عند خروجي من القاعة، شغلني سؤالٌ عمّا يمثّله ظهور هذا الطقس الصوفي في هذا الزمن والسياق. كيف لرقصةٍ كانت حتى تسعينيات القرن الماضي محظورةً وملاحَقةً أن تُعرضَ اليوم تحت أضواء المسارح وبرعايةٍ رسميةٍ، لتكون جزءاً أصيلاً من المشهد الثقافي الوطني التركي. بدت لي تلك الدائرة التي يرسمها الدراويش بأجسادهم أكثر من مجرد طقسٍ ديني. بل هي استعارةٌ مجسّدةٌ لمسارٍ مجتمعيٍ متقلّبٍ، تتقاطع فيه الذاكرة الرسمية مع الوجدان الشعبي، وتتواجه فيه سياسات الطمس مع طاقات الاستعادة. إذ تحاول الدولة التركية نسيان ما لا يزال حيّاً في وجدان الناس عندما لاحقت الطرقَ الصوفيةَ منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك. الرموز التي أرادت الدولة لها أن تختفي عادت لتظهر علاماتٍ على هويةٍ أعمق من النسيان.
لم يكن التصوف في الدولة العثمانية ممارسةً روحيةً هامشيةً، بل نسيجاً حيّاً مندمجاً في بنية الإمبراطورية الاجتماعية والسياسية. فقد كانت التكايا وهي عمائر خاصة لإقامة المنقطعين للعبادة من المتصوفة وإيواء ومساعدة عابري السبيل والمحتاجين، فضاءاتٍ للتعليم والرعاية، ومراكزَ للضيافة والتكافل، وأطراً لضبط السلوك الجماعي ونقل القيم. هذا قبل أن تظهر فكرة الإدارة المركزية الحديثة في القرن التاسع عشر، ومن ثمّ القطيعة الكمالية مع الإرث العثماني، وتبدأ الطرق الصوفية تواجه تقييداً لم تشهده من قبل. ولعل هذه العودة للاحتفاء بالتصوف في تركيا الحديثة تعكس تحولاتٍ أعمق في علاقة تركيا مع ذاكرتها العثمانية. فالمولوية، التي كانت يوماً محجوبةً عن الفضاء العامّ، أصبحت مرآةً تُطلّ منها الدولة والمجتمع على أسئلة الهوية والانتماء. وما بين محاولات المحو وسياسات الإحياء، وبين التجذير القسري والانبعاث التلقائي، تنكشف حكاية الدراويش نصّاً مفتوحاً لقراءة مسارات التوتر والتصالح في مسار الدولة التركية الحديث.
لم يقتصر تأثير المتصوّفة على المجال الداخلي، بل شارك كثيرٌ منهم في مسيرة الفتوحات العثمانية منذ القرن الرابع عشر. انتقل المتصوفة مع الجيوش إلى الأراضي المفتوحة، وأسّسوا فيها زوايا لتكون مراكز لنشر الإسلام وتعليم القرآن ومدّ يد العون الاجتماعي والثقافي. ويذكر قدير أوزكوسه، أستاذ الإلهيات في جامعة سيواس التركية، في مقالته "عثمانلي دولتينن قورولوش دونمينده تكلرين فونكسييونو" (وظيفة التكايا في مرحلة تأسيس الدولة العثمانية)، المنشورة سنة 2017، أنّ السلاطين العثمانيين أدركوا منذ البداية الدور المحوري للطرق الصوفية في ترسيخ وحدة المجتمع وإضفاء شرعيةٍ دينيةٍ وروحيةٍ على الحكم. فنسجوا علاقاتٍ وثيقةً مع شيوخ التصوف واستشاروهم في شؤون الدولة وطلبوا دعاءهم وبركاتهم في اللحظات المفصلية.
حرص السلاطين على رعاية المؤسسات الصوفية مادّياً ومعنوياً، فأنشؤوا للتكايا والزوايا خاناتٍ وأوقافاً مخصّصةً، ووفّروا لها موارد ثابتةً من ميزانية الدولة. وتكشف سجلات الدولة في ولاية الأناضول عن تأسيس 626 زاويةً تُدار بأموال الأوقاف بين سنتَيْ 1550 و1560 ويعمل فيها 3229 شيخاً ومشرفاً صوفياً يتقاضون رواتب منتظمة.
على هذا الدعم الواسع، حرصت الدولة العثمانية على مراقبة النشاط الصوفي وضبطه بما ينسجم مع العقيدة والسلوك الديني. ومنذ عهد أورخان غازي، ثاني سلاطين الدولة العثمانية في القرن الرابع عشر، ظهرت أوّل إجراءاتٍ تنظيميةٍ، فأمر بتفتيش دراويش بورصة ومعاقبة المنحرفين منهم حفاظاً على الانضباط الديني والاجتماعي داخل التكايا. يقول أوزكوسه إنّ الدولة العثمانية واجهت الفرق المتطرفة أو المنشقّة التي اتخذت التصوف غطاءً لأفكارٍ رَأَتْها هرطقةً أو ذات نزعاتٍ انفصالية. فلاقت جماعاتٌ مثل الحروفيين والقلندريين والبكتاشية والبابائية والملامية ما لاقت من الملاحقة والمراقبة المستمرة، ولم يُتَح لها غالباً نشر أفكارها داخل أراضي الدولة.
مع حلول القرن السادس عشر وصعود الدولة الصفوية ذات الجذور الصوفية والتي أصبحت لاحقاً شيعية، شدّدت السلطة العثمانية قبضتها أكثر على النشاط الصوفي، دفاعاً عن المذهب السنّي الرسمي في وجه النفوذ الصفوي الشيعي. وقد بلغ هذا التشدد ذروته في عهد السلطان سليم الأول، تاسع سلاطين الدولة العثمانية، الذي قاد حملة قمعٍ ضدّ البكتاشية والقزلباشية المشتبه بولائهم للصفويين. في دراسةٍ بعنوان "عثمانلي دولتينده دولت طريقت إيليشكيلري باغلاميندا مجلسِ مشايخ" (مجلس المشايخ في سياق علاقات الدولة بالطرق الصوفية في الدولة العثمانية) منشورةٍ سنة 2021، يلخّص المؤرخ التركي إسماعيل كايا هذه السياسةَ بقوله إن الدولة العثمانية أتاحت للطرق الصوفية هوامش واسعةً من الحرية، ما دامت تضطلع بوظائف اجتماعيةٍ نفعية.
