حكاية النهر الأهمّ والأكبر في البلاد طويلةٌ ومتشعّبةٌ مثله. فهو يمتدّ على طول مئةٍ وسبعين كيلومتراً من منبعِه في قرية العليق شمال سهل البقاع، ثمّ يخترق البقاعَ الغربي ليملأ بحيرةَ القرعون الصناعية، ثمّ ينعطف غرباً ليصبَّ في البحر المتوسط. ويُعرَف في تلك المنطقة بِاسمِ "نهر القاسمية"، وتبلغ سعتُه نحوَ سبعمئةٍ وخمسين مليون مترٍ مكعبٍ سنوياً ومساحته تتجاوز ألفَيْ كيلومترٍ مربّع. كُتِبَ عن النهر عشراتُ الكتب واهتمّت به دولٌ عدّةٌ وأقيمت عنه ندواتٌ ومحاضرات. إلّا أنّ كلَّ ذلك لم يشفع له أمام الإهمال الشعبي وطمع أهل السياسة والنفوذ وقوى الاحتلال والاستعمار.
قُتل نهر الليطاني على مرأىً ومسمعٍ من المسؤولين الذين تحوّلوا إلى مشاركين في الجريمة وشهود زورٍ لم يُحرّكوا ساكناً لحمايته والاستفادة من خيراته. حصل كلُّ ذلك في وقتٍ لم تُخْفِ فيه إسرائيل، حتّى قبل ولادة كيانها في 1948، نيّتَها ضمَّه لأراضيها. فوقعت المفارقة اللافتة، إذْ كان الليطاني وما زال عصيّاً على الاحتلال الإسرائيلي، ولكنه كان ليّناً أمام الإهمال الرسمي، بل وحتى إزاءَ مبادراتٍ محلّيةٍ قادها لبنانيون أصحابُ اختصاصٍ ومنهم الراحل إبراهيم عبد العال "أبو الليطاني" لاستغلال النهر والاستفادة منه. في المحصّلة لم تتمكن إسرائيل من الحصول على مياه الليطاني ولا اللبنانيون يستطيعون اليوم، فقد بات مصدراً للتلوث والجراثيم والأمراض لأكثر من مليون مواطنٍ يعيشون على ضفافه.
مع بدء الهجرة اليهودية إلى فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظهرت حركة إنشاء المستعمرات والتجمّعات التعاونيّة "الكيبوتس". وعمد اليهود المهاجرون إلى تأسيس تلك المستعمرات على أراضٍ تحوي داخلها مصادر مياه، أو تكون قريبةً منها في فلسطين أو المناطق المجاورة لها. فكانت المستعمرات الأولى: "ريشون ليتسيون" (عُيُون قَارَة)، و"نس زيونا" (وادي حنين)، و"بتاح تِكفا" (ملبّس)، والخضيرة، ثمّ المطلة والجاعونة ومشمار هاياردن (ياردا) وفيك، ومستعمراتٌ أُخرى في سهل غور بيسان، الذي يصل غورَ الأردن شرقاً بسهلِ مرج ابن عامر في شمال الضفة الغربية والجليل، وبالقرب من الحدود اللبنانية السورية.
جاء التحوّل الكبير في السياسات المائية للوكالة اليهودية، الجهاز التنفيذي للحركة الصهيونية، في سنة 1938. ففي ذلك العام أرسل وزيرُ الزراعة الأمريكي مهندساً أمريكياً صهيونياً اسمُه والتر كلاي لودرميلك إلى فلسطين لدراسة إمكاناتها الاقتصادية. وقد حصل ذلك المهندس أثناء إقامته في فلسطين على تسهيلاتٍ كبيرةٍ من حكومة الانتداب البريطاني ومن الوكالة اليهودية. درس لودرميلك مسألةَ المياه في فلسطين دراسةً عميقةً ورفع تقاريرَ إلى الوكالة اليهودية ضمنها مشاريع للاستيلاء على المياه العربية ومصادرها ونقلها إلى الجنوب لريّ أراضيه وصحراء النقب. ثمّ وضع مشاريعه في كتابٍ عنوانه "بالستاين لاند أوف بروميس" (فلسطين أرض الميعاد)، صدرَ سنة 1944، وصار ركيزةً لكثيرٍ من التصوّرات المستقبلية للأمن المائيّ لإسرائيل التي لم تكن قد وُلدت بعد. ويقدّم الكتابُ أوّلَ صيغةٍ لمشروعٍ متكاملٍ لاستثمار مياه وادي الأردن، وموارد المياه الأردنية واللبنانية.
