ثورة ابن البرهان على المماليك.. بين أساطير الاستشراق وإشكاليات استعادة الماضي

تكمن أهمية استعادة تاريخ الثورات بالتراث الإسلامي في دحض الروايات الاستشراقية التي تُصوِّرُ العربَ والمسلمين خانعين للسلطة، وتُبيِّن دور العلماء والمثقفين في العمل ضدَّ السلطة. وتُعطي دروساً لمن يُحاول استدعاء أنماط حكم زالت وانتهى زمانها.

Share
ثورة ابن البرهان على المماليك.. بين أساطير الاستشراق وإشكاليات استعادة الماضي
لمصر أكثر من ثورة حقيقية تحتفل بها بغضّ الطّرف عن واقعها اليوم/ تصميم خاص بمجلة الفِراتس

وقف العالم الظاهري ابن البرهان مقيَّداً بين يدَي السلطان المملوكي برقوق غيرَ هيَّابٍ ولا وجل. فهو قبل أن يؤتى به عَقدَ عزمَه منذ سنين على الثورة عليه وإزالة حُكمه وإعادة السلطة لمن هو أحقُّ بها وفقاً لمذهب ابن البرهان ومعتقده. لم يثنِه عن رأيه فشلُ ثورته ووقوعه وصحبه في أسر سلطان المماليك. وعندما مثلَ أمامَ السلطان الذي حاول إحراجَه بسؤاله: "أين مَن يصلح فأقوم معه؟" أجابه ابنُ البرهان: "أهل ذلك كثير". فأصرَّ عليه السلطانُ قائلاً: "فأين هم؟" سكت ابن البرهان برهةً قبل أن يجيب: "تخلَّ أنت عن هذا الأمر ويختار المسلمون".

في تواريخ الأمم لحظاتٍ تومض فيها همُّة بعض الأفراد للقيام على الظلم والطغيان ومكافحتهما والخلاص منهما. جرى عرف اليوم على تسمية هذه اللحظات بالثورات دلالةً على جنوحها إلى العنف لإزالة الطغيان، واعتمادها التغيير الشامل لإزالة آثاره. الثورات في التاريخ عموماً نوعان: ثورة على محتلٍّ أجنبيٍّ مستعمِر احتلَّ البلاد بهدف استغلالها وأهلها، وثورة على حاكم محليٍّ جائرٍ، أخذ الحكم غَلَبَة وتربَّع على عرش السلطان بغير وجه حق، وأفسد في البلاد والعباد. غالب الثورات في التاريخ فشلت، وأودى الفشل بالثوَّار إلى التهلكة وبذكراهم إلى النسيان.

نجحت بعضُ الثورات، ورحل المحتلُّ أو الحاكمُ الغاشم ودخلت الأمة إثرَ نجاح الثورة عهداً جديداً بمعتقداتٍ جديدة ووعودٍ كثيرة بحياة أفضل. ما لبثت جميعُها أن ذبلت واختفت ثم عادت إلى حكمٍ غاشمٍ يسومَ الناس الظلمَ والاستغلالَ مرّةً أخرى. هذا ما يُخبرنا به التاريخ عن الثورات العظمى في الأزمنة القديمة والحديثة من ثورة سبارتكوس على روما منتصف القرن الأول قبلَ الميلاد، وثورة الزنج على الخلافة العباسية منتصفَ القرن الثالث الهجري أو نهاية القرن التاسع ميلادي، إلى ثورات الحداثة الكبرى، مثل الثورة الفرنسية سنةَ 1789، والثورة البلشفية الروسية سنةَ 1917 وثورة ماو تسي تونغ الصينية الشيوعية سنةَ 1949، والثورة الإيرانية التي أصبحت ثورة الخميني سنةَ 1979. لكن علينا أن نكون حذرين، فالتاريخُ لم يكن قطّ محايداً أو بعيداً عن إبراز خطاب القوي على حساب خطاب الضعيف وحفظ ذاكرة المنتصر على حساب ذاكرة المهزوم.