مع تعاظم حضور الدولة المركزية في القرن التاسع عشر تغيّر موقع الطرق الصوفية داخل الدولة العثمانية. كانت الإمبراطورية حينئذٍ تدخل مرحلة الإصلاحات المركزية والتحديث. وعلى بقاء التصوف عنصراً راسخاً في الحياة الاجتماعية والدينية، بدأت السلطات تنظر إلى نفوذ الطرق وشبكاتها الواسعة بقدرٍ متزايدٍ من الحذر، إذ تعدّها كياناتٍ ذات استقلالٍ إداريٍّ وماليٍّ لا يتوافق مع نموذج الدولة المركزية الحديثة قيد التشكل.
يقول كايا إنّ الدولة العثمانية اتخذت سلسلةً من الخطوات الهادفة إلى إخضاع التكايا للرقابة الرسمية وتقليص استقلالها. وكان أبرزها تأسيس مجلس المشايخ سنة 1866 ليكون هيئةً عليا تشرف على شؤون الطرق برئاسة "شيخ الإسلام" (منصب بمثابة المفتي الأكبر). وقد مُنح المجلس صلاحياتٍ واسعةً، في مقدمتها المصادقة على تعيين شيوخ التكايا وتنظيم أوضاعهم. وبذلك انتقل الإشراف على الزوايا من نموذج الإدارة الذاتية التقليدية إلى الإدارة المركزية الحديثة.
ألحقت الدولة بعد ذلك أوقافَ التكايا بنِظارة الأوقاف التي أصبحت وزارة الأوقاف لاحقاً، وهو ما أدّى إلى انتزاع مصادر التمويل المستقلة التي اعتمدت عليها المؤسسات الصوفية قروناً. هزّت هذه التدابير ركائزَ الحياة الصوفية التقليدية، إذ وجد المشايخ والدراويش أنفسَهم أمام دولةٍ حديثةٍ تقلّص من استقلالهم وتفرض عليهم أنماطاً تنظيميةً جديدة.
لم تستسلم الطرق لهذه القيود، فطوّرت خططاً مرنةً مكّنتها من الصمود والحفاظ على تأثيرها. حتى أن بعض شيوخ الطرق فتحوا تكايا جديدةً بلا ترخيصٍ رسمي، واستغل بعضهم الثغرات القانونية للحفاظ على أوقافهم، واعتمد آخرون على نفوذهم الروحي والاجتماعي لكسب تأييد العامة وبعض الموظفين البيروقراطيين لتحقيق مطالبهم بلا مواجهةٍ مباشرةٍ مع السلطة. ويعلّق زكريا إيشيك، أستاذ التاريخ في جامعة هيتيت التركية، في دراسته "19 يوزييل عثمانلي طملومندا طريقتلارِن دولت أوتوريتسي قارشيسنداكي توتوملاري" (مواقف الطرق الصوفية في المجتمع العثماني خلال القرن التاسع عشر تجاه سلطة الدولة) المنشورة سنة 2017، بأن فهم العلاقة بين الدولة والطرق في القرن التاسع عشر يستلزم إدراك هذه الأساليب الخفيّة للمقاومة الهادئة، التي انتهجها المشايخ تفادياً لسلطة الدولة المطلقة ومحافظةً على إرثهم الروحي ضمن عالمٍ آخذٍ في التحديث والتحول.
على تنامي تدخل الدولة في شؤون التكايا خلال القرن التاسع عشر، ظلّت شعبية الطرق الصوفية ملموسةً في الأناضول والولايات العربية والبلقان. فقد حافظ عامّة الناس على حضورهم الكثيف في حلقات الذكر وطقوس التكايا طلباً للإرشاد الروحي والبركة، واستمرت الطرق في أداء دورٍ اجتماعيٍ فاعل. واكتسبت بعض الطرق نفوذاً سياسياً غير مباشرٍ، فبرزت النقشبندية الخالدية القادمة من كردستان داخل أوساط العلماء ودوائر الحكم، وتنامى تأثيرها في أواخر العهد العثماني. وكان السلطان عبد الحميد الثاني معروفاً باستقطابه رجال التصوف ودعمهم، مستثمراً حضورهم الشعبي في إطار سياسته الساعية للوحدة الإسلامية.
في المقابل، شكّلت بعض الطرق بؤراً لمعارضة السلطة حين تعارضت سياسات الدولة مع مصالحها أو مبادئها. ويُعدّ مثال البكتاشية أكثرها دلالة. فارتباط البكتاشية التقليدي بفيالق الانكشارية جعلها موضع ريبةٍ لدى السلطان محمود الثاني خلال مشروعه الإصلاحي، وأصدر السلطان فرماناً بحظر الطريقة البكتاشية ومصادرة أوقافها بعد القضاء على الانكشارية سنة 1826.
هكذا أدّت الطرق الصوفية في الدولة العثمانية أدواراً متعدّدة المستويات. فكانت روحياً حاضنةً للتديّن الشعبي ورافعةً للتصوف السنّي. وكانت اجتماعياً مؤسساتٍ للرعاية والتعليم والإصلاح بين الناس. وكانت سياسياً مصدراً للشرعية وفاعلاً يمكن للدولة أن تستثمره أو تخشى نفوذه عند التعارض. ويتجلى هذا بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى سنة 1918 واحتلال الحلفاء مناطقَ من البلاد.
امتد حضور التأثير الصوفي إلى لحظة تأسيس الجمهورية وإعلان أنقرة عاصمةً جديدة. فقد زار أتاتورك مركز الطريقة البكتاشية في منطقة الحاجّ بكتاش في ولاية نوشهير وسط تركيا في ديسمبر 1919. هنالك التَقى زعماؤها طلباً لدعمهم، وراسل كثيراً من العلماء والزعماء الدينيين لكسب ولائهم للقضية الوطنية. وافتُتح المجلس الوطني الكبير في أنقرة سنة 1920 عقب صلاة الجمعة في حضرة شيخ الطريقة البرهانية (نسبة إلى برهان الدين إبراهيم الدسوقي) بمسجد حاجي بايرام، وأدخلت إلى المجلس راية الإسلام وشعراتٌ يُعتقد أنها من لحية النبيّ محمد.
