مع أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، انتشرت في الإمبراطورية الروسية أفكارٌ وتوجهاتٌ متعددة مثل الرأسمالية والاشتراكية والملكية الدستورية والليبرالية والثورية والقيصرية. انعكس هذا التنوع على مجتمعات المسلمين بفئاتها المختلفة. ومع تدافع الأفكار والتيارات السياسية تحت مظلة إمبراطورية شاسعة، برزت حركة الجديد التي عُرفت بأسماء عديدة مثل الحركة الجديدية أو "جاديديزم"، وهي حركة فكرية اجتماعية سياسية نشأت بين أبناء الشعوب المسلمة، وسُمّيَ أتباعُها "جديدلار" أو المصلحون أو "المتأوربون" (نسبة لاعتناق الأفكار الأوروبية) أو أصحاب التعليم الجديد. بالمقابل وُصِفَ التيارُ المعارض لحركة الجديد بالقديمين أو المحافظين أو أصحاب التعليم التقليدي. واتبع القديمون طريقة قديمة في التعليم والحفاظ على الإرث الديني والتراث الشعبي والتعامل مع الاتجاهات العصرية الفكرية والمادية.
يمكن تقسيم نشأة حركة الجديد وتطورها في الإمبراطورية الروسية إلى ثلاث مراحل. مرحلة إحياء الأمة "الإسلامي"، ثم مرحلة تكوين الأمة "العِرق الثقافي"، ومرحلة تشكل الأمة "السياسي". لم تكن أي من المراحل المذكورة نقيةً وخالصةً بالمفاهيم المحددة هذه، لكن هيمنة الإصلاح الديني في المرحلة الأولى والإصلاح الثقافي في المرحلتين الثانية والثالثة كانت بارزة. وفي هذه المراحل ناضل المثقفون المسلمون في روسيا من أجل الإصلاح والتنوير، حتى سُمّوا رجال "الصحوة العقلية"، وكان للإسلام مكانة مركزية في أنشطة المصلحين، وبدأت التحولات في المجتمع المسلم ثقافية ثم امتدت إلى جميع جوانب الحياة بهدف بناء الأمة المسلمة في المحيط الروسي.
كان المسلمون في بداية القرن العشرين نحو عشرين مليوناً من أصل تسعين مليوناً من سكان الإمبراطورية الروسية. تنوعت عرقياتهم ما بين التترية والأوزبكية والكازاخية والإيغورية والقرغيزية والتركمانية والأذرية. وجمع حسٌّ قومي تركي المسلمين في روسيا بسبب تقاربهم اللغوي والثقافي والعرقي مع الأتراك، مع اختلافاتٍ سَبَبُها الطبيعة الجغرافية والتجربة التاريخية المختلفة.
تضافرت عدة عوامل داخلية وخارجية ساعدت على ظهور حركة الجديد، أبرزها بناء المدارس القومية والدينية التي تدرّس اللغة القومية بجانب الروسية وتدرّس العلوم الإسلامية والعلوم بمناهج حديثة وانتشار أفكار عصر التنوير الليبرالية التي بدأت في أوروبا الغربية في القرن الثامن عشر. من العوامل أيضاً التواصلُ مع المصلحين في العالمين العربي والإسلامي مثل الشيخ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، والتأثر بالتوجهات القومية الإسلامية والتركية المختلفة التي نشأت في الدولة العثمانية بداية القرن العشرين. كان من بين هذه التوجهات حركة الجامعة الإسلامية التي هدفت لتوحيد المسلمين تحت دولة إسلامية قائمة على الخلافة، وحزب الاتحاد والترقي التركي الذي عزل السلطان عبدالحميد في سنة 1909 وتبنى الفكر القومي العلماني، وحركة تركيا الفتاة التي سعت لإنهاء الملكية المطلقة للسلطنة العثمانية واستبدالها بحكم دستوري.
انتشرت حركة الجديد في مناطق مختلفة في أرجاء الإمبراطورية الروسية، من شبه جزيرة القرم وحوض نهر الفولغا وسفوح الأورال إلى سهول تركستان وقرى صحراء سيبيريا وتجمعاتها وجبال القوقاز وأذربيجان. تنوعت مشارب رواد الحركة باختلاف قومياتهم وشملت مختلف الشعوب المسلمة في روسيا، من التتار والبشكير والكازاغ والتركستانيين والقوقازيين والأذر والقرغيز والأوزبك والطاجيك. تشكلت عدة مجموعات متميزة منها حزب اتفاق المسلمين والبخاريون الجدد والخوارزميون الجدد.
