يعتقد كثيرون أن الثورة الإسلامية سنة 1979 كانت نقطة انعطافٍ في تاريخ السينما الإيرانية، بَيد أنّ السينما الإيرانية كانت قد بدأت ثورتها في أيام الشاه لتحتلّ في سنواتٍ قليلةٍ بعد الثورة مكانةً رفيعةً عالمياً. لإيران رصيدٌ سينمائيٌ راسخٌ بدأ مع عرض أول فيلم في طهران سنة 1912. يُتداول تاريخ السينما الإ]رانية السابقة للثورة غالباً لإبداء صورٍ تبدي انفصالاً عن واقع ما بعد الثورة، ويظهر ذلك في صور ممثلاتٍ بلا حجاب يرتدين ملابسَ كاشفةً أحياناً وفي وضعياتٍ لا تخلو من الإغراء. صورٌ تطغى أحياناً على حديثٍ جاد عن سينما ما قبل الثورة، وتبدو كأنها شيء من تحسّرٍ على ماضٍ مقابل حاضر ٍيحكمه نظام يقيّد الفنّانين ويفرض عليهم شروطاً صارمةً. ولا يعني ذلك إنكار ما قدّمته هذه السينما لإيران المعاصرة رغم التضييق الحكومي. فكيف إذن تمكنت سينما ما بعد الثورة من الوصول إلى هذه المكانة رغم العوائق؟ لدراسة المفاهيم المختلفة للعلاقات القائمة بين الإسلام والسينما في الجمهورية الإسلامية، يقتضي هذا عودةً إلى تاريخ السينما الإيرانية الحافل بالخضوع لشتّى التأثيرات السياسية والاجتماعية والدينية وبالتأكيد الضغوطات الرقابية.
لكن المحاولات السينمائية تتابعت بفضل أقلياتٍ مهاجرة خبيرة من أصل روسي وأرمني هاربة من الثورة الروسية البلشفية التي اندلعت سنة 1917. كان أشهرهم آوانيس أوغانيان الذي درس السينما في موسكو، وكان أحد دعائم السينما الإيرانية ومؤسس مدرسة لها في طهران. أنتج أوغانيان فيلم "آبي ورابي" سنة 1930، ثم جاء فيلمه الثاني "حجي آغا ممثل سينمائي" سنة 1932 الذي تناول بتهكمٍ قصة "مُلّا" يرفض بعناد انتشار السينما في البلاد إلى أن يرضخ في نهاية الأمر. توافق الفيلم مع مزاج رضا شاه لتحديث البلاد بالقوة ضد التقاليد، وكان قد وصل إلى الحكم سنة 1925 بعد انقلابه على آخر ملوك السلالة القاجارية متوّجاً نفسه باسم رضا شاه البهلوي.
أول فيلم فارسي ناطق أخرجه سنة 1933 عبد الحسين سِبنتا وأردشير إيراني بعنوان "بنت من لرستان" وصُوّر في الهند، واعتُبر دعايةً لإدارة الشاه المركزية لتصويره إصرار أحد موظفي الحكومة القضاء على قُطاع الطرق في منطقة لرستان وإنقاذ فتاةٍ فيها. كان سبنتا أول من خضع للرقابة السينمائية في إيران، فقد اقتُطعت مشاهد من فيلمه "الفردوسي" المعروض سنة 1934 بعد اعتراض الشاه عليها. كان إنتاج الفيلم بمناسبة مهرجان "ألفية الفردوسي"، نسبةً إلى الشاعر القومي أبي القاسم الفردوسي المولود في السنة الميلادية 940، وعكَس الفيلم أفكاراً قومية بدأت تطفو على السطح بتحفيزٍ من الشاه. اهتمت السينما الإيرانية الناشئة تلك الفترة بمواضيع آنية مثل الهجرة من الريف للمدينة والتحول إلى أخلاق الطبقة المرفهة مع صعود طبقةٍ تجاريةٍ جديدةٍ ترافقت وظهور النفط.
عورضت السينما معارضةً دينيةً شديدةً وتأثرتْ بتحولاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ فرَضها رضا شاه الذي حظر حزب "توده" الشيوعي الإيراني، لإسهاماته في الأحداث الداخلية والاحتجاجات المعارضة للسلطة. ومُنع فن الأداء الشعبي أو التعزية ومُنع ارتداء "الشادور" وهو لباس تقليدي تلبسه نساء إيران، عباءة سوداء في المدن وملونة في القرى.