فهم أتاتورك أنه لا يمكن تجاهل أيّ شريحةٍ دينيةٍ أو عرقيةٍ في تلك الظروف الحرجة، فأظهر تقارباً مع البكتاشيين والعلويين على اختلاف رؤيته السياسية عنهم. وبلغ التقارب حدّ تعيين زعيم الطريقة البكتاشية جمال الدين شلبي نائباً لرئيس البرلمان، غير أنه اعتذر عن المنصب لأسبابٍ صحية. وشغل عبد الحليم أفندي، أحد نواب رئيس المجلس الوطني الأول، منصبَ شيخ "محفل مولانا" في قونيا. في حين تولى الشيخ صفوّت أفندي، رئيس مجلس الشيوخ، تمثيلَ مدينة أورفا في المجلس الثاني الذي أُنشئ سنة 1923، وهو ما أضفى على النظام الجمهوري الجديد مسحةً من الشرعية الدينية في نظر أتباع البكتاشية والعلويين. لكن كلّ ذلك بدأ بالتقلّص بعد حرب الاستقلال، وتحكّم أتاتورك بمفاصل الحكم في تركيا.
خلال المرحلة الانتقالية بين سنتَيْ 1923 و1924، لم تسعَ الحكومة الكمالية إلى مواجهةٍ مباشرةٍ مع المؤسسات الدينية التقليدية. فبعد إعلان الجمهورية، استمرت وزارة الأوقافِ والشؤونِ الدينيةِ العثمانية في عملها مدّةً قصيرةً قبل أن تُلغَى سنة 1924 ويُنشأ بدلاً منها جهازٌ رسميٌ جديدٌ هو رئاسة الشؤون الدينية (ديانت) بالتزامن مع إلغاء الخلافة العثمانية، في إطار إعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والدين في النظام الجمهوري. ونصّ قرار إنشائها على تبعيتها لمكتب رئيس الوزراء، وتكليفها بإدارة الشؤون الدينية الإسلامية والإشراف على المساجد. وعلى إثر ذلك أُلحقت بها التكايا والزوايا، في إشارةٍ إلى رغبة الدولة في مراقبة الأنشطة الصوفية ضمن إطارٍ رسمي.
لم تدُم هذه المرحلة طويلاً، فما لبثت توجهات القيادة الكمالية أن اتخذت مساراً أكثر تشدداً في مسألة فصل الدين عن الدولة. ومع تثبيت أركان النظام الجديد وتجاوز آثار الحرب، نما داخل النخبة الحاكمة شعورٌ بالريبة تجاه العلماء وشيوخ الطرق الصوفية، الذين اعتُبِروا آنذاك قواعد محتملةً للرجعية أو الثورة المضادّة. تعمّق هذا الاتجاه بعد انتفاضة "الشيخ سعيد" سنة 1925، التي شكّلت نقطة تحوّلٍ حاسمةً في سياسة الجمهورية حيال الطرق الصوفية ومظاهر التديّن الشعبي.
اندلعت انتفاضة "الشيخ سعيد" في فبراير 1925 في شرق الأناضول بقيادة الشيخ سعيد بيران، أحد أبرز شيوخ الطريقة النقشبندية وصاحب النفوذ الديني والقبلي الواسع. رفعت الانتفاضةُ شعاراتٍ دينيةً تطالب بعودة الخلافة وتطبيق الشريعة، إلى جانب دوافع ذات طابعٍ قوميٍ كردي. وتمكّن المتمرّدون في مرحلتها الأولى من السيطرة على عددٍ من البلدات والمناطق، قبل أن تتمكّن القوات الجمهورية من قمع الحركة بعنفٍ في أبريل من العام نفسه. وعلى إثر الأحداث أعلنت أنقرة عن فرض الأحكام العرفية. وأُعدم الشيخ سعيد مع عددٍ كبيرٍ من قادة التمرد في أواخر أبريل 1925. وسرعان ما استغلّت السلطة هذه التطورات لتصفية ما عدّته "بؤر الرجعية"، فحلّت حزب التقدّم الجمهوري، حزب المعارضة الوحيد آنذاك، بتهمة تورّط بعض أعضائه في العصيان. وبدأ أتاتورك يفكّر في حلٍّ جذريٍّ لمشكلة الطرق الدينية التي رآها النظام حاضنةً للولاءات التقليدية والمناهضة للدولة الحديثة.
في 2 سبتمبر 1925 أصدرت الحكومة قراراً إدارياً يقضي بإغلاق جميع التكايا والزوايا في أنحاء البلاد، تمهيداً لتقنين هذا الإجراء تشريعياً. وبعد مدّةٍ وجيزةٍ، قُدِّم إلى البرلمان مشروع قانونٍ موقّعٌ من عددٍ من النواب، برئاسة النائب رفيق بك من مدينة قونيا، ينصّ على إغلاق التكايا والزوايا ومنع نشاط الطرق الصوفية نهائياً. وقد استند المشروع إلى مبرّراتٍ رئيسةٍ مفادها أن هذه المؤسسات ليست من ضروريات الدين، وأن القائمين عليها انحرفوا عن الطريق القويم، واستغلّوا النفوذ الديني لتحقيق أغراضٍ سياسيةٍ تُهدّد النظام الجمهوري وتُغذي الرجعية.
لم يواجه المشروعُ معارضةً تُذكر داخل البرلمان. وفعلاً أُقِرَّ القانون رقم 677 بِاسم "قانون إغلاق التكايا والزوايا والتُرَب وإلغاء بعض الألقاب" في 30 نوفمبر 1925 بأغلبيةٍ كبيرةٍ وبلا نقاشٍ واسع. ونصّت المادة الأولى من القانون على إغلاق جميع التكايا والزوايا فوراً، سواءً كانت أوقافاً أم ملكياتٍ خاصةً، مع استثناء ما كان قد تحوّل منها إلى مسجدٍ أو مصلّى. وحَظَرَ القانون استخدام الألقاب والرتب الصوفية مثل الشيخ والدرويش والمريد والقطب والخليفة وغيرها. ومُنِعَ ارتداء أيّ لباسٍ أو زيٍّ يرمز إليها خارج نطاق الشعائر الدينية الرسمية. كذلك تضمّن القانون إغلاق الأضرحة والمزارات التابعة للطرق أو التي تُزار للتبرك، باستثناء أضرحة السلاطين العثمانيين. وأُلْغِيَ منصب مُتوَلّي التُربة، المسؤول عن خدمة الأضرحة، مانعاً فتح أيّ مزارٍ دينيٍّ جديدٍ بعد ذلك.
مع نهايات سنة 1925 بدأت حملة إغلاقٍ واسعة النطاق شملت مئات التكايا والزوايا في مختلف أنحاء البلاد. وصودرت أوقافها وممتلكاتها، أو نُقلت ملكيتها إلى الدولة. وأُنيطت مراقبة إنفاذ القانون بمحاكم الاستقلال، أو ما سُمّي "المحاكم الثورية"، التي فرضت رقابةً صارمةً وعقوباتٍ قاسيةً بالسجن أو النفي على كلّ من يحاول إعادة فتح تكيةٍ سرّاً أو استخدام ألقابٍ صوفيةٍ علناً.