يقترح لودرميلك في مشروعه تحويل مياه نهر الأردن الأعلى إلى سواحل فلسطين، ثم نقلها إلى صحراء النقب مع الاستيلاء على مياه نهرَي الحاصباني وبانياس، ولم ينسَ نهر الليطاني فأوصى بالاستيلاء على مياهه أيضاً وتحويلها إلى فلسطين لتصبّ في بحيرة اصطناعية في سهل البطوف شمالي مدينة الناصرة. ومن هناك تُنقل بأقنية إلى صحراء النقب. أما الهدف النهائي الذي وضع لأجله هذه الخطط، فهو استغلال أراضي فلسطين بما يسمح "باستيعاب أربعة ملايين لاجئ يهودي من أوروبا".
يُظهر مشروع لودرميلك تقاطعاً قديماً وتشابكاً بين المصالح الأمريكية وبين مشروع الحركة الصهيونية ووكالاتها التي مهّدت الطريقة لولادة الدولة سنة 1948. التفتَتْ قياداتٌ في الحركة الصهيونية مبكراً إلى معركة موارد المياه. فحين اجتمع مندوبو دول الحلفاء في باريس ولوزان وغيرها من مدن التفاوض لتوزيع غنائم الحرب العالمية الأولى وتصفية إرث الإمبراطورية العثمانية وترسيم حدودٍ ودولٍ جديدةٍ للعرب، نَشط قادةٌ صهاينةٌ للضغط على القوى الكبرى من أجل توسيع رقعة فلسطين في الشمال لتضمّ مصادرَ مياهٍ من نهرَي الأردن والليطاني. ويَذكر حاييم وايزمان، أحدُ زعماء الحركة الصهيونية والرئيسُ الأوّل لإسرائيل، في مذكّراته الصادرة سنة 1949 أنّه اجتمع في باريس بالجنرال الفرنسي هنري غورو، المندوب الفرنسي في سوريا ولبنان، لإقناعه بأهمّية مياه نهر الليطاني لمستقبل فلسطين.
أثناء المحادثات البريطانية الفرنسية للوصول إلى اتفاق "بوليه نيو كومب" في مارس 1923، وهي الاتفاقية التي رسّمت حدودَ لبنان وفلسطين وسوريا، ضغطت المنظّماتُ الصهيونية لدفع بريطانيا إلى توسيع الحدود الشمالية "لأرض إسرائيل" حتى تشملَ مواردَ مائيّةً أكبر. وبالتنسيق مع الحركة الصهيونية اقترح النائب البريطاني وليم أورمسبي أن تكون الحدود الشمالية مطابقةً للمجرى السفلي لنهر الليطاني، ومن المطلة الواقعةِ على الحدود اليوم بين إسرائيل ولبنان حتى قمّة جبل حِرمون (جبل الشيخ)، بحسب كتاب "الحدود اللبنانية البرّية والبحرية" المنشور سنة 2024 لمؤلّفه عبد الرحمن شحيتلي، الذي تولّى سابقاً رئاسةَ لجنة التفاوض اللبنانية على الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان.
أثناء مؤتمر باريس للسلام سنة 1919 الذي أنهى الحرب العالمية الأولى، قدَّم قادةُ الحركة الصهيونية حاييم وايزمان وديفيد بن غوريون خريطةً مقترحةً للدولة اليهودية تضمّ نهر الليطاني، وفقاً للدبلوماسي والباحث الأمريكي المختصّ بشؤون الشرق الأوسط أندرو كيلغور. إلّا أنّ هذا المخطّط فشل بسبب إصرار فرنسا أن يكون نهر الليطاني ضمن أراضي نفوذها، أي لبنان. تنوّعت محاولات وايزمان، إذ أرسل ثلاثَ رسائل إلى أعضاء المؤتمر متوسّلاً "ضمَّ الليطاني إلى فلسطين"، إذْ لا إمكانَ برأيه "لإقامة الوطن القومي اليهودي من ناحيةٍ اقتصاديةٍ بدون مصادر مياه الأردن والليطاني"، كما يوثّق كتابُ "لبنان المياه والحدود"، للمؤرخ والأكاديميّ عصام خليفة، المنشور سنة 2001.
وفي حديثِي مع المؤرخ عصام خليفة المهتمّ بملفّ ترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان، استغرَبَ سؤالي عن رفضِ فرنسا التخلّي عن نهر الليطاني للبريطانيّين، وضِمناً للحركة الصهيونية. ويؤكّد أن "الحركة الصهيونية طالبت بأن تصل حدودُها لغاية شمال صيدا لتسيطر على جميع مصادر المياه، في حين كانت فرنسا تسعى للسيطرة على جميع أراضي سوريا الطبيعية. ولم يكن منطقيّاً أن تتنازل عن هذه المساحة إذْ أنها تريد أيضاً ضمان سيطرتها على المياه وعلى خطوط المواصلات [خط سكة الحديد]".