وكما هو الحال أحياناً في الانتقالات والتجديدات العقدية، كان للغة نصيبها من التوظيف والتغيير. ولذلك يُقسم استعمال حركة الجديد اللغةَ إلى مرحلتين زمنيتين. المرحلة الأولى تمتد من ثمانينيات القرن التاسع عشر حتى سنة 1907، وفيها غَلَبَ استخدام لغة تركية مبسطة تفهمها الشعوب والمجتمعات ذات الأصول التركية في روسيا. والمرحلة الثانية من سنة 1907 إلى سنة 1917 وفيها رُكّز على لغات الشعوب الأصلية ذات الأصول التركية مثل التترية والأوزبكية والكازاخية والإيغورية والقرغيزية والتركمانية والأذرية ولغات شعوب القوقاز. وعززتْ حركة الجديد دورَ اللغات الوطنية في تطوير الأدب والفن الوطني بين مسلمي روسيا وتأسيس جيلٍ مسلمٍ من الشباب واعٍ بقضايا مجتمعه وأمته.
على أن رائد هذه الحركة ومنظّرها هو المفكر والصحفي القرمي إسماعيل غسبرنسكي المولود سنة 1851 في شبه جزيرة القرم. التحق غسبرنسكي بالمدرسة الحربية في موسكو فتعرف هناك على إحدى الأسر الروسية العاملة في الصحافة وتعلم منها هذه المهنة. عاد غسبرنسكي بعدها إلى القرم ليعمل مدرساً ثم نشط في العمل الاجتماعي والسياسي وأصبح عضواً، ومن ثم رئيساً، لمجلس بلدية مدينة بغجه سراي وسط جزيرة القرم. جال غسبرنسكي في دول آسيا الوسطى والهند وتركيا ومصر وفرنسا وإسبانيا وكان له تجارب في إصداراتٍ صحفية منها ما كُتب له النجاح ومنها ما لم يعمّر طويلاً. كانت أنجح تجارب الصحفية وأشهرها إصداراته في صحيفة "ترجمان" الثقافية باللغتين الروسية والتركية، والتي استمرت بالصدور حتى سنة 1918.
غلب على أعمال غسبرنسكي طابع الدعوة للعلم والمعرفة، ورفع شعار "الوحدة في اللغة والأفكار ... والعمل" بهدف جمع كلمة مسلمي روسيا. فدعا أبناء قومه إلى تعلم اللغات وخاصة الروسية، وحثّ على إصلاح نظام التعليم وطرقه في العالم الإسلامي وإدخال العلوم العصرية للمدارس الشرعية والقومية. دافع غسبرنسكي عن حق المرأة في التعليم وأنشأ مدارس للفتيات وفتح دورات تعليم النساء في مدينة بخش سراي، حتى شبّهه بعض المفكرين الأتراك بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في دعوته ونظرته الإصلاحية.