لم تعنِ هذه الإجراءات اختفاء الطرق الصوفية من المجتمع، إذ تمكّنت من التكيّف مع الواقع الجديد بأساليب سرّيةٍ ومتنوعة. يوثّق الباحثون مواصلة كثيرٍ من المشايخ والأتباع نشاطهم في الخفاء، واستمرار حلقات الذكر والموالد داخل البيوت والأرياف بعيداً عن أعين الدولة، حفاظاً على ثقافة التكايا. في دراسته المعنونة "تيكالارين كاباتيلماسي في تسفيه سورجي" (عملية إغلاق ومنع التكايا) المنشورة سنة 2021، يشير ثابت دوقويان، أستاذ الأدبيات وعلوم التاريخ في جامعة دوزجه، إلى مغادرة بعض شيوخ التكايا البلادَ معتقدين أنهم لن يتمكنوا من إدارة شؤون الطرق الصوفية بحرّيةٍ داخل تركيا. أما البعض الآخر، فقد اختار البقاء في البلاد وحاول مواصلة أنشطته سرّاً. واستمر التراث الصوفي والتكية التقليدية أحياناً في بيوت بعض الشيوخ وأحياناً أخرى في المساجد.
بعد إغلاق التكايا، اندمج كثيرٌ من الدراويش ظاهرياً في الحياة المدنية الجديدة. فاشتغل بعضهم بالتجارة والتعليم، والتحق آخرون بوظائف حكوميةٍ أو مارسوا مهناً حرّة. غير أنهم حافظوا في الباطن على أورادهم وصلواتهم الفردية، واستمرّ التواصل بينهم في إطارٍ محدودٍ وسرّي. ولم يقتصر ردّ الفعل على العمل السرّي الداخلي، بل امتد إلى الهجرة الروحية خارج تركيا. وكان أبرز الأمثلة الطريقةَ البكتاشية التي كان مركزها الروحي في بلدة حَجّي بكتاش بوسط الأناضول.
تُظهر هذه التجربة دفعَ الحظر التركي الطرقَ الصوفية إلى البحث عن ملاذاتٍ ثقافيةٍ خارج الحدود للحفاظ على تراثها. وعلى نحوٍ أقلّ بروزاً، لجأ بعض مشايخ النقشبندية والقادرية إلى بلاد الشام ومصر، حيث استأنفوا نشاطهم في حلقاتٍ ضيقةٍ بعيدةٍ عن سلطة أنقرة، وإن ظلّ تأثيرهم هناك محدوداً. قابل المتدينون من الأتراك هذه التحولات بمرارةٍ واستياءٍ مكتوم. ومع أن آلةَ الدولةِ القمعيةَ أخافت كثيرين من أن يجهروا بالاعتراض، إلّا أن حوادث متفرقةً عكست حجم الاحتقان الديني والاجتماعي.
حقق مشروع القطيعة الجمهورية الذي قاده أتاتورك جانباً كبيراً من أهدافه في عقدي العشرينيات والثلاثينيات. فصمتت أصوات التكايا والزوايا التي كانت تملأ المدن بالذكر والموسيقى الروحية. في حين تقلّص دور العلماء والمشايخ حتى كاد يقتصر على موظفي الدولة في رئاسة الشؤون الدينية، أو على مفتين رسميين يمارسون شعائر منزوعة الطابع السياسي.
مع ذلك، ظلّ القضاء الكامل على التقاليد الدينية المتجذرة أمراً صعباً. فبعد وفاة أتاتورك سنة 1938 ودخول البلاد مرحلة التعددية الحزبية منذ سنة 1945، بدأ التديّن الشعبي يظهر مجدداً في المجتمع. شهدت تركيا سنة 1950 عودةً غير رسميةٍ لبعض أنشطة الطرق الصوفية تحت غطاء جمعياتٍ خيريةٍ وثقافية. بقي قانون 1925 ساريَ المفعول طوال عهدَي مصطفى كمال أتاتورك وخليفته عصمت إينونو. لتبقى البلاد رسمياً بلداً بلا دراويش، وإن ظلّ ولاء الدراويش ومريديهم حيّاً في الخفاء.
سُمح أولاً بإقامة مراسم المولوية في قونيا سنة 1953، لكن تحت غطاءٍ ثقافيٍ وسياحيٍ لا يحمل طابعاً دينياً رسمياً. وأسهم هذا الانفتاح النسبي في تهيئة المناخ لعودة مشايخ الصوفية إلى ممارسة تأثيرهم الروحي بعد عقودٍ من الحظر. وشهدت البلاد إعادة افتتاح عددٍ من المساجد والزوايا التاريخية التي استعادت تدريجياً دورها في الحياة الدينية والاجتماعية. ولكن على أجواء الانفتاح النسبي، ظلّ الحظر القانوني على الطرق الصوفية قائماً.
لم يُلغِ مندريس قانون سنة 1925 الذي حظر التكايا، إنّما اكتفى بتخفيف حدّة تطبيقه وإدخال بعض التعديلات الجزئية عليه. ففي سنة 1950 صدر القانون رقم 5566 الذي سمح بإعادة فتح بعض الأضرحة التاريخية للزيارة تحت إشراف الدولة، في خطوةٍ وُصفت بأنها مدروسةٌ وموجّهةٌ نحو أضرحة "الشخصيات التركية الكبرى" ذات القيمة التراثية والثقافية، لا ذات البعد الديني الصرف. وهكذا فُتحت تدريجياً أضرحة السلاطين والعلماء العثمانيين أمام الزوار بإذنٍ من وزارة المعارف (التعليم) آنذاك.
زادت أجواء الانفتاح حتى حصل عددٌ من مشايخ الصوفية على مناصب رسميةٍ ضمن رئاسة الشؤون الدينية أئمةً وخطباء، وهو ما مكّنهم من مواصلة الإرشاد الروحي تحت المظلة القانونية للجمهورية. وبذلك، عادت الصوفية إلى الحياة العامة بصورةٍ غير رسميةٍ وتحت رقابة الدولة. إذ سمحت بها الحكومة بقدر ما تخدم الهوية الوطنية والثقافة العامة، دون أن تُخلّ بمبادئ العلمانية الكمالية.
لم تدُم التخفيفات الحكومية تجاه الصوفية وأتباعها طويلاً. إذ مثّل الانقلاب العسكري في 27 مايو 1960 انتكاسةً حادّةً لكلّ القوى الداعمة للتديّن السياسي، بما في ذلك شبكات المتصوفة التي كانت قد استعادت شيئاً من نشاطها خلال عهد الحزب الديمقراطي. فقد أطاح الجيش بحكومة مندريس إذ اتهمها باستغلال الدين لأغراضٍ سياسيةٍ، مومياً إلى سياساته المتساهلة مع المظاهر الدينية وإعادة الأذان بالعربية وفتح الأضرحة والاهتمام بالرموز الإسلامية.
