انصبّت انتقادات جمال عبد الناصر في التسجيل على دولٍ وجهاتٍ عربيةٍ، منها سوريا (التي يحكمها البعث أيضاً) والمنظّمات الفلسطينية والجزائر واليمن الجنوبي (حينذاك)، بل وحتى ليبيا التي كان يتحدّث مع زعيمها. وقال عبد الناصر إن تلك الدول تتبع سياسةَ مزايدةٍ على مصر. وفي شكوى عبد الناصر كان للعراق نصيب الأسد من المزايدة. ولأسبابٍ يتعلق بعضٌ منها بخصوصية تلك المرحلة وما تضمّنته من تحوّلٍ في نهج عبد الناصر نحو الواقعية السياسية تجاه إسرائيل، مقابل نظم حكمٍ عربيةٍ ومنظماتٍ فلسطينيةٍ تدعو إلى نهج المواجهة والتصعيد. وكانت بغداد ترفع شعاراتٍ تدعو لتصعيد المواجهة العسكرية مع إسرائيل، فيما تحاول مصر بقيادة عبد الناصر إيجاد استراتيجيةٍ تُخرِجها من مأزقٍ متعدّد الجوانب يتمثل في محاولتها استعادة شبه جزيرة سيناء التي احتلّتها إسرائيل بعد نكسة 1967. تمحور كلام عبد الناصر مع القذافي حول ذلك المأزق، خصوصاً وأن حرب الاستنزاف التي بدأها الزعيم المصري ضدّ إسرائيل بعد هزيمة 1967 لم تغيّر الوضع لا ميدانياً ولا استراتيجياً على النحو المرجوّ.
دار حديث الزعيمين في مرحلةٍ من مراحل الاضطرابات المتكرّرة في السياسة العربية والشرق أوسطية. وكانت تحديداً مرحلة قبول عبد الناصر بمبادرة وزير الخارجية الأمريكي حينذاك ويليام روجرز القائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام. ويعني انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلّتها في حرب 1967 مقابل السلام مع مصر والدول العربية الأخرى.
مثّلت العلاقة المعقدة بين مصر والعراق في النصف الثاني من القرن العشرين محركاً للأحداث في الشرق الأوسط. فبعد وصول حزب البعث للسلطة في انقلابٍ أبيض صيف سنة 1968، أطاح الانقلاب بنظامِ حكمٍ صديقٍ لعبد الناصر، ودخل العراق في مرحلة التنافس مع مصر. كان عبد الناصر قد خاض صراعاتٍ مع العراق في حقبتين سابقتين. الأولى مع نظام الحكم الملكي، وأبرز زعمائه نوري السعيد الذي تولّى رئاسة الوزراء في العراق مرّاتٍ عديدة. أمّا المرّة الثانية، فكانت بعد سقوط الملكية ونوري السعيد في ثورة 14 يوليو 1958 وصعود رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم. انتصر عبد الناصر في المرّتين، وأدّى دوراً مهمّاً في إسقاط كلا السلطتين في العراق. تبوّأ عبد الناصر في تلك المواجهات موقعَ المهاجم المتّهِم للعراقيين بالتخلّي عن الثوابت والمصالح القومية العربية. أمّا في سنة 1970 فقد كان في موقع المدافِع. وقد توفّي عبد الناصر بعد أسابيع من هذا التسجيل، والخلاف بينه وبين العراق مستمرّ.
بدا جمال عبد الناصر في التسجيل مقتنعاً أن دعوات الحكومات العربية الأخرى إلى شنّ حربٍ على إسرائيل غير واقعيةٍ وفيها مزايداتٌ كبيرة على مصر. والأهمّ أنه رفض أن تكون مصر جزءاً من أيّ عملٍ عسكريٍّ، معلِّلاً بأن مصر حاربت بما فيه الكفاية وأنها كانت تحاول الوصول إلى حلٍّ من طريق المفاوضات، حتى وإن كان صعباً ومكلفاً.
