يعتمد التقرير على بيانات مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية التي تكشف تصاعداً خطيراً في عنف المستوطنين سنة 2024، إذ قُتل إثره 149 فلسطينياً على الأقل. ويذكر التقرير أن منظمة كرِم نابوت الإسرائيلية، المختصة بمراقبة السياسات الإسرائيلية في الضفة الغربية، قدّرت أن أكثر من ألف وستمئة فلسطيني في الضفة الغربية نزحوا قسراً بسبب عنف المستوطنين وتهديداتهم. ويمنع الجيش الإسرائيلي في كثيرٍ من الحالات هؤلاء النازحين من العودة إلى منازلهم، ما بدا تمكيناً لهدف المستوطنين في التطهير العرقي.
توصي معدّة التقرير الإدارةَ الأمريكية بتصنيف المستوطنين الذين يمارسون العنف تجاه الفلسطينيين جماعاتٍ إرهابية وفرض عقوباتٍ ماليةٍ عليهم. وتوصي الباحثة أن تشمل العقوبات المسؤولين الإسرائيليين الذين يدعمون المستوطنين أو يطالبون بالتطهير العرقي للفلسطينيين. لكن أبرز ما يوصي به التقرير أن تفرض الإدارة الملاحقة القضائية ضدّ المنظمات والأفراد الأمريكيين الذين يموّلون ويدعمون المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي يقطنها مستوطنون إسرائيليون يرتكبون أعمالاً إرهابية.
تضطلع منظمات أمريكية كثيرة أغلبها يهودية وتصنِّف نفسها منظماتٍ خيرية، أبرزها الصندوق القومي اليهودي وهيبرون فَند (صندوق الخليل) وهايوفال، بدورٍ أساس في ترسيخ المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وتوفر تمويلاً كبيراً يشمل التعليم والسكن والزراعة، وتدعيم ترسيخ البؤر الاستيطانية التي تصنّفها الحكومة الإسرائيلية "عشوائية" أو "غير قانونية". وتعوّض هذه المنظمات الجنودَ المنخرطين في العدوان على غزة، لاسيما بعد السابع من أكتوبر 2023. ومع أن التركيز الأكبر في الخطاب الحقوقي والسياسي انصبّ على الدعم العسكري والدبلوماسي الأمريكي المباشر لإسرائيل، إلا أن الدور الحاسم لهذه المنظمات بقيَ بعيداً عن الأضواء. فهي تموّل جرائم الحرب وتغذّيها وتدعم الجرائم ضد الإنسانية، سواء مباشرةً أو بشكلٍ غير مباشر. وديدنها الأبرز تجريد الفلسطينيين من أرضهم وتفتيت قدرتهم على البقاء والاستمرار فيها. وهذا يتماشى مع غياب الرقابة الأمريكية الرسمية المطلوبة على نشاطها، مقابل جهودٍ متواضعة من جمعياتٍ حقوقيةٍ أو مجتمعٍ مدنيٍّ للفت الأنظار لدور هذه الجمعيات ومساءلتها قانونياً.
كانت النقلة النوعية في تمويل الاستيطان مع تأسيس الصندوق القومي اليهودي سنة 1901 في المؤتمر الصهيوني الخامس، وفيه أُقرّت حصالة شابيرا خطةً للعمل بعد وفاته بأربع سنوات. وأُعلن أن هدفَ الصندوق جمع الأموال لتسهيل الاستيطان اليهودي في فلسطين وتعزيزه.
انتقل الصندوق القومي اليهودي من فيينا إلى القدس سنة 1919، أي بعد عامين من سيطرة بريطانيا على فلسطين من الدولة العثمانية. تسارعت بعد انتقاله عملية شرائه للأراضي لتُبنى عليها المستوطنات والمؤسسات التعليمية اليهودية، مثل الجامعة العبرية في القدس ومعهد التخنيون للتقنية في حيفا. وفي بداية الأربعينيات عبّر يوسف فايس، الرئيس السابق لقسم الأرض والتشجير في الصندوق القومي، وبصراحة فظة عن هدف الصندوق بقوله: "لا سبيل إلا لنقل العرب [ويعني الفلسطينيين] من هنا إلى الدول المجاورة، لنقلهم جميعاً [. . .] يجب ألا تبقى قرية واحدة [. . .] لتحقيق هذا الهدف، ستوفّر الأموال".
مع حلول سنة 1947، قبل النكبة وإعلان إنشاء إسرائيل بعام، وصل ما يملكه الصندوق حوالي 6.6 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية. بعد 1948، بات الصندوق يسيطر على ما يقارب 13 بالمئة من مساحة الأراضي الفلسطينية التي أضحت تُسمّى إسرائيل.
واكبت جهود المؤسسات "الخيرية" الأمريكية عملَ المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية في كل جغرافيا طالتها. فبعد حرب الخامس من يونيو 1967 واحتلال إسرائيل البقية الباقية من فلسطين التاريخية – الضفة الغربية وقطاع غزة – بالإضافة للجولان السوري وشبه جزيرة سيناء المصرية، طفقت هذه المؤسسات تموّل المشاريع الاستيطانية في هذه المناطق المحتلة.