أثرت هذه الشخصيات في تشكيل فكر حركة الجديد التي قامت على الدعوة إلى نهضة مسلمي روسيا، والحث على المشاركة والإصلاح السياسي والإداري. أُضيف لهذه الفلسفة الدعوة للوحدة القومية التركية والوحدة الإسلامية والتواصل مع الشخصيات والحركات والأحزاب الإصلاحية في العالم الإسلامي وخاصة في تركيا ومصر والهند والحجاز. ولا يُقصد بالوحدة القومية التركية دولة تركيا الحالية بل وحدة العرق والجنس التركي عموماً، وأغلب المسلمين في روسيا هم من أصول عرقية تركية من تتار قازان وتتار سيبيريا وتتار القرم والبشكير والأوزبك والتركمان والكازاخ والأذر. وقد ساهمت فكرة القومية التركية عند الشعوب المسلمة في الإمبراطورية الروسية في حفاظ المسلمين على دينهم ولغتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
اعتمدت حركة الجديد منهج النقد الذاتي للعادات التي انتشرت في المجتمع المسلم كالأمية والجهل. كان المنطلق هو إصلاح نظام التعليم مع الحفاظ على القيم والأخلاق الإسلامية. ركزت الحركة نشاطها في بداياتها على إصلاح التربية والتعليم في المدارس القومية والإسلامية تحت الحكم الروسي، وهي مدارس حكومية وأهلية تتضمن مناهجها اللغات المحلية إضافة إلى العلوم الدينية وعلوم الطبيعة والرياضيات والجغرافيا. حُدثت المناهج وطرق التدريس وأُدخلت مواد دراسية علمية عليها وسُمّيت هذه المناهج "الأصول الجديدة". يقول غسبرنسكي عن تطوير التعليم ومزاوجة القيم الدينية مع الحداثة العلمية إن "القرآن كتابنا العظيم ... يدعوننا للتعلّم والعمل والعيش الكريم ... القرآن والعلم لا يتعارضان مع بعضهما البعض كما يظن الكثير من المسلمين الآن، بل على العكس نحن بحاجة للقرآن للإرتقاء بروحنا، وللعلم للنهوض بأجسادنا". ويضيف في موضع آخر: "أنا لا أنكر فوائد التكنولوجيا والإختراعات العلمية. فالعالم الإسلامي بحاجة للإصلاح والتقدم، لكنني أعتقد بأنه لا يجب علينا أن نتبع أوروبا بدون نظرة نقدية".
وفي أذربيجان التي كانت جزءاً من منطقة جنوب القوقاز التابعة للإمبراطورية الروسية، أسس الإصلاحيون الحزبَ الديمقراطي الإسلامي "مساواة" سنة 1911. دعا الحزب للوحدة القومية والثقافية بين المجتمعات المسلمة في روسيا القيصرية من الترك والأذر والتتار والكازاخ والأوزبك على أساس اللغة والدين والتاريخ. نادى أصحابُ الحزب للوقوف إلى جانب الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى في الوقت الذي كانت فيه روسيا القيصرية على الجانب الآخر من الحرب، أي مع دول الوفاق الغربية بريطانيا وفرنسا وصربيا. كان للحزب ثلاثة مبادئ، وهي التركية في اللغة والإسلام في الدين و"الأوربية" في التطور. كانت مطالبات الحزب الاجتماعية تشمل حرية التعبير والصحافة والطباعة والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن اختلاف قوميتهم ودينهم.
أزمع مجموعةٌ من الطلبة المسلمين الدارسين في جامعات ومعاهد العاصمة الأوكرانية كييف عقدَ "مؤتمر الطلبة المسلمين" سنة 1913، لكن الشرطة الروسية لاحقت المنظمين واعتقلتهم. وكان أبرزُ الطلبة رئيسَ الحزب محمد أمين رسول زاده، وهو سياسي وصحفي أذري وأحد مؤسسي جمهورية أذربيجان الديمقراطية ورئيس المجلس الوطني الأذربيجاني سنة 1918. عُقد في مدينة سانت بطرسبورغ مؤتمر للمسلمين سنة 1914، ومؤتمر آخر في موسكو سنة 1917 وهو المؤتمر الأول للنساء المسلمات في عموم روسيا.
لم يقتصر الأمر على عقد المؤتمرات فحسب إذ أسس بعض المثقفين المسلمين مؤسسات سياسية وعسكرية تخص المسلمين، وكان منهم التتري مير سعيد سلطان غلييف الذي ترأس اللجنة المركزية للعسكريين المسلمين في المفوضية الشعبية للشؤون القومية سنة 1920. وكان قد شارك سنة 1917 في مؤتمر مسلمي روسيا العام في موسكو، وأسس مع عدد من رفاقه لجنة المسلمين الاشتراكيين في مدينة بتروغراد، سانت بطرسبورغ سابقاً.
