"يا حلو يا اسمر".. رمزية النيل عند الإثيوبيين وحلم الوصول إلى سد النهضة

ربط نهر النيل شعوب المنطقة بين المنبع والمصب بعلاقات تاريخية وثقافية، لكن بناء سد النهضة جعل الصراع على مياهه ذا بُعدٍ وجودي.

Share
"يا حلو يا اسمر".. رمزية النيل عند الإثيوبيين وحلم الوصول إلى سد النهضة
شارك الإثيوبيون بأموالهم في تمويل بناء سد النهضة | خدمة غيتي للصور

تسرب القلق إلى بيت برتكان مع غياب الشمس بسبب حلول الليل وعدم عودة الفتاة. فهي عادةً ترجع قبل المغيب بعد جلب الماء. خرج أهلها للسؤال عنها فأبلغتهم صديقتها سارة، التي تقطن على بعد أربعة شوارع من منزلهم، أنها رأتها عند غدير الماء تنتظر دورها مع فتيات أخريات لملء جرّتها "العترو" أو "الشاكلا" كما تسمّى في إثيوبيا. عاد الأهل إلى البيت يرافقهم القلق والشكوك. ولم يطل الوقت حتى دخلت برتكان وأنزلت الجرّة عن رأسها لتملأ أواني الماء. أدرك الأهل مدى صعوبة السباق الذي خاضته ابنتهم مع فتيات حيّهم والأحياء القريبة لملء جرّتها. فحمدت الأسرة "أقزابير" (الله بلغة الحبشة) على عودة ابنتهم سالمة.

رغم وفرة أنهار الهضبة الإثيوبية ومخزونها الجوفي من المياه، تعاني أسرة برتكان في منطقة وللو بإقليم أمهرة شمال إثيوبيا من عدم وصول الماء إلى منزلهم. شأنهم في هذا شأن أكثرية سكان القرى والمدن في إثيوبيا، الذين يشربون من المصبات والأغادير والمسطحات المائية التي تخلفها الأمطار. تتحمل الفتيات العبء الأكبر في توفير المياه. إذ يجبرن على السير مسافاتٍ طويلة يومياً، تصل ساعة أو ساعتين، مشياً على الأقدام بحثاً عن الروافد لملء جرارهن. وكصورة تقليدية للمعاناة من أجل مياه الشرب، خلّد الغناء الشعبي نشاط الفتيات الصغيرات بحملهن جرار المياه فوق رؤوسهن يومياً.

ومع إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في 20 مارس 2025 اكتمال بناء سد النهضة وامتلاء بحيرته وتدشينه رسمياً بعد ستة أشهر، منَّت أسرة برتكان وأقاربها بالمدينة أنفسهم بقرب انتهاء معاناتهم. وترقبوا عودة النيل لأصحابه حاملاً معه الكهرباء والطاقة لإخراجهم من الظلام والعبور بهم إلى المدنية والحداثة. وهكذا باتوا مستعدين للاحتفال "بأريتشا" (عيد الشكر) مرتين. الأولى في سبتمبر مع تدشين السد والثانية في أكتوبر، كما هو موعده الطبيعي سنوياً مع انتهاء موسم الأمطار. تقول والدة برتكان للفراتس: "كان يتردد إلى مسامعنا ونحن أطفال أن لدينا نهراً عظيماً ينبع ويجري من تحت أقدامنا ليروي غيرنا [. . .] الآن تغيّر الحال وعاد النهر إلى وطنه وأمه إثيوبيا طائعاً".