شجّع أرئيل شارون – الذي كان حينها وزير الزراعة قبل تولّيه حقيبة الدفاع لاحقاً – سنة 1978 خمس عائلات يهودية لنصب خيامهم على قمة تلّةٍ بالقرب من مدينة سلفيت، شمال الضفة الغربية. تحوّل المكان اليوم مدينةً استيطانيةً تحمل اسمه "مستوطنة أرئيل"، وتضمّ قرابة ثلاثين ألف مستوطن بفضل المساعدات المالية الضخمة التي وفّرتها المؤسسة الأمريكية المعفاة من الضرائب والمسمّاة "أصدقاء أرئيل الأمريكيون".
وفي العقدين الماضيين، تبرّع رجل الأعمال الأمريكي اليهودي إرفينغ موسكوفيتش عبر مؤسسةٍ للقمار في منطقة هاواي غاردينز بولاية كاليفورنيا بما لا يقلّ عن مئة مليون دولار مقتطعة من الضرائب لصالح الحركة الاستيطانية، بالذات في أحياء القدس العربية وأماكن في مدينة الخليل. ويُنسب الفضل لتبرعات موسكوفيتش في تأسيس بؤرة عملٍ استيطانيةٍ في الضفة الغربية قوامها سبعين ألف مستوطن "غيّرت قواعد اللعبة"، كما صرّح للغارديان البريطانية الحاخام الأمريكي المعادي للاستيطان حاييم دوف بِلياك.
ولكن ليس موسكوفيتش ولا الصندوق القومي اليهودي في الولايات المتحدة سوى واجهات مؤسساتية، من بين ما لا يقلّ عن مئةٍ وخمسين مؤسسة أمريكية يهودية وغير يهودية تتستر تحت عناوين فضفاضة ديدنها "العمل الخيري".
وعلى حدّ تعبير هاجيت عوفران، الرئيسة السابقة لفريق مراقبة المستوطنات في منظمة "السلام الآن" الإسرائيلية، فهذه الأموال ليست هامشيةً في بقاء الاستيطان وتوسّعه. بل بدون "التبرعات الأمريكية غير الربحية، لا وجود لمنظماتِ المستوطنين الإسرائيليين". وقد سُمح لهذه المنظمات بالحفاظ على وضعها واستخدام قوانين الضرائب لتكون قادرةً على جمع الأموال. وذلك بحسب مايكل لينك، المقرر الخاص للأمم المتحدة في فلسطين من سنة 2016 حتى 2022.
فقد جمعت الاتحادات اليهودية في أمريكا الشمالية وحدها، وهي منظمة تعمل تحت مظلّتها ثلاثمئة وخمسين منظمة يهودية، 833 مليون دولار منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى أغسطس 2024. وهو المبلغ الذي يتجاوز بقليل نصف ما تبرّعت به كل المجموعات اليهودية حول العالم لإسرائيل بعد أحداث السابع من أكتوبر. تماشى هذا الضخ المالي مع حجم الانفجار الاستيطاني في الضفة الغربية وتغوّل مستوطنيها. وهو ما يجعل تلك المؤسسات "الخيرية" ودورها "شكلاً من أشكال التطهير العرقي"، على حدّ وصف المؤرخ أوري ديفيس حين تحدث عن دور الصندوق القومي في كتابه "إي تشاريتي كومبليسيت ويذ إيثنيك كلينزينغ" (مؤسسة خيرية متواطئة في التطهير العرقي) الصادر سنة 2022.
وبما أن العمل "الخيري" الذي يتسترّ تحته الصندوق واكب إيقاع المؤسسة العسكرية والسياسية في إسرائيل، فلم يقتصر عمله على المساحة التي احتلتها إسرائيل سنة 1948. سعى الصندوق بأموال المتبرّعين للاستيلاء على الممتلكات الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية ومحيطها. وذلك عبر شركتين يُسمّيان "هامينوتا"، يمتلك الصندوق تسعةً وتسعين بالمئة من أسهمهما. الأولى أنشطتها في قلب إسرائيل والقدس الشرقية، والثانية تركيزها على الضفة الغربية. وتشير لها منظمة السلام الآن باسم "هيمانوتا يوش"، لتفرقتها عن رديفتها داخل الخط الأخضر.
سيطر فرع الشركة في الضفة الغربية حتى سنة 2019 على خمسة وستين ألف دونم (الدونم ألف متر مربع) أغلبها بصفقاتٍ يشوبها التلاعب والتزوير، بحسب منظمة السلام الآن. فيما أورد تحقيق استقصائي لصحيفة هآرتس الإسرائيلية في يوليو 2021 أن وزارة الدفاع أوكلت للصندوق القومي في الضفة الغربية شراء الأراضي من الفلسطينيين. نُفذت معظم عمليات الشراء بطرقٍ ملتوية وبسياسة فرض الأمر الواقع. مثل أن يُسمح للمستوطنين بالنشاط داخل هذه الأراضي في وقتٍ يُمنع أصحابها الوصولَ إليها، فارضين على أصحاب الأرض أحياناً خيارات مستحيلة: إما البيع أو لا شيء. بالتوازي، استولت منظمة إلعاد، المرتبطة بالصندوق، على عشرات البيوت في حي سلوان ووادي حلوة لصالح بناء "مدينة داوود" في قلب القدس العربية.