نشط إصلاحيو روسيا في العمل الخيري بتأسيس جمعياتٍ تقدم المساعدات ومشاريع للأيتام والأرامل والفقراء المسلمين، انتشرت في المدن والمقاطعات ذات الأغلبية المسلمة. ساهمت دور النشر والمطابع في نشر الأفكار الإصلاحية وتعميم الثقافة المجتمعية بإصدار آلاف العناوين من الكتب والرسائل التي حملت مضامين تثقيفية إصلاحية. أُسست "المطبعة الآسيوية" سنة 1801 في مدينة قازان، ومطبعة "ترجمان" في مدينة بغجه سراي في القرم سنة 1883. نشط الإصلاحيون في الصحافة، فكانت ثاني ميادينهم في الإمبراطورية الروسية بعد التعليم. وصدرت المجلات والصحف الإصلاحية في الإمبراطورية الروسية، مثل صحيفة "ترجمان" في القرم التي أسسها المفكر القرمي اسماعيل غسبرنسكي، وصحيفة "نور" أول صحيفة لتتار الفولغا وصدرت في سانت بطرسبورغ سنة 1905، وغيرها من المجلات التي كانت تهتم بقضايا محلية لشؤون المسلمين في مناطقهم.
أدرك إصلاحيو روسيا المسلمين أهمية السياسة في إصلاح المجتمع المسلم فشجعوا المسلمين المؤهلين على المشاركة في العمل السياسي، لتظهر ثمرات حركة التجديد والإصلاح الديني مشاركةً نشطةً للمسلمين الإصلاحيين في مجلس الدوما الروسي منذ تأسيسه في سنة 1906 إلى أن حلّه الشيوعيون سنة 1917. وكان إجمالي النواب المسلمين في الدوما الروسية لأربع دورات سبعةً وستين نائباً من أصل 1880 نائباً، منهم المحاميان الأذري عليماردان بيك توبتشيباشوف والتتري صدر الدين مقصودي وغيرهما.
شارك الإصلاحيون المسلمون في روسيا في سَن القوانين والتشريعات المختلفة لصالح المسلمين والمجتمع الروسي، فأقروا مجموعة من التشريعات والقوانين عن الحرية السياسية والمساواة في روسيا وحرية الرأي والإصلاح وتعزيز مفاهيم التسامح الديني. اقترح الإصلاحيون فقرات ومواد في القوانين تصب في خدمة المجتمع المسلم ودعوا للاعتراف بحقوق الأقليات القومية وناقشوا النظم والقوانين المقدمة لتعزيز مبادئ التعايش المشترك بين الإسلام والثقافة والقوانين الروسية. وصُنفت كتلة المسلمين جزءاً من المعارضة، التي كانت الأغلبية في المجالس المنتخبة، وقد أيّد النواب المسلمون في مجلس الدوما إجراءات الحكومة الروسية في الحرب العالمية الأولى.
زار جمال الدين الأفغاني روسيا قادماً من بلاد فارس سنة 1887 وعاش فيها ثلاث سنوات يحاول تنسيق جهود حركته الإصلاحية مع روسيا القيصرية ضد احتلال الإنجليز مصرَ والهند. اهتم الأفغاني بنشر أفكاره بين مسلمي الإمبراطورية الروسية لتعزيز أفكار الجامعة الإسلامية وتقريب المجتمع المسلم ورجالاته من المجتمع الإسلامي الكبير الواسع. طاف الأفغاني بين القوقاز وسانت بطرسبورغ وموسكو وكييف، وحرص على التعرّف على أوضاع المسلمين هناك وجمع معلومات عن أعدادهم ومشاكلهم.
تتلمذ على يد جمال الدين الأفغاني عددٌ من المفكرين المسلمين مثل عبد الرشيد ابراهيموف المولود في سيبيريا سنة 1857. كان لإبراهيموف مسيرةٌ دعوية نشر فيها الإسلام في روسيا، لكن السلطات الروسية ضايقته فاضطر إلى التنقل والسفر حتى وصل اليابان، ثم أرسل رسالة للسلطان العثماني عبدالحميد ليساعده في نشر الإسلام في اليابان. يقول ابراهيموف في كتابه "العالم الإسلامي" المنشور في الدولة العثمانية سنة 1911: "وأنا بفطرتي وطبيعتي سلكت طريق خدمة الحياة الإسلامية التي أعتبرها حياتي القومية، وتحملت في سبيلها كل المشاق، وضحيت بأهلي وأبنائي، ولم أتردد في التمسك بالوسائل المناسبة لصد أعداء الإسلام وجادلت الأعداء بلساني وقلمي، واضطررت أحياناً لمقارعة أدعياء الإسلام حتى أن بعض من يحملون صفة علماء الإسلام وصل بهم الأمر إلى أن يتهموني بالكفر. لم تبق لديهم تهمة أو فرية إلا وألصقوها بي". توفي عبد الرشيد ابراهيموف في أغسطس سنة 1944 ودُفن في المقبرة الإسلامية بطوكيو.