شكّلت هذه الخطوة رسالةً حازمةً من المؤسسة العسكرية بأن أيّ محاولةٍ لتوظيف الدين في المجال السياسي أو إضعاف طابع الجمهورية العلماني ستُواجَه بالقوة. لتغلق بذلك مرحلة الانفتاح الديني النسبي التي ميّزت فترة الخمسينيات، وتعيد البلاد إلى مسار الرقابة الصارمة على النشاط الديني والاجتماعي. فوجدت الطرق الصوفية نفسها مضطرةً إلى العودة للعمل في الخفاء مجدداً تفادياً لبطش العسكر.
برز في مطلع السبعينيات أول تنظيمٍ سياسيٍ ذي مرجعيةٍ إسلاميةٍ صريحةٍ في تاريخ الجمهورية. ففي 26 يناير 1970، أسّس السياسي نجم الدين أربكان حزباً جديداً حمل اسم حزب النظام الوطني. استند الحزب إلى مبادئ حركة "ملّي غوروش" (الرؤية الوطنية) التي مثّلت تياراً إسلامياً محافظاً يدعو إلى إحياء القيم الدينية والأخلاقية في الحياة العامة، مع رفض التبعية للغرب. غير أن الحزب لم يُكتب له البقاء طويلاً، إذ قضت المحكمة الدستورية التركية بحلّه سنة 1971 بدعوى مخالفته مبدأ علمانية الدولة. ومع ذلك، لم يُؤدّ هذا القرار إلى إقصاء التيار الإسلامي، فعاد أربكان سريعاً إلى الساحة عبر تأسيس حزب السلامة الوطني سنة 1972.
منذ بدايات حزب نجم الدين أربكان الإسلامي أدّت الطرق الصوفية دوراً محورياً في دعمه تنظيمياً ومعنوياً من وراء الكواليس. ولعلّ أبرز مثالٍ على ذلك جماعة إسكندر باشا النقشبندية في إسطنبول بقيادة الشيخ محمد زاهد كوتكو، الزعيم الروحي لفرع إسكندر باشا من الطريقة النقشبندية. فقد كان الشيخ كوتكو من أهم المرجعيات الدينية المؤثرة في صياغة الخطاب الإسلامي الجديد في تركيا، إذ شجّع تلاميذَه بقوّةٍ على الانخراط في العمل السياسي من أجل تجديد هوية البلاد الإسلامية في مواجهة ما عدّه الهيمنة الغربية والعلمانية المتشددة. وكان لكوتكو دورٌ مباشرٌ في تأسيس حزب النظام الوطني، فقد وافق رسمياً على إنشائه سنة 1969، وبارك لأربكان هذه الخطوة التاريخية. ونُقل عنه قوله لأربكان: "إن البلاد واقعةٌ في أيدي الماسونيين المقلّدين للغرب، وإن تشكيل حزبٍ سياسيٍ بات مهمةً تاريخيةً حتميةً لنا. كن أنت على رأس هذا المشروع".
كان أربكان ومعظم مؤسسي الحزب من أبناء جماعة إسكندر باشا أنفسهم، فجاء الحزب بمثابة تتويجٍ لنفوذ هذه الجماعة الصوفية في المجال السياسي. ساهمت الطريقة في توفير الكوادر التنظيمية والدعم المالي والمعنوي للحزب الوليد. وإلى جانبها، انضم إلى الحزب عددٌ من المنتسبين لجماعة النور، وهي حركةٌ دينيةٌ تنتسب إلى سعيد النورسي، المتوفى سنة 1960. مما وسّع من قاعدته الاجتماعية وجعل منه أول تحالفٍ فعليٍ بين الطرق الصوفية والحركات الإسلامية الحديثة في تركيا المعاصرة.
خرج الإسلاميون الأتراك وطرقهم الصوفية من تجارب الحظر السابقة، بوعيٍ أكبر بأهمية تنويع أساليب العمل وعدم حصرها في النشاط الحزبي المباشر. فمنذ ثمانينيات القرن العشرين، اتجهت عدة جماعاتٍ دينيةٍ إلى تأسيس منظماتٍ مدنيةٍ ومشروعاتٍ اقتصاديةٍ تخدم أهدافها الدعوية والاجتماعية بعيداً عن أعين الدولة. وقد شهدت تلك المرحلة ازدهاراً واسعاً لمنظمات المجتمع المدني ذات الطابع الإسلامي، لاسيما في ظلّ سياسة الانفتاح النسبي بعد سنة 1983. ويذكر آلبير بيلجي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة إسطنبول، في بحثه "ذي ري أورغنايزيشن أوف ذا مين إسلامك كميونيتيز إن تركي" (إعادة تنظيم الجماعات الإسلامية الرئيسة في تركيا) المنشور سنة 2006، أن شيوخ الطريقة النقشبندية وكوادرها أعادوا صياغة دور طريقتهم في خدمة المجتمع بإنشاء مؤسساتٍ ثقافيةٍ وخيريةٍ، مبتعدين عن العمل السياسي المباشر. ويقول بيلجي إنّ جماعة إسكندر باشا شهدت دوافع اقتصاديةً قويةً في عهد رئيس الوزراء تورغوت أوزال من 1983 إلى 1993. فحقق أعضاء الجماعة أرباحاً من قطاعات التمويل والتجارة والبناء وصناعة النفط. ولم تقتصر علاقة جماعة إسكندر باشا بالاقتصاد على أنشطة أعضائها، بل أنشأت عدداً من الأوقاف.
بفضل هذه الإستراتيجية الجديدة، استطاعت الطرق الصوفية الحفاظ على حضورها الروحي والتربوي داخل المجتمع. فعلى سبيل المثال، تمتلك الطرق الصوفية اليوم في تركيا شركاتٍ كبرى ودور نشرٍ ومدارس وجامعاتٍ ومحطاتٍ إذاعيةً وتلفزيونية. وهكذا، أصبحت شبكات الطرق الصوفية في تركيا منظوماتٍ اجتماعيةً موازية. فهي من جهةٍ حاضنةٌ للتربية الروحية. ومن جهةٍ أخرى رافدٌ اقتصاديٌ وسياسيٌ غير رسميٍ، مما يضمن استمرار تأثيرها في المجتمع حتى في ظلّ التضييق الرسمي.