وكانت إدارة الرئيس بايدن أصدرت في فبراير 2024 أمراً تنفيذياً يتيح لوزارتَي الخارجية والخزانة فرض عقوبات على "أفراد يهددون الأمن والسلم"، في إشارةٍ إلى الأنشطة العنيفة لجماعات وأفراد من المستوطنين في الضفة الغربية. من غير الإدانة المحددة للصندوق القومي. وهو ما دفع مثلاً مؤسسة "دون" للديمقراطية وحقوق الإنسان للمطالبة في تقريرها بداية 2025 بالدعوة لفرض عقوبات على الصندوق والشركات تحت مظلّته لثبوت تورّطهم في أنشطةٍ استيطانيةٍ مشبوهة. لم تتبلور عن التقرير نتائج فعلية تغيّر الواقع على الأرض في الضفة الغربية أو تعيد للمواطنين الفلسطينيين الذين فقدوا أراضيهم شيئاً من الاعتبار. وما حاق ولايزال بكثيرٍ من العوائل الفلسطينية في الضفة الغربية، ومنها عائلة قيسية، مثالاً لقصر اليد هذه.
بعد أيام من هدم المنزل الفلسطيني للمرة الأولى، أنشأ مستوطنون بؤرةً استيطانيةً جديدةً في المنطقة لا تبعد سوى سبعين متراً عنه. وفي منتصف أغسطس 2024 أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموترتش عن تأسيس مستوطنة في المكان باسم "ناحال حاليتز"، في مشهد تتكشف فيه معالم التماهي بين مؤسسات إسرائيل الخاصة والعامة.
وفي موازاة ذلك، دشّن صندوق مستوطنة "غوش عتصيون" (المؤسسة الرديفة لجمعية خيرية بذات الاسم في الولايات المتحدة وتأخذ تمويلاً مباشراً منها) حملةً على الإنترنت لجمع الأموال لدعم مجموعات "نوعَر هغفعوت" (فتية التلال)، بقيادة المستوطن ليئور تال، التي احتلت المكان ومارست العنف على أصحاب الأرض الفلسطينيين. فتية التلال مجموعة يهودية أُنشئت سنة 1998 بإلهامٍ من أرئيل شارون لتنشر بؤراً استيطانيةً على تلال الضفة الغربية. وقد وثّقت أميرة قيسية في فيديو اعتداءاتهم المتكررة على ممتلكاتها لإفراغ محتويات منزلها خارج المكان والسيطرة عليه.
يظهر ليؤر تال في المقطع المصوّر الترويجي للحملة "مدافعاً أعزل" عن أرضٍ إسرائيليةٍ اشتراها الصندوق القومي، ويستردّها من "عدو غازٍ" – على حدّ وصف الحملة – احتلّها عشرين سنة. فيما تظهره مقاطع أميرة ونشطاء السلام الإسرائيليين، الذين جاؤوا لمساندتها، وهو يحمل بندقيةً ويرتدي زي الجيش الإسرائيلي ويهاجم ويعتدي. وقد جمعت الحملة حتى نهاية مايو 2025 ثلاثةً وأربعين ألف دولاراً، منوهةً إلى أن التبرعات تخضع للإعفاء الضريبي في إسرائيل والولايات المتحدة.
ومع تراجع دعم "الصندوق القومي اليهودي الأمريكي" لفرعه الإسرائيلي سنة 2021 إثر خلافات مع الحركة الإصلاحية اليهودية (وهي الأكبر بين الطوائف اليهودية في أمريكا الشمالية وذات أجندة تقدّمية) وبسبب بعض الانتقاد من وزارة الخارجية الأمريكية، إلا أن التمويل لم يتوقف واستُخدم في دعم مشاريع الاستيطان في الجليل والنقب والضفة. وتعهد الصندوق في ذات السنة بميزانيةٍ قدرها مليار ومئتي مليون دولار لشراء أراضٍ فلسطينية.
وأطلق الصندوق الأمريكي سنة 2013 "حملة المليار دولار لصالح إسرائيل"، جمع منها ثمانمئة مليون حتى نهاية 2021. وتبنّى الصندوق كذلك سنة 2020 خطة "إعادة توطين إسرائيل 2040" التي تستهدف ترحيل الفلسطينيين البدو من النقب وإسكان مليون مستوطن بدلاً عنهم، ونصف مليون آخرين في الجليل، وتحويل النقب إلى مركز للتقنية وصناعة السلاح. وموّل الصندوق حملةً بقيمة خمسين مليون دولار لإعادة بناء شمال إسرائيل وجنوبها بعد السابع من أكتوبر 2023.
وتُوجَّه اتهامات للصندوق الأمريكي بدعم البؤر الاستيطانية الزراعية أو ما يُسمّى "الاستيطان الرعوي"، وفيه يربّي مستوطنون الأغنام على تلال الضفة ويستولون على مساحاتٍ شاسعة، ويمارسون العنف ضدّ المزارعين الفلسطينيين. وصرّح للفِراتْس الباحث في مركز أبحاث دراسات الأراضي التابع لمركز الدراسات العربية في القدس، جمال العملة، قائلاً إن هذا النوع من النشاط الاستيطاني أدى إلى الاستيلاء على أراضٍ تعادل عشرة أضعاف ما سيطرت عليه المستوطنات السكنية. وقد تسبّب في تهجير 355 عائلةً (أو 2209 شخصاً) من قراهم قسراً، بحسب تقريرٍ أصدره مركز أبحاث الأراضي.