عندما تنجح ثورةٌ ما فهي تدخل إلى ذاكرة الأمة، وأحياناً إلى ذاكرة العالم، بوصفها دليلاً على حيويتها ونضالها في سبيل التحرر. بهذا صارت الثورة الفرنسية نبراساً للحرية في أرجاء العالم حتى عندما قامت ثورات على الاستعمار الفرنسي في القرن العشرين واستلهم ثوّارُها مبادئ الثورة الفرنسية ذاتِها في الكفاح للتحرر من الحكم الفرنسي. وبهذا أيضاً في عالمنا العربي والإسلامي تحوَّلت الثورةُ الإيرانية إلى مثالٍ لثوراتٍ متعددة في زمننا لا تمت بصلةٍ إلى العقيدة الشيعية التي اعتمدتها الثورة الإيرانية قاعدةً لتحفيز مؤازريها وحضّهم على النضال ضدّ الظلم. بل كانت بعض هذه الثورات ذات صبغة سنّية متشددة ومعادية للمذهب الشيعي، ومع ذلك اقتبست من نموذج الثورة الإيرانية.

تتحول الثورات العظمى هذه إلى علاماتٍ مضيئةٍ في التاريخ تحتفل الأمة بذكراها وتستلهم من تراثها سنداً وفخراً. بل إنَّ لبعض الاحتفالات بذكرى الثورات طقوساً محددة من وضع أكاليلَ على قبور الثوار المجهولين عموماً أو زعمائهم المعروفين والمبجلين، أو الاحتفال باستعراضٍ عسكريٍّ يُبرز قوَّةَ الأمة ومنعتها، أو بثَّ أغانٍ وأناشيد محددة تُستعاد بها ذكرى أحداثٍ محددة وأشخاص معيّنين تُنسب لهم معجزة نجاح الثورة. لا بُدَّ للثورات أيضاً من نُصُبٍ ترمز إليها وتُحدِّدُ لها مكاناً في الفراغ المديني يمكن زيارته واستلهام الذكرى من عظمته ورمزيته. وعليه نجد نصباً لتمجيد الثورات في كل عواصم البلدان التي شهدت نجاحاتٍ ثوريةٍ في الماضي والحاضر.

وثمّةَ ثوراتٍ مثل ثورة ابن البرهان على سلطة المماليك بمصر في القرن الرابع عشر لا وقع لها في ذاكرة الأمة. إلا أنَّ استدعاءها مهم، لأنها تدحض السرديات التي تصوِّرُ العربَ والمسلمين خانعين للسلاطين ولم يثوروا عليهم، ولأنها تبيّن الدور الذي قد يؤديه العلماء والمثقفون ضدَّ السلطة، ولأنها تعطي دروساً لمن يحاول العودة زمانياً واستدعاء أنماط حكمٍ زالت، كما حاول ابن البرهان في ثورته على المماليك وسلطتهم.


لم يشهد العالم العربي باستثناء مصر والجزائر وعمان وفلسطين ثورات كبيرة ومصيرية في القرن العشرين. ولأكثر الدول التي انتقلت من الملكية إلى الجمهورية "ثورات" قاد جُلَّها العسكرُ وأسسوا منها أنظمةً سَمَّت نفسها الأنظمة الثورية في سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان، وطبعاً مصر، المثل الأعلى لغالبية هذه الانقلابات الثورية، وإن ثبت لنا فيما بعد أنها لم تكن قط ذلك.  

ثم أتانا القرن الواحد والعشرين بثورات الربيع العربي التي كانت ثورات شعبية، أغلبها سلمي. سعت إلى تحرّر الشعوب من حكوماتٍ شمولية وعسكرية مترهلة ومهلهلة وفاسدة. بعثت هذه الثورات أملاً بتحرُّرٍ عربيٍّ شاملٍ، لكنها أُجهضت وقُضي عليها بتحالفاتٍ مريبة بين قوى داخلية وأُخرى خارجية منها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. ثم رزحت هذه البلاد مرّةً ثانيةً تحت حكوماتٍ شمولية، وخرابٍ متطاول وتفكّكٍ للنسيج الوطني، ما زالت تئن من تبعاته حتى اليوم.  

