاب والعنف الجنسي، ما يزيد من معاناة المتعرضات للانتهاكات.
وعادةً تعاني ضحايا الاغتصاب من آثارٍ صحيةٍ طويلة الأمد، ويكنّ في حاجةٍ ماسةٍ وفوريةٍ للحصول على رعايةٍ طبيةٍ ونفسية. إلا أنه في ظل الحرب، كانت هناك صعوبات كبيرة أعاقت حصول الضحايا على هذه الرعاية أو الأدوية اللازمة. إما بسبب تدمير المرافق الطبية أو نهبها، أو بسبب الهجوم على مقدّمي الرعاية وفرض القيود على الإمدادات الطبية. بالإضافة إلى حاجة الطواقم الطبية المحلية إلى التدريب والتأهيل، وهو ما يغيب تماماً في الحالة السودانية.
وحسب إفادات الضحايا الواردة في تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق عن العنف الجنسي في السودان، الصادر في أكتوبر 2024، شملت الآثار الصحية للعنف الجنسي ضد السودانيات مآسٍ كثيرة. شملت تلك الآثار الآلام المزمنة أسفل الظهر والبطن وكسور العظام، بسبب الضرب قبل الاغتصاب أو أثناءه، والصداع الشديد والالتهابات النسائية أو البولية وشدة آلام الدورة الشهرية والإجهاض. إلى جانب مضاعفاتٍ صحيةٍ جنسيةٍ أخرى، مثل صعوبة الحمل والإنجاب بسبب الاغتصاب أو الإجهاض القسري.
وينقل نص التقرير أن جميع النساء اللاتي قابلتهن البعثة تقريباً أفدن بمعاناتهن من نزيفٍ مستمرٍّ في أعقاب الاغتصاب. وحسب المصادر الطبية التي تحدثت للبعثة، فإن التمزقات والكدمات المهبلية كانت الأكثر شيوعاً.
يشير التقرير كذلك إلى أن الأطباء في الخرطوم، وفي مواجهة نقص الإمدادات الطبية، وضعوا نظاماً بديلاً للإدارة السريرية لحالات الاغتصاب. إذ وفر النظام حماية للناجيات ضد الحمل وبعض الأمراض المنقولة جنسياً، لكنه لم يشمل الأدوية المضادة للفيروسات وخصوصاً فيروس نقص المناعة "إتش آي في" المتسبّب في مرض الإيدز، وفيروس التهاب الكبد الوبائي ب.
سجلت الأمم المتحدة أيضاً حالات وفاة جرّاء الاغتصاب. تقول سليمة إسحاق إنهم في المفوضية سجلوا حالتين. إحداهما في منطقة بحري لشابّةٍ أصيبت بنزيفٍ شديدٍ، وبسبب المخاطر الأمنية في المنطقة لم تصل المستشفى إلا في اليوم التالي، مما فوّت فرصة إسعافها. والحالة الأخرى لامرأةٍ من معسكر "كلمة" في نيالا بولاية جنوب دارفور. كانت مريضة وفي طريقها لتلقي رعاية طبية في مستشفى قريب، لكنها تعرضت أثناء ذلك لاغتصابٍ جماعي أدى لوفاتها. بخلاف الحالات التي وثقتها منظمات أخرى.
ومن بين الحالات الموثقة، قالت سليمة إسحاق إن 193 حالة لفتيات دون سن الثامنة عشرة، أصغرهن طفلة في السادسة. إضافة إلى حالات لنساء مسنّات، إحداهن تبلغ خمساً وثمانين عاماً، ووصفت الأثر النفسي على النساء الكبيرات في السن بأنه "بالغ القسوة".
ووثقت "مفوضية مكافحة العنف ضد المرأة والطفل" في السودان، منذ الأسابيع الأولى للحرب، عبر صفحتها في فيسبوك جرائم ضحايا العنف الجنسي المرتبط بالنزاع. وذلك مع صعوبة التوثيق بسبب انهيار النظام الصحي وانقطاع الاتصالات وتدهور الأوضاع الأمنية. وتشير الوحدة إلى استهداف قوات الدعم السريع لاجئاتٍ من إريتريا وإثيوبيا في مناطق مثل بحري وأم درمان. وفي منشور نشرته في مارس 2024، تحدثت المفوضية عن "أنباء مؤكدة" عن احتجاز فتيات بينهن قاصرات ونقلهن من الخرطوم إلى دارفور، ويُعتقد أن بعضهن "بُعْنَ"، بينما عادت أخرياتٌ إلى أسرهن التي رفضت التصريح خوفاً من الانتقام.