وكان ممّن قاوموا هذه الحملة في مؤتمر الصلحِ البطريَركُ إلياس الحويّك، الذي طالَبَ في المؤتمر بإعادة البلاد إلى حدودها الطبيعية والتاريخية التي غيّرتها الدولة العثمانية. وترتكز مطالبتُه هذه ربما إلى عاملَيْن أساسيَّيْن. الأوّل أنّ البَطريَرك وجزءاً كبيراً من الموارنة أرادوا تجنّبَ فخِّ المجاعة الذي عانى منه جبل لبنان إبّان الحرب العالمية الأولى، خصوصاً أن الأراضي الزراعية فيه محدودة. فوجدوا في منطقتَيْ جبل عامل جنوب الليطاني والبقاع أراضيَ واسعةً وصالحةً للزراعة. أمّا العامل الثاني فلوجود قرىً مارونيةٍ في تلك الأقضية أراد البطريَرك ضمَّها لدولة لبنان الكبير. وقد أُعلِنَت هذه الدولةُ سنة 1920 تحت مظلّة الانتداب الفرنسي، وضمّت جبلَ لبنان وأُلحِقَت به كلٌّ من بيروت وطرابلس وبعلبك والهرمل والجنوب.
في النهاية، فَشِلَت المحاولات الصهيونية الأُولى. وجاء الليطاني في الخريطة نهراً لبنانيّاً صافياً من منبعه إلى مصبّه. إلّا أنّ الصهاينة نجحوا في تعديل حدود فلسطين الشمالية بضمّ بعض الأراضي السورية القريبة من نهرَيْ بانياس والحصباني وبعض القرى اللبنانية القريبة من نهر الليطاني، مثل المنصورية وصلحا وطربيخا وهونين.
بِإزاءِ هذا الواقع، طوّرت إسرائيل روايتها وركّزت على مقولةٍ جديدةٍ مفادُها أن مياه نهر الليطاني تذهب هدراً ولا بدّ من استفادة شعوب المنطقة منها. وبهذه الرؤية تفاعَلَ قادةُ إسرائيل مع أيّ نقاشاتٍ بشأن المياه في المنطقة. فمثلاً في عامَيْ 1953 و1954 طَرَحَ أريك جونستون، مبعوثُ الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، مشروعَ الإنماء الموحَّد لموارد مياه نهر الأردن، الذي صار يُعرَف بمشروع جونستون. رفضت إسرائيل المشروعَ "لأنه لا يستغلّ مياهَ نهر الليطاني التي تذهب هدراً، ولو حوّلت مياه الليطاني عند جسر الخردلي، عند سفح قلعة الشقيف، إلى منشآتٍ في شمال إسرائيل لتضاعفت الفائدة المرجوّة منه لجهة الريّ وتوليد الطاقة الكهربائية".
إثرَ حرب النكسة وتحديداً في سبتمبر 1967، انتقدَ رئيس وزراء إسرائيل ليڤي إشكول "ضياعَ نصف مليار مترٍ مكعبٍ من مياه الليطاني في البحر بدلاً من أن تستفيد منها شعوب المنطقة". حاول الإسرائيليون الاستفادةَ من نتائج هذه الحرب بالتوسّع في استغلال مصادر المياه اللبنانية فطالَبوا بإلغاء اتفاقية الهدنة بين إسرائيل ولبنان لسَنةِ 1949، بحجّة دخول لبنان في الحرب. جاء اتفاق القاهرة سنة 1969 برعايةٍ مصريةٍ لينظِّمَ الوجودَ الفلسطيني المسلّح في البلاد، وأجاز له العملَ المقاوِم من أجل تحرير فلسطين انطلاقاً من الأراضي اللبنانية. فباتت منطقة جنوب نهر الليطاني مسرحاً للعمليات المنطلقة نحو شمال إسرائيل، ونَما الهاجسُ الأمنيُّ الإسرائيليُّ من تلك المنطقة، وعادَ الليطاني إلى صُلب التفكير الإسرائيلي ولكن هذه المرّة من بوّابة الأمن والعسكر.
وهكذا لازَمَ اسمُ "الليطاني" حديثَ القادة الإسرائيليين في جميع الحروب الإسرائيلية على لبنان. فسَمَّوا أوّلَ اجتياحٍ برّيٍ مُعلَنٍ لجزءٍ من جنوب لبنان سنة 1978 "عملية الليطاني"، أو "حملة الليطاني" في إشارةٍ إلى هدف الحملة بإجبار مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية على التراجع إلى ما وراء النهر باتجاه مدينتَيْ صيدا وبيروت. في هذه العملية، احتلَّت إسرائيل ما دون نهر الليطاني مدّةَ ثلاثةِ أشهرٍ ثمّ انسحبت بعدها تاركةً منطقةً أمنيّةً تحت إشرافها.
