تسببت الصورة في إقالة حيدر التيمومي، معتمد (منصب عميد البلدية) معتمدية سيدي علي بن عون في ولاية سيدي بوزيد وسط تونس، بعد أن علم الرئيس بها، وكان السبب المناسبة التي رُفِعت فيها الصورة. فزردة سيدي علي بن عون تعد الحدث الصوفي الشعبي الأبرز في كامل الريف التونسي. أثارت صورة الرئيس وسط الزردة موجة سخرية، لرفعها فوق معلم ديني ولما تبعثه من ذكريات قديمة للسلطة التي تحضر في كل شيء ولصور القائد المبثوثة في كلّ مكان. وهمساً انطلقت موجة سخرية "هو بن علي ولم يفعلها". إذ أن الرئيس السابق قبل الثورة زين العابدين بن علي، والذي بلغت الزردة في عهده أوجها، لم يحدث أن علقت صورته بها.
ما حدث لم يكن بالضرورة تبياناً لاستقلالية الزردة وطابعها الثقافي البحت بل تذكيرٌ بتاريخ طويل لم تكن فيه يوماً منفصلة عن السياسة إذ كانت فضاءً للمعارضة أو الدعاية أو مقياساً للكشف عن حضور الدولة من عدمه. مرت الزردة بمراحل شتّى تراوحت من اللامبالاة في أواسط القرن العشرين، ثم التوظيف السياسي الصريح لها في التسعينيات، حتى المراهنة على بقائها من عدمه إثر ثورة 2011. وعلى حسب الموقف السياسي، تتعدل أوتار الزردة وتصطبغ به كل مظاهرها الروحية والثقافية والاجتماعية.
تقول الروايات إنّ علي بن عون كان مجتمِعاً بزملاء له من طلبة الشيخ عمر بن عبدالجوّاد المتوفى سنة 1620 ومريديه، في فيافي الرقاب بولاية سيدي بوزيد. جاء الدور على عليٍّ للطبخ فنصب قدر الطبخ على ثلاثة أحجار. جلس حذوها وشرع في مراجعة درسه. ومن فرط انغماسه غاب عما يحيط به حتى خمدت النيران. عندها قدّم ساقه عوضاً عن الحطب لتشتعل النار من جديد. في هذه اللحظة دخل عليه سيدي عمر ليكتشف علامة البركة والصلاح.
تختلف الروايات حول ردة فعل الشيخ عبدالجوّاد. يذكر بعضها محمد بن عبدالوهاب أحمد، أستاذ علم الإناسة بالمعهد العالي للدراسات التطبيقية في الإنسانيات بقفصة، في كتابِه "القبيلة والزاوية في تونس" الصادر سنة 2021. تقول الرواية الشفهية الأولى إنّ الولي الصالح فاض غَضَباً وغيرة من خادم قد يتحول لمنافس محتمل، فيفتك مشروع الزاوية والوجاهة من أولاده لنفسه. قال له: " ياخي باش تفك بركة أولادي، راك جيت قدّاش" والمقصود بقداش هنا الخادم. ليطرده على إثر ذلك من خيمته. في حين تقدم الرواية الأخرى حكايةً مناقضةً مملوءة بمشاعر البهجة والفخر عندما أدرك الشيخ عمر أن طالبه أمسى وليّاً ونظيراً له. فأعفاه من خدمته وقال له:"وليّ ما يخدم وليّ". وعوض الطرد قدم له بركته وهداه نحو الوجهة الموعودة لقيام زاويته الخاصة، إذ قال له: "إمشي للفراش، أعواده ما ترشاش [لا تضعف]".
الفراش أو "فراش بالراضية" كانت التسمية القديمة لمنطقة ممتدة على سفح جبل الساهلة، فيما يعرف اليوم بولاية سيدي بوزيد. أما أعوادها التي لا تضعف، فكانت صلة علي بأخواله عشيرة الحرشان. وهي التي تحتل الفراش، ومن تنسبه المدائح لهم، وبهم ارتبط مصيره وسلالته.
لم يعرف علي والده عون الذي تركه رضيعاً عند أخواله. يقال إنّ عوناً كان في طريقه للحج قادماً من وادي سوف جنوب شرقي من مدينة الجزائر، عندما ألمّ به مرض وأقعده عند قوم "خرّافة". وخرافة الاسم القديم لمن يرحل في الخريف كل عام نحو بلاد الجريد، جنوب غرب تونس، لجني التمور. وهم من البدو المنتمين لقبيلة الهمامة، واحدة من أكبر قبائل الوسط التونسي. حملت تلك المجموعة تسمية الحُرشان نسبةً لجد قديم. وتلك السنة وهبهم القدر لقاءاً مع رجل توسموا فيه الصلاح. أنزلوا عون بينهم وأكرموه ومنحوه صبيانهم يعلمهم القرآن. وعندما استوثقوا منه، زوّجوه بنتاً لهم اسمها ياقوتة. حملت منه ياقوتة وعندما اقترب موعد الإنجاب، عادت قافلة حجاج وادي سوف. فودّع عون أصهاره وأعلمهم بأن القادم ذكر اختار له من الأسماء عليّ.
حاول الباحث في جامعة الشهيد حمّه لخضر الوادي بالجزائر سفيان صغيري سنة 2023 التنقيب وراء علاقة علي بوالده. إذ يبدو أن كليهما خاضا تجربة تأسيس زاويا مستقلة سرعان ما أمست حواضر في المستقبل. في بحثه "العلاقة التاريخية بين حاضرتي سيدي عون بوادي سوف…" الصادر سنة 2023، تتبع سفيان صغيري جذور علي بن عون عبر موروث شفوي يؤكد معطىً واحداً هو النسب الإدريسي لعون. وهو ما يجعله حفيداً للنبي محمد، ومن ورائه ابنه علي. فعلي لم يكن مجرد فرد مجهول الأب وملحق بأخواله الحرشان. بل سليل الأشراف، ذلك المكون الذي تمتع في كامل المجال المغاربي بحظوة دينية واجتماعية صريحة منذ أواخر القرن الخامس عشر.
هذه الحظوة أو رباط الدم بالنبي الذي حيك حول علي بن عون، على الأرجح إثر وفاته، لا يتسق مع واقع سيرته. إذ تؤكد نفس الحكايات سيرته العصامية، فقد وجد عليٌّ منذ البداية نفسه وحيداً. وحتى طريق التوجه نحو طلب العلم لم يكن نتاج محيطه العائلي. بل هو إلهام رباني ألقي في روعه عندما سمع منادياً في الخلاء يناديه: "يا جمل الغريزة، لا ترعى الندى. العقبة طويلة، ونهارك غدى". وهي عبارات ملغزة تحث جمل البيداء على ترك مرعى لا يسقيه غير الندى، وتدعوه لقطع الهضبة الصعبة قبل فوات الأوان.