لمجموعات فتية التلال دورٌ أساس في هذا النشاط، وتتركز تعدياتهم في السفوح الشرقية للضفة الغربية. يتحركون تحت حماية الدولة، بأجهزتها الأمنية والقضائية، وبالدعم المالي السخيّ الذي يضمن لهم البنى التحتية والتعليم والرفاه. وما عليهم سوى السيطرة بطشاً، وتحت تهديد السلاح على أراضي الفلسطينيين ودفعهم خارجها. وبالتالي خلق واقعٍ استيطانيٍّ جديد.
في الجهة المقابلة مباشرةً، كما رصدت الفِراتْس، هدمت قوات الاحتلال في مايو 2025 تجمعاً فلسطينياً يقع على تلةٍ مقابلةٍ للمستوطنة يدعى "خلة الضبع". وذلك بحجة وقوعه في منطقة إطلاق نارٍ مغلَقة أعلنها جيش الاحتلال سنة 1981، وتُعرف باسم "منطقة إطلاق نار 918". أفيغيل ذاتها، وعدد من البؤر الاستيطانية المجاورة، تقع ضمن نفس منطقة إطلاق النار المزعومة. لكن بدل أن تُهدم، تُشرعن وتوفِّر لها جمعياتٌ أمريكية الأموال. وأهم هذه الجمعيات واحدة تتبنى عقيدة الصهيونية المسيحية تحت اسم "الأصدقاء المسيحيون للمجتمعات الإسرائيلية". يظهر في شعار الجمعية الخارطة الكاملة لفلسطين التاريخية، شاملةً المناطق المحتلّة سنة 1967 وليس فقط التي صارت إسرائيل بعد نكبة 1948.
ولا تتجلى آثار تلك التبرعات على تغذية نزعة التوسع الاستيطاني على حساب ممتلكات الفلسطينيين فحسب، بل تطال أجسادهم وأرواحهم أيضاً. ففي ساعات الصباح الأولى استيقظ الشيخ سعيد العمور (60 عاماً)، من تجمّع الركيز في مسافر يطا جنوب الضفة الغربية، على مشهد مجموعةٍ من المستوطنين يقتحمون أرضه المقابلة لمستوطنة أفيغيل. يملك سعيد أوراق ملكيته الأرضَ وأمراً قضائياً يؤكد حقه في البقاء فيها.
ووفقاً لما شاهدناه في الموقع، كانت هناك أعمدة حديدية نصَبها المستوطنون تشير إلى حدودٍ توسّعية للمستوطنة. وكان الشيخ سعيد هبّ مع اثنين من أبنائه لمحاولة منعهم من تسييج أرضه. لكنّ المستوطنين سارعوا إلى استدعاء منسّق أمن المستوطنة وأحد سكانها، واسمه بنيامين بودنهايمر، المعروف بين المستوطنين بلقب "بودي".
انهال بودنهايمر على نجل العمور الأوسط بالضرب وحاول تقييد يديه. وحين تدخّل الشيخ سعيد لمنعه، أطلق رصاصتين في الهواء وثالثةً أصابت ساق الشيخ، فخرّ على الأرض يصرخ من الألم. استدعيت الشرطة والإسعاف، لكن سيارة الإسعاف وصلت متأخرة ونُقل العمور إلى مستشفى سوروكا في بئر السبع، حيث أفاق بعد يومين ليكتشف أن ساقه قد بُترت. أخبره الأطباء أن التأخر في تقديم الإسعاف وسوء التعامل الطبي مع حالته تسببا في تدهور وضع الساق، ما اضطرهم إلى بترها.
وبألمٍ بدا ممزوجاً بالثبات، قال العمور للفِراتْس إن "ما جرى كان نتيجة تواطؤ بين أجهزة الحكومة الإسرائيلية – من شرطة وجيش ونظام طبي – مع المستوطنين"، ما أدى إلى فقدانه ساقَه وجلوسه طريح الفراش منذ ذلك الحين. ومع وضعه الصحي، إلا أن القوات الإسرائيلية قيّدته في سريره داخل المستشفى، "وتحدث الطاقم الطبي همساً عن نيّتهم نقل ملفي الطبي إلى المستوطن مطلق النار". والظن أن السبب هو مساعدة المستوطن بالاطلاع على تفاصيل الحادث ليأخذ احتياطاته فيما لو استدعي للشهادة في القضية. فلا يكون هناك تناقض في هذه الشهادة يُعرّض رواية بودنهايمر للشك. نُقل الشيخ سعيد لاحقاً إلى بلدته في مركبات نقل الأسرى العسكرية ذات المقاعد الحديدية بدل سيارة إسعاف، ما سبّب له آلاماً شديدة.