وتؤكد سليمة إسحاق أن عنف قوات الدعم السريع الجنسي يحمل طابعاً انتقائياً، إذ يستهدف في دارفور النساء المنتميات إلى قبائل إفريقية. وفي الخرطوم والجزيرة، يستهدفون نساء "الشمال أو المركز" بدافع الكراهية الطبقية أو العرقية. وتحدثت سليمة عن انتهاكات داخل منازل الضحايا وأمام أسرهن، بينها حالة اغتصاب أم أثناء محاولتها حماية ابنتها القاصر من اعتداء مماثل.
وأوضحت سليمة إسحاق أن معظم الانتهاكات ارتكبتها قوات الدعم السريع، فيما نسبة أقل ارتكبها أفراد من الجيش السوداني، أو مدنيون استغلوا فوضى الحرب وانتشار السلاح. وأكدت إحالة بعض أفراد الجيش إلى التحقيق بعد رفع الحصانة عنهم، بينما أشارت إلى إفلات أفراد الدعم السريع من العقاب لصعوبة تحديد هوية الجناة والوصول إليهم. ومما يعيق جهود ملاحقة أفراد الدعم السريع قانونياً، أنهم يرتكبون هذه الجرائم بتوجيهٍ من قادتهم وفي مناطق النزاع، ما يجعلها ممنهجة وليست عشوائية أو فردية.
ظلّت منتهى ورفيقاتها محتجزات داخل الشقة لأسابيع أخرى يعتمدن على ما تبقّى من المواد الغذائية التي كان المسلحون وفرّوها بكميات كبيرة قبل اختفائهم. وطال انتظارهن حتى أتيحت لهن فرصة الخروج.
لحظة التحرير جاءت عندما مرّت عربة عسكرية تتبع قوات الدعم السريع بالقرب من الحي المعزول. تقول منتهى: "عندما سمعت صوت العربة، ناديت عليهم من الشباك"، وأوضحت منتهى أنها أبلغتهم بوجود نساء محتجزات في المبنى. مضيفة "ناس جابهم لينا ربّنا"، إذ إن شارعهن يقع بعيداً عن الطريق الرئيسي ولا تمر به المركبات عادة.
عاد الجنود لاحقاً وطلبوا من النساء الخروج، وأطلقوا النار على القفل لفتح باب العمارة المغلق من الخارج. صعدت النساء إلى العربة العسكرية التي نقلتهن إلى نقطة تجمع للنازحين، حيث بدت على الجميع علامات الإرهاق والمعاناة بانتظار فرصة الهرب من الخرطوم نحو ولايات آمن. وبما تبقى معها من مال، دفعت منتهى أجرة السفر للسائق.
بدأت رحلة نزوح منتهى ومرافِقاتها من الخرطوم إلى ولايات أخرى، حتى وصلن في نهاية المطاف إلى مدينة عطبرة بولاية نهر النيل حيث تنطلق الرحلات إلى مصر. أثناء التنقل، اضطررن أحياناً للسير على الأقدام مسافاتٍ تقدّر بما يعادل ساعتين بالعربة، بسبب غياب وسائل النقل أو عدم امتلاكهن المال. تصف منتهى رحلة النجاة وتقول: "على رجولنا. ما فيه عربات، ولو فيه عربية، فلوس ما فيه".
في تنقلاتهن داخل البلاد للوصول إلى الحدود المصرية، مررن بمناطق لم يعرفنها من قبل، واستقللن وسيلة نقل متواضعة اختِيرت لقيمة أجرتها المنخفضة مقارنةً بالمركبات المريحة والأغلى ثمناً. كانت العربة التي اضطررن إليها في الأصل شاحنة جُهّزت داخلياً بكراسٍ حديدية وثُبّت لها سقف، لكن صعودها والنزول منها كان مرهقاً بسبب ارتفاعها الكبير. تسير هذه الشاحنات في النهار فقط، وتتوقف ليلاً بعد العشاء لأسباب أمنية، ما يطيل زمن الرحلة. وتتكرر نقاط التفتيش على الطريق، سواء من قوات الدعم السريع أو الجيش، ويُطلب من الركاب إبراز جوازات السفر وتُفتّش حقائبهم ويُسألون عن مرافقيهم.