مثَّل إعلان آبي أحمد تتويجاً لجهودٍ إثيوبية استغرقت أكثر من قرن لإخضاع أنهارها. خصوصاً النيل الأزرق الذي تتدفق منه ما بين 80 إلى 85 بالمئة من مياه نهر النيل، والذي تعتمد عليه مصر في تلبية 97 بالمئة من احتياجاتها من مياه الشرب والري. وبإعلانه هذا حقق أحمد إنجازاً قومياً للإثيوبيين الذين شاركوا بأموالهم في تمويل بناء سد النهضة عبر شراء سنداتٍ تسمح لهم بتملك أسهم في السد الأكبر في إفريقيا. ويُنتظر منه أن ينتج نهاية العام الحالي ثلاثة أضعاف الطاقة الكهربائية المولدة من السد العالي، بما يعدّل من ترتيبهم على سلم التنمية ويعوضهم ما فاتهم. ومع الاقتراب من تدشين سد النهضة، تظل التوترات بين إثيوبيا ودول المصب مصر والسودان قائمة. ويظل شك هذه الدول في النوايا الفعلية لإثيوبيا واعتبار مشروع سد النهضة تهديداً وجودياً، لاسيما لمصر، قلقاً يعكّر مسار علاقاتٍ قديمة جمعت دول حوض النيل ببعضها، وينذِر بعدم استقرار يهدد دول المنطقة والمحيط.


يقول الباحث الاجتماعي عباس محمد كوركي للفراتس إن الإثيوبيين ينتظرون انتهاء بناء سد النهضة وتحقق الحلم. فهناك أكثر من مئة وعشرين مليوناً منهم يعيشون في أماكن متفرقة يعتمدون على مياه الأمطار في الزراعة والرعي. أما النيل، فظل مرتبطاً تقليدياً بأهل الشمال والوسط. وتتعدد مصادره كما تتعدد قوميات إثيوبيا وأقاليمها التي تغذيه ليشكل النهر الخالد. يسمي الإثيوبيون النيل الازرق "أباي". ومع أنه يتدفق من الأراضي الإثيوبية، لكن لا تجد له أثراً فيها إلا بعدما يقطع ما لا يقلّ عن سبعين كيلومتراً ليظهر جدولاً رقيقاً من علوٍّ شاهق يجري شمال غرب مدينة بحر دار، عاصمة مقاطعة أمهرة شمال غرب إثيوبيا، بعد تحرره من بحيرة تانا.

وكما تتغلغل شرايين النيل في قلب القطر الإثيوبي وبتشكيله مصدر الشرب لأغلب سكان إثيوبيا، فقد رسخ النهر مورداً أساساً في رسم الثقافة المحلية وإثرائها. فهنا شعب إقليم أمهرة مثلاً، حيث منبع النيل، يوصم بصفات ترجع إلى صفات النهر نفسه. فمن أسرار النيل كما يروَّج أن مياهه تصفي البشرة وتعكس الجمال. ويحضر النهر أيضاً في التراث الإثيوبي ضمن الأشعار والحكم والأمثال ومختلف الفنون، وفي تسمية الأشخاص تجد "للأباي" نصيب أيضاً. وعن هذا أخبرتنا الإثيوبية أبابا نوري دنقا بقولها إن "جيل اليوم يمتنّ لنهر أباي الذي كان بالأمس يرحل بعيداً عن وطنه وأمه إثيوبيا"، مُظْهرة امتنانها لسد النهضة الذي يلبّي غايات محلية وإقليمية تقرّب الإثيوبيين إلى مياه أباي، ويوفر للجوار فوائد يتشاركون فيها.

وحسب أبابا نوري، فرمزية النيل عند الإثيوبيين لا تقتصر على الماء وتدفقه. بل تجمع ما بين الماء والتراب ثروة واتصال يربط إثيوبيا بالجوار من دول حوض النيل التي يجري النيل إلى أرضها، مثل مصر أو السودان أو غيرهما من بلدان. وطالما يشق النهر أراضي هذه الأقطار، فلا عجب أن اتفقت طقوس تقديس الماء والنهر بينها.

في إثيوبيا يحتفل شعب الأورومو، أكبر مجموعة عرقية في البلد، في الخامس والسادس من أكتوبر سنوياً بعيد إريتشا لشكر الآلهة على نعمة الأمطار وما أعطته من زرع وخيرات ورزق. فيجتمع الأهالي في كل المناطق بأزيائهم الملونة منذ الصباح الباكر لينشدوا أهازيج وأغانٍ شعبية ويرقصون ويأكلون. ويتجمع أعيان القبيلة حول مسطحات المياه في القرى والأرياف يخاطبون الماء بتراتيل وكلمات دالة على الشكر. ويتبع ذلك إلقاء قبضات من العشب الأخضر في ماء الأنهار والبحيرات، شكراً وامتناناً على فيض خيرات النهر.