وثمة حالة فلسطين التي تطاولت أكثر من قرنٍ من الزمن. وشهدت قضم فلسطين لتصبح إسرائيل بعد ثوراتٍ شعبية متعددة وحروبٍ عربية إسرائيلية فاشلة أوصلتنا إلى اللحظة الراهنة التي نشهد فيها محاولةَ إنهاء القضية الفلسطينية بعنف. فالعالم العربي يتفرج، ربما عجزاً أو خوراً، والعالم صامت ومتواطئ.


لمصر أكثر من ثورة حقيقية تحتفل بها، بغض الطّرف عن واقعها المزري اليوم. بعض هذه الثورات كان تحركاً عسكرياً أكثر منه ثورة ولكنه ارتفع إلى مقام الثورات لأسبابٍ عدة. وبعضها كان ثورةً حقيقية، للشعب فيها دور وإن أسهم فيها العسكر أحياناً. وقد درج المصريون على الاحتفال بهذه الثورات بالطرق المعتادة وإن خفّ وهج بعضها اليوم بتغيّر أنظمة الحكم أو التوجهات السياسية أو بُعد الزمن.  

أولى هذه الثورات التي ما زالت تُذكر ويُحتفل بها هي انتفاضة أحمد عرابي على الخديوي توفيق في فبراير سنةَ 1882. انتهت هذه الثورة بنزول الإنجليز في الإسكندرية، واحتلالِهم البلادَ ونفي عرابي وصحبه إلى جزيرة سيلان، التي تُعرف باسم سريلانكا اليوم. مع ذلك بيّنت أن للجيش الوطني دوراً في محاولة إنقاذ البلاد والدفاع عن حريتها وقدراتها، حتى ضدَّ الحكم المحلي.  

ثاني هذه الثورات، وربما أكثرها اعتماداً على الناس العاديين، هي ثورة مارس 1919 ضدّ الاحتلال الإنجليزي. قادها زعيم الأمة سعد زغلول، وشاركت فيها مختلف الفئات بمسلميها ومسيحييها، وربما كانت أساس العبارة الدارجة على ألسنة محاربي التعصب الديني اليوم "الدين لله والوطن للجميع". وقد أدت ثورة 1919 إلى إلغاء الحماية الإنجليزية وصدور دستور مصري، لكنها لم تتمكن من إنهاء احتلالِ الإنجليز مصر الذي تحقق بعدَ أربعة عقود أخرى. 

جاء هذا التحقق بعدَ ثورة يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر. كانت تلك الثورة بارقة أملٍ في بدايتها رغم مآلاتها المأساوية التي ما زال البعض منها ينخر في الجسد السياسي المصري والواقع العربي حتى اليوم. ما زال المصريون والعرب الناصريون يحتفلون بثورة يوليو، وإن كان ذلك أحياناً على وجل. ما زالوا يحنّون إلى الأحلام الكبيرة من الوحدة والتحرر والاشتراكية التي فجرتها وفشلت في تحقيقها.  

ومؤخراً أصبح للمصريين ثورة شعبية اندلعت في الخامس والعشرين من يناير سنةَ 2011. تخلصت هذه الثورة من الرئيس حسني مبارك وأحيت الحسَّ السياسي في مصر، وأعادت الأملَ بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية لجيلٍ كامل. ولكنَّها حُوِّرت وحُرِّفت ثمّ أُجهضت بعودة العسكر إلى الحكم وعودة الناس إلى المعاناة اليومية.

وقد يعودُ بعضُ المهتمِين بالتاريخ القديم إلى ثورات المصريين القدماء ضدَّ الهكسوس، أو ثورات مصريي العصر البيزنطي ضدَّ استعلاء كنيسة القسطنطينية، أو ثورات فلاحي الأقباط ضدَّ تعسف الحكام العرب، إثر الفتح الإسلامي. لكنَّ أثرَ هذه الثورات في الذاكرة الجمعية شبهُ معدوم اليوم.