وحتى في هذه النقطة، عندما يحلّل عبد الناصر بشيءٍ من الهدوء مواقف الأطراف التي يتّهمها بالمزايدة عليه، يشير إلى أن العراق هو الوحيد القادر على تخصيص الموارد من أجل الإعداد لتعبئةٍ عسكريةٍ أكبر بسبب ثروة العراق وقِدَم جيشِه وموارده البشرية. رَأَى عبد الناصر في العراق دولةً تمتلك عنصرَيْن أساسيَّيْن لتكون ثقلاً عسكرياً. العنصر البشري، والثروات الطبيعية وعلى رأسها النفط. وبهذا يشير في التسجيل إلى أن العراق هو الدولة الوحيدة من بين من عدَّدهم التي تملك القدرة على تحشيد الإمكانيات. لكنه يشير أيضاً إلى الفارق الكبير في الإنفاق العسكري بين العراق وإسرائيل، التي كانت تنفق أضعاف ما ينفقه العراق.
جوهر الحديث في تسجيل عبد الناصر والقذافي هو الشعور بعدم الرضى عن الموقف العراقي المتعارض مع مصر، الذي جاء بعد عامين فقط من وصول حزب البعث العربي الاشتراكي (فرع العراق) إلى السلطة. حدث ذلك في انقلابٍ أبيض قادَه أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين، وأطاح بنظامٍ صديقٍ لعبد الناصر مثّله الرئيس عبد الرحمن عارف. وبهذا تحوّل العراق من منطقة نفوذٍ لمصر إلى دولةٍ منافسةٍ لعبد الناصر على زعامة العالم العربي، بل ومهدِّدةٍ إيّاه في فترة ما بعد نكسة 1967. رفع حكّام العراق الجدد شعاراتٍ ثوريةً وتوعّدوا بتحرير الأراضي العربية المحتلّة بالقوّة. في حين شابَ عبد الناصر شيءٌ من الواقعية السياسية التي بدت على اصطدامٍ مع هذا النهج الثوري. ولكن العلاقة المتوترة مع النظام الجديد لم تكن وليدة اللحظة في علاقة مصر الناصرية بالعراق. فقد سبقتها حقبتان، منذ الخمسينيات، شابتهما أيضاً أوجه توترٍ وتصادماتٌ في المصالح والرؤى بين بغداد والقاهرة.
باتت العاصمة بغداد مقرّاً للحلف. كان من دوافع تشكيل حلف بغداد –وبمساندةٍ أمريكيةٍ أيضاً– الوقوف في وجه المدّ الشيوعي في منطقة الشرق الأوسط. فكان واحداً من الأحلاف التي شهدتها حقبة الحرب الباردة. وقع الحلف في مرمى نيران عبد الناصر وخطاباته النارية المؤثرة في الجماهير العراقية والعربية. وكانت تنشرها أجهزة دعايته التي كانت تتصدّرها إذاعة "صوت العرب" ذات التأثير الكبير في الخمسينيات والستينيات.
كذلك فإن عدم دعم الحكومة العراقية مصرَ أثناء أزمة حرب السويس من أكتوبر إلى نوفمبر سنة 1956 (بعد تأميم قناة السويس في يوليو من ذلك العام) أدّى إلى تأجيج الخلاف بين القيادة العراقية ومصر عبد الناصر. ويرجَّح أن أحد أسباب موقف العراق الرسمي من تأميم القناة كان مرتبطاً بعضويّته في حلف بغداد مع بريطانيا، وهي التي كانت لها الحماية على قناة السويس واستخدمتها طريقاً مختصراً لمستعمراتها في الشرق ولحقول النفط في الخليج العربي. أي أنّ تأميم عبد الناصر القناةَ كان ضربةً لتوازن القوّة في المنطقة، وهو ما تصاعد إلى عدوانٍ ثلاثيٍّ على مصر شنَّته إسرائيل وفرنسا وبريطانيا لانتزاع السيطرة على القناة من عبد الناصر. لكن على مستوى الشارع العراقي، اندلعت انتفاضةٌ شعبيةٌ عارمةٌ تضامناً مع مصر وعبد الناصر الذي خرج من الأزمة بطلاً في عيون العرب. ومع أن مصر خسرت الحرب عسكرياً مع الدول الثلاث، لكنّها انتصرت سياسياً بوقوف أمريكا والاتحاد السوفييتي ضدّ إرادة هذه الدول.
وحسب ما يشير حنّا بطاطو في كتابه "الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار" الصادر سنة 1992، ضَعُف النظام الملكيّ العراقي نتيجةً لتلك الأزمة. وكان أصلاً يواجِه عواملَ ضعفٍ داخليةً، مثل تزايد الفقر في المدن، والاستغلال الاجتماعي على يد الإقطاع في الريف، وازدياد تنظيم القوى المعارضة لصفوفها. أدّى كلّ ذلك في النهاية إلى الإطاحة بالملكية العراقية في 14 يوليو 1958 على يد ضباطٍ ألهمهم نموذج عبد الناصر وجاذبيّته.