ينقل نادر نور الدين محمد في كتابه "مصر ودول منابع النيل"، الصادر في 2014، عن الباحث في التاريخ الإثيوبي مهدر تاريكو قوله إن عادات الأورومو في مهرجان إريتشا تشابه طقوس الفراعنة في تقديم القرابين للنيل في المواسم المائية. 

ويحتفل المصريون في منتصف أغسطس من كل عام بعيد "وفاء النيل" لما يحمله معه من الخيرات، ولما له من قداسة تتجلى في الاحتفال الكبير في الشهر الذي يحلّ فيه فيضان النيل حاملاً معه الطمي والمياه. ويشير خبير الآثار المصرية علي أبو دشيش لواحدة من أشهر أساطير عيد وفاء النيل. وهي أن المصريين القدماء كانوا يقدمون فتاة جميلة لإله النيل، المعروف باسم الإله حعبي أو حابي في عيده. كانت الفتاة تزيّن ثم تُلقى في النيل قرباناً له، لتتزوج بالإله في العالم الآخر. إلا أنه في إحدى السنين لم يبقَ من الفتيات سوى بنت الملك الجميلة. فأخفتها مربّيتها وصنعت عروساً من الخشب تشبهها. وأثناء الحفل، ألقتها في النيل دون أن يتحقق أحد من الأمر. وبعد ذلك أعادت البنت إلى الملك الذي كان قد أصابه الحزن الشديد على فراق ابنته.


وإن صبغ الإثيوبيون مياه النيل بقدسية ما، مثل باقي دول حوض النيل وفي مقدمتهم مصر والسودان، إلا أنه لطالما صاحب هذه القدسية إحساس عارم بالغبن من استئثار دولتَي المصب بنعمة النيل. وهو النهر الذي ينطلق هروباً من الهضبة الإثيوبية إلى أسفل الوادي، مخترقاً الأراضي السودانية إلى وادي النيل في مصر، حيث نشأت على ضفافه حضارات مصر القديمة. يرى الإثيوبيون أن 97 بالمئة من مياههم العذبة تذهب نحو الشمال. وبحسب أستاذ التاريخ بجامعة أديس أبابا ياكوب أرسانو في كتابه "دول حوض النيل في زمن ما بعد الاستعمار" الصادر سنة 2010، وقد نقل عنه نادر نور الدين محمد بكتابه بالعربية، تبلغ موارد إثيوبيا من المياه العذبة 122 مليار متر مكعب سنوياً. لا يتبقى من هذه الكميات داخل إثيوبيا إلا نحو 3 بالمئة فقط. فيما تتدفق الكمية الأكبر من هذه المياه إلى نظام نهر النيل حيث تساهم أنهار الغرب الإثيوبي، أباي "النيل الأزرق" وسوبات "بارو أكوبو" وعطبرة "تاكيزي"، معاً بنحو 86 بالمئة من إجمالي مياه النيل التي تصل مصر.

يغطي حوض النيل في جريانه مساحة ثلاثة ملايين وأربعمئة كيلومتر مربع، ويخترق إحدى عشرة دولة إفريقية، هي تنزانيا وكينيا وزائير وبوروندي ورواندا وإثيوبيا وإريتريا وأوغندا وجنوب السودان والسودان ومصر إلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط. وحسب دراسة بعنوان "هايبر بوليتيكس أوف ذه غراند إثيوبيان رينيسانس دام" (السياسة المائية لسد النهضة الإثيوبي) المنشورة في 2012، يعيش في حوض النيل حتى 2012 ما يقارب أربعمئة مليون إنسان موزعين على هذه الدول، بالذات مصر. ويُتوقع أن يرتفع الرقم مئتي مليون نسمة إضافية في 2025.