وفي أرضه من قلب غرفة صفيح وكهف حفره في الصخور قبل خمسة عشرة سنةً، يستذكر الشيخ سعيد لنا كيف منعته السلطات الإسرائيلية من حفر بئر مياه في أرضه. حاول اللجوء إلى القضاء. وبعد سنواتٍ من المماطلة والتسويف، حصل على أمرٍ من المحكمة العليا الإسرائيلية يتيح له إبقاء ما شُيّد على أرضه قائماً، وهي بئر ماء وغرفة صفيح وفرن خبز وكهف. ومنذ ذلك الحين وهو وأسرته يُضايَقون بتكرار من المستوطنة المقابلة، التي ظلّت تتوسع مع أنها "غير قانونية" بحسب تعريف الحكومة الإسرائيلية.
الصورة لا تختلف كثيراً إذا اتجهنا جنوباً نحو خربة زنوتا قرب بلدة الظاهرية، والبلدة هي آخر تجمع سكاني فلسطيني جنوبي الضفة الغربية. فبعد السابع من أكتوبر 2023، هجّرت اعتداءات المستوطنين سكانَ الخربة المئتين وخمسين، لتبدأ عناصر من حركة "هشومير يوش" (حراس يهودا والسامرة) – أُسست سنة 2013 وتصنف نفسها مؤسسة غير ربحية ترسل متطوعين للعمل في مزارع المستوطنات في الضفة الغربية – بهدم جميع بيوت القرية ومدرستها وعيادتها.
وعندما عاد الأهالي لقريتهم بعيد صدور حكمٍ قضائي من المحكمة العليا الإسرائيلية في مطلع 2025، فوجئوا بأن المستوطنين سيّجوها لمنعهم من العودة. ولم يجد السكان مكاناً يأوون إليه، فعادوا إلى مناطق التهجير القسري بانتظار إعادة الإعمار. وهو مشروع لا يسلم من اعتداءات المستوطنين بقيادة يِنون ليفي (مؤسس البؤرة الاستيطانية "ميتاريم" والممولة مباشرةً من هشومير يوش)، بحسب فايز الطل، رئيس المجلس القروي للخربة في حديثه للفِراتس.
ويشير الطل إلى أن ليفي – الذي فُرضت عليه عقوبات أمريكية سنة 2024 ثم رُفعت في عهد ترامب، ولايزال على قائمة عقوبات الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة – قد اعتدى في إحدى المرات على منزل سيدةٍ فلسطينيةٍ مسنة اسمها بديعة البطاط. فكسر ألواح الطاقة الشمسية التي تمدّها بالكهرباء، وحطّم نوافذ منزلها. أضاف الطل: "ولولا عناية الله، لكان الحجر الذي ألقاه باتجاهها أصاب رأسها وقتلها".
ومع العقوبات، لم ينقطع الدعم عن ليفي. فبعد أيامٍ من فرضها، أطلقت حملة إلكترونية لجمع التبرعات لصالحه، جمعت في أيام أكثر من مئة وأربعين ألف دولار من أكثر من ثلاثة آلاف متبرع حول العالم، بحسب تقرير لوكالة أسوشيتد برس. ويشير التقرير إلى أن هشومير يوش أرسلت متطوعين إلى موقع ليفي الاستيطاني بالقرب من زنوتا. وظهر في منشور على فيسبوك بتاريخ 13 نوفمبر 2024، رُبط بصفحة على موقع جمع التبرعات اليهودي "جيه غيف"، تدعو إلى تجنيد "متطوعين مسلحين" وجمعت ما يقرب من أربعة وعشرين ألف دولار. وتُظهر وثائق حصلت عليها مجلة "+972" الإسرائيلية أن الحركة أيضاً تلقت مبلغ سبعين ألف دولار من منظمة "الصندوق المركزي الإسرائيلي" ومقرّها نيويورك، وتصف نفسها بأنها منظمة غير ربحية تضطلع بأعمال خيرية لإسرائيل.
يشمل هذا الدعم تمويل إنشاء البنى التحتية ورعاية البؤر الاستيطانية الحديثة وإنشاء الحدائق، فضلاً عن تمويل مستوطناتٍ خرج منها منفذو عملياتٍ إرهابية. مثل زئيف فريدمان (آنذاك الرئيس السابق لمستوطنة كريات أربع في الخليل) المتورط بتفجير سيارات سنة 1980 أصابت رئيسَي بلديتي نابلس ورام الله، غسان الشكعة وكريم خلف، فبُترت أطرافهما السفلى. وكذلك مناحيم ليفني الذي قَتل ثلاثة طلاب من الكلية الإسلامية (نواة جامعة الخليل اليوم) سنة 1983، وباروخ غولدشتاين منفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي سنة 1994 التي قُتل فيها تسعة وعشرون مصلّياً. ويخصص الصندوق دعماً للجنود الذين يحرسون عدداً من البؤر الاستيطانية في قلب المدينة الذي أُفرغ من معظم سكانه، بينما يضيّق على الباقين لدفعهم نحو الهجرة.