وممن تأثر بجمال الدين الأفغاني المفكرُ والكاتب التتري موسى جار الله بيغييف الذي ساهم في تأسيس حزب اتفاق المسلمين سنة 1905 وشارك أثناء ثورة فبراير (الثورة الروسية) في المؤتمر الإسلامي لعموم روسيا سنة 1917، وأصدر جريدة "المنبر" حينها. وبسبب نشاطه أدرج السوفييت اسمه ضمن وفد المسلمين السوفييت للمشاركة في مؤتمر مكة المكرمة في مايو سنة 1926 وأدى حينها فريضة الحج. لم تسمح له السلطات الروسية بالعودة إلى الاتحاد السوفييتي بعد زيارة له في مصر، فقضى حياته في المنفى بالقاهرة حتى وفاته سنة 1949 ودُفن في مقبرة العائلة الخديوية.
ومن أبرز من تأثروا بالأفغاني أيضاً رضاء الدين فخر الدين، المفكر الإسلامي والصحفي التتري ومفتي "الإدارة الدينية المركزية لمسلمي روسيا الداخلية وسيبيريا" بين سنتي 1922 و1936. كان فخر الدين أحد رموز المدرسة الإصلاحية والتجديدية الإسلامية بين مسلمي روسيا القيصرية، واحتج على إغلاق السلطات السوفيتية المساجدَ والمدارسَ الشرعية وتدمير المكتبات الإسلامية وملاحقة الأئمة، فضيّقت السلطات الشيوعية عليه وعاش ظروفاً مادية صعبة حتى وفاته في مدينة أوفا الروسية سنة 1936.
وقعت حركة الإصلاح في إشكاليات أهمها غياب قيادة سياسية واضحة تمثل المسلمين وتدافع عن مصالحهم كتلةً واحدة في الدولة الروسية. لكن كان الخطرُ الأكبر على الشعوب المسلمة في روسيا اصطدامَها بعوائق وتحديات خارجية كبيرة منها اندلاع الحرب العالمية الأولى وتداعياتها السياسية والاقتصادية على روسيا. كان من بين هذه التداعيات تغيير النظام السياسي في البلاد وقيام الثورة الشيوعية سنة 1917 وما رافقها من ظهور مؤسسات أمنية ومخابراتية لاحقتْ أعضاء حركة الإصلاح في البلاد. كان من بين التحديات أيضاً قمع الحريات السياسية والفكرية والثقافية والدينية، وإلغاء نظام المدارس الشرعية والخاصة وإخضاعها لسلطة الدولة الشيوعية ونظامها.
تأثرت الشعوب المسلمة في روسيا أيضاً بتغيير النظام الاقتصادي للبلاد وحلول النظام الماركسي الشيوعي وتأميم الأملاك الخاصة، وهجرة المثقفين والتجار المسلمين إلى خارج البلاد نحو تركيا واليابان وأوروبا ومصر. ومن هؤلاء المثقفين الذين هاجروا الأديب والسياسي محمد عياض إسحاقي الذي حصّل العلوم الإسلامية ليصبح مُدرساً في مدرسة "حسينية" الشرعية بأورنبورغ جنوب غرب روسيا. شارك إسحاقي في تنظيم مؤتمرات ذات طابع ثقافي وسياسي وديني في موسكو وقازان وأوفا سنة 1917، منها مؤتمر مسلمي روسيا الأول في موسكو، والمجلس العسكري الثوري لمسلمي روسيا. أصدر عدة صحف ومجلات وترأس تحرير بعضها مثل "تاتش إيلديزي" أي نجمة الصباح و"سوز" أي الكلمة الصادرة في موسكو سنة 1915. حضر إسحاقي المؤتمرَ الإسلامي العام في مدينة القدس سنة 1931، ووجّه رسالة للمجتمعين عن أوضاع المسلمين في الاتحاد السوفييتي. سُجن إسحاقي وهُجّر قسراً عدة مرات قبل أن يغادر البلاد متنقلاً في بلدان شتى كالصين وفرنسا وبولندا وألمانيا وفنلندا وكوريا واليابان والحجاز وتركيا، وتوفي في أنقرة سنة 1954، ولم تَسْلَم زوجته وأقرباؤه من الملاحقة والاعتقال. ترك حوالي خمسين قصة ورواية ومسرحية وعشرات المقالات، وقد منع الشيوعيون نشر كتبه ومقالاته.