وتكرّر اسمُ "الليطاني" في اجتياح 1982، فقد أطلق مجلس الوزراء الإسرائيلي عمليةً عسكريةً لاجتياح لبنان بعمق أربعين كيلومتراً لتكوين "منطقة أمنية"، وهي مسافةٌ تتعدّى حدودَ نهر الليطاني. لكن سرعة انهيار خطوط دفاع منظمة التحرير الفلسطينية والقوى اللبنانية المتحالفة شجّعت وزيرَ الدفاع آنذاك، أرييل شارون، للتقدّم بالجيش الإسرائيلي نحو العاصمة بيروت. ومع طغيان البعد العملياتي على المشهد، ظلّت المياه بُعداً أساسياً في التحركات العسكرية الإسرائيلية. فقد استولت إسرائيل إبّان الاجتياح على نهر الوزاني، الذي ينبع من جنوب لبنان ويقطع الحدود ليغذي نهر الأردن وبحيرة طبريا. ثمّ وضعت يدَها على اثنتي عشرة قريةً لبنانيةً وربطت مياهَها بمستعمرةٍ إسرائيلية. الوزاني شكَّل مصدرَ توتّرٍ بين لبنان وإسرائيل حين هدّد رئيسُ الوزراء الإسرائيلي شارون سنة 2002 بالحرب على لبنان بسبب تنفيذه مشروعَ جرِّ مياهِ نهر الوزاني إلى القرى والبلدات المحرّرة في جنوب لبنان.
ظَلَّ الليطاني في قلب الصراع في حروب 1993 و1996 وفي حرب تموز 2006 والتي لم يتمكّن فيها الجيشُ الإسرائيليُّ من الوصول إلى نهر الليطاني، مع تهديده المستمرّ بذلك. إلّا أنَّ نصَّ القرار الدولي 1701 الذي أوقف العمليات القتالية بين حزب الله وإسرائيل أشار بإنشاء منطقةٍ خاليةٍ من السلاح بين الخط الأزرق –الذي يفصل بين لبنان وإسرائيل– ونهر الليطاني. فيما استثنت حكومة لبنان وقوّة الأمم المتحدة المؤقّتة في لبنان (اليونيفيل) من هذا الشرط، مقابل سحب إسرائيل قوّاتها من جنوب لبنان والاحترام التامّ للخط الأزرق وضمان عدم حدوث انتهاكات من الطرفين. وفي حروب إسرائيل المختلفة لم تتمكّن من تطبيق هدفها الأمنيّ بجعل هذه المساحة الجغرافية عازلةً أمنيّاً، فقد استمرّ إطلاق الصواريخ منها في كلّ جولة.
في الحرب الأخيرة التي اشتعلت بوادرها بعد 7 أكتوبر 2023، وتطوّرت إلى اجتياح برّيٍ في سبتمبر 2024، نجحت إسرائيل باستغلال زاوية الليطاني الجنوبية الشرقية التي تبعد نحو خمسة كيلومتراتٍ عن مستوطَنة المطلة في إصبع الجليل، وتوغّلت في هذه المسافة القصيرة ووصلت إلى النهر. وهذا ما سمح للجيش الإسرائيلي بتسجيل صورة انتصارٍ بالتقاط الصور لجنوده على ضفاف النهر، وبثّها للادّعاء بقدرته على اجتياح المنطقة الفاصلة بين النهر والحدود.

الجديد في الحرب الأخيرة هو تحويل الجيش الإسرائيلي منطقةَ جنوب الليطاني إلى منطقةٍ منكوبة. فبعد محوِ قرى الشريط الحدودي بكامل معالمها، دمّرت إسرائيل كثيراً من المباني والأحياء في البلدات الواقعة جنوب النهر، حتى البعيد منها عن الحدود أو عن مسرح العمليات. بالطبع لهذا الدمار الواسع أهدافُه المستقبليةُ بجعل المنطقة مهجورةً بعد تحويل منازلها إلى ركام.