وفي كتابه "النيل نهر التاريخ" الصادر في 2023، يشير المؤرخ النرويجي تارييه تافيت، المهتم بتاريخ المياه وعلاقتها بتطور الشعوب، إلى أن منطقة حوض النيل هي الأكثر تعقيداً وتنوعاً بين جميع مناطق الأنهار الكبرى، سواء في الطبيعة أو العلاقات الاجتماعية. فمع امتداد مجراه بطولٍ شاسع، فإنه يحمل مقدراً قليلاً من المياه مقارنة بأنهار أخرى، بمتوسط أربعة وثمانين مليار متر مكعب. يعزو تافيت قلة مياه النيل إلى أن أجزاء كثيرة منه تمتد في منطقة لا تتعرض أبداً لسقوط أمطار. ويقول: "لا يوجد نهر في العالم يقطع كل تلك المسافة الشاسعة خلال الصحراء دون تلقي دفقات مائية من مصادر أخرى تعزز من كمية المياه السارية في مجراه".


المنظور الإثيوبي بالغبن ورغبة الإثيوبيين في الإمساك بمياه النيل ومشاركتها دول المصب، خصوصاً مصر والسودان، تعود حيثياته إلى بداية القرن العشرين. رفض الإثيوبيون بدايةً توزيع بريطانيا مياه النيل على مصر والسودان –الخاضعتين آنذاك لسيطرة الإمبراطورية البريطانية– لتوسعهما في زراعة القطن. وتبلور هذا في توقيع بريطانيا عدة اتفاقيات بدايةً من 1902 لمنح مصر سيطرة كاملة على النيل وروافده، وسلطة في رفض إقامة أي دولة من دول حوض النيل مشروعات تعيق وصول حصتها.

ووفقاً لإبراهيم غانم في كتاب "أمن مصر المائي" المنشور سنة 2016، وقعت بريطانيا سنة 1929 اتفاقية مع مصر نيابةً عن السودان وأوغندا وتنزانيا مُنحت بموجبها مصر حصةً ثابتة سنوياً من مياه النيل مقدارها ثمانية وأربعون مليار متر مكعب. اقتضى الاتفاق أيضاً أن يكون لمصر نصيب في كل زيادة تطرأ مستقبلاً على موارد النهر في حال القيام بمشروعات جديدة فوق النيل أو روافده. ومنحت الاتفاقية نفسها السودان حصة قيمتها أربعة مليارات متر مكعب سنوياً. مكنت هذه الاتفاقية مصر والسودان بعد استقلالهما عن بريطانيا من زيادة حصتيهما من مياه النيل بإبرامهما اتفاقية جديدة سنة 1959، لتصل حصة مصر إلى 55.5 مليار متر مكعب، و18.5 مليار متر مكعب للسودان. اعتبر الإثيوبيون بريطانيا منحازة إلى مصر والسودان. وبالتالي فإن كل الاتفاقيات المبرمة في حينها فاقدة للشرعية وغير ملزِمة لهم.


ومع شعور الغبن الإثيوبي تجاه دولتَي المصب، إلا أن هذا لم يمنع الدول الثلاث من نسج علاقات متشعبة ومتداخلة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، تراوحت ما بين الركود والازدهار والقرب والبعد والإخاء والعداء. فنهر النيل، عبر المسافات الطويلة التي يقطعها والبلدان التي يمر بها والروافد التي تغذيه، ألهمَ شعوبه آداباً وفنوناً وتراثاً وخلق حلقات وصل ثقافية وإنسانية بين شعوب هذه البلدان. ولا عجب مثلاً أن تتلقى طائفة من مسلمي الحبشة تعاليم الإسلام في الأزهر الشريف في القاهرة. وبحسب عبد المجيد عابدين، في كتاب "بين الحبشة والعرب" المنشور سنة 2017، فإنه "لا يزال في الجامع الأزهر رواق لمسلمي الحبشة يسمى رواق الجبرت" يتوافد عليه الطلاب الإثيوبيون.