تعتقد الغالبية العظمى من المصريين، والعرب والمسلمين أيضاً، أن الفترة الإسلامية الوسيطة، التي حكمت البلاد فيها سلالات محاربة مستوردة من أيوبية ومملوكية وعثمانية لم تشهد ثورات تذكر. ويُرجعون ذلك عادةً إلى أن الحكام كانوا عسكريين باطشين، أو لأنَّ الناس كانوا مُجهَّلِين ومُفقرين. ويعتقد معظم دارسي تاريخ مصر الإسلامي أن المجتمعات الإسلامية قد أنفت عن الثورات وقنعت بالحاكم الطاغية درءاً لما هو أشدّ وطأةً وأكثر ضرراً، وهو الفتنة. 

شاعت هذه الصورة في أذهان المسلمين عموماً واستخدمها الغرب في الفترة الاستعمارية لإقناع الشعوب المُستعمرة في العالم الإسلامي بأنها جموع خانعة ليس لديها تقاليد ثورية.  وعادت هذه النظرة الاستعلائية إلى ما قبل الإسلام لتُنسَبَ إلى الشعوب الشرقية، لا سيما رعايا الإمبراطورية الفارسية الأخمينية في الألفية الأولى قبل الميلاد، خنوعاً مستوطِناً دماغهم بالتراخي والاستسلام والجبن، عكسَ الإغريق الذين تميزوا بالصلابة والقوة والميل إلى الحرية، وتمكَّنوا بتفوقهم الانتمائي والأخلاقي وحريتهم من التغلب على الجيش الفارسي الجرار في معركة ماراثون سنةَ 490 قبل الميلاد. انسحبت هذه النظرة النمطية على الشرق والغرب بعد أن أصبح الأول مسلماً والثاني مسيحياً، وما زالت تستبطن كثيراً من الكتابات عن شعوب العالم الإسلامي، وطبقاتها الحاكمة، ومقارنتها سلباً بالشعوب وأنظمة الحكم في العالم الغربي، التي تتمتع بالحرية والديمقراطية، كما لو أن هاتين الصفتين كانتا صفتين للعالم الأبيض حُرم منها العالم الأسمر.

مع ذلك، لا خلافَ على أن هناك ناراً تحت رماد التمييز والعنصرية، وأن هناك أسباباً تاريخية موضوعية لاتّهام جماهير العرب والمسلمين بالخنوع. فالطبقةُ المتعلمةُ في العصور الوسطى نفسِها، تحديداً طبقة العلماء والفقهاء، لم تهتم أصلاً بإمكانية إزالة الحاكم الظالم بالقوة إيماناً منها بأن الفتنة، أي انفلات الأمور بسبب القيام على الحكم ومحاربته لإزالته، أخطر وأشدّ وطأة من قبول طغيان الحاكم ما دام محافظاً على شعائر الإسلام. وركَّز بعض الدارسين الحديثين على تحالف الطبقة المتعلمة من علماء وفقهاء وكتاب مع "أولاد الناس"، أي أبناء المماليك المتوجهين إلى العلم لا القتال، والحكام المماليك المحاربين بما حقَّق مصالح الطرفين وأبقى سواد الناس في جهلهم وفقرهم. فقد تقاسمت الفئتان الأدوار: المماليك للحكم والسياسة والحرب والاستحواذ على أكبر مصادر الثروة في البلاد بالسيف، والعلماء والفقهاء والكُتَّاب لإدارة الدولة والمجتمع وشؤونه وتعاملاته وورعه وعباداته، بما يضمن استكانة الناس للحكم وامتثالهم لأحكامه التي قُدّمت دوماً على أنها مسايرة للقواعد الشرعية، وبما يؤمن للعلماء والفقهاء مصادر دخل وافية، وإن كانت باهتة مقارنةً بثراء المماليك.