بجهدٍ وصلتُ إلى إيمان ابنةِ المهندس عبد العال، التي قرّرت سنة 2019 إغلاقَ "مؤسسة عبد العال للتنمية المستدامة". لا تُخفي إيمان استياءَها من الوضع القائم في البلاد وحالة الفساد التي أوصلت النهرَ إلى حالته الراهنة، إلّا أنّ السبب المباشر لإغلاقِها المؤسسةَ هو طبيعة عملها التي تقوم "على تبنّي مشاريع وطنيةٍ كبيرة. وهذا النوع من المشاريع يجب أن تكون الدولة جزءاً منه وإلّا لا يمكن القيام به. غير أن الظروف التي مرّت في لبنان منذ أواخر سنة 2019 وما شهده من انهيارٍ اقتصاديٍ ومن ثمّ انفجار مرفأ بيروت [في أغسطس من العام التالي] وغيرها من الأحداث التي جعلت الدولة غير قادرةٍ على القيام بهذا النوع من المشاريع، كان سبباً رئيسياً في اتخاذ قراري بإغلاق المؤسسة".
تشرح إيمان أن والدها عاد إلى لبنان سنة 1932 بعد أن أنهى دراستَه في مجالَي الكهرباء والمياه في المعهد العالي للكهرباء في العاصمة الفرنسية باريس. وقتها اختلف المسؤولون اللبنانيون مع عبد العال وأرادوا إجراء دراسةٍ تشمل كلَّ مياه لبنان، أمّا هو فرأى أن الأجدى التركيزُ على نهر الليطاني وإنجازُ الدراسات حوله ومن ثمّ الانتقال إلى باقي الموارد المائية. قرّر الشروع بمبادرةٍ شخصيةٍ بإجراء دراسةٍ استغرقَتْه خمسةَ عشر عاماً، شملت منبعَ النهر وصولاً لمصبّه، نشرها سنة 1948 في كتابٍ من 156 صفحةٍ باللغة الفرنسية، عَنْوَنَهُ "الليطاني دراسة هيدرولوجية". جمعَ في الكتاب وثائق أساسيَّةً مَهَّدت لدراساتٍ أكثر تفصيلاً. أهميةُ الدراسة من تخطيطه المشاريع المستقبلية التي يجب أن يتضمّنها النهر، وهي مشاريع توليد الكهرباء والاستفادة من مياهه لريّ المزروعات من البقاع وصولاً للجنوب، وتأمين مياه الشرب للبلدات والقرى.
كان لهذه المشاريع لو نُفّذَت أن تساهم في تنميةٍ مستدامةٍ في الأطراف والمناطق النائية، فضلاً عن أثرها الإيجابي لقطاعَي الزراعة والصناعة. وهذا ما دفع الشيخَ موريس الجميّل، من كبار الساسة اللبنانيين آنذاك، إلى وصفِ عبد العال في حفلِ تأبينِه بالقول: "قال هيرودوت [المؤرّخ الإغريقي] 'مصر هِبَةُ النِيل' وقال عبد العال 'الليطاني هِبَةُ لبنان'. وأنا أقول 'الليطاني هِبَةُ عبدِ العال، وعبدُ العال هِبَةُ لبنان'".
جذبت دراسةُ عبد العال الاهتمامَ وتَلْفِتُ ابنتُه إيمان إلى أنّ الولايات المتحدة أرسلت "في الخمسينيات بعثةً هندسيةً بهدف المساعدة بنهضة لبنان. اطَّلعوا على دراسة والدي وتبنَّوها لأنها كانت الدراسةَ الوحيدةَ المتكاملةَ حول الليطاني". وتتابع إيمان: "والدي أصبح مديراً عامّاً لوزارة الأشغال التي كان ضمن مهامّها الاعتناءُ بالمياه، وأجرى اجتماعاتٍ مع البعثة، إلّا أنه سرعان ما توفّيَ عام 1959، عن عمرِ خمسين عاماً". وتقول إيمان وعائلة عبد العال إن وفاة والدهم ليست طبيعيةً وإنما نتيجةَ عمليةِ اغتيال. وتروي أن والدها احتاج لعمليةٍ بسيطةٍ في مستشفىً، إلّا أنّه أثناء العملية أُعطِيَ دماً فاسداً من غير فئة دمه ما أدّى لوفاته. رَفَعَت العائلةُ دعوىً قضائيةً على المستشفى –الذي رَفَضَت ذكرَ اسمِه– ليُحمِّل القضاءُ المستشفى المسؤوليةَ عن هذه الوفاة. تعتقد إيمان أن الجهة المسؤولة عن اغتياله هي إسرائيل، ولكن هذا الافتراض من العائلة لم تسنده تحقيقاتٌ رسميّة. وتربط العائلةُ ذلك بالمطامع الإسرائيلية بنهر الليطاني، باعتبار أن تنفيذ المشاريع التي رَسَمَها وخَطَّطَ لها عبد العال سيقطع الطريقَ على الطموحات الإسرائيلية في النهر.