مع بداية الألفية أصبحت الطرق الصوفية أقوى تأثيراً. فشكّل وصول حزب العدالة والتنمية، ذي الجذور الإسلامية، إلى السلطة سنة 2002 نقطة تحولٍ مفصليةً في علاقة الدولة التركية بالجماعات الدينية والصوفية. أعاد الحزب التوازن لصالح هذه الجماعات بعد عقودٍ من التضييق والرقابة.
أدّت الخلفية الصوفية لعددٍ من قيادات حزب العدالة والتنمية دوراً في تشكيل توجهات الحزب الفكرية والسياسية منذ تأسيسه. فالرئيس رجب طيب أردوغان تشرّب مبكراً الفكر النقشبندي من جماعة إسكندر باشا في إسطنبول. وكان في شبابه يشارك في مجالسَ شيخُها محمد زاهد كوتكو. وحافظ لاحقاً على علاقته بخليفة كوتكو، محمود أسعد جوشان، حتى بعد وفاة كوتكو. ويشير الصحفي مِرت غوموش، في تحليله المنشور سنة 2024 بعنوان "توركييده جماعاتلرين دولتله إيليشكيسي" (علاقة الجماعات الدينية بالدولة في تركيا)، إلى أن أردوغان ظلّ قريباً من نهج جماعة إسكندر باشا ومتأثراً برؤيتها الإصلاحية التي تمزج بين التديّن الاجتماعي والمشاركة السياسية.
بذلك يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية استثمر منذ نشأته الرصيد الاجتماعي والسياسي الذي راكمته شبكات التصوف النقشبندي داخل النخبة المحافظة التركية، ليصبح الامتداد السياسي الأبرز للتدين الصوفي المحافظ في الجمهورية الحديثة. يقول كمال الدين طاش، أستاذ الإلهيات في جامعة سليمان دميرال، والمؤرخ التركي طارق غوفندي في بحثهما المشترك "ترك توبلومدا طريقات وجماعات" (الطرق والجماعات الدينية في المجتمع التركي) المنشور سنة 2021، إلى أنّ بداية الألفية الجديدة مثّلت مرحلة انفتاحٍ واسعٍ أمام التشكيلات الدينية ذات التوجه الصوفي والروحي.
ومع أن الحظر القانوني الرسمي على التكايا والزوايا ما زال قائماً – إذ لم يُلغَ قانون سنة 1925 حتى تاريخ كتابة المقالة – فإن الدولة غضّت الطرف عملياً عن معظم أنشطة هذه الجماعات، ما أتاح لها العمل في إطارٍ اجتماعيٍ وثقافيٍ مشروع.
شهدت المولوية إحياءها موروثاً ثقافياً وروحياً يُوظَّف في السياحة والثقافة الرسمية أكثر ممّا يُستعاد بوصفها طريقةً دينيةً منظَّمة. وفي ظلّ حكم حزب العدالة والتنمية وبروز نزعات إعادة إحياء الذاكرة العثمانية بأبعادها الدينية والثقافية والفنية، أو ما سُمِّيَ "العثمانية الجديدة"، عاد الإرث المولوي ليحتلّ مساحةً بارزةً في المشهد التركي المعاصر.
انتشرت في مدنٍ تركيةٍ عديدةٍ جمعياتٌ ومؤسساتٌ ثقافيةٌ تحمل اسم "مولانا" أو "المولوية" مثل متحف مولانا في قونيا. وتنظّم أنشطةٌ دوريةٌ لإحياء هذا الإرث. وعلى بقاء مجموعاتٍ صوفيةٍ صغيرةٍ تمارس التقاليد روحياً على نحوٍ خاصٍّ، يغلب في الفضاء العام الطابع التراثي المنظم. إذ تُقام عروض السماع بانتظامٍ في القاعات والمراكز الثقافية، وتستقطب جمهوراً واسعاً من السيّاح المتديّنين وغير المتديّنين. وتكتسب أحياناً سماتٍ تجاريةً وترفيهيةً أكثر من كونها طقساً روحانياً خالصاً. وأصدرت وزارة الثقافة التركية سنة 2008 تعميماً لتنظيم إقامة هذه المراسم بما يحافظ على أصالتها. واليوم تُقام عروض المولوية أسبوعياً في إسطنبول وقونيا وغيرها، وتستقطب آلاف الزائرين من داخل البلاد وخارجها، بعدما تحولت من طقسٍ محظورٍ إلى فعاليةٍ وطنيةٍ مفتوحةٍ للجمهور.
لا تزال قونيا مركز المولوية الروحي والتاريخي الأبرز في تركيا. ففيها عاش جلال الدين الرومي ودُفن سنة 1273، وما زال ضريحه مقصداً لملايين الزوار سنوياً. بعد إغلاق التكايا سنة 1925، تحوّل مقرّ التكية الرئيسة في المدينة إلى متحف مولانا سنة 1954، ليغدو أحد أشهر المتاحف التركية وأكثرها استقطاباً للزوار إذ تصدّر سنة 2024 المتاحف التركية بعدد الزوار بأكثر من ثلاثة ملايين زائرٍ خلال العام وهو ما يعكس مكانة قونيا مقصداً سياحياً وثقافياً عالمياً بفضل ارتباطها العميق بجلال الدين الرومي والمولوية.
في إسطنبول أيضاً تحوّلت عدة تكايا مولوية إلى متاحف ومراكز ثقافيةٍ تحت إشراف وزارة الثقافة التركية. فقد أعيد افتتاح تكية غلطة المولوية لتصبح متحفاً سنة 2011 بعد ترميمٍ شامل. وتُقام في قاعتها التاريخية عروض سماعٍ أسبوعيةٌ تستقطب السكان المحليين والسياح على حدٍّ سواء. أما تكية ينيكابي التي احترقت سنة 1961، وهي من أقدم تكايا إسطنبول، فقد أُعيد ترميمها وافتتحت سنة 2007 لتصبح جزءاً من حرم جامعة السلطان محمد الفاتح، مع تخصيص قاعة السماع فيها لإقامة العروض الصوفية في المناسبات الخاصة. مع ذلك، ما زالت علاقة الدولة التركية الحديثة بالإرث المولوي تتسم بقدرٍ من الازدواجية والتوازن الحذر. إذ تمنح الحكومة دعماً رسمياً غير مباشرٍ للطريقة عبر قنواتٍ ثقافيةٍ وسياحيةٍ متعددة.