إنَّ مشروع ثورة حقيقية في نهاية القرن الرابع عشر ضدَّ السلطان المملوكي برقوق حدثٌ شديد الأهمية، بسبب قيمته التاريخية في تحدي الرأي السائد بخنوع الناس لحكامهم العسكريين البطاشين، وفي إزالة اللبس عن فكرة تقاعس المفكرين عن تحدي الظلم بسبب ارتباط مصالحهم بمصالح الحاكم. وهذا ما يترجم اليوم إلى نقدٍ شديدٍ لمثقفي البلاد الذين يُتهمون، بحقٍّ وبغير حقّ، بممالأة الحاكم درأً لبطشه أو استجراراً لرعايته ودعمه. ولكن أهمّ ما في قصة هذه الثورة التي انتهت نهايةً مأساوية هو تأكيدها حيويةَ المصريين المستمرة منذ ما قبل الإسلام وإلى اليوم في الثورة على حُكّامهم الغاشمين الذين أصابهم منهم بحقيقة الأمر ما هو أكثر وأدهى من كثيرٍ غيرهم من الشعوب لأسبابٍ تاريخية وجغرافية، أهمُّها توسّطُ بلادهم القارات الثلاث حول البحر المتوسط وثروتهم الزراعية العظيمة التي جعلت من مصر سلة خبز روما وبعدها القسطنطينية، وربما حتى بغداد.

قائد هذه الثورة المجهولة هو الشيخ أبو هاشم أحمد بن محمد بن البرهان (1353-1405). وابن البرهان هذا ظاهري المذهب، قال عنه المؤرخ تقي الدين المقريزي في كتابه "درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة" إنه "العبد الصالح الداعي إلى الله"، وقال إنه كان "أحد نوادر الدنيا" و"كان عالماً بأكثر مسائل الشريعة وأدلتها من الكتاب والسنة، فروعها وأصولها، ذاكراً لمعظم أخبار الخليقة، عربها وعجمها، مشرفاً على عامة مقالات فرق الإسلام، مذاكراً بمذاهبها، مستحضراً لما عليه الكافة من مخالفة السنن، يسرد ماهم بسبيله من التلبس بالمنكرات، كثير التأله والعبادة، محباً لله ورسوله، معظماً لهما، متبعاً للسنة، متحرياً جهده".

ويخبرنا المقريزي أن ابن البرهان وُلِدَ في القاهرة وصاحب فقيهاً يمني الأصل مجهولاً اليوم، اسمه أحمد سعيد السحولي. حثّ أحمد ابنَ البرهان على العمل بالحديث على طريقة الفقيه الأندلسي الشهير ابن حزم، مجدد المذهب الظاهري في القرن الخامس الهجري، وكذلك بالعمل على أصول ابن تيمية، العالم الحنبلي الأشهر في القرن السابع، الذي قاد ثورة فكرية متشددة مازالت آثارها ظاهرة في الجدال الفقهي اليوم. ومع أنَّ ابن تيمية نفى أن يكون قد تأثّر بابن حزم، وتشدَّدَ في ذمِّه عقائدياً. غيرَ أن عدداً من فقهاء الحقبة المملوكية ظاهريي المذهب، وهم قلة قليلة من جموع الفقهاء آنذاك، تأثروا بآراء الرجلين وأفكارهما معاً، كما هي حال المقريزي نفسه مثلاً وابن البرهان. وكان ابن البرهان مقرباً إلى المقريزي يزوره ويتحدّث معه ويخبره عن آرائه الفقهية والتزامه السنةَ في العبادات.

ويخبرنا المقريزي أيضاً عن تقشف ابن البرهان الشديد حتى أشرف على الموت جوعاً. وكانت حريم ابن البرهان يأتين المقريزي نفسه، دلالةً على قوّة العلاقة بين الرجلين، ليشتكينَ له من تفريط الرجل بالقليل مما معه في الصدقات وتركه عائلتَه من غير طعام. وتحدّث المقريزي عن محاولته نُصحَ صديقه. ويخبرنا المقريزي أيضاً عن بعض كرامات الرجل في حياته مما أخبره به بنفسه أو رآه المقريزي عياناً، وعن كراماته بعد موته في مناماتٍ رآها بعض من كان شديد الوطأة على ابن البرهان في حياته كابن حجر العسقلاني مثلاً.