عمدت الحكومات الشيوعية في الجمهوريات ذات الغالبية المسلمة لاحقاً إلى ملاحقة جُل المجددين وقتلهم، وكان منهم العالم الشرعي أحمد هادي مقصودي الذي اعتُقل ووُضع رهن الإقامة الجبرية ثم نُفيَ ثلاث سنوات، ثم اعتُقل مجدداً. بُرئت ساحته سنة 1939 وتوفي سنة 1941. واعتُقل الصحفي الإصلاحي التتري فاتح كريمي سنة 1937 بتهمة العمالة والتجسس لصالح تركيا، ثم أُعدم في نفس السنة. طال البطشُ الأديبَ والمؤرخ والمصلح الأوزبكي عبدالرؤوف فطرت البخاري الذي اعتقله نظام ستالين ضمن الحملة التعسفية التي شنها على المثقفين الوطنيين التركستانيين والتتار والقوقازيين، فأُغلقت مدارسهم ومطابعهم وصحفهم. اتُهمَ البخاري بالقومية و"معاداة السوفيتية" ثم حكم عليه بالإعدام في طشقند في 1938، ومُنع تداول كتبه بعد موته. وكانت خطوة تغيير أبجدية لغات الشعوب المسلمة إلى اللاتينية أولاً سنة 1929، ثم إلى الأحرف الكيريلية (وهي أبجدية مطورة عن اليونانية) ثانياً سنة 1939 بمثابة حرمان الشباب المسلم من الوصول إلى التراث المعرفي الثقافي للأمة الإسلامية.
وفي ثلاثينيات القرن العشرين، ازدهر الإسلام في اليابان وشبه الجزيرة الكورية وفنلندا بسبب لجوء المهاجرين المسلمين من روسيا إليها هرباً من الاضطهاد الشيوعي. أسس هؤلاء المهاجرون مؤسسات منها الجمعيات والمطابع والصحف والمدارس والمساجد وطبعوا المصحفَ الشريف باللغة العربية. وبمبادرة من بعض العلماء العاملين تأسست في الستينيات في بعض القرى السوفيتية ذات الأغلبية المسلمة مدارسُ إسلامية أهلية سرية في بيوت المسلمين وأقبية دورهم بعيداً عن أعين السلطات الشيوعية، لا سيما في منطقة وادي فرغانة الممتد عبر أوزبكستان وقيرغستان وطاجسكتان. سُمّيت هذه المدارس "الحُجُرات" واستمرت بالعمل سراً حتى سقوط الاتحاد السوفيتي في 1991. الضعف الذي سبق سقوط الاتحاد السوفييتي في أواخر الثمانينيات أتاح المجال أيضاً لإنشاء حزب النهضة الإسلامي سنة 1990 في مدينة أستراخان جنوب روسيا. حمل الحزب أفكار حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومنهجه.
مع عودتها إلى العالم الإسلامي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، شهدت الجمهوريات ذات الغالبية الإسلامية في وسط آسيا إقبالاً نحو التدين وبناء المساجد ومدارس العلوم الدينية، وشهدت نشوء العديد من الأحزاب السياسية ذات التوجهات الإسلامية.
ومع ارتفاع شعبية هذه الأحزاب، اصطدمت بعض هذه المجتمعات بتعنت الأنظمة الحاكمة، لكن يمكن القول إن فكرة الإصلاح الإسلامي، وفي القلب منها حركة الجديد، مهّدت الطريق للحفاظ على هوية هذه الشعوب الإسلامية. فقد استلهمت الحركاتُ الإسلامية عقيدتَها السياسية من الحركات الإسلامية الإصلاحية في العالم الإسلامي والحركات القومية التركية، وتجلت نهضتُها الثقافية اليوم بإصدار الكتب والصحف وتأسيس المطابع والمدارس، مروراً بالجانب الاقتصادي والاستثمار في مجال النفط والتجارة، إلى السياسي بوجود نواب مسلمين إصلاحيين في مجلس الدوما الروسي.