كذلك أَخبرَتْني إيمان عن المهندس محمد غزيرة، تلميذِ والدِها المفضَّل، وأَوّلِ رئيسٍ للجمعية التي تحوّلت لمؤسسةٍ لاحقاً. تروي إخبارَه لها أن "إسرائيل لديها مؤسسةٌ بِاسمِ وحدة الليطاني في القدس، وتضع الليطاني ضمن خرائطها منذ الخمسينيات". بحثتُ عن هذه الوحدة فوجدتُها قد تأسّست سنة 1943 بإسنادٍ من الوكالة اليهودية وبتمويلٍ من الصندوق القومي اليهودي. بدأت بمكتبٍ للأبحاث المائية يتألف من عدّة وحداتٍ، من بينها وحدة الليطاني. وقد طوَّر هذا المكتبُ عملَه بالتعاون مع مختبر الدراسات المائية في الجامعة العبرية بالقدس، والمعهد الفنّي العبري في حيفا، ووضع تقريراً مفصّلاً عن موارد فلسطين المائية.
تأسَفُ إيمان للوضع الذي وصل إليه نهر الليطاني وفواتِ محاولات والدها للاستفادة منه. تساءلَت: "والدي توفّى عام 1959 في حين أن الحرب الأهلية بدأت عام 1975، أيْ هناك ستّة عشر عاماً ما بينهما. لماذا لم يتمّ تنفيذ المشاريع على نهر الليطاني؟". اقتصر تنفيذ المشاريع التي وضعها عبد العال على المشاريع الكهرمائية ببناء ثلاثةِ معامل فقط. وتشيرُ إلى الفرص الضائعة لاستغلال النهر في غير مجال الطاقة، بإقامة مشاريع ريٍّ توظِّف المقدّرات المائية الكبيرة.
وعلى الإهمال مَثَّلَ الليطاني رافداً للأمن الغذائي بالمشاريع المحدودة التي يحتويها. فوفقاً لدراسةٍ أَجْرَتْها مجموعةٌ من الباحثين والباحثات نُشِرَت سنة 2018 بعنوان "نهر الليطاني، لبنان: تقييم وضعه والتحدّيات الحالية"، تُبيِّن أن النهر يساهم في توفير احتياجات نحو مليون نسمةٍ من المياه العذبة، ويروي آلافَ الهكتارات من الأراضي الزراعية ويؤمّن مصدرَ الدخل الأساسي لنحو 6 بالمئة من سكّان الحوض ممّن يعملون في الزراعة، و31 بالمئة من مداخيل القطاع الزراعي المرتكز إلى مياه النهر. كذلك تؤمِّن محطّاتُ توليد الكهرباء الثلاث، القرعون ومركبا والأوَّلي، المقامةُ على مجرى النهر نحو 12 بالمئة من حاجات لبنان للطاقة، ناهيك عن أن النهر يرفد بحيرة القرعون التي تُعَدّ أكبر بحيرةٍ صناعيةٍ في لبنان.
في بلدة "حوش الرافقة" في البقاع التي يخترقها نهر الليطاني، يستذكر رئيسُ البلدية السابقُ عادل يزبك كيف أخبره الأطباء بإصابة ابنه علي، منذ نحو عشر سنواتٍ، بمرض السرطان نتيجة "تلوث النهر". لم يصمد ابنه طويلاً في وجه المرض، ليتوفّى سريعاً وهو ابن 34 عاماً وتنضمّ عائلة عادل إلى عشرات العائلات من أبناء البلدة والقرى المحيطة التي فَتَكَ السرطان بأبنائها. يلقي عادل باللوم على من تسبّب بتحويل "شريان المنطقة إلى مكبٍّ للنفايات المتنوعة وللمياه الآسِنة"، مضيفاً للفِراتْس "كل هيدا التلوث وين بدّو يروح؟ ح يطلع بصحّتنا وصحّة ولادنا، وهيدا اللي صار، الله لا يوفّق كلّ مين تسبّب بهالوضع".
يقولُ عادل في حديثه للفِراتْس بأن جولةً بسيطةً في البلدات المُحيطة بالنهر تُبيّن الحجمَ الهائل من إصابات السرطان. إذ يكاد لا يخلو حيٌّ هناك من تسجيل إصابةٍ بهذا المرض، مشيراً إلى المأساة التي يعيشها المصابون بالسرطان وعائلاتهم: "لدينا حالاتٌ لا تُحصَى عاجزةٌ عن تحمّل تكاليف العلاج". يبدو أن هذه المعاناة أَنْسَت عادلاً صورةَ ذلك النهر قبل تلوّثه الآن، وقد صار رمزاً لفقدان ابنه.