ساهم تعيين الحلفاء محمد رضا سنة 1942، بعد عزل والده لقربه من ألمانيا أيام الحرب العالمية الثانية، في إغراق دور العرض بأفلامٍ غربية ودعايات أمريكية. توافقت سينما ما بعد الحرب مع متطلبات المرحلة ولبّت أذواق الطبقة الوسطى الصاعدة، فتزايدت موجة الأفلام العاطفية والترفيهية. وفي سعي الحكم لترسيخ صورة الحداثة، لم تظهر النساء محجبات في الأفلام إلا حين اقتضى الدور ذلك.
اشتدت الخلافات بين الشاه ورئيس الوزراء محمد مصدق بعد أن أمّم الأخيرُ النفطَ سنة 1951، وأثّرت الأحوال المأزومة على وضع السينما الإيرانية، لكن تجربة الديمقراطية انتهت بالانقلاب على مصدق بتدبير المخابرات الأمريكية وإعادة الشاه للحكم. تهيأت البلادُ للمزيد من الاضطرابات والاحتجاجات الشعبية، وبذريعة إقصاء التأثيرِ السوفييتي ونشاطاته الثقافية، مُنعت أفلام تنتقد الواقع. وكان الاقتراب من الحقيقة محظوراً، فمُنع فيلم المُخرج فرخ غفاري "جنوب المدينة" (1958) الذي كان أول فيلم خرج صانعوه لتصوير البؤس في المجتمع الإيراني. بقيت السينما الإيرانية حتى منتصف الخمسينيات مشروعاً تجارياً مع زيادة الإنتاج السنوي وارتفاع عدد قاعات العرض وازدياد دور الرقابة.
لم تكن مرحلة الستينيات أفضل حالاً، فقد حفلت أيضاً بالاضطرابات السياسية والأزمات مع قانون الإصلاح الزراعي والانتفاضة الشعبية التي قادها الخميني سنة 1963 مستفيداً من الاستياء العام ضد البهلوية والاحتجاجات على القمع. وقد نُفي الخميني بعد الانتفاضة إلى العراق سنة 1965.
كان هذا حافزاً لظهور مجموعة من السينمائيين الشباب لديهم رؤية جديدة للمجتمع عزّزها تدفق الأفلام الفنية على البلاد. فكانت أفلام مثل "المنزل مظلم" (1962) للشاعرة فروغ فرخزاد، الذي اعتُبر أهم فيلم في مطلع الستينيات لشاعريته. وفيلم "ليل الأحدب" (1964) للمخرج فرخ غفاري، المقتبس عن قصة في "ألف ليلة وليلة"، والذي شكّل انعطافاً في السينما الإيرانية بسبب أسلوب إخراجه الحديث. أُنتج كذلك فيلم "القرميد والمرأة" (1965) لإبراهيم كلستان، وهو عن سكان المدينة وعلاقاتهم والروابط التي تجمعهم. وبرز "زوج الست آهو" (1968) لداوود ملا بور والمقتبس من رواية لعلي محمد أفغاني تحمل الاسم نفسه. عُرض هذا الفيلم بعد منعٍ أوّليّ، ويروي في تصويرٍ واقعيٍ للحياة في المدينة قصةَ امرأةٍ يقع زوجها في حُبّ شابةٍ فيتزوجها ويحضرها لتعيش معهما.
وتحت تسمية "الموجة الإيرانية الجديدة"، برز في السبعينيات توجّهٌ فكري وثقافي أكثر حيوية، فاغتنت الأفلام برؤيةٍ جديدة ونغمةٍ فلسفية وشعرية ونهلت مواضيعها من الأدب الفارسي. كان ذلك مع المخرجَين بهرام بيضائي وشهيد ساليس الذي أبدع فيلمين مثّلا الواقعية الجديدة مع "حدث بسيط" (1973) و"حياة ساكنة" (1974). تزايد قمعُ الشاهِ الأنشطةَ الثقافية والسياسية في تلك الفترة، وطال المنعُ أفلاماً تتحدث عن وضع البلاد وسيادة الاستهلاك الناتج عن الثروة النفطية، مثلما حصل مع فيلم "أسرار كنز وادي الجن" (1971) لإبراهيم كلستان، الذي كان أحد روّاد الموجة.
وفي عامٍ مصيري للمجتمع الإيراني والسينما الإيرانية، خرج فيلم "تقرير" (1978)، ثاني أفلام عباس كيارستمي، الذي صوّر في أسلوبٍ جديدٍ مللَ الحياة الحضرية. وعرض فيلم فيلسوف السينما الإيرانية داريوش مهرجويى "الدائرة" المأخوذ عن قصة لغلام حسين ساعدي، الطبيب والكاتب والشاعر الإيراني الذي ذهب للمنفى لاحقاً معارضةً لنظام الخميني.