ويسعى الصندوق إلى تمويل استيلاء المستوطنين على العقارات الفلسطينية داخل المدينة. ففي 18 يونيو سنة 2007، نظّم الصندوق حملة تبرعات على متن سفينةٍ سياحيةٍ في نهر هدسون في نيويورك. وقد ذهبت العائدات لدعم المستوطن الذي استولى على منزل عائلة الرجبي بالقرب من الحرم الإبراهيمي في الخليل في 2007. وقد أنكرت العائلة تماماً أن يكون المنزل قد بيع قانونياً كما يدّعي المستوطنون. وفي 2019 أطلق الصندوق حملةً جديدةً جمعت أكثر من مليون دولار، بحسب ما وثّقه الناشط الفلسطيني والباحث في شؤون الاستيطان عيسى عمرو في رسائل نصية مع الفِراتس، وكذلك وفقاً للمقطع المصور الترويجي للحملة على منصة "كوز ماتش". خُصصت الأموال، بحسب عمرو، لإنشاء حيٍّ استيطانيٍّ مكان محطة الحافلات المركزية السابقة في المدينة.
وجمع الصندوق كذلك سنة 2021 في أربع وعشرين ساعةً فقط 575 ألف دولار عبر منصة "تشاريدي" النيويوركية، تحت عنوان "أبطال الخليل". وفي أعقاب السابع من أكتوبر، وتماشياً مع الحملة الواسعة لجمع التبرعات لتوفير معدات عسكرية وأمنية للمستوطنين والجنود، أطلق الصندوق حملةً جديدةً عبر منصة "كوز كاتش"، جمعت حتى يونيو 2025 قرابة 1.12 مليون دولار.
تشترك بؤرة موشيه، مثل سائر البؤر الاستيطانية بالمنطقة، في أعمالِ عنفٍ منظمةٍ ضدّ الفلسطينيين في القرى المجاورة. وبحسب رأفت لافي، رئيس بلدية ترمسعيا، في تصريح للفِراتس، "أضرم مستوطنون النار قبل عامين [2023] في نحو ثلاثين منزلاً وستين سيارةً داخل البلدة". وقد أخبرنا الناشط عوض أبو سمرة أن المستوطنين واصلوا في الأشهر الأولى من سنة 2025 اعتداءاتهم المتكررة. هاجموا المواطنين وأحرقوا المحاصيل الزراعية في سهل سيع الملاصق للقرية، في محاولاتٍ مستمرة للضغط على السكان بهدف إخلاء أراضيهم الزراعية.
ومع كل هذه الانتهاكات، وكما حصل مع ينون ليفي ومنظمته، إلا أن إدارة ترامب رفعت في فبراير 2025 العقوبات عن شرفيت وبؤرته. لكن العقوبات لم تكن عائقاً فعلياً أمام استمرار الدعم المالي للمستوطنات. فقد سارعت مؤسسات داعمة للاستيطان إلى إطلاق حملة تمويلٍ للبؤرة عقب فرض إدارة بايدن العقوبات في مارس 2024. جمعتْ ما يقارب تسعمئة ألف دولارٍ عبر منصات مثل "غيف خاك"، وهي منصة إسرائيلية تمكّن المتبرعين من الولايات المتحدة من التبرع مع الحصول على إعفاء ضريبي. وكذلك تطبيق "بيت" التابع لبنك هبوعليم الإسرائيلي، وله فرع في الولايات المتحدة. وحسب الدعوى التي رفعها مواطنون أمريكيون من أصل فلسطيني في 2015، يُعدّ البنك من الوسائل المفضّلة لتحويل تبرعات المستوطنين الأمريكيين إلى إسرائيل.
وقد شارك عددٌ من المتطوعين من الولايات المتحدة في تقليم كروم العنب في مستوطنة سوسيا، المزروعة على أراضٍ خاصة تعود لعائلتَي اشريتح والنواجعة الفلسطينيتين من مدينة يطّا. في المقابل، حُرم المواطن نصر النواجعة وعائلته الوصول إلى تلك الأراضي منذ استيلاء المستوطنين عليها سنة 1983. إذ أُبعد هو وسكان القرية عن أراضيهم بعد اكتشافٍ أثريٍّ في المنطقة يشير إلى قرية أدومية قديمة، زعمَ المستوطنون أنها تعود لعائلاتٍ يهودية من الحقبة الرومانية.
وفي ردّه على سؤال الفِراتس عن قدرته على مشاهدة المتطوعين يزرعون أرضه في سوسيا ويقطفون حصادها، قال مسلم اشريتح: "أمرٌ مبكٍ. لقد سلبونا أرضنا وزرعوها ويأتون بكل الناس إليها ونحن لا نستطيع وصولها فضلاً عن الاستفادة منها". ويتابع: "آلاف الدونمات فقدتها العائلة لصالح المستوطنة رغم وجود الإثباتاتِ القانونيةِ لملكيتها. ورغم محاولاتنا القضائية التي لم تتوقف منذ ثمانينيات القرن الماضي دون فائدة".
وفي مشهدٍ آخر روّجته هايوفِل لبرنامجها التطوّعي، قاد مستوطن على متن مركبة رباعية الدفع – وفّرها بتسلئيل سموتريتش للمستوطنين – مجموعةً من المتطوعين في جولةٍ صيفيةٍ إلى مستوطناتٍ مشرفة على غور الأردن، ضمن برنامجٍ يشمل الزراعة وتقليم الأشجار وحصاد المحاصيل. ونشاط آخر هدفه تعطيل وصول المزارعين الفلسطينيين لأراضيهم أو العمل فيها، إذ أطلقت عليه المنظمة "حرب الجرارات". وهو مصطلح استخدمه مائير دويتش، المدير العام لمنظمة "ريغافيم"، إشارةً إلى الصراع المفتوح مع المزارعين الفلسطينيين على الأراضي الزراعية.