ولكن أهم ما يخبرنا به المقريزي عن ابن البرهان هذا، الذي لا يعرفه كثيرٌ من المؤرخين اليوم، هو أنه أدّى في التاريخ المملوكي دوراً صغيراً، لكنه مأساويّ بامتياز. فهو قد قاد ثورة، لا مثيلَ لها على النظام المملوكي في عهد السلطان الجركسي الأول الظاهر برقوق سنةَ 1386، لأنه آمن بأن السلطة المملوكية غاصبة، بحكم الحديث النبوي الذي ينص على أنَّ السلطان يجب أن يكونَ قرشياً عربياً بدلاً من السلطان التركي أوالجركسي المملوكي وبحكم مخالفتها أحكامَ العقيدة وفرضها لمكوسٍ، أي ضرائب، لم ينصّ عليها الشرع.

وقد قضى ابن البرهان سنتين يدعو الناس في بلاد الشام والجزيرة إلى الإسلام الحقِّ والعمل بكتاب الله وسنة نبيه وطاعة قبيلة قريش ذات الحق المطلق، من وجهة نظره ومدرسته، في حكم المسلمين. وامتدَّ طوافه إلى العراق، أي تجاوز حدود الدولة المملوكية، ساعياً إلى محاربة ملوك العصر، أي المماليك، ومخلفات المغول في العراق والأناضول. أي كان ابن البرهان يدعو إلى الثورة المسلحة. واستجاب له كثيرٌ من المضطهدين من العرب والتركمان وعلماء المسلمين كما نقل المقريزي، مصدرنا عن ابن البرهان وثورته.


لم تستمر ثورة ابن البرهان الدينية السياسية المبدئية هذه، والتي كانت أيضاً ثورةً عاطفيةً ساذجةً محكوماً عليها بالفشل مسبقاً بسبب قوة بطش السلطة. وذلك بسبب وشايةٍ انتهت به وبصحبه في الحبس الطويل والتعذيب والتشتيت وضياع العمر. وقد تجاهل أغلب مؤرخي العصر المملوكي هذه الثورة أو مرّوا عليها مروراً أو سموها "فتنة" مع ما يحمله الاسم من إدانةٍ للحركة، أو حوَّروا بعضاً من تفاصيلها إما جهلاً بحوادثها أو بمبادئها وأسسها، وإما استصغاراً من شأن القائمين عليها، وإما التزاماً بموقف السلطة التي تمنحهم مناصبهم ولاتسمح لهم بأي نقد مهما صغر.

الاستثناء الوحيد هو المقريزي. فقد أثبت جرأتَه على السلطة الباطشة في كتاباته هو نفسه. وهو تحدث عن هذه الثورة الظاهرية بإسهابٍ وحميةٍ واندفاع، وقدّم عنها تفاصيل لا نجدها في أيٍّ من المصادر الأخرى. فهو مثلاً يخبرنا بأنَّ ابن البرهان عاد إلى دمشق بعد طوافه في البلاد وجمعه الناسَ حوله، واستطاع، على رأي المقريزي، أن يستميلَ أميراً صغيراً مسجوناً في قلعة دمشق للانضمام إلى ثورته. ولكن واحداً من أصحابه السذج، الذي لا يسمّيه المقريزي ولكننا نعرف من تقرير المؤرخ الحلبي ابن قاضي شهبة عن الواقعة أنَّ اسمه خالد الحمصي، تكلَّم في الثورة مع الأمير المسجون أمام سجين آخر وشى عليه لنائب القلعة شهاب الدين أحمد بن الحمصي الذي قبض على كل من طالته يده من الضالعين في المخطط، وأوصل الخبر إلى السلطان برقوق. وبعد تخبطٍ في التعامل مع هؤلاء الثائرين في دمشق وتقاعس نائب دمشق عن تسميرهم وفق حكم السلطان بدعوى أنهم "قوم قد جفت رؤوسهم من الدرس وأنهم أحقر مما رموا به"، استدعاهم السلطان برقوق للقاهرة وعقد لهم مجلساً مغلقاً في شهر ذي الحجة سنة 788 للهجرة، يناير 1387 للميلاد، وتواجه مع ابن البرهان فيه.