وإن كانت مصر ارتبطت تاريخياً وثقافياً بإثيوبيا في جوانب، إلا أن العلاقات بين البلدين لم تكن يوماً ثابتة في منحاها ركوداً أو ازدهاراً. غلب الركود على علاقة البلدين في فترة الحكم العثماني، واستمر هذا الوضع مع وصول محمد علي إلى حكم مصر سنة 1805 ودخوله السودان بعد توليه السلطة بخمسة عشر عاماً، خالقاً حدوداً مشتركة بين مصر وإثيوبيا. وتجدد الصراع عند تولي إبراهيم باشا حكم كل من جدَّة والحبشة بعد قضائه على الدولة السعودية الأولى سنة 1818.

ومع احتلال بريطانيا لمصر سنة 1882، ارتبطت مصر في علاقتها السياسية مع إثيوبيا بالأهواء البريطانية. ولكن مع انتهاء الملكية في مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952، ومن ثم نهاية الاستعمار البريطاني رسمياً سنة 1956، بدا كما لو أن منحى الركود قد بدأ يتغير. تحسنت العلاقات المصرية الإثيوبية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر بتوطيد العلاقات بينه وبين الإمبراطور هيلاسلاسي، الذي حكم إثيوبيا من 1930 حتى 1974. كانت الكنيسة الإثيوبية في تلك الفترة تابعة للكنيسة الأرثوذكسية المصرية ودرج في وقته إرسال القساوسة من مصر للعمل بالكنائس الإثيوبية. وربطت البابا السابق للأقباط في مصر، كيرلس السادس، علاقة شخصية بهيلاسلاسي. وهو ما استغله عبد الناصر آنذاك في خدمة المصالح المشتركة للبلدين. وتعزيزاً لهذا التقارب، كان الإمبراطور الإثيوبي يُدعى في افتتاح الكنائس في مصر كما كان البابا يفتتح الكنائس في إثيوبيا.

وتفيد دراسة بعنوان "الحبشة بين القديم والحديث" عن محاضر ألقاها مراد كامل في دار الجمعية الجغرافية بالقاهرة في مارس 1959، عن العلاقات بين الكنيستين المصرية والإثيوبية، أن "التقليد نشأ بأن يقوم الكرسي السكندري في مصر بترسيم مطران إثيوبيا من بين الرهبان المصريين. ويأخذ المطران الجنسية الإثيوبية بمجرد وصوله إلى مقره بإثيوبيا. واستمر تقليد سيامة مطران إثيوبيا من بين الرهبان المصريين معمولاً به حتى عام 1950. وبدا الأمر وكأنه صلة رحم روحي تكونت بين الكنيستين والشعبين. وتمتع المطارنة المصريون في إثيوبيا بمكانة متميزة، حتى استقلال كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية عن الكنيسة الأم في مصر سنة 1971".

تراجعت العلاقات المصرية الإثيوبية بعد أن أطاح المجلس العسكري الإثيوبي المؤقت ذي الاتجاه الماركسي والمدعوم من الاتحاد السوفييتي بهيلاسلاسي سنة 1974. تبع ذلك توترات بين البلدين بسبب عدة ملفات، على رأسها إعلان الرئيس المصري آنذاك محمد أنور السادات عن رغبته في توصيل مياه نهر النيل إلى سيناء ثم إسرائيل.

عارضت إثيوبيا الطرح وأرسلت خطاباً إلى الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الإفريقية تتهم مصر بمحاولة نقل مياه نهر النيل إلى خارج حوض الصرف الدولي للنهر دون استشارة الدول المعنية. ووفق دراسة بعنوان "الخطاب الصحفي الإفريقي" سنة 2000، لرئيس وحدة الدراسات العسكرية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية محمد قدري سعيد، قالت إثيوبيا في خطابها إنها تحتفظ لنفسها بحق استخدام مياه نهر النيل الأزرق كما يروق لها. وأعلنت عزمها بناء سدود على النيل الأزرق والسوابط، ما تصاعد على إثره التوتر إلى الحد الذي دفع السادات للتهديد بضرب أي مشروع تقوم به إثيوبيا ويكون من شأنه التأثير على حصة مصر من مياه النيل.