خضعت السينما الإيرانية لرقابةٍ سياسيةٍ دقيقة في العهد البهلوي، بين عامي 1925 و1979، ولم تنجُ من نظرةٍ مرتابةٍ لرجال الدين ومعهم جزءٌ كبيرٌ من عامة الناس وجدوا في الفن السينمائي ابتكاراً غربياً وشيطانياً قائماً على الجنس والعنف. وما ساهم في نشر هذه النظرة تشجيعُ العهد البهلوي السينما لنشر نمطٍ أخلاقي وثقافي غربي، واعتبر مثقفون أن قيَم السينما الأجنبية تتناقض والثقافة الوطنية.
ولكن بعد سنوات من فوضى الثورة، اكتشف المسؤولون في فيلم مهرجويى "البقرة" المصوّر أيام الشاه نوعاً مختلفاً عن تلك النظرة السلبية. ما يهمّ أنّ الفيلم لفت أنظار الخميني وأنه كان الشرارة. ومهما كان الأمر يقيناً أو مبالغةً فإن دلالاته هي المهمة، واختياره بالذات ليكون محطّ قبول السلطات العليا مؤشر إلى تغيّر النظرة إلى السينما. اعتُبر الفيلم فجراً جديداً للسينما الإيرانية وغيّر تعريفها، وكما كتب الناقد الإيراني حميد دباشي: "أعطى مهرجويى ما لم يستطعه أحد من قبل للسينما الإيرانية، طابعاً واتجاهاً، وأفصحَ عن إمكاناتها وجعلها محطّ اهتمام العالم". من عملٍ مبني أيضاً على قصة للكاتب غلام حسين ساعدي، شكّل الفيلم دراسةً عن علاقة قرويٍّ ببقرته، وتعلّقه بها لدرجة أنه جُنّ بعد موتها وتحوّل سلوكياً إلى بقرة.
لم يكن "البقرة" فيلماً دينياً ولم يكن الدين موضوعه. إنه فيلم يتعلق بجماليّة الفن المقدس، لكنه يهمّ الدين لأنه يمثل أحد أبعاد الحياة الاجتماعية في قريةٍ إيرانيةٍ فقيرة تقع في مكانٍ بائس، يؤدي السكان المؤمنون الشعائر بانتظام صارم. هذا لا يمنعهم من أن يظهروا في البداية قساة ظالمين وضيّقي الأفق في يومياتٍ تسير على منوالٍ واحد. فحين يتعرض مجنون القرية لسوء معاملة الأطفال، فهذا يحدث دون اعتراضٍ حقيقيٍ من هؤلاء المؤمنين الصالحين. وعند وجود عداوةٍ قديمةٍ تضع القريةَ في مواجهةِ قريةٍ مجاورة بائسة هي الأخرى، لا يفكر أحد في مصالحةٍ محتملة. إنها أجواء يسودها الشك وقسوة القلب، لذلك يمكن اعتبار الفيلم بمثابة انتقاد ممارسةٍ دينيةٍ لا تغيّر قلوب الرجال بأيّ حال من الأحوال. ومع ذلك عندما ينزلق القروي، الشخصية الرئيسة، إلى الجنون بعد فقدان بقرته، يُظهر الجميع تضامناً كبيراً معه ويسعون إلى مساعدته كاشفين عن إنسانيةٍ عميقة. هذا الانتقال من القسوة إلى التضامن الإنساني يُعدّ أحد القوى الدافعة للفيلم.
حين يقال إن فيلم البقرة أعجبَ الخميني الذي كان يكتب الشعر، وبالتالي يُفترض أنه يتمتع بحساسية فنية معينة، فهل سمح له هذا بتقدير جمال الفيلم وبعُده الإنساني والنفسي، وهل كانت له رؤية خاصة بشأن أخطار الدين الرتيب؟ يقول الباحث الفرنسي وعالم الإسلاميات كريستيان بونو في كتابه "إمام خميني نوستيك موغينو" (الإمام الخميني عارف مجهول من القرن العشرين)، المنشور سنة 1997، إن أعمال الخميني الفلسفية قبل أن ينحى المنحى السياسي تتبنى الفكرة القديمة للفلاسفة العرب والفرس في العصور الوسطى، فيذكر أنه "يجب أداء الشعائر الدينية ليس فقط لأنها إلزامية، ولكن لأنها تجعل الروح أفضل، وهذا هو سبب وجودها". لا تأكيدات أو دراسات معمقة تؤكد فيما إذا كان قبول الخميني الفيلمَ قائماً على انتقاد الفيلم "الدين الروتيني"، بينما رأى في العودة التدريجية نحو التضامن الإنساني تعبيراً عن تجربة راسخة في التقليد الديني كما فهمه. أو لربما اعتقد أنه قادر على إيقاظ شعبٍ غافل منقسم على نفسه، أو لأنه بدا تجسيداً لسينما تهتم بالمحرومين قياساً بالسينما الاستهلاكية في عهد الشاه.