كان ابن البرهان رابط الجأش ولم يتخلَّ عن مواقفه في مواجهته مع السلطان الجبار وهو مقيد بالحديد ينتظر عقاباً مؤلماً. يقدّم لنا المقريزي صورةً مسرحيةً نابضةً بالفخر للجدل بين الرجلين.  فقد بدأ السلطان برقوق بأن قال: "أحمد، ما تنكر من أيامي؟" فأجاب ابن البرهان، "كل أيامك منكر". فسأله السلطان كأنّما ليستدرجه أكثر "إيش من ذلك؟" فقال ابن البرهان: "أول ما أنكره جلوسك في السلطنة، فإنه لا يحلُّ أن تكون إماماً للمسلمين، فإن الأئمة من قريش بنصِّ رسول الله". فداهنه برقوق بالقول: "أنا أعرف ذلك، لكن من أين من يصلح للخلافة؟ وقد علمت أنَّ الخلفاء لمَّا لعبوا بالحمام وأعرضوا عن تدبير المملكة خرجت الخلافة عنهم". وهو هنا يشير إلى تلهي خلفاء بني العباس في الفترة الوسيطة عن الخلافة حتى قضى عليهم في الغزو المغولي سنةَ 1258. تابع السلطان كلامه قائلاً: "ولو علمت أحداً يصلح للخلافة لسلَّمتُ الأمر إليه".

لم يقع ابن البرهان في هذا الفخِّ التاريخي المنصوب بدهاء. أجاب السلطان فقال: "كون الواحد أو الجماعة من قريش فرَّطوا لا يوجب ذلك خروج الأمر عنهم كلهم". فأجابه السلطان: "فأين من يصلح فأقوم معه؟" وهذه حجة ما زلنا نسمع صداها في واقعِنا السياسي اليوم. فعاجله ابن البرهان بالجواب الحاسم: "أهل ذلك كثير". فراوغه السلطان ربما ليعرف من معه من علية القوم، "فأين هم؟" وهنا جاء جواب ابن البرهان البتار: "تخلَّ أنت عن هذا الأمر ويختار المسلمون".

أُسقِطَ في يد السلطان، لكنَّ الجدال استمر في مساوئ الدولة ومخالفتها أسسَ الشريعة في بنيتها وإحكامها ومكوسها المخالفة للشرع. واستمر ابن البرهان بالإجابة بتحدي الواثق على أسئلة السلطان بمقتضى اعتقاده ولم يتزحزح عن موقفه المذهبي من عدم صلاحية الدولة لحكم المسلمين. ولكنه رفض توريط أحدٍ من أركانِ الدولةِ في مؤامرته، على أنَّ الشبهات كانت تحوم حول نائب دمشق بأنه متعاطف مع الظاهريين، مما أدى إلى سجنه وأعوانه. وقد أجاب ابن البرهان على سؤال السلطان مباشرة عمَّن معه من الأمراء في هذا الأمر بقوله: "أنا لا أستنصر بأحد من أمرائك بل أريد محاربتهم".

نفذ صبره على أنه كان صبوراً مقارنةً بغيره من الحكام الشموليين، والتفت إلى والي القاهرة، وأمره بمعاقبة ابن البرهان وصحبه حتى يُقِرّوا على مَن معهم مِن أمراء الدولة. فأخذ الوالي المساجين الأربعة وضربهم ضرباً مبرحاً بالمقارع كي يُقرّوا على من يساندهم وعوقبوا بالعمل الإلزامي في الطين والجير ونقل الحجارة. وسجنوا بخزانة شمايل، وهو من السجون المخيفة في القاهرة المملوكية، وقد قُيّد كل اثنين منهم في حديدة واحدة، يمنى الواحد في يسرى الآخر، مع تجديد الضرب عليهم بين فترة وأخرى. وبقوا على هذه الحال أربعة أعوام تقريباً، ثم أُفرج عنهم بشفاعة بعض الأمراء لما تضعضع حال السلطنة.