تروي القصص التي ينقلها الإناسي محمد بن عبدالوهاب أن علي بن عون كان ممسكاً سيفاً عندما جاءه المنادي، فألقى سيفه من أجل خوض غمار رحلة علمٍ دامت أربعين عاماً. ويتناقل سكان البلدة عن رحلة العلم هذه رواياتٍ متضاربةً. يقتصر قسم منهم على ذكر دراسته فقط في خيمة شيخه عمر. بينما يقول آخرون إنه درس في زاوية سلطان الجريد أبي علي السني، أهم متصوفي مدينة نفطة في الجنوب التونسي في القرن الثاني عشر للميلاد، ومؤسس طريقة خاصة به عرفت بالعلاوية. ويزيد آخرون حسب ما يورد بن عبد الوهاب في كتابه أنه درس في القيروان وسوف وتونس وفاس بالمغرب، بل والأزهر ومكة. وأخيراً قيل إنّه اشتغل قاضياً ببلاد الشام.
ما يهم في كلّ هذا أن علياً عاد للفراش في النهاية، حيث تقع مضارب قبيلة الهمامة وأخواله. وبعودته تلك أرسى العمد لخيمته ومشروعه فوق أراضٍ شاسعة عند سفح جبل الساهلة منحها له شيخ الحرشان، أو الباي حسين بن علي التركي نفسه بعد توليه الحكم سنة 1705 حسب بعض الروايات. لتكون مستقر أبنائه وأحفاده قروناً بعده. ولا يبدو أن اختيار هذا الموضع كان عبثياً، بل مثل كثير من الزوايا في الفضاء الريفي اختير عن قصد واتفاق.
وأمام احتدام الصراعات حول المراعي والإغارة المتواصلة، احتاجت كل القوى لطرف محايد يُسكّن من حدة حالة الحرب المتواصلة. لذلك شجّع الحكام حركة انتشار الزوايا بين البدو، خاصة في مناطق التماس بين "العروش"، أي القبائل في اللهجات المغاربية، عبر منحها إعفاءات جبائية وامتيازات رمزية وتشريفية. في حين قدّم التصوف البدوي نموذجاً من الإسلام البسيط والممتزج بهالة من العجائبية المحيطة بالأولياء.
آمن كثيرٌ من المتصوفين بالرسالة والمشروع الذي يحملونه، وهو إعادة نشر تعاليم الإسلام بين القبائل وإنهاء حالة الصراع المتواصل بينها. وقاوموا عادات على رأسها الإغارة والحرابة، أي قطع الطريق، والجهل بطقوس الدين وتعاليمه الأساسية. ويذكر المؤرخ التونسي محمد عادل لطيّف في كتابه "الخوف ببلاد المغرب في العصر الوسيط" المنشور سنة 2019، أنّ فقهاء الحواضر ونخبها أشاحوا باهتمامهم عن العربان. ومع تصاعد الهجرات الأندلسية والتركية منذ أواخر القرن السادس عشر أمسى الخطاب أكثر عدوانية، ووصل إلى إخراج قبائل البدو من ملّة الإسلام صراحة.
بهذا الصدد، يورد لطيّف رسالةً للشيخ والوزير الموحدي أبو جعفر بن عطيّة القضاعي، المتوفى سنة 1158، إلى أعيان مرّاكش وكبار الدولة بالمغرب والأندلس بقولِه: "العرب [يقصد البدو] المغمورين بغوامر الجهالة، المغرورين بأوامر الضلالة [. . .] شعوب الحروب والفتن بقضّهم وقضيضهم [. . .] وقعد الشيطان على نحورهم".
على النقيض من ذلك حمل المتصوفة أو المرابطون مشاريع إصلاح البدو. ومن بين هؤلاء، كان علي بن عون الذي رفع خيمته وحوّلها دوحةً يعلِّم فيها أبناء العروش المجاورة القرآن وأساسيات الدين، ويعقد فيها المصالحات. وحوّلها منبراً حارب به بعضَ ممارسات المتصوفة في عصره، على غرار رجل يقال له المبروك ادعى الولاية وسط قبيلة الفْراشيش غرب البلاد، وطالبهم بجملة من الامتيازات والمنافع الشخصية. وما أن تناهى خبره لعلي بن عون حتى أرسل له قصيدة يحذره فيها من اتباع طريق الدجل ويدعوه للعودة لنهج القرآن والتوبة، ومنها نقتبس:
اللّي شرك بالله إهلك روحه والشّرك مع ربّي ظلم كبيـر
سيدي المبروك عندو عيلة يا حارق نفسو يا منجي الغير
يبدو أن الروايات المحلية تتفق أنّ علي بن عون توفي وعمره مئة وعشرون عاماً، تاركاً ثمانية أبناء وأربع بنات أشهرهن "شبلة"، وهي من نالت لقب التشريف الأمازيغي "للّا" (السيدة رفيعة المقام). "لِلَّا شِبْلَة" أكثر ذريته عبادة وزهداً، والعذراء التي قيلت عنها أساطير لا تقل غرابة على مر القرون.
اللافت أن عدد الأبناء ليس محل إجماع. إذ تشير بعض الروايات التي نقلها سفيان صغيري أن الشيخ لم يخلف من صلبه سوى ابن واحد هو عبد المطلب وبنتاً وحيدة هي شبلة. وهي مقولة تطعن في انتماء آلاف الأحفاد اليوم من ست عروش تنتسب جميعا للولي، ويعدونه جدّاً أعلى.
ويمتد الخلاف إلى تاريخ وفاة علي بن عون. فالنقش الحديث الموجود على بوابة المقام تشير للوفاة سنة 1025 للهجرة، ما يوافق السنة الميلادية 1616. في حين تتحدث الروايات عن تواريخ أخرى مثل سنة 1620 و 1760. والمرجّح أنّ التاريخ الأخير، أي نهايات القرن الثامن عشر، هو تاريخ وفاة بن عون بناءً على عدّةِ دلائل. أولّها أنّ السيرة المحكية للولي تتقاطع مع زمن مؤسس الدولة الحسينية الباي حسين بن علي الذي حكم من 1699 إلى 1735. إذ يقال إنّ الشيخ كان له دور في الحرب الأهلية التي دارت بين أفراد البيت الحسيني، لاسيما مع محاولة يونس بن علي التركي الزواج من ابنته شبلة. والدليل الثاني هو أنّ الزردة نفسها انطلقت في زمن أحفاده المباشرين (أبناء أبنائه) سنة 1808. لتستمر بعدها وتتحول من زيارة مقتصرة على الأهالي إلى حدث رئيس في مناطق الوسط بتونس.