مع تقدير سينماه بعد الثورة إلا أن داريوش مهرجويى بات أهمّ ضحايا العهد الجديد وخسارة سينمائية كبيرة للثورة الإسلامية، ولا سيما بعد رحيل ساعدي سنة 1985، فهو لم يجد في هذه الثورة ما يحفّز تطلعاته لاختلافه الجوهري معها في المبادئ والأفكار. تجلّى هذا في فيلمه "خليط" (2000)، وهو محاكاة ساخرة لصناعة الأفلام في الجمهورية الإسلامية، الذي بدا "كأنه جنازة مسيرة حافلة وانهيار جيل مبدع". ولم يرقَ كلّ ما حققه فيما بعد "إلى رؤى طبعت جيله وأعماله السابقة ولم تجد في الثورة الإسلامية ما يحفّز تطلعاته"، وهو ما قاله الكاتب والناقد الإيراني حميد دباشي في كتابه "كلوز آب: إيرانيان سينما، باست، بريزينت، أند فيوتشر" (لقطة مقربة: السينما الإيرانية، ماضياً، حاضراً، مستقبلاً)، المنشور سنة 2003.
بعد الثورة مباشرة ولانعدام ضوابط محددة لصناعة السينما في إيران سيطرت حالة من الاضطراب والفوضى، ثم بدأت مرحلة دراسة المطلوب منها في ذلك العهد سنة 1983، في ظل ارتباكٍ ساد المرحلة الأولى وتساؤلات حول تعريف السينما الإسلامية. اتُّخذت قرارات مثل الحفاظ على "كانون" وهو معهد التطوير الفكري للأطفال والناشئين، الذي أسسته فرح ديبا زوجة الشاه في الستينيات، وكان ينتج أفلاماً ووثائقيات للأطفال، ومنه بدأ المخرج عباس كيارستمي. وأُنشئتْ مؤسسة "الفارابي" التي ترتبط بوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي لدعم الفيلم الإيراني بالمال والمواد الخام، وكانت عاملاً رئيساً في نهوض صناعة السينما الإيرانية.
قررت إيران الاحتفاظ بالفن السابع لخلق سينما إسلامية لم توجد قبل في أي مكان، وكان على الدولة أن تتدخل وتفرض نظرتها التي تمنع التأثيرات الخارجية وأن تساهم في الإنتاج لتضمن تأثيراتها، فصودرت العديد من دور السينما وشركات الإنتاج السينمائي ووُضعت تحت إشراف الحكومة (كان هذا قبل أن تنسحب الدولة ويعود القطاع الخاص). وتابعت الجمهورية الإسلامية سياسة السينما العامة بمؤسسات مختلفة، بعضها ملحق بوزارة الثقافة والبعض الآخر يخضع مباشرة لسلطة المرشد الأعلى، ووُضعت أهداف للسياسة المتعلقة بالسينما الإيرانية وهي "إشراف ودعم وإرشاد".
كان الهدف من السينما الإسلامية إعطاء مواعظ أخلاقية للشعب، وجعل السينما ناقلاً نقياً للتوجهات والسياسات الحكومية. بدأ تطبيق نظم أخلاقية جديدة على الأفلام تمثلت في "تنقيتها"، ما ينعكس من وجهة نظر الحكومة إيجابياً على الثقافة والمجتمع. كان يُحظر أي فيلم لا يتوافق مع المعيار الإسلامي، وهو تعريف ظلّ غامضاً، ما سمح للمخرجين باللعب عليه. ولتطبيقه، فُرضت رقابة على الأفلام تخلّصها من "الجنس والعري والعنف" الذي تتصف به الإنتاجات الغربية، وفُرض الحجاب على الشخصيات النسائية حتى في غرف النوم. كذلك حُددت القواعد الشكلية لعلاقة الرجل والمرأة، فكانت العلاقات العاطفية والجنسية تظهر بالإيحاء، بالنظرة واللفتة واليد الممدودة في الفراغ وإغلاق الأبواب. ورُسمت قواعد ظهور رجال الدين ومسؤولي النظام باعتبارهم قدوة أخلاقية، وأسماء الأماكن والشخصيات. الاسم حسين مثلاً، لا يمكن أن يُعطى لشخصياتٍ سيئة. ومنذ تنظيم مهرجان "فجر" (فجر الثورة الإسلامية) السينمائي في طهران سنة 1982، سادت الرؤية الإسلامية عن الأفلام الدولية المشاركة التي يجب أن تتوافق مع "ثقافة إيران ودينها".