وجهة نظر عادل هي جزءٌ من رأيٍ عامٍّ عند أهالي تلك البلدات. يرون أنهم يدفعون أرواحهم ثَمَنَ تلوّث نهر الليطانس، وما ارتفاعُ معدّلات الإصابة بالسرطان للمواطنين القاطنين قرب النهر إلّا نتيجةٌ حتميةٌ لتَلوّثِه. ولهذا الرأي دعائمُ علميةٌ تظهر بين الحين والآخَر في دراساتٍ سرعان ما يتناقلها أبناءُ البلدات المحيطة بالنهر. ففي سبتمبر 2019 نَشَرَت المصلحةُ الوطنية لنهر الليطاني خريطةً تُظهر انتشارَ حالات الإصابة بمرض السرطان في بلدة بر إلياس. اصطبغت الخريطة بنحو ستمئة نقطةٍ بيضاء تُظهر إصابات السرطان في البلدة، علماً بأنّ عدد سكان البلدة لا يتجاوز ستّة عشر ألف نسمة. وقبلها بعامٍ واحدٍ، أظهرت دراسةٌ صادرةٌ عن الهيئة الصحية اللبنانية والجامعة الأمريكية في بيروت والجامعة اللبنانية، أن معدّلات نِسَبِ السرطان أعلى من المعدّلات العامّة في لبنان، ولا سيّما في أربع بلداتٍ يمرُّ بها الليطاني، وهي تمنين التحتا وبر إلياس وحوش الرافقة والقرعون. تقول الدراسة إن نسبة الوفيات في بلدة بر إلياس بسبب السرطان تصل إلى ثلاثةٍ من كلِّ خمسةٍ، أمّا في بلدة تمنين التحتا فبلغت نحو 70 بالمئة من مجمل الوفيات. كذلك وصلت نسبة السرطان في بلدة حوش الرافقة لأعلى من المعدّل العامّ في البلاد بثلاثة أضعاف. في حين تصل في بلدة القرعون إلى خمسة أضعاف المعدّل العام.
في السياق ذاته، وفي مقدّمة كتاب "اغتيال نهر الليطاني وناسِه" للكاتبة سعدى علوه الصادر سنة 2016، انتقد طلال سلمان، رئيسُ التحرير السابقُ لجريدة السفير، تعاطيَ الدولة مع هذا الملف. يقول سلمان: "سنةً بعد سنةٍ، وعهداً بعد عهدٍ، حكومةً بعد حكومةٍ، كان النهر يتحوّل إلى مجرورٍ، وكان مجراه يتحوّل إلى مكبٍّ للنفايات، وكانت الآبار التي تُحفر على ضفافه مباشرةً تشفط مياه الينابيع التي كانت تصبّ فيه [. . .] وهكذا تحوّل إلى مزبلةٍ وإلى مصدرٍ للجراثيم حاملةً الأمراض القاتلة وإلى بيئةٍ حاضنة للسرطان الذي انتشر بشكلٍ مفزعٍ بين أهالي المنطقة التي تحتضنه".
هذه الحالة التي وصل إليها نهر الليطاني كانت نتيجةَ سياسةٍ طويلةٍ تعود إلى بداية التسعينيات من الإهمال في تعامل مؤسسات الدولة مع النهر وغياب مبدأ المراقبة والمساءلة للمتعدّين والمُلوّثين. ومع الإهمال الحكوميّ، كان للقطاع الخاصّ دورُه من معامل ومصانع ومزارع وكسّاراتٍ ومرامل، ساهمت كثيراً في تلويث النهر. هذا فضلاً عن غياب البنية التحتية للصرف الصحّي وعدم تنفيذ مشاريع لمحطّات التكرير. مضافٌ إلى هذا إنشاءُ الاستراحات والمنشآت على ضفافه، وصولاً إلى فوضى التعامل مع ملفّ اللجوء السوري، إذ اتّخذ اللاجئون من ضفاف النهر مكاناً للمخيّمات وحفروا قنوات صرفٍ صحيّةً متّصلةً بالنهر.
وبسبب هذا التلوّث الذي يضرب النهر، تمنع البلدية والأجهزة الأمنية والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني المزارعين من استخدام مياه النهر الآسِنة لسَقْيِ المزروعات. إلّا أن خروقاتٍ تُسجَّل في ظلِّ محدودية البدائل التي يمكن أن يلجأ لها المزارعون. ويقول للفِراتْس منور الجراح، رئيسُ بلدية المرج إحدى أكبر البلدات المحاذية للنهر في البقاع الغربي، إنّ "مياه الآبار الارتوازية غير كافيةٍ لريّ مساحاتٍ كبيرةٍ من الأراضي الزراعية". فضلاً عن أن الآبار الارتوازية العشوائية ساهمت في تجفيف عددٍ من الينابيع المحلّية التي كانت تغذّي النهر طبيعياً.