قلة اليوم ممّن عايشوا تلك المرحلة لا يزالون قادرين على استعادة بعض من تفاصيلها. إذ طوى الزمن بعضاً من ملامح الزردة، عندما كانت طقوسها تقتصر على مبيت ليلة واحدة. فقبل رحيلها عما يناهز مئة عام، حدّثتني جدتي مهرية عن تلك الفترة. إثر انتهاء "وغرات الصيف"، أي موجات حرارته المرتفعة، كانت العروش المجاورة مثل العَواينية (نسبة لعلي بن عون) والحُرشان والخُدمة وحتى الفْراشِيش، تشد الرحال في جماعات للمبيت في رحاب الضريح. وعلى ظهور الجمال تحمل كل أسرة بيت شَعْرِها وأضحيتها الموعودة للولّي. وعند الضريح تنصب الخيام. وفي المساء يتنافس الفرسان من كل عرش. وفي الليل تسخن الدفوف على النار وبعدها تنطلق المدائح إلى الفجر. حينها تذبح "الوِعد"، أي الأضاحي الموعودة، للولي ويطبخ الكسكسي للزوّار، خاصة القادمين فرادى من غير أهل البلد سواءً من نواحي تونس أو الجزائر أو ليبيا.
ويقال إن "جاي يا جيعان" كان النداء المتعارف عليه في الأيام الغابرة لدعوة الفقراء للطعام. لكن الناس استهجنوه مع الزمن وغيروه إلى "جاي يا برّاني"، أي يا غريب. وبانتهاء الوليمة يزفّ موعد الرحيل. وبعد توديع الضريح وساكنيه، تتفرق الجموع في البادية.
وجّه رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة الضربة الثانية للأسس الفكرية للتصوف الشعبي بتبني خطاب رسمي عزّزه تعميم التعليم العمومي، مناهضاً لما يعتبره جزءاً من ماضٍ متخلف ورجعي توجّب كنسه. إذ ضمّه لمشروع أعم لتطوير الممارسات الدينية كان شعاره كما ورد في أحد خطابات بورقيبة "الإسلام يتطور وأنتم صنم".
الضربة الثالثة استهدفت الطقوس الصوفية وفضاءاتها. فقد تخلت دولة الاستقلال عن عادة زيارة الأولياء مثل سيدي محرز أو مغارة سيدي بلحسن في مدينة تونس، والمشاركة في طقوس الحضرة فيها. على عكسِ البايات الأتراك السابقين لهم. بل أصبحت بعض هذه المقامات ملكاً للدولة، وأعيد توظيفها مقراتٍ لمنظمات ومؤسسات ثقافية واجتماعية وأمنية. مثل زاوية سيدي عمر عبادة بالقيروان، التي حُوِّلت إلى متحف للفنون والتقاليد الشعبية سنة 1982.
هذه المتغيرات البنيوية لم تطل زاوية سيدي علي بن عون. إذ حجبتها عنها الجبال والمسافات الفاصلة بينها وبين مراكز ثقل النظام وسطوته. أو ربما ساهم انتماء عدد من وجهاء العواينية المبكر للحزب الدستوري الحر، ومنهم القاضي محمد المهدي بن الناصر عبدلي، في ضمان احترام السلطات المحلية لمكانة الزاوية التي تلقى تقديراً وإجلالاً كبيراً في الأوساط المحلية.
في هذه الأجواء نمت الزردة بعيداً عن خيارات الدولة التحديثية وبلا صدامٍ معها. بل إن مرحلة انتقالها من زردة صوفية إلى مهرجان ظهرت في الستينيات، تحت مسمى محلّي هو "مهرجان الحرث" لتزامنها أواخر شهر أغسطس مع انتهاء فصل الحصاد وبداية الخريف والاستعداد للحراثة. وهو ما قاله للفِراتْس علي جمهور الهايس، أحد أبناء الحُرشان والمنشط الرئيسي لعرضي افتتاح المهرجان واختتامه في الدورات السابقة. وبذلك تحولت الزردة لما يشبه المعرض الفلاحي البسيط الذي تعرض فيه، بالتوازي مع الأنشطة الدينية، المنتوجات والأدوات الفلاحية. فتضاعفت أيام الزردة لتبلغ ثلاثة أيام في النهاية. وعوض المبنى البسيط للضريح المكون من قبة وحيدة وجدران قصيرة، انطلقت أولى عمليات التوسعة. ومع ذلك لم تغيّر هذه المرحلة التي تواصلت حتى أواسط الثمانينيات من كنه الزردة الأصلي كثيراً. إذ تواصلت حدثاً محليّاً بدويّاً يتمحور حول الولّي وزيارته.
قبل عقود خلت، اعتاد جدي شيحاوي في سنواتِه الأخيرة ممازحة أهله كلّما اقترب الصيف، متنبئاً بموعد موته الذي لابد أن يتزامن مع موعد الزردة. تشجعت واحدة من بنات عمّه وعوض أن تطلب له السلامة، طلبت منه بصراحة: "خويلي يا مت قبل الزردة، يا مت بعدها". ويبدو أنه استجاب في النهاية، إذ مات بعدها في قرّ الشتاء.
طُبعت طفولتي بهذا الانتظار المتوجس خوفاً من موتِ أحد الأقارب في أيام الزردة. ذات مرّة طال الانتظار حتى دخلنا في الوقت بدل الضائع، إذ كانت مشاركة دُوارنا غير مؤكدة. والدوار في اللهجة التونسية هو أكبر من عائلة وأدنى من قبيلة. من بعيد كنّا نسمع أصوات الزغاريد والمدائح تنطلق من شاحنات تنقل أبناء دواوير أخرى. ومن بيت لبيت تواترت الوفود مستفسرة حول ما قد يستقر عليه قرار كبير أسرة الوسايفية. وفي لحظة ما سرت إشاعة مريبة مفادها أن واحدة من نساء الدوار القويّات لن تنتظر أمر الجماعة، بل ستمضي نحو الساهلة ولو وحيدة. وخوفاً من فقدان السيطرة، جاء القرار من أعلى بالمشاركة.