في مواجهة هذا، وبين هجرة بعض السينمائيين وبقاء بعض آخر، لم تختلف قرارات السينمائيين الإيرانيين بين أمس واليوم كثيراً. حينها قرر بعض السينمائيين، ومنهم مؤثرون ومهمون مثل المخرج سهراب شهيد سالس، مغادرة البلاد مباشرةً بعد الثورة أو فيما بعد، حين تعذّر عليهم التأقلم مع الظروف والشروط الجديدة، مثل أمير نادري وبهرام بيضائي ومحسن مخملباف. لكن كثيرين بقوا مثل عباس كيارستمي وداريوش مهرجويى ومسعود كيميائي وعلي حاتمي وناصر تقواي، وإن كانت أفلامهم ما قبل الثورة لم تعد تُعرض بسبب القوانين الجديدة على السينما.
أَجبرت قوانين الثورة الإسلامية هذه صانعي الأفلام على استخدام البراعة في الإنتاج، في سياق رقابةٍ ركّزت على السيطرة على الأخلاق والسياسة، وكانت باستمرار حافزاً لشحن الذهن لإيجاد أفضل السبل لتجاوز معاييرها والتغلب عليها. وهكذا بات التحايل عليها علامةً فارقة ومميزة للسينما الإيرانية. فحين لا يمكن قول فعل ما أو إظهاره، لجأ المخرجون إلى الرمزية أو إلى التعبير بوسائل أكثر رهافة. وكما قال أحد المخرجين ساخراً لزميلٍ له عانى من الرقابة: "عليك أن تكون فخوراً لأنهم طلبوا منك إزالة عدد من المشاهد لأن هذا يصبّ في مصلحتك في نهاية الأمر"، بحسب مقابلةٍ خاصة أجريتها.
عاشت السينما الإيرانية فترة ازدهارٍ نسبي في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي بين عامي 1997 و2005. ثم شهدت أزماتٍ مصيرية حين وصول المحافظين إلى السلطة، فاتجهت العلاقة بين السينمائيين ومسؤولي وزارة الثقافة إلى شبه قطيعة، ولا سيما في ولاية الرئيس محمود أحمدي نجاد الثانية بين عامي 2005 و2013.
شكلت أحداث ما بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية سنة 2009 منعطفاً آخر في تاريخ السينما الإيرانية وفرضت أسلوباً جديداً في التعامل بين المسؤولين والسينمائيين، وصُنف بعض العاملين في السينما بعد تأييدهم لمرشح الإصلاحيين في خانة "المعارضين"، تمييزاً لهم عن "الموالين" الذين يحظون بمعاملة مختلفة.
استدعى هذا عدداً من كبار مخرجي السينما الإيرانية المستقلة، ومنهم عباس كيارستمي وأصغر فرهادي وبهرام بيضائي ورخشان بني اعتماد، للتعبير عن قلقهم لما آلت إليه أحوال سينما صنعت شهرة الأفلام الإيرانية عالمياً بسبب الرقابة والمنع. ظهر هذا الاعتراض جلياً عند مقاطعة سينمائيين مهرجان فجر في فبراير 2010 بسبب مواقف الحكومة من المعارضة. وأعلن كيارستمي عدم رغبته صنع أفلام في إيران لأنه لا يرغب بلقاء مسؤولي السينما الإيرانية الذين يأملون اختفاء السينما المستقلة. وهاجر آخرون لعدم تمكنهم من العمل بحرية - وإن نسبية - في إيران مثل بهمن قبادي. وكان مخملباف الثوري السابق الذي انقلب على الثورة الإسلامية بعد أن كان مؤمناً بها وأخرج أكثر من عشرين فيلماً أثناء حكمها وغادر إيران سنة 2005 بعد فترة قصيرة من وصول أحمدي نجاد إلى الحكم. غضبت عليه السلطات أكثر بعد زيارته إسرائيل وعرض فيلم له في أحد مهرجاناتها في القدس وفي المركز العالمي للبهائية، الممنوعة في إيران، في حيفا.