وعلى ذات الشاكلة، تلقت مدارس دينية أخرى تمويلاً من جمعيات أمريكية، مثل مدرسة "عود يوسف حاي يشيفا" في مستوطنة يتسهار، جنوب نابلس في شمال الضفة الغربية. حصلت المدرسة على دعمٍ من "الصندوق المركزي لإسرائيل". وقد ألّف مديرا المدرسة، الحاخامان إسحاق شابيرا ويوسف إليتسور، سنة 2009 كتاباً بعنوان "توراة الملك". ويتناول في بعض جوانبه الظروف التي يُسمح فيها بقتل غير اليهود. وأشار الكتاب إلى حالاتٍ كثيرة يجوز لليهودي قتل "الغوييم" (الأغيار، غير اليهود)، وفي حالاتٍ أخرى ينبغي له قتلهم. وفي أبريل 2022، دعا عدد من الحاخامات الأمريكيين إلى وقف تمويل هذه المدرسة بسبب تحريضها المستمر على الفلسطينيين، منطلقين من مبدأ أن جزءاً كبيراً من التبرعات المعفية ضريبياً من منظمات أمريكية لإسرائيل "تساهم بشكل غير مباشر بإذكاء العنف".
بل إن بعض حملات التبرع الموجهة ظاهرياً لدعم التعليم الديني تُستخدم غطاءً لتمويل أنشطة استيطانية أوسع. فقد جمعت منظمة "الأصدقاء الأمريكيين لعطيرت كوهانيم"، وهي منظمة مقرّها نيويورك، تبرعات قُدّمت على أنها تخصّ "مؤسسات التعليم العالي في إسرائيل". إلا أن المدير التنفيذي الأسبق للمنظمة دانيال لوريا أقرّ بأن ما يُعلن في الإقرارات الضريبية لا يعكس الواقع، موضحاً أن هذا التوصيف يأتي بسبب الضرائب. وقد أكد أن الأموال تُستخدم في الحقيقة "لاسترداد الأراضي"، وهو التعبير المخفف الذي يستخدمه ممثلو المؤسسات الاستيطانية لوصف عمليات مصادرة ممتلكات الفلسطينيين. وفي السياق ذاته، كشف "مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية" في بيانِ صدر سنة 2010 أن منظمة عطيرت كوهانيم استولت حتى ذلك التاريخ على خمسة وسبعين منزلاً فلسطينياً مطلاً على المسجد الأقصى داخل البلدة القديمة في القدس.
بذات الطريقة عملت جمعيات أخرى تحت غطاء "دعم التعليم في المستوطنات" لتسهيل تمويل أنشطة عنفية. إذ كشف تحقيق أجراه مجلس الشيوخ الأمريكي أن جمعية تُدعى "كابيتال أثليتيك" أبلغت سنة 2006 عن تبرعٍ بقيمة مئة وأربعين ألف دولار لصالح مدرسة تُدعى "أوهيل تيفيريت" في مستوطنة بيطار عيليت جنوب القدس. قُدّم التبرع على أنه لدعم "أنشطة تعليمية ورياضية"، لكن الأموال استخدمت لشراء معداتٍ وأسلحةٍ ومركبات.
وبعد مرور ثلاثة أشهر على السابع من أكتوبر، وثّقت صحيفة الغارديان البريطانية ما لا يقلّ عن أربعمئة وخمسين حملةً نشطةً على موقع تبرعات إسرائيل. من بين هذه الحملات، التي أُطلقت بعد ذلك التاريخ، كانت مئتان وأربعٌ منها تهدف إلى جمع التبرعات من أجل معدات تكتيكية أو دعم مباشر. وشملت قائمة المستفيدين: الجيش الإسرائيلي ووحداتٍ تابعة له، إلى جانب فرق شبه عسكرية تنتمي إلى مستوطناتٍ إسرائيليةٍ في الضفة الغربية. وقد بلغ إجمالي التعهدات في هذه الحملات نحو خمسة ملايين وثلاثمئة ألف دولار. أشارت نسبة كبيرة من المتبرعين فيها إلى أنهم مقيمون في الولايات المتحدة.
أُرفقت بعض هذه الحملات بصورٍ تظهر جنوداً من داخل منازل الفلسطينيين في غزة، مثل صور لوحدة ماجلان (وحدة كوماندوز إسرائيلية)، وأخرى لوحدة دينية في لواء غفعاتي جمعت أربعين ألف دولار. قادت مؤسسة هند رجب، والتي تأسست بعد حرب غزة وحملت اسم الطفلة التي أعدمها الجيش الإسرائيلي وعائلتها في يناير 2024، دعاوى لمحكمة الجنايات ضد جنود في وحدة غيفعاتي هذه بتهم تورّطهم في جرائم حرب.