على ضوء القمر عمّنا الحبور ولم تسعنا بِطاح الدوار، ولم يكفنا الوقت للمسارعة بتجميع الأثاث ولوازم الخيمة، أو هكذا ادعينا فيما بعد. إذ كان كل شيء جاهز، ولكن بسرية تامة، فرضتها مجاملة كبار الزردة. ومكانة الكبير في الزردة يمكن أن تستحق بما للشخص من انتماء دموي يربطه مباشرة بالولي، أو بمكانته ضمن التراتبية المحلية لشُعب الحزب الحاكم المحلية. وفي أحيان أخرى، تكتسب هذه المكانة بمقدار ما يبذله الرجل وما يستقبله من ضيوف قادمين من عروش ومناطق بعيدة.
يتدخّل الكَرم حتّى في مكان الخيام في محيط الضريح. إذ لا تنصب في الصف الأول المواجه ملعبَ الفرسان إلا خيام الوجهاء القادرين على استقبال الضيوف. أما ضعاف الحال فتغيب خيامهم في الصفوف الداخلية البعيدة. وهكذا أغوَت الزردة الباحثين عن الوجاهة ووفرتها لهم.
هذا السحر سرعان ما جذب آخرين من خارج سيدي بوزيد، وتحديداً حكام البلاد الجدد. سنة 1987 وصل بن علي للسلطة في فترة بلغت فيها حركة الاتجاه الإسلامي، الاسم القديم لحركة النهضة، أوج قوتها وشعبيتها بسبب موجة التغريب في عهد بورقيبة.
في البداية حكمت علاقة النظام الجديد مع الإسلاميين ثنائية الودّ والجفاء. إذ اتخذ قراراتٍ لاسترضائهم من قبيل إلغاء العمل بالحساب الفلكي للهلال والعودة للرؤية طريقةً شرعيةً لتحديد التقويم الهجري. غير أن زمن الود هذا لن يطول، إذ أسفرت انتخابات سنة 1990 عن مرحلة الاشتباك العنيف مع الإسلاميين، والتي امتدت سنواتٍ من السجن والتشريد والملاحقات. هنا عادت الزردة للواجهة، بعد عقود من التجاهل الرسمي تفطنت السلطة لما تنطوي عليه من إمكانات.
لدينا روايتان تفسران هذا الانتقال المفاجئ، الأولى ذكرها عبدالكريم براهمي، الباحث في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة تونس، في دراسته "مؤسسة الزاوية بالبلاد التونسية وتحولات الوظائف" المنشورة سنة 2018. وفيها تحدث براهمي عن محاولة الدولة إحياء التصوف الشعبي في محاولة لتجفيف منابع الحركة الإسلامية الشعبية ومحاصرتها. فتحوّلت زردة سيدي علي بن عون من حدث عفوي خارج عن هيمنة الدولة، إلى مهرجان يخضع مباشرة لإشراف وزارة الثقافة. وهو قرار اتخِذّ في قلب الحملة الموجهة ضد حركة النهضة سنة 1992. بداية من تلك اللحظة احتوت السلطات الحدثَ ورسمت خطوطه العريضة. فهي التي تحدد موعد الزردة وتضع برامجَ رسمية لها وتجعل قوات الأمن تؤمنها وتشرف على ميزانيتها.
تقلب الرواية الأخرى، وهي الرواية الشعبية، موازين القوى في القصة. وعوض تقديم الزردة مجرد أداة سياسية بيد السلطة الحاكمة، تصبح الزردة مناسبةً تحاول السلطة إرضاء صاحبها بتسخير كل إمكاناتها. تتحدث هذه الرواية عن قرار اتخذه ستة من أعيان البلدة محاولةً لتنشيط الحياة الثقافية بمعتمدية سيدي علي بن عون. فقرّروا نقل ضريح الولّي من زاويته الموجودة على سفح جبل الساهلة إلى وسط البلدة الحديثة، في عملية تكفل بها أحد مقاولي الأشغال المحليين وسخّر جرّافة من أجل الغرض. وبعد اتخاذ القرار، تواترت المنامات المرعبة عليهم جميعاً وخاصة المقاول. واستحال عليهم تحريك الجرّافة المخصصة للمهمة، فتعود للعمل فقط إذا ما حُرّكت نحو وجهة أخرى. أمّا المبنى الجديد في وسط البلدة والمعد لاستقبال رفات الولي، فتشقّقت جدرانه وأمسى غير صالح للغرض. وفي إحدى الروايات الشعبية يقال إن كلّ أفراد المجموعة ماتوا قتلى في حوادث مرورية.
كشفت هذه النذر المتعددة خطورة المساس بحرمة الولي الصالح، وتناقلتها ألسن موظفي الدولة والحزب، حتى أنها بلغت مسامع الرئيس نفسه. فتلقف بن علي الإنذار، ومن ثمّ اهتم شخصياً بالاعتناء بالزاوية والزردة. ففي عهده عُبِّد الطريق الترابي المؤدي للضريح، وجدّدت قبابه وصومعته وبنيت منصّة العروض. ولأول مرة، لم تعد الزردة شأناً محليّاً، بل لسنوات عديدة أصبح يحضر افتتاح الدورة أو اختتامها وزير الثقافة أو وزير السياحة.
الأذكار والأغاني التي ظهرت في التسعينيات عكست روح العصر وصدى الاحتفاء الرسمي بالزردة. واحدة من هذه المدائح يرجح ظهورها أواخر التسعينيات، أمست نشيداً رسميا لكلّ الزرّادة. سمعتها أوّل مرة عندما اخترت التزريد في طفولتي رفقة بيت عمتي لا أخوالي. وذلك يعني أننا نسافر من قفصة إلى بن عون أي ما يناهز سبعينَ كيلومتراً متكدسين في خلفية شاحنة للعراء، نحن والخيمة والأثاث والبطيخ. لا نبالي بأعين الفضوليين في مقاهي وسط مدينة قفصة أو حواجز الشرطة والحرس. بل ما أن بلغنا أكثر مناطق المدينة اكتظاظاً، حتى رفعت بنات عمتي بالصوت: "يا سيدي علي بن عون، خبرك شايد في الأوطان. اركب شهبة سمحة اللون، راو اليوم المهرجان". أي يا سيدي علي بن عون المشهور بين الأوطان، اركب فرسك جميلة اللون واستعد فاليوم بداية المهرجان.
كانت المجاهرة بالمشاركة فخراً، وأمست هذه الذكرى مرادفة له. اللافت فيها معجمها الغريب، وما يشِي به من تحولات. إذ لم تسبق لمدونة المديح الثرية للمنطقة أن ورد فيها لفظ المهرجان، فتراجعت عبارات من قبيل الزردة والزيارة. واللافت أكثر أن المديح ينطوي على مقاطع كاملة تبارك دور السلطة في نشر الأمن وحسن تنظيمها المهرجان، بل وحتى توفيرها رخص المرور والوثائق الإدارية.