ولكن الذروة كانت حين أُوقف جعفر بناهي ومحمد رسول أف نهاية 2010، بسبب تصويرهما فيلماً بالسرّ عن الاحتجاجات الشعبية التي رافقت إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية. صدر حكم بالسجن ست سنوات على جعفر بناهي مع منعه من مغادرة البلاد وصناعة الأفلام وكتابة النصوص وإجراء المقابلات مع الإعلام المحلي أو العالمي مدة عشرين سنة. بَيد أنه احتفظ بحرية الحركة في طهران. سعت الحكومة إلى التمايز عن السلطة القضائية التي أصدرت الحكم، فأعلن نائب الرئيس للشؤون الثقافية أنه "لا يشاطر قضاء بلده الرأي في منع جعفر بناهي من العمل لمدة طويلة"، وأكّد أن لرئيس الجمهورية، أحمدي نجاد، الموقف نفسه: "السيد بناهي أوقف من السلطة القضائية ولم يكن هذا بتعليماتٍ من رئيس الجمهورية ولا الحكومة". وفي هذا إشارة لتعدد مراكز القرار في السلطة وإلى التغاضي عن تسريب جعفر بناهي خمسة أفلام للعرض في المهرجانات الدولية التي تتلقف بحماسٍ شديد كل ما يصدر عن هذا المخرج المعارض لنظام الملالي.
ولم يختلف الأمر مع المخرج محمد رسول أف الذي أنتج ثلاثة أفلام رغم المنع والمراقبة، وكلها تنتقد النظام بشدة. ويقال إنه كزميله بناهي يُخرج شرائطه من إيران سراً لتصل إلى المهرجانات الأهم في العالم بالوقت المناسب، كما حصل مع فيلمه الأخير "بذرة التين المقدس" الذي فاز بجائزة التحكيم في مهرجان كان السينمائي في فرنسا سنة 2024. لا يرقى هذا الفيلم إلى أفلامه الأولى، ويمثل نموذج الفيلم المعارض وتأثير الدعاية السياسية على أفلام المخرجين الإيرانيين المناهضين علناً لسلطات بلادهم.
وصرّح رسول أف في 2020 أن السلطات تريد خنق سينما المؤلف في إيران. وأنه، مع معرفته بالتهديدات التي قد تلاحقه، سيعود دائماً لأنه "إيراني ويصنع أفلامه في إيران". وأن "الوضع لن يتغير إن بقينا في الخارج"، مع أن عائلته تقيم في ألمانيا، ولكنه قرر اليوم البقاء في الخارج بسبب الضغوط المتزايدة.
من المؤكد أن وضع السينما في إيران اليوم أسوأ مما كان في عهد أحمدي نجاد، برأي سينمائيين كثر، ولكن السينما الإيرانية تستفيد في شهرتها العالمية من الوضع السياسي وسيطرة رجال الدين.
ظهرت مواقف مختلفة بشأن الدين والإيمان ووظائفهما في مجتمع الجمهورية الإسلامي. بالنسبة للبعض، كانت السينما الإيرانية الدينية تتلخص في نهاية الأمر في مفهومٍ شكلي وسياسي يتناسب مع الجمهورية الإسلامية. ويجب على السينما الإيرانية أن تعكسه فتقدّم في الحياة اليومية مجتمعاً يحترم بصرامة المعايير الإسلامية، مثل ارتداء الحجاب واللحية واحترام الزيّ الإسلامي والصلاة والصوم، ويرفض كل فساد أخلاقي. في حين رأى آخرون أن السينما الدينية هي القادرة على ترجمة سرّ العلاقة التي تربط الإنسان بالله، ومن شأنها أن تعبّر عن البعد الداخلي بعكس الرسالة الأساسية للإسلام، مع إقرار بالفشل من هذه الناحية، رغم حوافز الدولة. منذ الثورة لم يظهر ما يعبّر عن "التاريخي الملحمي الديني" سوى فيلم "يوم الحدث" في 1995 للمخرج شهرام أسدي، عن سيناريو لبهرام بيضائي 1995. يحكي الفيلم قصة مسيحي عربي سمع دعوة تأمره بالوصول إلى مدينة كربلاء في أسرع وقت يوم زفافه، ولكنه يصل إلى مكان المأساة حيث قتل الحسين بعد فوات الأوان.