تقول منتهى إن أفراداً من الدعم السريع كانوا يطلبون رشاوى من الركاب عند نقاط التفتيش، أو يستولون على مقتنياتهم كأجهزة الهواتف المحمولة. وأثناء رحلتها، رأت مشاهد صادمة. سجناء يسيرون بقيود حديدية في أرجلهم، وتعتقد أنهم ممن قبض عليهم بعد أن أُطلق سراحهم في اقتحام قوات الدعم السريع السجون. ومنها سجن كوبر، أكبر سجون العاصمة، حيث كان يحتجز الرئيس السابق عمر البشير وبعض معاونيه. ورأت منتهى ومن معها كذلك جثثاً منتفخة ورجالاً يُضربون بالسياط.
واصلت منتهى ورفيقاتها الرحلة من عطبرة نحو الحدود المصرية على متن شاحنةٍ صغيرةٍ متهالكة من نوع "ربع نقل" بلا لوحات، ضمّت اثني عشر راكباً. استغرقت الرحلة ثلاثة أيام عبر جبالٍ شاهقةٍ لا تنتهي، كما وصفتها قائلة: "جبال عملاقة مُخيفة، والعربة صغيرة جداً وسطها"، مضيفة أن المسير كان متواصلاً نهاراً وليلاً. ما يعني أنهم دخلوا إلى مصر في واحدة من رحلات التهريب التي ارتفعت وتيرتها بعد ارتفاع رسوم التأشيرة رسمياً إلى ستمئة دولار، وارتفاع رسوم الموافقة الأمنية إلى ألفين وخمسمئة دولار، حسبما تذكر شبكة أخبار السودان.
في منتصف الطريق، توقفت الشاحنات السودانية في منطقةٍ نائيةٍ بانتظار نظيرتها المصرية، التي يُستدل على قدومها من غبارها في الأفق، وقد تتأخر لتجنّب دوريات حرس الحدود المصري. ثم ينتقل الركّاب إلى شاحنات تتكدّس فيها الأجساد، ويصل عدد ركّابها إلى عشرين شخصاً. وكان السائق المصري يربطهم بالحبال، بحسب ما تروي منتهى: "اللي بيوقع من البوكس ما بيقفوا له"، مشيرة إلى أن كثيرين لقوا حتفهم في الطريق.
ومع طول الرحلة ونفاد المؤن، بات الطعام يُباع بأسعارٍ باهظة. فطبقٌ صغيرٌ من الفول مع بعض الأرغفة قد يكلّف مئات الجنيهات، فيما توزَّع مياه الشرب من أوعيةٍ كبيرةٍ بطعم البنزين.
تتوقف الشاحنة قبل الوصول إلى أسوان، ليواصل المسافرون الطريق عبر حافلات صغيرة أو مركبات صغيرة ثلاثية العجلات، لقاء أجورٍ إضافيةٍ مرتفعة. ويُنقل الركاب لاحقاً إلى الحافلات أو القطارات المتجهة إلى القاهرة. وفي إحدى المحطات، ظهر رجل يعرض على الركّاب تحويل العملات وبيع شرائح هواتف مصرية من دون أوراق هوية.
تتفاقم معاناة ضحايا الاغتصاب في السودان عندما يؤدي الاعتداء إلى حملٍ غير مرغوب فيه. ويحدث ذلك غالباً في غياب الرعاية الطبية اللازمة لمنع الحمل بعد الاعتداء، أو في حالات الاحتجاز الطويل والتعرض المتكرر للعنف الجنسي، كما حدث مع مآب التي اكتشفت حملها بعد فترة من الاعتداء.
بحسب سليمة إسحاق، وثقت الأمم المتحدة ثمانية وأربعين حالة حمل بين ضحايا اغتصاب، شملت فتيات دون سن الثامنة عشرة. وتواجه الأسر، لاسيما في حالات القاصرات، قرارات صعبة بشأن مصير الأطفال المولودين. فيسلَّم بعضهم إلى دور الرعاية الاجتماعية بانتظار كفالة أسر سودانية أخرى.