جاء الانقلاب العراقي الذي سُمِّيَ ثورةً شعبيةً بعد اندلاع تظاهراتٍ شعبيةٍ واسعةٍ رحّبت به من جماهير القوى السياسية الرئيسة، وأبرزها الشيوعيون والقوميون العرب. كانت شعبية عبد الناصر ومكانته في العالم العربي في تلك اللحظة في أوجِها. فقد كان يترأس الجمهورية العربية المتحدة التي أُعلِنَت بعد وحدة مصر وسوريا في فبراير 1958. وبدا مؤمّلاً أن ينضمّ العراق إلى الوحدة. كانت تلك لحظاتٍ تضاءلت فيها الاختلافات بين البعثيين وعبد الناصر. فقد حضر زعيم حزب البعث السوري ميشيل عفلق إلى العراق في الأيام الأولى التي تلت سقوط النظام الملكي ليحثّ قادة النظام الجديد على الوحدة مع مصر. لكن حاكم العراق الجديد رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم كان له رأيٌ آخَر. رأى قاسم في نفسه زعيماً عراقياً مهتمّاً بإنشاء جمهوريةٍ عراقيةٍ كان يصفها بالخالدة. تنتمي هذه الجمهورية بنظرِه إلى العالم العربي. لكنها لا تنضمّ إلى كيانٍ آخَر بل تستقلّ بنفسها مركزَ قوّةٍ، أو على الأقل تبقى مستقلّةً عن النفوذ الناصري. وبهذا الاتجاه عاد العراق سريعاً بعد سقوط الملكية ليصبح مرّةً أخرى ندّاً إقليمياً لعبد الناصر.
اعتَقَل قاسم صديقَه عارف الذي كان التقى عبد الناصر في الأيام الأولى التي تلت سقوط الملكية في العراق، وبدأ يتحدث عن الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة. انسحب الوزراء القوميون من حكومة قاسم بعد أن سمح للشيوعيين العراقيين بالتمدّد والسيطرة على الشارع ليواجه بهم التيارَ القومي. وهذا كما يرد في كتاب "عبد الناصر والعراق" لجمال مردان، الصادر سنة 1990.
تبادل العراق ومصر الحملات الإعلامية، وكانت قدرات مصر أكبر في هذا الميدان. وشجّع عبد الناصر حركات التمرّد العسكري ضدّ قاسم، الذي أصبح اسمه في الدعاية المصرية "قاسم العراق". حاول قاسم الصمودَ خارجياً محاولاً مثل عبد الناصر أن يدعم حركات التحرر، وخصوصاً في الجزائر وفلسطين. وهذا ما يورده ليث الزبيدي في كتابه "ثورة 14 تموز 1958 في العراق" الصادر سنة 1981. أمّا داخلياً فقد كان يحاول إرساءَ عهدٍ جديدٍ يركّز على الخصوصية العراقية، أو قُل تيار القومية العراقية أو "العراق أولاً". وهو المبدأ الذي سَكَّه أتباع قاسم من بعده. نصّ دستور جمهورية قاسم العراقية على أن الشعب العراقي مكوّنٌ من قوميتين، عربيةٍ وكردي. وكان ذلك أوّل اعترافٍ على هذا المستوى من الدولة العراقية بتمايز القومية الكردية التي تشكّل الأقلية الأكبر في العراق.
وعلى خلافه مع عبد الناصر، قدّم قاسم سياساتٍ تشابه في بعض ملامحها سياسات الزعيم المصري الداخلية في مصر. فمثلاً أصدر رئيس مصر الأوّل محمد نجيب سنة 1952 قانونَ الإصلاح الزراعي وطبّقه عبد الناصر. وعلى المنوال ذاته أصدرت حكومة قاسم فور تولّيها السلطة سنة 1958 قانوناً للإصلاح الزراعي، وأنشأت برامجَ لمساعدة الطبقات الفقيرة، وتفاوضت مع الشركات الأجنبية المستثمرة لنفط العراق على زيادة حصّة العراق في ثروته النفطية.