يبيّن ما نرصده في السينما الإيرانية أن معظم الأفلام لا تتناول الدين مباشرةً. قد يعود الأمر إلى حساسية الموضوع، أو لأنه لا يشكّل بالضرورة مركز اهتمامات المخرجين. ورغم الاضطرار إلى احترام قواعد "السينما الإسلامية"، فإن هذا لا يمنع بعض المخرجين من ملامسة الروحانية، بل والسخرية من رجال الدين. وتظهر هذه العلاقة الجدلية بين الدين والسلطة في السينما الإيرانية ما بعد الثورة، وفي القلب من هذا العلاقة بين الفن والدين، في ثلاثة مستويات.
المستوى الأول يتمثل بوجود حقائق دينية في العمل الفني، ويمكن لهذا العنصر أن يكون مركزياً أو ثانوياً تماماً. وفي هذه الحالة تظهر مؤشرات الممارسة الدينية في كل مكان تقريباً وحتى في العمل إنّما في الخلفية. وسواء أكانت هذه الحقائق الدينية في المقدمة أم في الخلفية، فيمكن التعامل معها بتعاطف أو بروحٍ نقدية أو تقبّلها دون مشاعر خاصة. في المستوى الثاني هناك فنّ ديني بالمعنى الوظيفي، أي أن تكون الأعمال الفنية في خدمة الدين، والهدف منها تشجيع الممارسة الدينية. أما المستوى الثالث فهو الفنّ المقدس، وهذا الذي يجعلنا نشعر بحضور الغيبي، بحضور الله، أي استحضار البعد الروحاني وإثارته.
الحياة الدينية تشكّل أحد أبعاد الحياة الإيرانية، وسواء كانت في المقدمة سينمائياً حين يركز العمل عليها وتكون موضوعه الرئيس أم حين تكون في الخلفية، فإنها حاضرة بقوة في السينما الإيرانية. يظهر ذلك في مشاهد سريعة تركّز على شخصيات تؤدي الصلاة أو تلتزم حجاباً صارماً أو تزور الأضرحة وتستنجد عند الأزمات بالله والإمام علي وبقية الأئمة. ويظهر الحضور الديني في اختيار أسماء دينية مثل علي وحسين ورضا لتكون مثالاً لحسن السلوك والنبالة، مظاهر تبدو واقعية في تعبيرها عن مجتمع محافظ وحتى أقل محافظة، عفوية تارة ومتعمدة تارة أخرى، وفي هذه الفئة يحضر الدين أيضاً مركزاً للفيلم، سواء لأهميته في حياة الشخصية أو للسخرية من بعض مظاهره أو شخصياته.
في فيلم "وحيدة كل ليلة" (2007) لرسول صدر عاملي، يزور إذاعي معروف مرقد الإمام الرضا في مدينة مشهد، ويقضي الليلة هناك بعد معرفته بمرضه واقترابه من الموت، زيارة تقرّبه من الله في النهاية. وفي "تحت ضوء القمر" لرضا مير كريمي (2001)، شاب مؤمن يصل إلى نهاية دراسته في مدارس دينية ويتساءل عن العلاقة بين الإيمان والمؤسسات الدينية وواجب "المُلّا" في أن يكون قريباً قدر الإمكان من المؤمن والفقراء، بدلاً من الاقتصار على التفكير الديني العقائدي. وهكذا تُتناول محظورات الطعام والطقوس وقدسية الأشياء ومراقبة الأخلاق في الجمهورية الإسلامية بالسخرية منها أحياناً، ولكن فقط على مستوى العقيدة الفردية. ومع تكريس الفيلم أهمية المؤسسة الدينية في مواجهة الممارسة الحرة والمستقلة للدين، إلا أنه يشكك في مكانة الملا في نظام إسلامي، ورغم هذا عرض الفيلم دليلاً على فتح مجال التعبير منذ سنة 1997. لكن هذا الانفتاح لم يطلْ فبعد توجيه فيلم "السحلية" (2004) لكمال تبريزي نقداً جريئاً لرجال الدين، مَنعت السلطات عرضه، ولكنه بات من أشهر الأفلام الإيرانية.