وفي أحد المقاطع لا يتردد المدّاح، نيابة عن أحد الموقوفين الذين حال إيقافه دون اللحاق بالزردة، أن يطلب من وكيل النيابة أن يطلق سراحه وتسخير سيّارات الدولة، لتحقيق مناه: "يا وكيل الجمهورية، طالب من فضلك حرية. نحضر بيها الحاج عليّة، انول البركة والبرهان. واهديلو كراهب [سيارات] حربية، تهزلو [تنقل له] زيار وركبان".
غير أن هذه الصورة الوردية للدولة المُسخرة في خدمة رمز الجهة التراثي والاحتفاء به، لم تعكس الحقيقة الكاملة للزردة تحت سلطة بن علي. في دراسته يشير براهمي إلى حالة من الازدواجية والانفصال بين المهرجان الرسمي والزردة الشعبية. أمّا الأول فقد أمسى مسرحاً دعائياً للسلطة. فالحفلات الليلية التي تقام على امتداد ليالي المهرجان، وتحديداً أمسيات الشعر الشعبي، لا يشارك فيها إلا من ترضى عنه السلطة. في تلك الفترة كان ركح مهرجان علي بن عون مصنعاً لنجومية شعراء الوسط ومنهم الراحل نجيب الذيبي الذي يتردد محلياً أنه لم يكن يترك أي زردة.
بالتوازي تجذّرت الزردة في شعبيتها أكثر. ووسط الخيم وعند الضريح وليلاً في الأسواق، تتراجع سلطة الدولة لصالح المحلي. في زردة 2007 حملتني عمّتي أول مرة لأداء فروض زيارة ضريح "بابا علي"، كما نسميه، حيث لا سلطان غيره. وسط المقام الحاف بالزوّار وعند تابوته المغطى باللونين الأحمر والأخضر، مسكت امرأة يد التابوت الخشبية ورفعت بالصوت نائحة: "راني بنتك ما تخليّنيش" (أنا ابنتك فلا تتخلى عني). انخفضت الأصوات من حولها وطأطأت الرؤوس احتراماً لمشهد أدركت فيما بعد أنه مألوف للغاية. مشهد امرأة مظلومة وغريبة بين عرش زوجها ولم ينصفها أحد. ولم يبق لها من ملجأ غير علي بن عون. لها ولكثيرين من جيلها كان هذا الملجأ بديلاً لعجز عدالة البشر وسلطتهم الدنيوية.
في العشرية الأولى من الألفية الجديدة كان من الملاحظ عزوف مشاركة شباب الثمانينيات في تظاهرات المهرجان الرسمية باستثناء الفروسية. إذ لم يحضروا الأمسيات التراثية، التي لم تكن تجلب غير كبار السن ومسؤولي الجهة. العزوف مثّل محاولة للتملص من حضور سلطة جاثمة على كل شيء، لكن دون جدوى. إذ أمست الزردة مطوقة وزحف تدخل السلطة. وهنا كان انفجار اشتباكات سميت بأحداث سيدي بن عون.
تمثلت شرارة الأحداث في إقدام بعض عناصر قوات الأمن بمضايقة شاب من إحدى الأسر المعروفة في المنطقة. وعوض التسليم توجه الشاب لجرّار ضخم مخصص لجلب المياه للزردة، وهجم به على سيارة الشرطة والأعوان المحيطين بها. لم تتوقع القوات مثل هذا الهجوم. وتحت وقع الصدمة انسحبت تاركة شاحنات الشرطة غنيمة للمهاجمين. جرجرت الشاحنات بالجرّار وتحول المشهد للحظة احتفالية لعشرات الشبان وربما المئات. وفي الساعات الأولى التي تلت الحدث، غابت السلطة عن الزردة، فانعتق الحفل الشعبي من هيمنة بذلت السلطة في سبيل ترسيخها الكثير.
لم تدم هذه الحالة طويلاً، إذ استوعبت السلطة الصدمة وانتقلت لردّ الفعل. جاءت تعزيزات مضاعفة. ويصف لي أحد الشهود، فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، بقولِه: "كانت فرق الأمن فرقاً لم نر مثلها من قبل، لا في أزيائها ولا في تجهيزاتها، ولا حتى في ضخامة أجسام عناصرها". حوصرت الزردة، ولأول مرة اجتيز أحد الخطوط الحمراء. إذ اقتحمت القوّات مناطق خيام المواطنين المرابطين عند ضريح الولي. فتشت الخيام خيمة خيمة واعتقلت الشبّان. لا فقط المشتبه بهم، بل كلّ الشبان. ولولا سيدة أخفت شاهدنا وراء آثاث الخيمة المتكدس، للحق به مصير مماثل.
بعد الحملة هدأت الأمور وأطلق سراح غالبية المشاركين. ولكن الأجواء زادت توتراً، وبدا أن الأمور لن تعود كما سبق. اتخذت السلطات قراراً بتعليق فعاليات الزردة. وأصبحت تلك الأحداث جزءاً من مواجهة أهالي سيدي بوزيد للنظام، إذ اشتعلت ذاكرة الثوار في إطاحة نظام بن علي صحبة احتجاجات الحوض المنجمي التي انطلقت في 5 يناير 2008 ودامت لما يناهز ستة أشهر، شملت كافة مدن إنتاج الفوسفات بمنطقة قفصة بالجنوب التونسي، التي تعد من أكثر مناطق الجمهورية تهميشاً. مثلت هذه الاحتجاجات تعبيراً صريحاً عن رفض الوضعية التنموية الصعبة بالجهة، وأزمة النظام وعجز قبضته الأمنية العنيفة عن تحقيق الاستقرار. أسفرت هذه الأحداث عن مقتل أربعة مواطنين لتكون بذلك أعنف حركات الاحتجاج وأطولها أيام بن علي، ولكنها لم تكن الوحيدة.
تلتها أيضاً احتجاجات منطقة بنقردان الحدودية سنة 2010، جرّاء إقفال السلطات الليبية معبرَ رأس جدير الحدودي، ما تسبب في تعطيل حركة التجارة وخاصة الموازية منها. وبسبب الاحتجاجات الواسعة، أجبر النظام التونسي على استئناف المفاوضات مع الجانب الليبي.
هذان الحدثان عادة ما يستشهد بهما أنهما الإرهاصات الأولى للثورة التونسية. بينما يغيب عن المشهد ما وقع في بن عون. إذ همِّشَ مع أنّ الاشتباكات وقعت أشهراً قبل اندلاع الثورة وفي مهدها المشترك، ولاية سيدي بوزيد.