تُعد وزارة الثقافة والسياحة الراعي الرئيس لفعاليات المولوية. فهي تشرف على إحياء ذكرى "مولانا جلال الدين الرومي" السنوي في ديسمبر من كلّ عامٍ في قونيا، وتوفّر البنية التحتية والتمويل اللازم. وأدرجت الوزارة فرقة الموسيقى الصوفية المولوية التي تأسست سنة 1989 ضمن الفرق الرسمية المشاركة في احتفالات الذكرى المئوية للسلام بين تركيا وأستراليا سنة 2015، لضمان استمرارية هذا الفن ضمن إطارٍ مؤسسي. وتحرص القيادة السياسية على إظهار دعمها المعنوي للمولوية، عبر حضور فعالياتها. فقد شارك أردوغان في احتفالات "شبّ عروس" (صبح العروس)، تخليداً لذكرى جلال الدين الرومي، سنة 2018 واستمر في إرسال رسائل تضامن في السنوات التالية، مؤكداً في خطبه أن فكر الرومي كنزٌ إنسانيٌ يتجاوز الحدود الدينية. وتسهم مؤسساتٌ مثل معهد يونس إيمره في أنقرة في نشر التراث المولوي عالمياً ضمن إستراتيجية القوة الناعمة التركية، إذ يضمّ تسعةً وستين فرعاً حول العالم. ونظّم المعهد عروضاً للدراويش في مسرح كولوسيوم بروما سنة 2025 وفي مدنٍ أوروبيةٍ عديدةٍ، بالتعاون مع وزارات الثقافة والسفارات التركية. وتُستخدم عروض السماع ضمن الدبلوماسية الثقافية للترويج لصورة تركيا المتسامحة.
أدّى هذا الشكل من الإحياء إلى تناقضٍ جوهري داخل المجتمع التركي بشأن طبيعة المولوية الحقيقية. يشهد الرأي العام انقساماً بين من يرى المولوية شعيرةً مقدسةً يجب الحفاظ عليها، ومن يراها تراثاً ممكن التحديث بما يتلاءم مع قيم العصر. تجلّى هذا الانقسام في الجدل الوطني الذي أعقب احتفال "شبّ عروس" الذي نظّمته بلدية إسطنبول، التي تخضع لسيطرة حزب الشعب الجمهوري، سنة 2020. إذ تضمّن قراءة القرآن والتكبير بالتركية بدل العربية، وظهور نسوةٍ من الدرويشات يدُرن إلى جانب الرجال لأول مرة. رحّب البعض بهذه الخطوة بوصفها تجديداً وانفتاحاً يعكس روح العصر، في حين عدّها المحافظون تشويهاً للتقاليد المولوية العريقة. انتقدت الرئاسة التركية الحدث، وقال فخر الدين ألطون، الناطق الرسمي للجمهورية سابقاً، آنذاك: "نقول بكلّ صراحةٍ لأولئك الذين يشتاقون إلى ماضيهم المظلم، الذي كان استبدادياً وقمعياً ومحظوراً ومحا كلّ القيم، إن تركيا لن تعود أبداً إلى تلك الأيام المظلمة التي تتوقون إليها، مهما كان الثمن". ويُفهم من خطاب ألطون أن وصف "الماضي المظلم" يشير إلى الحقبة الكمالية.
عكست التحولات التي شهدتها الطريقة المولوية في تركيا مجمل الإشكاليات التي تطبع علاقة الدولة والمجتمع بالتراث الروحي الإسلامي. ويبدو التوظيف المكثّف للتراث الصوفي في قوالب حداثيةٍ قد دفع عدداً من الباحثين مثل المؤرخ التركي مصطفى بالكان، في مقالته "مولانا بوبولر كولتورون تكتيم متاسه أولدو!" (مولانا أصبح سلعة استهلاكية في الثقافة الشعبية!) المنشورة سنة 2017، إلى وصف ما جرى بأنه ثقافةٌ استهلاكيةٌ، جرّدت المولوية من أبعادها التعبدية والتأملية العميقة، وأعادت إنتاجها مشهداً تراثياً يسهل تداوله وتسويقه في السوق الثقافي. ولفتت فريدة غونر، أستاذة العلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعة هاتاي، في دراستها "سبيريتوئيل بِر بِياسا و أوزلاشي آلاني أولاراق پوب تصوّف" (التصوّف الشعبي فضاءً روحياً للتسوية وسوقاً روحياً) المنشورة سنة 2023، إلى صعود ما يمكن تسميته بالتصوف الشعبي في تركيا تنتشر فيه رموز المولوية في الخطاب البصري والإعلامي منفصلةً عن سياقاتها الفلسفية، ما يحوّلها إلى طقسٍ عامٍّ يُخاطب النزعة الروحانية المعاصرة دون مرجعيةٍ دينيةٍ واضحة.
في خضم هذه التحولات، برزت تبايناتٌ حادّةٌ في الرأي العام التركي حول موقع المولوية وحدود التعامل معها. فتيارٌ واسعٌ من المتدينين المحافظين وأتباع الطرق الصوفية يرى في السماع المولوي شعيرةً دينيةً لا تقبل المساس ببنيتها التقليدية، ويؤكد أن الطقس المولوي شكلٌ من الذكر له قواعد دقيقةٌ توارثتها الأجيال عبر قرون. يعبّر المؤرخ مراد بردكجي في مقالته الساخرة "كوراني أونشيكي غون توركشي أوكتان إي بي بي يي شيمدي [. . .]" (بلدية أسطنبول التي أذاعت القرآن بالتركية عليها الآن أن تعيد استقلال القضاء) المنشورة على موقع هبر ترك سنة 2020، عن هذا التوجّه حين عدّ إقامة عرضٍ مختلطٍ ضمن مراسم شبّ عروس سنة 2020 "مهزلة لم يشهد مثلها تراث مولانا منذ سبعة قرون"، مؤكداً أن طقوس المولوية، بصرف النظر عن إيمان الآخرين بها، تمثّل شعيرةً ينبغي احترامها لا ترفيهاً يمكن التلاعب به.
ويستند أنصار هذا الموقف إلى بنية السماع التقليدية، بدءاً بناي الاستهلال ومروراً بالابتهالات وانتهاءً بتلاوة القرآن والدعاء، مع قصر الدوران على الرجال. ويَعدّ هؤلاء أيّ مساسٍ بهذا التسلسل انحرافاً عن أصل العبادة وتشويهاً لروح الطريق. ومن هذا المنطلق جاء اعتراضهم على محاولة بلدية إسطنبول تغيير مراسم شبّ عروس، إذ رأوها امتداداً للنهج الكمالي الذي سعى في ثلاثينيات القرن الماضي إلى علمنة المجال الروحي ونزع قدسيته.