في المقابل، ترمي السينما الإيرانية الدينية الوظيفية إلى تعزيز المعتقدات والممارسات والعبادات، وتعتمد أسلوباً أقرب إلى الدعاية أو المبالغة العاطفية. لا وجود فيها لمتشكك، بل تقدّم الإنسان في حركةٍ إيجابية تصاعدية فيما يتعلق بالإيمان. يمكن اعتبار أفلام مجيد مجيدي خير مثال لأفكار مماثلة، فهي تقود نحو توجيهات أخلاقية وتعمل على هزّ المشاعر وما يجب على المشاهد أن يشعر به تجاه الدين، هي سينما - حتى حين تتناول الديني - فإننا لا نعثر على الخالق في نهاية الطريق. وينتمي إلى هذه الفئة الوظيفية كذلك تيار مهم في السينما الإيرانية يُسمّى "الدفاع المقدس"، وهي أفلام الحرب "المفروضة" على إيران من العراق كما تسمّيها السلطات. لا تصور غالباً كحرب معاصرة فقط، بل تُربط بالأساطير الشيعية في كربلاء، لتبدو حرباً ملحمية ملأى برموز إسلامية (منها الحسين ونبوءة الشهادة وفرس الرسول وموت المقاتل الشجاع عطشاً وغيرها من الرموز)، دون أن يعني حضور هذه الرموز تحوّل الفيلم إلى فن مقدس.
في المستوى الثالث، يوجد التماهي مع الروحاني، ويظهر كثيراً موضوع الموت والسر الذي يوحّد الإنسان بالله والآليات التي تدفعه إلى الشهادة والتفاني والتضحية والإيمان كسلوكٍ متروك له لاتخاذه في أفلام "الدفاع المقدس". تجلى ذلك في فيلم المخرج إبراهيم حاتمي كيا "مراقب" (1988) الذي يركز على الرحلة الداخلية لجندي يواجه الموت وحيداً مع خوفه وشكوكه وإيمانه.
مع أن الثقافة الإيرانية توفر أرضاً خصبة للتصوف المقدس، التي تتمثل بروح التضحية ونكران الذات، فمن المفارقة أن الأعمال التي تندرج ضمن ما عُرف بأنه "الروحانية المقدسة" هي التي تثير أكبر قدرٍ من عدم الثقة من جانب السلطات الدينية والزعماء السياسيين. لقد حاول محسن مخملباف في أعقاب الثورة، وكان مخرجاً شاباً ثورياً آنذاك قبل أن ينقلب بالكامل على الثورة، السير على هذا الطريق في فيلمه "التوبة من الناس" (1982) الذي يهدف إلى إظهار خلاص الروح في الحياة اليومية للثوار، ولكن وضوح الفيلم ومباشرته لا تصل إلى سرّ الدين ولا إلى الجمالية القادرة على إقامة علاقة مع المقدس.
إن المعلّم في هذا المجال الروحي هو عباس كيارستمي الذي لا يعتمد الديني في سرده إنما في تصويره الطبيعة والأخلاق وتجاوز الذات. إنه يمنح الوقت لمشاهده ويدفعه عبر مناظر طبيعية ساحرة ومضمونٍ شاعري عميق لينسج بنفسه علاقةً فردية مع الفيلم وليصل إلى تأويله الخاص دون تأثيرٍ عاطفي، فيعطي مشاهده "خيار أن يكون مسؤولاً عما يرى أو لا يرى"، كما تقول آنييس دو فيكتور في كتابها "بوليتيك دو سينما إيرانيان: دو لا آية الله خميني أو بريزيدينت خاتمي" (سياسة السينما الإيرانية: منذ آية الله الخميني حتى الرئيس خاتمي)، المنشور سنة 2013.
في فيلم "أين منزل الصديق" (1987)، يرفض الصبي الصغير أوامر الأسرة والمجتمع، بل ويلجأ إلى التحايل والكذب البريء للوصول إلى الهدف الأهم أخلاقياً بالنسبة له، إلى الطريق الصواب: تسليم صديقه دفتر الواجبات المدرسية الذي وضعه بالخطأ في محفظته. يلمس كيارستمي المقدس وليس الديني. واقترابه من المقدس شخصيّ حين يدعو المشاهد إلى تأويله الذاتي، تاركاً له أمام لقطات واسعة حرية اختيار التفاصيل، وألا يكون محكوماً برؤية واحدة بما يرى ويسمع. إنه ضد سلطة لا تسمح بالتأويل الذاتي الحرّ، وفي دعوته إلى تأمل الخلق والمخلوق يمسّ عباس كيارستمي جوهر الحياة والخلق.
ومع هذا المفهوم الروحاني والعلماني للسينما، فإن عباس كيارستمي "يجد الله في نهاية الطبيعة". ومع ذلك، تعتبر السلطات أعماله مشبوهة، ولم يحصل فيلمه "طعم الكرز" (1997) على تصريح بالعرض في إيران إلا بعد عامين من فوزه بالجائزة الذهبية في مهرجان كان.