تكشّف فيما بعد أن حرق البوعزيزي نفسَه أشعل غضباً جماهيرياً في المنطقة، كانت أولى لبناته ذلك اليوم تجمهر السكّان الغاضبين أمام مقر الولاية، رفقة جملة من حقوقييّ المدينة ومنهم المحامي خالد عواينية، أصيل بلدة سيدي علي بن عون، للتعبير عن غضبهم.
لم يبال أحد من العائلة بما قاله أخي، ولا بالأخبار التي لم تصل وقتها، وقصدنا البلدة في المساء. في تلك الليلة خيّم على معتمدية سيدي علي بن عون صمت قاتل. قلة همسوا في المقاهي بما حدث في سيدي بوزيد، والذي كاد أن يكون حدثاً عابراً لولا تداعيه المفاجئ في معتمديتيّ بوزيان والمكناسي، التابعتين لسيدي بوزيد. في الليالي اللاحقة شممنا في منزلنا روائح المطاط المشتعل والغازات المسيلة للدموع، وشاهدنا أضواء اشتباكات في بلدة بير الحفي القريبة. لم تخمد الاشتباكات، بل صارت انتفاضة وانتهت ثورة 14 يناير 2011 بسقوط بن علي.
لم تحتل بلدة بن عون مكانة بارزة في الأحداث كما حدث مع منزل بوزيان والرقاب وتالة. ولكن رواية لاحقة جعلت من هذه البلدة ربما القادح الفعلي للثورة. تناقلت الألسن هذه الرواية ناسبة إسنادها لكبير طبّاخي القصر الرئاسي الذي تناهى لسمعه أن الرئيس، في آخر أشهر حكمه، أصابه أرق مزمن مردّه شيخ وقور أبيض اللحية وكثيف شعر اليدين، وقف عليه في المنام متوعداً بجملة وحيدة: "كيف ما نحيتني انحّيك". لم يدرك الرئيس أو من حوله أن تلك الصفات الجسمانية هي علامات الوليّ الصالح، كما ثبت بالتواتر عند أهل المنطقة. وحتى لو أدرك لفاته الأوان، إذ نفذ فيه الوعد وانتقم الولّي ممّن تجرأ على إلغاء زردته.
غير أن الخطر الذي حاق بها، لم يكن الانفلات الأمني المؤقت. في يوليو سنة 2011 صدر مقال للصحفي المحلي نوفل اليوسفي بجريدة الشروق بعنوان "جدل حول مهرجان الوليّ الصالح.. بين مؤيد ورافض". في مقاله تحدث اليوسفي عن فوضى تحيط بمصير المهرجان قبل شهر من تاريخ انعقاده بسبب عدم تعيين هيئة التنظيم، وسط جدل بين مؤيدي المحافظة على التظاهرة مكسباً ثقافياً للجهة. ويذكر هنا مصالح الدولة الثقافية ومؤسساتها لأنهم الأطراف الممثلين لهذا الخطاب، وبين رافضي استئناف الزردة من جديد دون تقديم أي إشارة حولهم.
هذه الضبابية في كلام اليوسفي يمكن أن تفهم في ظل أجواء تلك الفترة، والتي تصاعد فيها وبقوة خطاب ديني جديد على الساحة هو الخطاب السلفي، وأمسى له حضور في مناطق معينة كان من أبرزها مدينة بن عون. جلب انتشار الحضور السلفي في البلدة انتباه الباحثين. إذ وضع ماجد القروي، الباحث في علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بصفاقس وأصيل البلدة، واحدة من أولى دراسات علم الاجتماع حول الظاهرة السلفية في تونس ما بعد الثورة تحت عنوان "الشباب السلفي في تونس [. . .]" نشرها سنة 2019.
في هذا العمل، حاول المؤلف الوقوف على جذور الظاهرة بداية من انتشار خطاب "الصحوة" الذي نجح في التسرب عبر وسائل الإعلام وشبكات الإنترنت، في السنوات الأخيرة لفترة حكم بن علي. وأضاف إلى ذلك عوامل محليّة هي الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتردي للمنطقة. هذا العجز التنموي، حسب القروي، كثيراً ما كان محركاً للتمردات العفوية أو الانتماء لحركات المعارضة التقليدية مثل التيّار العروبي الناصري.
بعد الثورة كان للحركة السلفية جاذبيتها، فهي أمرٌ جديدٌ غير مجرب في بلاد مالكية أشعرية وذات عمق صوفي منذ قرون. لم تفت ماجد القروي المفارقة المحلية، إذ أن مدينة بن عون انحدر منها الخطيب الإدريسي، أحد أكبر منظّري التيار السلفي في تونس، قبل أن يسافر للسعودية سنة 1985 ليعود في النهاية للاستقرار في بلدته سنة 1994. وبهذا يشارك الإدريسي علي بن عون الشيخ الصوفي في المدينة، بل إن الخطيب نفسه والغالبية المطلقة من أتباعه، ينحدرون من سلالة الوليّ، ومنها انطلق في دعوته لمناهضة حركة التصوف وتحديداً زردة جدّه الذي ينتسب له. دعوة لخّصها المدون سفيان بوزيد في مدوّنته "الشيخ الخطيب الإدريسي.. حياته كما وردتنا من أقربائه"، نشرها سنة 2013، ونقل فيها عن أتباع الإدريسي أن "قرية سيدي علي بن عون كانت تشهد واحداً من أكبر محافل الشرك و القبورية على الإطلاق في تونس. فقد كان يحضرها ما لا يقل عن 250 ألفاً من الرواد سنوياً، فصارت بفضل الله ومن ثمرات دعوة الشيخ من أضعف المحافل مقارنة بغيرها وهي آيلة إلى الزوال بحول الله".
هذه العلاقة المركّبة بين معتنقي الفكر السلفي في بلدة ذات جذور صوفية، يمكن أن تساهم في تفسير غموض بعض الأحداث وصل عددها الثلاثين، وكان على رأسها موجة حرق الزوايا ومقامات الأولياء الصالحين بين سنتي 2011 و2013. بعضها امتد لمجموعة من أشهر المقامات، مثل إحراق زاوية السيدة المنوبية في منوبة في أكتوبر 2012، وحتى المقامات ذات الشهرة السياحية مثل ضريح أبي سعيد الباجي، في قلب ضاحية سيدي بوسعيد السياحية في يناير 2013.
منذ البداية وجّهت أصابع الاتهام لمنتسبي التيار السلفي. ومع تكرار عمليات الحرق، توضح الطابع المنظم للعملية. لكن على ذلك لم يمس الفاعلون الضرر بمقام علي بن عون الذي من المفترض، وفقاً للطرح السلفي، أن يكون على رأس القائمة لأنه يجمع عشرات الآلاف سنوياً في مناسبة شركية. ولا يُعلم اليوم على وجه الدقة وجود نوايا حقيقية للمساس بالمقام من عدمه، خاصة مع ظهور قصص عن محاولتين لاستهداف الجامع.