بادرت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني عدّة مرات لتنظيف النهر أو الحد من تلوثه، وفشلت معظم محاولاتها. والسبب الرئيس في الغطاء السياسي الذي توفره الأحزاب اللبنانية لملوثي النهر من تصاريح ومعدات، كلّ حزب في بلداته ومناطق نفوذه التي يمرّ بها النهر، ففي الجنوب حركة أمل وحزب الله، وفي البقاع الغربي تيار المستقبل، وفي البقاع الأوسط التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية. هذا الغطاء السياسي يمتدُ ليشمل مؤسسات الدولة المختلفة، بدءا بوزارات الطاقة والبيئة والزراعة والصناعة، فهذه الجهات لم تنفّذ مشاريع شبكات الصرف الصحي أو محطات تكرير لمعالجة الماء الملوّث، إما لنقصٍ في التمويل أو بسبب الفساد، وتظهر نتيجة هذا الفساد بوجود شبكات بلا محطات، أو محطات بلا تشغيل، مع الإشارة إلى أن معظم الأحزاب السياسية تعاقبت على هذه الوزارات في الأعوام السابقة. النُخبة السياسية المسيطرة على الدولة هي المُمكّن والسبب الأساس لتلوّث النهر أو انعدام محاسبة ملوثيه.
كذلك فإن فساد مياه النهر قد عزَّز ظاهرةً قديمةً لدى أهالي البقاع، بتخصيص قطعة أرضٍ محاذيةٍ لمنازلهم لزراعة ما يستهلكون من خضار. وفي ذلك حدّثتنا السيدةُ أمّ محمد، من بلدة جبّ جنين البقاعية، التي طلبت من أصحاب أحد الأراضي الملاصقة لمنزلها بالسماح لها بزراعة مساحةٍ صغيرةٍ تُجَنِّبها شراءَ الخضار من الأسواق، إذ تقول إنّ "الجميع يعلم أن مياه الليطاني التي تُسقى بها الكثير من الخضراوات المزروعة في البقاع ملوّثة". تضيف: "لا أزرع الخضراوات لتوفير الأموال ولكن هل يُعقَل أن نأكلَ خضاراً سُقِيَت بمياهٍ ملوثة؟".
ما لحق بالنهر من تدهورٍ بيئيٍّ ساهم أيضاً بتقليل قيمة الأراضي والعقارات المحيطة به. هذا بعد أن كان نهر الليطاني وما حوله في بداية الستينيات منطقةً مغريةً تعود ملكيّتها لكبار الملّاك وأصحاب النفوذ الذين جذبهم مشروع سدّ القرعون، وكانت الأراضي المحاذيةُ للنهر الأغلى سعراً وقيمةً مقارَنةً بتلك البعيدة عنه. انقلب اليوم الوضعُ وبات المواطنون يتفادون السكن في المنازل القريبة من نهر الليطاني أو المطلّة عليه بسبب الحشرات والجراثيم والأمراض والروائح الكريهة الناجمة عن مياهه الملوثة. كذلك انخفضت أسعار الأراضي الزراعية المحاذية له بعد أن باتت المحاصيل التي ينتجها موضعَ شكٍّ للمستهلكين.
في بلدة "لالا" البقاعية، التقيتُ عمر طربيه، مالك مكتبةٍ في البلدة، وقد انتقل سنة 2013 من منزله القريب من النهر إلى منزلٍ آخَر على مدخل البلدة بعيداً عن ضفافه. يقول طربيه للفِراتْس إنه بعد أن "كثر الحديث عن الأمراض التي يسبّبها تلوّث النهر وبعد أن أَيقنتُ أن معالجة هذا التلوّث في بلدٍ مثل لبنان أشبه بالمستحيل، قرّرتُ الانتقال من المنزل الذي ورثتُه عن أهلي خوفاً على عائلتي". يُدرك عمر أن المسافة التي ابتعد بها عن النهر ليست كافيةً لتلافي تلوّثه، ولكنه يستدرك: "لا يمكنني السكن خارج قريتي، فهنا خُلِقتُ وكبرتُ ويقطن أقربائي وأهلي وأصدقائي، لذا أنشأتُ منزلي الجديدَ في أحد قطع الأرض التي تمكنتُ من شرائها بسعرٍ جيدٍ والبعيدة بمسافةٍ جيدةٍ عن النهر".