لكن قاسم قمع معارضيه وتفرّد باتخاذ القرارات. كذلك ارتكب الشيوعيون الداعمون له والمدعومون منه أعمالَ عنفٍ وحشيةً ضدّ خصومهم، حتى اضطرّ قاسم نفسه إلى إدانة بعضها. أهمّها ما حصل في الموصل في أكتوبر 1959، حين أقام الشيوعيين مهرجانهم "أنصار السلام" في المدينة دون اعتبارٍ لطابع المنطقة الديني المحافظ، ما دفع ضابط جيشٍ للانقلاب استنكاراً لسلوكيات الشيوعيين. ومع فشل الانقلاب، انتقم الشيوعيون من أبناء المنطقة تنكيلاً وسحلاً وقتلاً. ويشير الباحث العراقي فارس الخطاب في ورقةٍ خاصةٍ بموقع "عربي21" بعنوان "قصة الحزب الشيوعي العراقي في عهد عبد الكريم قاسم" إلى أن صعود قاسم السلطة مكّن الحزب الشيوعي العراقي، وكانت أولى قرارات الحكومة الجديدة إطلاق سراح الشيوعيين من السجون. وكذا انتقلت الحركة الشيوعية من كونها تنظيماً سريّاً إلى العلن. قمع قاسم المعارضة التي تصدّرها القوميون وبرز البعثيون تحديداً متصدّرين التيار القومي، فكانوا القوّة الوحيدة التي تجرّأت على مواجهة الشيوعيين ومقاومتهم.
حاول البعثيون اغتيال قاسم في محاولةٍ شارك بها صدام حسين في أكتوبر 1959. لكن فشلت العملية وهرب صدام حسين إلى مصر ليقيم هناك مع عراقيين بعثيين وقوميين آخَرين عاشوا لاجئين في القاهرة.
ساد الاعتقاد ومازال بأن عبد الناصر دعم محاولة الاغتيال. ومردّ ذلك الاعتقاد إلى "دلائل ظرفية" ارتكزت على عداء ناصر لعبد الكريم قاسم ومصلحته في إقصائه. ولكن ليس ثمّة معلوماتٌ مؤكدةٌ عن دور الرئيس المصري في العملية. أمر الأمين العامّ لفرع العراق بحزب البعث فؤاد الركابي بتنفيذ العملية. لكن القيادة القومية للبعث بزعامة ميشيل عفلق، كما يبدو، رفضت العملية إذ عدّتها مغامرةً غير محسوبة. أدّى ذلك إلى ابتعاد الركابي –الذي انتقل هو الآخَر إلى مصر– عن البعث واقترابه من الناصرية. وقد علّق سليم شاكر الأمامي في مقابلةٍ على قناة العراقية الإخبارية سنة 2022، وهو عقيدٌ ركنٌ كان قائد لواءٍ مدرعٍ على الجبهة السورية في حرب 1973، بأن الركابي اتّخذ قرار اغتيال قاسم منفرداً وعليه أُبعِد عن حزب البعث.
استمرّ الصراع بين عبد الناصر وقاسم إلى أن أطيح بالأخير في انقلابٍ يوم 8 فبراير 1963 قاده حزب البعث متحالفاً مع ضباطٍ قوميّين عرب. أعدم البعثيون عبد الكريم قاسم وجلبوا عبد السلام عارف من الإقامة الجبرية ووضعوه رئيساً للجمهورية لأنه كان الشخصية القومية الأبرز في العراق. تولّى أحمد حسن البكر رئاسة الوزراء، وبدأ فصلٌ جديدٌ في علاقة العراق مع مصر عبد الناصر.
كانت سنة 1955 حاسمةً في تطور العلاقات المصرية السورية، وبالمحصلة علاقة مصر بحزب البعث العربي. فهي السنة التي كسرت فيها مصر احتكار السلاح عنها بتأمين صفقة الأسلحة التشيكية. وهي أيضاً سنة مقاومة حلف بغداد. بدت اتجاهات مصر وسوريا السياسية في تقاربٍ مستمر، حتى عُدَّ عبد الناصر في أوساط البعثيين "زعيم البعث القومي الحقيقي". وهذا على حدّ تعبير سامي الجندي، أحد قيادات البعث السوري، في برقيةٍ إلى عبد الناصر في يونيو 1956.