مع بداية الثمانينيات، تبنى الرئيس المصري محمد حسني مبارك سياسة متوازنة مع إثيوبيا لتأمين مياه نهر النيل وإبعاده عن أي توتر أو خلاف. لكن بعد محاولة اغتياله في أديس أبابا سنة 1995، تحولت العلاقة بين البلدين من جديد إلى الخلاف. ثم تبع ذلك تشجيع إثيوبيا دولَ حوض النيل على توقيع اتفاقية لإعادة تقسيم مياه نهر النيل والمعروفة باتفاقية عنتيبي في مايو 2010، رغم اعتراض مصر والسودان عليها. عاد الحديث عن التهديد العسكري المصري لإثيوبيا، فاتهم رئيس وزراء إثيوبيا السابق ميليس زيناوي مصر باحتمال لجوئها إلى العمل العسكري ضد بلاده بسبب الخلاف على مياه نهر النيل.

ومن الخلاف إلى التعاون من جديد. فمع قيام ثورة يناير 2011، أرسل المجلس العسكري في مصر –والذي كان يدير البلاد انتقالياً بعد تنحي مبارك– رسائل إلى دول حوض النيل، بينها إثيوبيا، لتوثيق العلاقات بين شعوب هذه الدول وحكامها. وهو ما انبثق عنه اتفاق مصر والسودان وإثيوبيا على تشكيل لجنة فنية ثلاثية مستقلة من خبراء الدول الثلاث، بالتعاون مع خبراء دوليين، للنظر في الجوانب الفنية لمعرفة تأثيرات سد النهضة على حقوق مصر والسودان من مياه نهر النيل. كذلك نصَّ الاتفاق على الحصول على موافقة دولَتي المصب، مصر والسودان، على ورقة الشروط المرجعية التي أعدتها إثيوبيا بخصوص سد النهضة.

بالتوازي مع اجتماعات لجنة الخبراء، زار وفد مصري أديس أبابا في نهاية أبريل 2011. التقى هناك عدداً من المسؤولين الإثيوبيين، على رأسهم رئيس الجمهورية الإثيوبي غيرما ولد غيورغيس ورئيس مجلس النواب ووزير الخارجية والبطريرك الإثيوبي. وأثمرت الزيارة عن إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي وقف التصديق على اتفاقية عنتيبي لحين الانتهاء من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مصر. والأكثر من ذلك، أكد زيناوي أنه إذا ثبت أن مشروع سد النهضة سيلحق ضرراً بمصر والسودان فسيُعدّل. خاصة وأن المشروع هدفه توليد الطاقة الكهربائية فقط، ولن يُستخدم منه لترٌ واحدٌ من المياه المحتجزة خلف سد النهضة في زراعة الأراضي الإثيوبية. وافق الجانب الإثيوبي على دخول فريق من الخبراء، من الجانبين المصري والسوداني، لدراسة الآثار التي يمكن أن تنتج عن بناء سد النهضة. وذلك لتقديم تقييمٍ فني من جانبهما للمشروع، والتأكد من انعدام أي مخاطر تهدد حقوق كل من مصر والسودان في المستقبل.

في أثناء انفراجة التفاوض عن أسس بناء سد النهضة، جاءت فترة رئاسة محمد مرسي القصيرة لمصر لتعيد التوتر والخلاف إلى العلاقات المصرية الإثيوبية. غيّرت إثيوبيا مجرى نهر النيل الأزرق إيذاناً ببدء بناء السد، بعد ساعات من لقاءٍ جمعَ مرسي برئيس الوزراء الإثيوبي هيلاميريام ديسيلين في أديس أبابا، على هامش مشاركتهما في أعمال القمة الاستثنائية لقادة دول وحكومات الاتحاد الإفريقي، احتفالاً باليوبيل الذهبي للاتحاد. استبقت إثيوبيا بخطوتها هذه انتهاء لجنة الخبراء التي شكلت سنة 2011 لدراسة أثر سد النهضة في تقليص حصة مصر من مياه نهر النيل. 