ولم تقتصر حملات التمويل المباشر للوحدات العسكرية، بل شملت كذلك التبرع بمعدات أمنية وعسكرية من منظمات "خيرية" في المستوطنات. جمع "صندوق غوش عتصيون"، وهو تجمع استيطاني بين بيت لحم والخليل، مبلغ 347 ألف دولار، خُصّص جزء منه لشراء خوذات وسترات واقية ومخازن رصاص إضافة إلى تجهيز غرف لقوى الأمن داخل المستوطنة. شمل ذلك أيضاً تركيب آلات تصوير مراقبة متقدمة لرصد تحركات الفلسطينيين على الشوارع المحاذية، وتوفير مركبات دفع رباعي صغيرة، ومباني لإيواء الجنود ومرافق للترفيه عنهم وتأمين وجباتهم ودعمهم مادياً هم وعائلاتهم.
استفادت من هذا التمويل منظمات استيطانية شبه عسكرية، مثل "مشميرت يشع" التي تدرب المستوطنين على حدّ زعمها على "مكافحة الإرهاب"، وهي بذلك تستخدم العنف ضد الفلسطينيين. تلقت المنظمة دعماً من "الصندوق المركزي لإسرائيل"، وحركة "نَحَالا" (تراث) وهي المنظمة الاستيطانية التي تساعد المستوطنين بتأسيس بؤر استيطانية تعتبرها الحكومة الإسرائيلية "عشوائية" أو "غير قانونية" في أنحاء الضفة الغربية. أحد أهم أعضاء نحالا وقادتها دانيلا فايز، أبرز المروّجين لعودة الاستيطان لقطاع غزة قياماً على التطهير العرقي لأهل القطاع. جمعت نحالا دعماً مباشراً من منظمات أمريكية، إضافة إلى مليون وأربعمائة ألف دولار عبر منصة تشاباد (حباد) سنة 2022.
وتشمل أنشطة هذه المنظمات تسليح المستوطنين، وتدريبهم على استخدام الأسلحة، وتنظيم برامج قتالية تحت عنوان "محاربة الإرهاب" في قواعد الجيش. وقد وثّق أهالي قرية التوانة في مسافر يطا جزءاً من هذه التدريبات شملت استخدام الأسلحة النارية والهراوات والأسلحة البيضاء، وحتى الزجاجات الحارقة (المولوتوف)، بحسب إفادة رئيس المجلس القروي محمد ربعي للفِراتس.
ولا تقارن تلك الحملات، حجماً ومواردَ، بما تقدّمه جمعيات أمريكية تعلن صراحةً دعمها المباشر للجيش الإسرائيلي ووحداته العسكرية وقواعده ومؤسسات الرعاية التابعة له. وتُعد منظمة "أصدقاء جيش الدفاع الإسرائيلي"، ومقرّها نيويورك، الأبرز في هذا المجال. فوفقاً للإقرارات الضريبية الرسمية (نموذج 990) التي اطّلعت عليها الفِراتس، جمعت المنظمة نحو مليار ومئتي مليون دولار منذ بداية العقد الثاني للألفية. ومنذ السابع من أكتوبر 2023، أعلنت المنظمة عن هدفٍ جديدٍ بجمع مئتين وخمسين مليون دولار لتمويل ما أسمته "الدعم الطارئ للحرب" حتى سنة 2026. وحتى يونيو 2025، جمعت المنظمة مئة وثلاثة وثمانين مليون دولار، وصل منها قرابة مئة مليون دولار للجيش الإسرائيلي ومؤسساته.
ومن بين أنشطة المنظمة توفير منح دراسية لعدد من الجنود، بعضها في جامعات أمريكية، وتمويل برنامج "الجندي المنفرد" الذي يجلب متطوعين خصوصاً من الولايات المتحدة للانخراط في صفوف الجيش الإسرائيلي. كذلك توفر المنظمة الرعاية الصحية للجنود المصابين وأفراد عائلاتهم. ففي أبريل 2025 صرّح إيتمار غراف، نائب المدير العام في وزارة الدفاع الإسرائيلية، بأن الوزارة "تلقّت دعماً مالياً من المنظمة بلغ ثلاثمئة مليون شيكل (ستة وثمانون مليون دولار)، جُمعت من آلاف المواطنين الأمريكيين"، لدعم علاج الجنود المصابين باضطراباتٍ نفسيةٍ نتيجة الحرب على غزة.
ما هو ثابت أن كثيراً من التبرعات "الخيرية" الأمريكية المباشرة أو غير المباشرة تذهب وقوداً للاستيطان والعنف، في إطار نظامٍ متكاملٍ يجمع بين التمويل الخاص والدعم الحكومي. هي دورةٌ تبدأ بابتسامة المتبرّع الأمريكي الذي لعلّه يعتقد أنه "يصنع الخير"، وتنتهي برصاصةٍ في صدر فلسطينيٍّ أو جرارٍ يطيح بمنزله أو يطمر أرضه.
ويظلّ السؤال: هل يمكن أن يكون "العمل الخيري" جريمةً ضد الإنسانية. الإجابة قد تأتي بالإيجاب، وتكمن تجلّياتها في القرى الفلسطينية التي اختفت من الجغرافيا، وآلاف العائلات التي شُرّدت. ومن بقيَ منها يعيش تحت وطأة عنفٍ مموَّل من أموالٍ كان من المفترض أن تُنقذ الأرواح، لا أن تسلبها.