ولما أُفرج عن ابن البرهان، عاش في ضنك من الحياة. لكنه لم يتنازل عن آرائه حتى مات "صابراً محتسباً" بعد ذلك بأربعة عشر عاماً، وفق عبارة المقريزي. ولم يحضر جنازته والصلاة عليه على حدّ قول ابن حجر العسقلاني سوى نحو سبعة رجال. أغلب الظن أن المقريزي كان واحداً منهم.

نبعت ثورة ابن البرهان المُجهَضَة هذه، كأغلب الثورات طبعاً، من موقفٍ نقديٍّ للسلطة المملوكية من إيمان هذا الشيخ الظاهري العميق بالأساس الشرعي للسلطة في الإسلام، كما دعا إليها مذهبه. وهو لم يكن مهتماً بالسلطة لذاتها، بل إن مطلبه كان تطبيقَ المبدأ الشرعي الذي يطالب بقرشيٍّ خليفةً للمسلمين في التزام، وفق قاعدةٍ فقهيةٍ تجاوزتها الأحداث والأيام، بصعود طبقات المحاربين الأتراك إلى الحكم في أغلب أصقاع العالم الإسلامي. ومع أن السلطنة المملوكية قد حافظت، منذ عهد السلطان الظاهر بيبرس، على وجود خليفةٍ عباسي لا حول له ولا طَول، يُقيم في حاضرتها ليصبغ على سلاطينها شرعية إسلامية. ولكن ثورة ابن البرهان التي عزم القيام بها مع صحبه سنةَ 1386 كانت تروم إعادةَ الحكم إلى قريش بمقتضى الشرع، كما فهمه المذهب الظاهري. لا لدعم الخليفة المغلوب على أمره، والمسجون في قلعة القاهرة للعودة إلى الحكم وفق النظام المملوكي، كما حدث في حالةٍ وحيدة شاذة سنةَ 1400 عندما خلت السلطنة بمقتل السلطان فرج بن برقوق واختلف الأمراء الكبار عمن يحلّ محلّه ليعينوا خليفة الوقت سلطاناً فترةً وجيزةً قبل حلِّ الخلافِ. فحركة ابن البرهان إذن كانت ثورة حقيقية، تسعى إلى تغييرٍ جذري لنظام الحكم وفق أفكارٍ مغايرة، وإن كانت هذه الأفكار مثالية في اعتقادها بصلاحية بني قريش لحكم عموم المسلمين، وفي نهاية الأمر مستحيلة التحقيق.


كانت ثورة ابن البرهان عاطفية وساذجة. وهي في الآن نفسه ثورة رجعية، أرادت العودة إلى نظامِ حكمٍ مثاليٍّ، ربما لم يكن قط قائماً، وإن كان قد احتلَّ في أذهان عددٍ من المصلحين الإسلاميين مكانةً عالية لا شكَّ فيها. وهي في ذلك أرادت، كما نقول اليوم، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. بيد أنها فشلت لاستحالة تحقق هذه العودة بعد تغيّر الأزمان وأنظمة الحكم في العالم الإسلامي بعد دولة الرسول، وظهور أسسٍ جديدة، واعتباراتٍ مختلفة بتغير الأحوال والأزمنة. وفي هذا عِبرٌ كثيرة لمن يعتبر ممن يتخيل عودةً إلى نظام لا مكان له في عالمنا المعاصر المُعقد الذي تتداخل المصالح الاقتصادية والجغرافيا السياسية فيه في كيان الدولة وتؤثر بمدى استقرارها وازدهارها، بدلاً من إقامة نظامٍ جديد يأخذ بمعطيات العصر ويتعامل معها ويطوّعها لإرادته ومصلحته ومصلحة شعبه.

اشترك في نشرتنا البريدية