عقدت الرئاسة المصرية اجتماعاً حضره محمد مرسي وعدد من القادة السياسيين، وتحدث فيه الرئيس المصري صراحة عن خيار خوض الحرب من أجل حماية المصالح المصرية في مياه نهر النيل، وبُثّ ذلك الاجتماع بثاً حياً.


بعد إزاحة مرسي عن كرسي السلطة في يوليو 2013 وتولي الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي حكم مصر، تغيرت السياسة المصرية بشأن نهر النيل. بدت مصر أكثر قبولاً لفكرة بناء سد النهضة. فدعمت القرار الإثيوبي ببنائه لكنها طلبت في المقابل عقد مفاوضات جدية بشأن عمليات الملء والتشغيل. والسبب أنه كلما مُلئ سد النهضة بسرعة، قلّت كمية التدفقات المائية الجارية في مصر في سنوات الملء والتشغيل. فبقيت مسألة سرعة ملء خزان السد موضع خلاف دائم بين الطرفين.

توصلت مصر والسودان وإثيوبيا إلى اتفاق إعلان المبادئ بشأن مياه النيل سنة 2015، وهو أول اعتراف مصري رسمي بسد النهضة. ومع توقيع الإعلان، صرحت وزارة الخارجية المصرية أن الاتفاق ضمّ عشر مبادئ تأخذ بعين الاعتبار القواعد العامة لمبادئ القانون الدولي التي تنظم التعامل مع الأنهار الدولية. وتضمن بند تنظيم التعامل إنشاء الدول الثلاث آلية لتنسيق تشغيل سد النهضة مع خزانات مصر والسودان، وأن تخطرهما إثيوبيا بأي ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السد. ومن المبادئ، الاستخدام المنصف والمناسب للموارد المائية المشتركة الذي يراعي اعتبارات بينها السكان الذين يعتمدون على الموارد المائية في كل دولة من دول حوض النيل. وقد أوردت وزارة الخارجية المصرية أن الاتفاق "يوفر إطاراً لتعهدات تضمن التوصل لاتفاق حول أسلوب وقواعد ملء خزان السد، وتشغيله السنوي". واحتفاءً بتوقيع الاتفاق، خرجت صحيفة اليوم السابع المصرية تحت عنوان: "السيسي حلّها" على صفحتها الأولى.

إلا أن هناك من يراه اتفاقاً على أرضية الموقف الإثيوبي ولا يحقق أي مطالب لمصر. ومنهم رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام السابق أحمد السيد النجار في كتابه "نهر النيل الأساطير"، الصادر سنة 2021. يحاج النجار فيه أن اتفاق المبادئ لا يحمي حقوق مصر، بل ويمكن اعتباره "هزيمة دبلوماسية للمفاوض الرسمي المصري في قضية سد النهضة".

ومع أن الاتفاق حمل انتصاراً لإثيوبيا لأنها تحررت من أي إلزام باحترام حصة مصر والسودان من مياه النيل وحقوقهما التاريخية، إلا أن إثيوبيا لم تكن مستعدة للالتزام به أيضاً. تعمد الجانب الإثيوبي إطالة أمد التفاوض لكسب الوقت من أجل إكمال بناء سد النهضة بلا أي التزامات يترتب عليها حقوق لدولتَي المصب. ومنذ الجولة الأولى من المفاوضات الثلاثية بشأن الملء الأول والتشغيل السنوي لسد النهضة الإثيوبي بين الدول الثلاث، استمرت الخلافات على مطالب دولتَي المصب، خاصة المطالبة باتفاق قانوني ملزم لتنظيم الملء والتشغيل.