عادت الأسطرة في الرواية الشعبية حتى في هذه الأحداث لتحيط مقام الولي بمجموعة كرامات عظيمة. القصة الأولى تقول إنّ مجموعة سلفية حاولت سكب البنزين من كوّة في الضريح وألحقوها بأعواد ثقاب مشتعلة. غير أنها انطفأت جميعها ما إن لامست الأرض دون جدوى. في مشهدٍ يجسّد كرامة أخرى لعلي بن عون، ليشعلَ حيّاً النار لمعلمه سيدي عمر، ويطفئ ميّتاً النار التي حاولت المساس بحرمه. أما القصة الثانية التي تناقلها الناس، فتتحدث عن شبّان تسللوا ليلاً في اتجاه بلدة الساهلة، من أجل تخريب الضريح. ليصطدموا بوجود اثنتي عشرة مدرعة عسكرية تطوق الجامع وتحرسه. أو هكذا تهيأ لهم، وتناقل الناس أن السلطات المحلية نفت فيما بعد وجود أي قوة عسكرية مرابطة قرب الضريح خارج أوقات الزردة. وهو نفي لم يثبت رسمياً.
تحول شق من أهل القرية مع أنباء بداية عمليات الحرق إلى تحرك ملموس. وفي شتاءِ 2012، ودون انتظار تدخل الدولة، تناوب على السهر في الضريح عشرات من أبناء القرية متسلحين بهراواتهم ودفوفهم. أمضى هؤلاء ليالي ذلك الشتاء الباردة في إنشاد أذكار علي بن عون وللّا شبلة وغيرهم ومدائحهم من ديوان الصالحين. حتى تراجعت الموجة وانقطعت في النهاية.
غير أن النجاح في حماية الزاوية لم يعنِ بالضرورة عودة الزردة خاصة مع وقوع عملية إطلاق نار قادها عناصر محسوبون على تنظيم القاعدة في البلدة سنة 2013، أدت لمقتل ستة من قوات الحرس الوطني. اشتبكت القوات مع عناصر منتمية لما عرف وقتها بكتيبة عقبة بن نافع التابعة لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي. إثرها دخلت البلدة والبلاد كاملة، في جو أمني صعب بلغ أوجه بين سنتي 2014 و2015، من عمليات الاعتداء على المقامات والفعاليات الثقافية ونشر الخطاب التكفيري، إلى الاستهداف المباشر لقوات الأمن والجيش والأجانب.
وردّاً على هذا رفعت الدولة التونسية في تلك الفترة شعار "الحرب على الإرهاب"، حربٌ تطلبت وضع خطة شاملة لها. وهو ما حدث في نوفمبر 2016 عندما اعتمدت السلطات "الاستراتيجية الوطنية لمكافحة التطرف والإرهاب". مثلت هذه الاستراتيجية إقراراً بعجز المقاربة الأمنية وحدها عن التصدي لهذه الظاهرة، ما لم تعضدها سياسة ثقافية وتربوية وإعلامية للوقاية المسبقة من انتشار ما سمته الفكر المتطرف. وهنا نصت الاستراتيجية صراحة على "تعميم ثقافة التسامح والاعتدال [. . .] وتطوير خطاب ديني معتدل ومتسامح". وهو ما تُرجم في المدن الكبرى باستعادة المساجد من أئمة السلفية، وتعيين أئمة منتمين للخط الزيتوني التقليدي (نسبةً إلى مشيخة جامع الزيتونة). أما في بلدة بن عون فقد راهنت السلطات، إلى جانب استرجاع المساجد، على زردة علي بن عون.
عادت الزردة سنة 2016 لتكون مطلباً سياسياً وتحدياً أمنياً. إذ تواصل الحضور السلفي بالبلدة وتواصل معه الخطاب المعادي لما يصفونه بالقبورية، خاصة مع وقوع هجومٍ ثانٍ على البلدة يوم 15 يونيو 2015، ما أسفر عن مقتل ثلاثة عناصر أمن. وبذلك ارتفع سقف الرهان بين الطرفين. إنجاح الزردة يعني انتصاراً للعادات والتقاليد الدينية المحلية، وانتصار للدولة القادرة على فرض سيادتها على المجال وتأمينه. وقد يؤدي أي خرق أمني للفوضى وتكريس سيادة بديلة، ناهيك عن احتمالاته المأساوية في فضاء مكتظ قد يضم آلافاً من الناس. وقد جاء تهديد للمتحمسين للزردة كتبه مجهول على أحد جدران البلدة بقوله "تعيّوا وأنتم تزردوا"، ومعناه "أنكم لن تفرحوا ببلوغ الزردة"، فعكس هذا الخطر وزاد من الاستنفار الأمني ومعه ازداد العناد والتحدي.
يوم الاثنين 14 أغسطس 2017 انطلقت أولى فعاليات مهرجان سيدي علي بن عون الذي طال انتظاره. وإمعاناً في تأكيد الرسالة، أوفدت الحكومة للافتتاح وزيرة السياحة سلمى اللومي. أمام الكاميرات، لم تشر الوزيرة لكل ما سبق واكتفت بالحديث عن دور مثل هذه التظاهرات في دفع السياحة. أما في الخلفية فكان الحضور الأمني هو السيّد. إذ شاركت في تأمين الحدث فرق مختصة وتعزيزات من الحرس الوطني. وعند أعتاب الجبل أٌقيم معسكر خاص للجيش، أشرفَ على تأمين المسارب الجبلية. وفي كل ليلة زحفت القوات المختلفة لتضرب طوقاً محيطاً بمكان التظاهرة. حتى جاء يوم الأربعاء معلناً اختتام زردة مرّت بسلام ومعها تنفس الجميع الصعداء.
في البلدة، رأيت كيف استُقبلت شجاعتهم بالتقدير والحنين لأيام خلت، ولكن بتحفظ مشوب بالخوف. لم يكسر هذا التحفظ سوى ما عنته دورة 2017 لسكّان البلدة، من احتمال إعادة زخم ثقافي لمنطقتهم وغسلها من وصم "بؤرة الإرهاب"، حسب ما كان يُتداول على ألسنة الناس في المنطقة. وفرت الزردة، فرصة للمكونات المحليّة من أجل لفت الانتباه والتركيز على حدث ثقافي يجعل تناول المدينة يقترن به لا بغيره. حاولت صفحات التواصل الاجتماعية المحلية بعث هذا الزخم ومواكبته، وإن بمجهودات فردية، مثل صفحة "حرشاني ناس ملاح" لصاحبها المصور لطفي عمامرة على موقع فيسبوك، والتي كان لها الريادة في مواكبة تلك الفعالية في دورتها الصعبة.