على النقيض، يتبنى تيارٌ من المثقفين العلمانيين والمتصوفة المجددين رؤيةً أكثر مرونةً، ترى أن المولوية ليست محض طقسٍ ماضَوِيٍّ، بل تراثاً حيّاً يمكن تأويله بما ينسجم مع تحوّلات العصر. ووفق هذا التصور، فإن مبادئ التسامح والمحبة التي نادى بها الرومي تتيح تطوير بعض جوانب الطقوس بما يعكس قيم المساواة والانفتاح. ومن أبرز مظاهر هذا التوجّه إشراك النساء في دوائر السماع. حتى أنهم يعتقدون أن الرومي وضع مبدأ العلمانية حين قال: "تعال، مهما كنت، تعال".
في هذا السياق، يتخذ الجدل في المولوية طابعاً أعمق مما يبدو. إذ يعكس في جوهره مواجهةً أوسع بين خطابين متنازعين على تأويل التراث الصوفي. الأوّل خطاب المحافظة الذي يُعلي من أصالة التقاليد وحرمة العبادة، والثاني خطاب التجديد الذي يثمّن قابلية الروح الصوفية للتجدد ضمن أطر العصر.
على ذلك، تتبنّى الدولة التركية الحديثة في عهد حزب العدالة والتنمية، نهجاً يقوم على توظيف الرموز الصوفية العثمانية وفي مقدمتها الطريقة المولوية، وذلك في إطار رؤيتها لهويةٍ وطنيةٍ ذات امتدادٍ تاريخيٍ وثقافيٍ عميق. ومنذ تولّي الحزبِ السلطةَ برزت ملامح "العثمانية الجديدة". تشير أمل أفجي، أستاذة العلوم السياسية في جامعة حاجي تبي، في قراءتها كتاب "العثمانية الجديدة" المنشور سنة 2018 للأكاديمي السياسي ناجيهان توكدوغان، إلى أن سردية العثمانية الجديدة تحوّلت في عهد العدالة والتنمية من مجرد تصوّرٍ في السياسة الخارجية ارتبط بالأفكار الإستراتيجية لأحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء الأسبق، إلى مشروعٍ عقائديٍ داخليٍ شاملٍ يسعى لإعادة بناء الوعي الجمعي التركي. فهذه السردية لا تكتفي بتوظيف الرموز العثمانية في المجال السياسي، بل تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، لتغدو عنصراً رمزياً مؤسساً في الهوية الوطنية الحديثة.
هكذا تحتل المولوية موقعاً مميزاً بوصفها أحد أبرز مكونات التراث الديني الثقافي العثماني الذي يُعاد دمجه في البنية الرمزية للجمهورية المعاصرة. تعمل المؤسسات الرسمية التركية، وعلى رأسها وزارة الثقافة والسياحة، على إبراز الإرث المولوي باعتباره من كنوز التراث الثقافي الوطني، وتسعى إلى صون طقوسه وتوريثها للأجيال بوصفها تراثاً روحياً وإنسانياً جامعاً. واستثمرت تركيا هذا الإرث في إطار حملاتها الثقافية الخارجية، إذ تستخدمه أداةً من أدوات القوة الناعمة ضمن خطاب العثمانية الجديدة. فرمّمت وكالة التعاون والتنسيق التركية عدداً من التكايا المولوية التاريخية في مناطق كانت ضمن نطاق النفوذ العثماني القديم، ومنها دول البلقان وبلاد الشام، في مسعىً لتأكيد الامتداد الثقافي التركي في محيطه الإقليمي. وتحرص الحكومة على إضفاء طابعٍ رسميٍ على احتفالات المولوية، فيشارك فيها مسؤولون رفيعو المستوى تأكيداً على الانتماء المشترك لهذا التراث. بينما أصبحت صورة الدرويش المولوي أحد الرموز الثقافية التي تتبنّاها الدولة في خطابها العام ومهرجاناتها الوطنية إلى جانب الرموز العثمانية الأخرى.
لم تَسلم هذه الجهود من انتقاداتٍ داخليةٍ متزايدةٍ في الأوساط الفكرية التركية. فمنتقدو العثمانية الجديدة يرون أن التوظيف الرسمي للمولوية لا يتجاوز كونه استعراضاً سياسياً وثقافياً، يخدم أجندة الحكومة أكثر مما يعبّر عن روح التصوف الحقيقية. ويشير هؤلاء إلى المفارقة الجوهرية في أن الدولة التي ما تزال من الناحية القانونية تحظر نشاط الطرق الصوفية، هي ذاتها التي ترعى مهرجانات المولوية علناً أمام عدسات الكاميرات. ويقولون إنّها عملية انتقائية للتراث تهدف إلى تحسين الصورة العامة دون معالجة الأساس القانوني أو الديني الذي يمنع عودة الطريقة إلى وضعها الطبيعي. ومن أبرز الأصوات الناقدة في هذا السياق قدسي إرجونر، أستاذ الموسيقى الصوفية وأحد أحفاد المولوية البارزين، الذي يرى أن جوهر الأزمة يكمن في فقدان التوازن بين الحضارة التي تخلّت عنها تركيا والحضارة التي استوردتها. ويقول إرجونر في مقابلةٍ أجرتها معه وكالة الأناضول سنة 2019: "إن الجهود المبذولة لتحويل التراث إلى ثقافةٍ حيّةٍ هي جهودٌ خاطئة".
لكن في المقابل، لا يزال الحنين الشعبي إلى الروحانية الأصيلة حاضراً بقوّة. إذ يجد كثيرٌ من الأتراك في التصوف ملاذاً باطنياً يعيد إلى التديّن عمقه الإنساني المفقود، ويقدّم بديلاً عن التديّن الرسمي الممزوج بالسياسة والسلطة. فيراه مريدو التصوف طريقاً للصفاء والتزكية، لا مجرد إرثٍ يمكن تأطيره أو إخضاعه للبيروقراطية.
وفي ظلّ هذا التوازن المرهف بين الاستثمار السياسي والتوق الروحي، يبقى مستقبل الطرق الصوفية في تركيا سؤالاً مفتوحاً. هل ستنجح هذه الطرق في صون جوهرِها الروحيِّ العابرِ الزمنَ والحفاظِ على مكانتها حاضنةً للمعنى والسكينة، أم ستذوب تدريجياً في صورة تراثٍ رسميٍّ تستدعيه الدولة عند الحاجة لرموز الماضي؟ مهما يكن الجواب، يظلّ التصوف في تركيا مرآةً عاكسةً لتناقضاتها الحديثة بين الدولة والمجتمع والتراث والتحديث وبين السياسة والبعد الروحي.