عقدت الدول الثلاث على مدى عقد ونيف العديد من الاجتماعات شهدتها، بالإضافة للولايات المتحدة، دول إفريقية عدة دون اتفاق. لتعلن مصر في ديسمبر 2023 انتهاء المسار التفاوضي واحتفاظها بحقها في الدفاع عن أمنها المائي في حال تعرضه للضرر. وهو ما استبقه الرئيس المصري بالتأكيد في مارس 2021 على أن مصر اختارت الخيار التفاوضي للوصول إلى اتفاق قانوني لملء السد وتشغيله، لكن "محدش هيقدر ياخد نقطة مياه من مصر، واللي عايز يجرب يجرب [. . .] إحنا مبنهددش حد وحوارنا رشيد جداً وصبور جداً. ولكن محدش هيقدر ياخد نقطة مياه من مصر وإلا هيكون في حالة من عدم الاستقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد. ومحدش يتصور إنه يقدر يبقى بعيد عن قدرتنا". وأضاف السيسي أن "مياه مصر لا مساس بها والمساس بها خط أحمر. ورد فعلنا في حال المساس بيها هيأثر على استقرار المنطقة بالكامل".

تهديدات الرئيس المصري لم تثنِ إثيوبيا عن المضي في طريقها نحو إنهاء بناء سد النهضة وملء بحيرته. وذلك لقناعتها بأن ذلك عمل من أعمال السيادة ولا علاقة لأي دولة به، مثلما بنت مصر السد العالي دون استشارة إثيوبيا من قبل.

هذا الموقف الإثيوبي الذي يبدو متعنتاً لدول المصب ربما يفسر مقابلة القاهرة دعوات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في مارس 2025 لحوار بين الدول الثلاث بالصمت. قال آبي أحمد إن سد النهضة لن يلحق الضرر بدولتَي المصب وسيضمن تدفق المياه على مدار العام بعد اكتماله. استبق الدعوة تصريح لمساعد وزير الخارجية المصري لقناة العربية قال فيه إن الحراك الدبلوماسي بخصوص ملف سد النهضة لم يُجمد وإن القاهرة مستمرة بشرح الموقف المصري باعتبار أن القضية وجودية للشعب المصري.


وبعد سنوات من الخلاف والتفاوض، أصبح سد النهضة أمراً واقعاً اكتمل بناؤه وملء بحيرته دون شكاوى مصرية أو سودانية فعلية من تراجع حصتيهما التاريخية من مياه نهر النيل. ولكن يبقى التشكك في الموقف الإثيوبي سيد الموقف. إذ اتفق خبراء مصريون على حساسية الأمر بالذات في المرحلة التالية لتشغيل سد النهضة.

مستشارة مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والخبيرة في الشؤون الإفريقية، أماني الطويل، قالت للفراتس إنه لا يمكن أن تستمر إثيوبيا في التصرف أحادياً مع سد النهضة. وشددت على أن تشغيل سد النهضة سيؤثر على باقي السدود الموجودة على نهر النيل في كثير من دول حوض النيل. فضلاً عن أن بحيرة السد ملئت وسط مستويات غير مسبوقة من هطول الأمطار على إثيوبيا وبحيرة فكتوريا. ويعني هذا أنه لا يمكن القياس على هذه المستويات في حساب حصتَي مصر والسودان من مياه نهر النيل في سنوات الجفاف والجفاف الممتد. وهو أمر لا بد أن يحكمه اتفاق ملزم للأطراف. وأضافت الطويل أن الموقف المصري واضح في عدم التفاوض مع إثيوبيا، وإنما التعامل مع أطراف أخرى ضاغطة وضامنة لجدية أي اتفاق يُتوصل إليه معها.

وفي ظلّ انشغال مصر بقضايا إقليمية أخرى وتراجع ملف سد النهضة في سلّم أولوياتها، يظل سد النهضة الإثيوبي وتهديده المحتمل لحصة مصر من مياه النيل لغماً قد يعصف بأي استقرار في منطقة حوض النيل ومنطقة القرن الإفريقي. ويظلّ شبح التوتر قائماً طالما لم يتوسط نهر النيل بروح الإخاء والتقاليد المشتركة في رأب الصدع، ويشفع تاريخ العلاقات الممتدة في إرث الأزهر والكنيسة الأرثوذكسية لدرء الخلافات، مفسحاً المجال لطريق جديد من التعاون.

اشترك في نشرتنا البريدية