في سنة 1958 أدّى حزب البعث العربي بقيادة ميشيل عفلق دوراً محورياً في الدعوة إلى إنجاز الوحدة بين مصر وسوريا، وهو ما تحقق. لكن سنوات الوحدة الثلاث شهدت بروز خلافاتٍ بين عبد الناصر وقادة حزب البعث العربي، كانت في جوهرها تتعلق بالسلطة والسيطرة. الهيكلية التي قامت عليها الوحدة، مثلاً، همّشت الدور السوري وعزّزت الهيمنة المصرية على قراره. كذلك فإن عبد الناصر فكّك الأحزاب السياسية، لاسيما الشيوعية، ما سبّب جموداً في الحركة السياسية السورية التي اعتمدت على تعدديةٍ حزبيةٍ في زمن ما قبل الوحدة. ويرد في كتابَيْ باتريك سيل "الصراع على سوريا" المترجَم سنة 1968 و"الأسد، الصراع على الشرق الأوسط" المترجَم سنة 2007 أن الخلافات بدأت شرخاً في صفوف الحركة القومية العربية تعمَّقَ حينما أيّد بعض قادة البعث الانقلابَ الانفصالي الذي أنهى الوحدة في سبتمبر سنة 1961 وجاء بحكومةٍ سوريةٍ ضعيفةٍ نسبياً أطاح بها انقلابٌ بعثيّ بعد سنتين في مارس 1963.
كان حزب البعث العربي قد وصل إلى الحكم في العراق قبل شهرٍ واحدٍ من انقلاب سوريا. ولم يدم حكم البعث العربي في العراق بدايةً سوى عدّة أشهر. ثمّ أُزيح عن السلطة نهاية سنة 1963 بانقلابٍ قاده شريك البعثيين في الحكم الرئيس عبد السلام عارف الذي أحكم قبضته على السلطة.
مع الصداقة الشخصية بين عبد السلام عارف وعبد الناصر، ومع انتماء الرئيس العراقي للحركة القومية، إلّا أن العراق لم يحقّق الوحدة مع مصر، على ما بدا من رغبةٍ جماهيريةٍ بتحقيقها. هذا مع انخراط مصر وسوريا والعراق في محادثاتٍ مكثفةٍ سنة 1963 لإنشاء دولةٍ اتحاديةٍ بينهم. انتهت المحادثات بالفشل. ويبدو أن خطوات كلّ الأطراف أصبحت أكثر حذراً في هذه القضية بعد نهاية وحدة مصر وسوريا بالانفصال.
ازداد نفوذ عبد الناصر في العراق في عهد عارف. وتطوّر سنة 1965 مع محاولة ضابطٍ عراقي ناصري اسمه عارف عبد الرزاق قيادةَ انقلابٍ على عبد السلام عارف لتعجيل إنجاز الوحدة. كان عبد السلام عارف قد عَيّن عبد الرزاق رئيساً للوزراء لإرضاء التيار الناصري. لكن انقلاب رئيس الوزراء هذا فشل، ليهرب بعدها إلى مصر. مع ذلك، لم تؤدّ محاولة الانقلاب إلى قطيعةٍ بين البلدين. كان عارف يعتمد على دعم عبد الناصر ويؤمن بقيادته لكنه لم يرِد التخلّي عن سلطته وسيادته في العراق.
تجلّى النفوذ المصري في العراق بقوّةٍ سنة 1966 عندما توفّي عبد السلام عارف في حادث تحطم طائرته المروحية مع بعض وزرائه ومرافقيه في ظروفٍ غامضةٍ أثناء رحلةٍ تفقديةٍ لمحافظات الجنوب العراقي. انقسمت القيادة العراقية بين تأييد رئيس الوزراء المحافظ والأكاديمي الحقوقي، عبد الرحمن البزّاز، أو اختيار عبد الرحمن عارف شقيق الرئيس عبد السلام. حضر عبد الحكيم عامر، قائد الجيش المصري والرجل الثاني في نظام عبد الناصر، شخصياً إلى بغداد ودعم اختيار عبد الرحمن عارف للرئاسة. لذلك حُسم الأمر لصالح شقيق الرئيس السابق، وهو ضابطٌ أيضاً وكان يشغل منصب رئيس أركان الجيش. ومن الطريف أن الضابط الناصري المغامر عارف عبد الرزاق تسلّل من مصر ليقود محاولة انقلابٍ ثانيةً فشلت هي الأخرى وأودِع على إثرها السجن. لكن نفوذ عبد الناصر في العراق اهتزّ بشدّةٍ، كما اهتزّ في كثيرٍ من البلدان العربية الأخرى، بعد هزيمة 1967.