نهاد صلاح، شابة سودانية تطوعت أثناء الحرب في مستشفى "النَّوْ" بأم درمان، حيث سدت مع آخرين النقص في الكادر الطبي. تروي نهاد أنها صادفت حالتين لضحايا اغتصاب. الأولى لطفلة في الثانية عشرة، أحضرتها والدتها للمستشفى بعدما قالت إن "ناس خطفوها ورجّعوها مبشتنينها"، في إشارةٍ إلى مدنيين اغتصبوها. والحالة الثانية كانت لشابةٍ حضرت مع صديقتها إلى الصيدلية لطلب دواء للإجهاض بعد أن اغتصبها أحد أفراد قوات الدعم السريع. لم تتمكن الفتاتان من صرف الدواء لعدم حيازتهما وصفة طبية، ووجهتهما نهاد لمستشفى آخر للحصول على التذكرة الطبية اللازمة. عادت الفتاتان في اليوم التالي ومعهما الوصفة، وبدتا في حالة صدمة وصمت رافضتين التوجه إلى العلاج النفسي، وأصرتا على الإجهاض قبل مغادرتهما المدينة.
لا تُعلن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر عن أرقامٍ محددةٍ لضحايا العنف الجنسي من بين اللاجئين واللاجئات الفارّين من الحرب في السودان، ولا تتوفر معلومات مفصّلة عن أوضاعهن أو التحديات التي يواجهنها داخل البلاد. ووفق بيانات المفوضية الصادرة في أبريل 2025، بلغ عدد اللاجئين وملتمسي اللجوء المسجّلين قرابة مليون شخص. يشكل السودانيون منهم نحو سبعمئة ألف، وتقدَّر نسبة النساء والأطفال بنحو ثلاثة أرباع إجمالي المسجلين من مختلف الجنسيات.
تؤكد كريستين بشاي، مسؤولة المكتب الإعلامي للمفوضية في القاهرة في حديثها للفِراتس أن حالات النساء ضحايا الاغتصاب، أو اللاتي حملن نتيجته، تحظى بالأولوية ضمن برامج المفوضية. وتوضح أن المؤسسة الشريكة تنفيذياً للمفوضية "مصر الملجأ" توفّر الرعاية الطبية العاجلة لضحايا الاغتصاب في الساعات الاثنتين والسبعين الأولى من وقوع الاعتداء. وتشمل خدمات منع الحمل والوقاية من العدوى بأمراض، مثل فيروس نقص المناعة والإيدز. لكنها تشير إلى أن هذه الفترة الزمنية لا تنطبق على معظم اللاجئات السودانيات، نظراً لوصولهن المتأخر إلى مصر بعد رحلة نزوح طويلة.
وتضيف بشاي أن المفوضية وشركاءها يقدمون كذلك رعاية طبية للحوامل حتى الولادة، ودعماً نفسياً عبر منظمة "كير"، إلى جانب توفير سكن مؤقت لهن والمساعدة القانونية في استخراج شهادات ميلاد للأطفال من الجهات المختصة. إلا أن استمرار هذه الخدمات يظل مهدداً، بحسب بشاي، نتيجة نقص التمويل اللازم لتوسيع نطاق الاستجابة وتغطية الأعداد المتزايدة.
وأرجعت بشاي ضعف استجابة المفوضية في الوقت الحالي إلى أزمة تمويل حادة تواجهها المفوضية وسائر المنظمات المعنية بشؤون اللاجئين والتنمية. مشددة "منذ اندلاع حرب السودان، تضاعف عدد المسجلين لدينا بنحو ثلاث مرات. لكن التمويل لم يبقَ ثابتاً فحسب، بل تناقص، في وقتٍ تواجه فيه مصر معدلات تضخمٍ مرتفعة وارتفاعاً كبيراً في أسعار السلع والخدمات".
تحصل منتهى ومآب على مساعدات من مفوضية اللاجئين تضمن لهما الإقامة الشرعية داخل مصر، إلا أن تلك المساعدات تبقى غير كافية لتغطية احتياجاتهما اليومية الأساسية.