انعكس هذا على تفاصيل كثيرة. في السابق مثّلت الزردة فرصةً للتفاخر بالفتوة والبطولة بين الشبّان من مختلف العروش المحلية، وذلك يعني انتشار المشاجرات والمعارك نهاراً وليلاً. وهو ما غاب في الدورات الأخيرة، وكأن إقراراً جماعياً بهشاشة الوضع لا يسمح بترف استعراض الفحولة. وحتى التعاطي مع قوات الأمن لم يعد موضع توتر، بل أمسى الاعتراف بالوجود الأمني وحضوره مكسباً وضمانة للحدث. ومع توالي الدورات تمتن الاستقرار أكثر، وتشجع من لم يطأ بقدميه الضريح منذ سنة 2008، إلى ربط الصلة من جديد.
عدتُ إلى الزردة سنة 2018. كنتُ بصحبة والدي فقط. ثم تتالى العائدون، عمّي وعمتي وأختي وجلّ الأهل والأحباب. قلة فقط، حالت بينها وبين الزردة هواجس ومخاوف قديمة.
أصبحت الزردة منذ 2016 مهرجاناً مغاربياً بعد أن كانت مهرجاناً وطنياً. وفي سنة 2018 أعلِنت مهرجاناً دولياً، كان من بين ضيوفِه روسيا سنة 2024 بعرض باليه احتفالاً بسهرة الصداقة التونسية الروسية. وعلى امتداد السنوات الماضية، لم يحدث ما يعكر صفوها سوى أحداث عابرة، مثل تعليق دورة سنة 2020 بسبب جائحة كورونا. وبتتالي الدورات، ازداد الشعور بأن التظاهرة عادت لمتانتها السابقة.
مظاهر كثيرة لم تشاهد منذ بداية الألفية عادت، مثل أسواق الثياب والفخار والزوّار القادمون من ولايات بعيدة، والفرسان من ليبيا والجزائر. حتى حدود فضاء الزردة القديمة، أي مقام سيدي عبيد والوادي والمستوصف، بلغتها الخيام من جديد وربما جاوزتها. وبالتوازي مع ذلك، تراجعت التعزيزات الأمنية لمستويات عادية. وحتى تمثيل السلطات في حفلي الافتتاح والاختتام اقتصر على والي سيدي بوزيد. ولأول مرة منذ سنوات تبدو الزردة أقل تسييساً واحتقاناً، وأكثر احتفالية.
ويتعاظم الاحساس اليوم بأن الزردة ملك قديم لأهالي المنطقة ومكسب ثقافي خالص وخاص. لم يعد من نظير له إلا زِرَد معدودة على امتداد الريف التونسي. إصرار الأهالي على إعادة عادة التخييم في محيط الضريح، مع ما يطرحه من صعوبات لوجستية، مشهد لافت. فكنه الزردة وروحها يكمن هناك بين بيوت الشَعْر و"القواطين" وهي صنف من الخيام الحديثة. في الصباحات الباكرة تنطلق أصوات النساء في نشيد مديح يؤذن ببداية يوم جديد، إذ يغنين لعلي بن عون، الذي يسمى تحببّاً "عيّة"، قائلات: "صباح الخير يا عيّة … وينك طوّلت الجيّة". بهذا المديح، تكون أولى تحيات الصباح من نصيب الوليّ الصالح. ومن الخيام الأخرى، يرجع الصدى بالزغاريد وترديد المديح.
وسط خيام الحُرشان لا يتجاوز وقت الاستيقاظ دقائق معدودة. وجوه تغسل بالماء والصابون، وفطور بما كتب تجتمع على إثره النساء والصبيان وكبار السن للتوجه نحو الأضرحة والمشاهد. فيبدأون من ضريح علي بن عون وابنته للّا شبلة وأولاده، ثم الخلاوي، وهي جمع خلوة أي أماكن تعبد ومدافن للمتصوفة قديماً، المتناثرة حوله لمريديه مثل خلوة سيدي اشتيح المبروك. وتنتهي الزيارة عند الضريح الموجود أعلى هضبة تشرف على كامل الهنشير – أي مساحة أرض الزاوية – وهو ضريح سيدي عبيد حفيد علي بن عون.
لا يشق هذا المحفل الأسواق في صمت، بل ترفع فيه الأعلام والدفوف وتعلو الزغاريد والمدائح. ووسط هذا الجمع المتداخل، تتمايز النساء ويطغى حضورهن على المناسبة، تماماً مثل محفلهن يوم الافتتاح. إذ جرت العادة قديماً أن يحملن فيه عصا للّا شبلة في هودج تحف به نساء العرش وهن في أبهى أزيائهن التقليدية.
واليوم عادت هذه المظاهر الاحتفالية كسابق عهدها، تشتمل على النقائض كمدائح في ذكر الأولياء الصالحين تقابلها حفلات لفنّاني الراب والراي، ومقابر يحيط بها باعة متاع الدنيا، وقباب أولياء تمسي موضعاً لمتابعة الخيل والفرسان.
في زردة 2024 اغتنمتُ انشغالَ أغلب الزوّار بانطلاق عروض الفروسية، لأتسلل للمقبرة الرئيسة. حاولت لعب دور عالم الآثار لاكتشف طبقات القبور والسمات الفنية لقبور كل جيل. وقد أثمر تجوالي عن مشهد أكثر إثارة للانتباه. إذ لمحت داخل خلوة أحد الصالحين شاباً وفتاة بصدد تسوية ثيابهما، وعلى بعد أمتار قليلة رجل افترش سجّادته للصلاة. وأمام المشهديْن سيدتان تحمل إحداهن طبلاً والأخرى تنشد مدائح للأموات. وقرب الجميع فتاتان تسجلان مقطعاً مصوراً ساخراً من أجل نشره على تيك توك.
هذا الخليط بين المقدس والدنيوي لم يكن يوماً مفارقاً الزردة، بلّ ربما هو سمتها الأقدم وسر ديمومتها. إذ لم تنجح أي سلطة في فرض تصورها الوحيد لها. لم تكن يوماً مناسبة دينية كما قصدت نية الآباء المؤسسين لها. ولم تتحول لمظهر رجعي توجب استئصاله كما أمل آباء دولة الاستقلال. لم تدجنها السلطات اللاحقة لتكون بوق دعاية، ولا قدرت في المقابل الموجات السلفية على محوها.