أمّا في سوريا، فقد تمكّن جناحٌ بعثيّ يُعرف باللجنة العسكرية ويقوده ضباطٌ من الطائفة العلوية وأقلّياتٍ أخرى من الاستيلاء على السلطة في انقلابٍ بفبراير 1966. أزاح تنظيم اللجنة العسكرية بزعامة صلاح جديد وحافظ الأسد القيادةَ البعثية التقليدية التي كان يقف وراءها مؤسّس الحزب ميشيل عفلق.
انشقّ حزب البعث العربي بذلك إلى جناحين، سوريّ وعراقيّ. وكان التنافس بينهما محركاً أساساً للصراعات الإقليمية في المشرق العربي طيلة عقود. لكن الجناحين انخرطا في منافسة عبد الناصر على زعامة الحركة القومية العربية. وعلى حسب تعبير محمد إسماعيل في كتابه "أمن مصر القومي" الصادر سنة 1987، فقد اختلف بعثيّو سوريا والعراق ولكنهم اتفقوا في عداوتهم لعبد الناصر. ويستشهد بأن عبد الناصر لم يكن ليثق بحافظ الأسد، ولذلك أمر بسحب الضباط المصريين من القواعد السورية وتجميد التعاون العسكري مع دمشق بمجرد صعود الأسد لوزارة الدفاع.
وعن هذه التناحرات يحكي أيضاً مالكولم كير في كتابه "الحرب العربية الباردة، عبد الناصر ومنافسوه" المترجَم للعربية سنة 1997. يرى كير أن الحرب مع إسرائيل كانت ثانويةً في ستينيات القرن العشرين قياساً بالصراعات البينية العربية. وهو ما يُستشفّ من حديث عبد الناصر مع القذافي في التسجيل. إذ ينتقد دعواتِ العرب، ومنهم العراق، لتحرير فلسطين من غير حشدٍ ولا تحرّكٍ فعليّ. يقول عبد الناصر للقذافي: "أنا معاك في حشد القوة العربية [. . .] بس محدّش هيحشد". وفي موضع: "هم قوّتين عسكريتَين اللي ممكن يحشدوا [. . .] هم العراق وبومدين [في إشارةٍ للجزائر]". واستمرّت هذه التناحرات الناصرية مع العراق –ولاسيما بعثيّوه أصدقاء الأمس– في عهد عبد الرحمن عارف وبعده، وهو الذي تولّى السلطة أقلّ من عامين.
كان قادة حزب البعث العربي يتسابقون للتعبير عن مواقفهم المؤيدة للقضية الفلسطينية ولشنّ حربٍ على إسرائيل لتحرير الأرض العربية. أمّا صدام حسين فقد كان أكثر هدوءاً واكتفى بمنصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة في تلك الآونة الأولى، مركّزاً على بناء أجهزة الأمن الداخلي وقيادتها وعلى تقوية موقعه في صفوف حزب البعث. كان التصعيد اللفظي وسيلةً للدفاع في خضمّ تنافسٍ على مستوىً عالٍ بين البعثيين العراقيين بعضهم بعضاً، وبينهم وبين منافسيهم البعثيين من الجناح الآخر لحزبهم الذي كان يحكم سوريا، وبين الجناحين وعبد الناصر.
حسب فيبي مار في كتابها "تاريخ العراق المعاصر" المترجَم للعربية سنة 2009، قامت استراتيجية البعث العراقي العائد إلى السلطة سنة 1968 على البقاء فيها وعدم خسارتها كما حصل قبل خمس سنوات. أوتي ذلك بمحاولة تسوية الصراعات مع المنافسين الداخليين أو تهدئتها. ومن أبرز هؤلاء المنافسين الشيوعيون والقوميون الأكراد. أمّا خارجياً، فقد تبنّى العراق خطاباً حادّاً داعياً إلى مواجهة إسرائيل والإمبريالية، ولكن من غير الذهاب فعلياً إلى عملٍ عسكريّ. وهو ما يشير إليه وينتقده عبد الناصر في التسجيل. كذلك فإن العراق لا يحتاج دائماً إلى تنفيذ تهديداته ضدّ إسرائيل، وهو الذي لا حدود له معها. أما قوّاته الموجودة في الأردن، فهي قوّاتٌ في بلدٍ ذي سيادةٍ له حقّ اتخاذ قرارات السلم والحرب. وكان العراق أرسل تلك القوات في حرب 1967 لكنها لم تشترك فعلياً في القتال الذي انتهى بسرعةٍ باحتلال إسرائيل كلّاً من سيناء في الجانب المصري، وقطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية، وهضبة الجولان على الجانب السوري، والضفة الغربية وضِمنَها القدس على الجانب الذي كان يديره الأردن.