تواجه كلّ منهما عبئاً مالياً متزايداً نتيجة دفع إيجارٍ شهريٍّ لمسكنٍ متواضع، يصل إلى بضعة آلاف من الجنيهات، مع مطالباتٍ متكررةٍ من المالكين بزيادته. وإلى جانب ذلك تتحملان كلفة المعيشة الأساسية بما في ذلك احتياجات مولودة مآب، مثل الحفاضات والحليب، ما يجعلهما في حالة اعتمادٍ مستمرٍّ على مساعداتٍ فرديةٍ من بعض المتبرعين.
تقول منتهى إنها تكرر مراجعة المنظمات طلباً للدعم، لكن الردّ غالباً يكون: "فتّشي شغل ما نقدر نساعدك"، على حدّ قولها، في إشارةٍ إلى عجز تلك الجهات عن تقديم دعمٍ مستمر. ومع محاولاتهما العثور على عمل، إلا أنهما تواجهان تدنياً في الأجور وساعات عمل طويلة ومشقة بدنية لا تناسب أوضاعهن الصحية. بالإضافة إلى بُعد أماكن العمل وتكلفة المواصلات، كل هذا يجعل من الاستمرار في أي وظيفة أمراً "شبه مستحيل". وعندما تشتدّ الحاجة، وتجد مآب نفسها عاجزة عن توفير احتياجات الرضيعة، لا يكون أمامها خيار سوى الخروج إلى الشارع لطلب المساعدة من المارة.
ضمن المساعدات المحدودة التي وفّرتها مفوضية اللاجئين بالتعاون مع شركائها المحليين، لضحايا الاعتداءات الجنسية، حصلت منتهى ومآب على جلسات دعم نفسي ضمن برنامج مخصص لضحايا العنف الجنسي، في محاولة للتعامل مع تبعات التجربة القاسية.
الآثار النفسية لما تعرضتا له لاتزال حاضرة. عانت مآب أثناء الاحتجاز من الانطواء ونوبات الإغماء والبكاء المتكرر والشعور الدائم بالإعياء، نتيجة الاعتداء المتكرر. أما منتهى، التي بدت أكثر تماسكاً ظاهرياً، فتعاني من الأرق والكوابيس ونوبات الخوف.
تقول منتهى إنها اعتادت تناول مهدئات للنوم بلا وصفة طبية، لكنها لا تساعد كثيراً: "برضه ما بانوم. بفكّر في اللي حصل واللي جاي". وتضيف أن إيمانها ساعدها على التحمّل: "ده امتحان من ربنا. الواحد يرضى بقضاء الله وقدره".
وتوضح الطبيبة النفسية في جامعة الإسكندرية غادة صديق أن الصدمة الناتجة عن الاعتداء الجنسي المتكرر تترك أثراً مركباً، يختلف تأثيره من ناجية لأخرى، بحسب الدعم المتاح والقدرة النفسية. وتؤكد أن التعافي ليس عملية خطّية، بل يمرّ بمراحل من التقدم والتراجع، وأن الجانب الإيماني قد يشكل عامل دعمٍ مهم يساعد في تجاوز أثر التجربة ومواصلة الحياة.
مع محاولاتهما استعادة حياتهما، لاتزال مشاعر الغضب والحسرة تطغى على منتهى ومآب. تتذكّر منتهى ما مرّت به، فتشتعل فيها رغبة في الانتقام: "لو كبّيت عليهم بنزين وولّعت فيهم، باشوفه قليل". وعندما يُطرح عليها سؤال العدالة، لا ترى أي تعويضٍ ممكناً: "لو بنوا لنا قصور أو إدّونا ملايين، ما بيعوّض. ما في حد يقدر يعوّضك شرفك". أما مآب، التي كانت تملك أحلاماً تعليمية ومهنية قبل الحرب، فتجد نفسها اليوم تسعى فقط لتأمين ما يسدّ رمق يومها واحتياجات طفلتها، قائلة: "الناس بيشوفوني على باب الله. بس بنقول الرزق من رب العباد".
تتابع منتهى بصمت أخبار الانتهاكات التي طالت نساء سودانيات أخريات، مدركةً أن كثيرات لن يتحدثن أبداً، لأن ما حدث لهن يبقى محجوباً بالشعور الموروث بالعار الذي يصم ضحايا العنف الجنسي.
في النهاية، لا تجد مآب ما تقوله سوى كلمات قليلة، لكن وقعها بدا كالصدى الأخير لألمٍ ثقيل لم يجد بعد من ينصفه: "الله سامع".