باعتباره حزباً قومياً عربياً، بدا أن البعث العراقي كان يحتاج لإظهار موقفٍ قويٍّ تجاه فلسطين لكي يقدّم نفسه للشعب العراقي وللعرب تغييراً، لا على مستوى العراق فقط بل على المستوى القومي العربي. أمّا عبد الناصر الجريح بسبب هزيمة 1967، فكان قد خسر جزءاً كبيراً من موقعه زعيماً للقومية العربية. ففتح ذلك الموقعَ للمنافسين، وعلى رأسهم حزب البعث العراقي، لتصدّر المشهد القومي. وهكذا شدّد البعثيون العراقيون هجماتهم على عبد الناصر من حيث أن القيادات التي انهزمت يجب أن تغادر مواقعها لكي ترتقي قياداتٌ جديدة. كان ذلك الخطاب مستمراً من بغداد أحياناً من غير الإشارة مباشرةً الى عبد الناصر، وأحياناً بالإشارة إليه عندما تشتدّ السجالات السياسية الإعلامية، مثل الأجواء التي جرى فيها حديث عبد الناصر مع القذافي في التسجيل.
كتب وزير الداخلية العراقي صالح مهدي عمّاش (تولّى وزارة الداخلية سنة 1968) كتاباً سمّاه "رجال بلا قيادة حول إسرائيل" سنة 1971، مؤرّخاً لتلك الفترة وما فيها من مناكفاتٍ بين القيادة العراقية البعثية ومصر عبد الناصر. يتجنّب عمّاش ذكر عبد الناصر بالاسم غالباً. إلّا أنه ينتقد بشدّةٍ "بقاء القادة المهزومين في مواقعهم وكأنما يريدون جلب هزيمةٍ أخرى". يمتلئ الكتاب بما يكفي لعقد مساجلاتٍ طويلةٍ مع عبد الناصر حول عدم فاعلية التنسيق العسكري العربي المشترك ومن يتحمل المسؤولية عنه وعن شبهات الخيانة والتقصير. لكن رحيل عبد الناصر بعد أسابيع من التسجيل طوى تلك الصفحة من العلاقات الملتبسة بين مصر والعراق.
لم يتدخل حزب البعث العراقي في أحداث الصراع الدامي بين الملك حسين والمنظمات الفلسطينية في سبتمبر 1970، ما سُمّي "أحدث أيلول الأسود". أُزيح حردان التكريتي من موقعه إثر ذلك بعد تحميله مسؤولية عدم تدخل القوات العراقية بطريقةٍ تحفظ ماء وجه العراق، صاحب الصوت العالي في دعم الفلسطينيين. اغتيل حردان في السنة التالية في الكويت، واتُّهِمَت الحكومة العراقية باغتياله. أمّا عمّاش، فأزيح أيضاً بطريقة أكثر هدوءاً وتدريجياً في إطار الصراعات الداخلية على السلطة في العراق، وعلى رأسها الرئيس البكر ونائبه صدام حسين.
ومع تحسن علاقات العراق بمصر أثناء الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت سنة 1980 واستمرت حتى 1988، قاد الرئيس العراقي السابق صدام حسين جهود إعادة مصر إلى الجامعة العربية. وتلا ذلك إنشاء العراق مع مصر مجلسَ التعاون العربي بمعيّة الأردن واليمن سنة 1989. إلّا أن القطيعة عادت لتحلّ بين البلدين عندما احتلّ العراق الكويت في 1990. استمرّ الجفاء حتى احتلال العراق سنة 2003.
تغيّر مشهد السياسة الإقليمية اليوم عمّا كان عليه في سنة 1970، لكن صوت عبد الناصر القادم من تلك الحقبة سيبقى يذكّر العرب بصفحاتٍ أساسيةٍ من تاريخهم وصراعاته الملتبسة.
