كان التصريح ثقيلاً بما يكفي لينتقل في ساعاتٍ إلى شاشاتٍ كثيرة: من بروكسل إلى نواكشوط، ومن مقالاتٍ صحفيةٍ إلى منصات التواصل الموريتانية التي اشتعلت بالنقاش والجدل.
لم يكن التصريح جديداً في قاموس الرجل، لكنه جاء هذه المرّة في توقيتٍ حساسٍ، تزمع فيه الدولة على تنظيم حوارٍ وطنيٍّ شاملٍ يجمع كلّ الطيف السياسي. وجاء التصريح أيضاً في مكانٍ حساسٍ، أمام مقرّ الاتحاد الأوروبي في بروكسل، المدينة التي تُعدّ أحد أبرز مراكز القرار في أوروبا وموئل الخطاب الحقوقي الدولي، مما منح الواقعةَ رمزيةً خاصةً وجعل أصداء الخطاب أوسع من المعتاد. فبدا المشهد كلّه كأنّ بلداً كاملاً وُضع في قفص الاتهام أمام العالم.
الحَدَث في بروكسل لم يكن إلا انعكاساً لتحوّلٍ أعمق عرفه الخطاب الحقوقي في موريتانيا. فالخطاب الذي نشأ يوماً من رحم المعاناة طلباً للإنصاف، تحوَّل في بعض تجلّياته إلى رصيدٍ رمزيٍّ تتنافس عليه القيادات السياسية والحقوقية لتعزيز شرعيتها أو توسيع حضورها، دون أن يصاحبه دائماً تغييرٌ فعليٌّ في أوضاع الفئات التي رُفع بِاسمها. وهكذا أخذت المظلومية تنتقل شيئاً فشيئاً من كونها مطالبةً بالعدالة إلى موردٍ رمزيٍّ يُعاد توظيفه داخل الحقل العامّ أكثر مما يُترجَم إلى إصلاحٍ بنيويٍّ ملموس.
ترسخت هذه العلاقات تدريجياً داخل البنى التقليدية. ومع مرور الوقت، اكتسبت بُعداً اجتماعياً مستقراً، ومنحت بعض الفئات مكانةً أعلى في السلّم التقليدي. فيما بقيت فئاتٌ أخرى في مواقع تبعيةٍ مهمّشة.
في هذا السياق التاريخي، نشأت فئة الحراطين. وهي شريحةٌ واسعةٌ من أصحاب البشرة السمراء ينحدر معظم أفرادها من أُسَرٍ كانت خاضعةً في الماضي لعلاقات رقٍّ أو تبعيةٍ داخل البنية القبلية التقليدية. ينتمي الحراطون ثقافياً ولغوياً إلى المكوّن العربي الحسّاني الصنهاجي في موريتانيا، وهو الامتداد الاجتماعي لقبائل بني حسان التي استقرت في المنطقة ابتداءً من القرن السادس عشر، وتفاعلت عبر الزمن مع المجموعات الصنهاجية الأقدم.
شكّل هذا الامتداد، مع العربية الحسانية بلهجتها المنتشرة، إحدى الروابط الثقافية الجامعة التي رسّخت المشترك الاجتماعي. وعلى هذا الانتماء، فإن موقع الحراطين التاريخي داخل السلّم الاجتماعي جعلهم في قلب نقاشات العدالة والمواطنة والتحوّل الاجتماعي خلال العقود الأخيرة.
ومع أنّ مظلومية الحراطين تُعدّ النموذج الأبرز داخل هذا السياق، فإنها لم تكن الوحيدة. فقد عرفت مجموعاتٌ أخرى، مثل الولوف والسونينكي والفُلان، أشكالاً من التراتب الموروث داخلها وإن ظلّ حضورها في الفضاء العموميّ أقلّ بكثير. يعود ذلك إلى أن قضية الحراطين اكتسبت خلال العقود الأخيرة زخماً داخلياً وخارجياً جعلها الملف الأكثر تداولاً في الخطاب الحقوقي.
ومع دخول موريتانيا مرحلة بناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال، تبلورت داخل فئة الحراطين ملامح وعيٍ بضرورة تجاوز وضعهم داخل البناء الاجتماعي. سبق هذا التحوّل إلغاءَ الدولةِ الرقَّ. وفي هذا المناخ الاجتماعي والسياسي، ظهرت حركة تحرير وانعتاق الحراطين المسماة اختصاراً "الحر"، باعتبارها أول إطارٍ منظمٍ يجسّد هذا الوعي الناشئ.
وفقاً للباحث جوزيبي مايموني، في دراسته "آي آر إي موريتاني: لِغاسي أند إينوفيشن إن ذي أنتي سليفري فايت إن موريتانيا" (إيرا موريتانيا: الإرث والتجديد في النضال ضد الرقّ في موريتانيا) المنشورة سنة 2020، فإن الحركة انطلقت في البداية سرّاً سنة 1974، قبل أن تعلِن عن نفسها رسمياً بعد أحداث شغار سنة 1977. تصاعد التوتر في البلدة التي تقع في ولاية لبراكنة جنوب موريتانيا بين بعض المزارعين من فئة الحراطين و"أسيادهم" السابقين حول ملكية الأراضي الزراعية واستغلالها، وتحوّل الخلاف إلى احتكاكاتٍ عنيفةٍ محدودة. فتدخلت السلطات واعتقلت عدداً من الناشطين في صفوف الحركة. يرى مايموني أنّ هذه الحادثة شكّلت لحظةً رمزيةً أساسيةً دفعت الحركة إلى الإعلان عن نفسها، مؤكدةً أنّ هدفها إعادة تعريف الحراطين مكوّناً وطنياً كامل الحقوق.
أُعلن عن تأسيس الحركة رسمياً سنة 1978. وساهمت في التأسيس مجموعةٌ من أبناء النخبة المتعلّمة من الحراطين، أبرزهم: مسعود ولد بلخير، أحد أوائل السياسيين الحراطين ورئيس الجمعية الوطنية (البرلمان الموريتاني) الأسبق، وبوبكر ولد مسعود، الناشط الحقوقي الذي شغل لاحقاً مناصب حكوميةً من بينها مستشار وزير الإسكان والعمران.
اعتمدت "الحر" منذ بداياتها نهجاً سلمياً إصلاحياً. فركّزت على المرافعة الفكرية والبيانات التوضيحية بدل الصدام، داعيةً إلى المساواة في التعليم والإدارة والجيش وإلى الاعتراف بالمواطنة الكاملة للحراطين. ويربط مايموني في دراسته بين خطاب الحركة ومبادئ العدالة الاجتماعية في الإسلام، مبيناً أنها رفضت توظيف الدين لتبرير التراتبية أو التبعية. وبذلك، مثّلت الحركة أوّل محاولةٍ منظمةٍ لتأطير المطلب الاجتماعي ضمن أفقٍ وطنيٍّ جامعٍ، وأسهمت بوضوحٍ في خلق المناخ الذي مهّد لصدور مرسوم سنة 1981 القاضي بإلغاء الرقّ.
ففي المدن كما الأرياف، لم يترجَم مرسوم الإلغاء إلى تحسّنٍ ملموسٍ في شروط الحياة اليومية. وهو ما أظهره تقرير منظمة العفو الدولية الذي جاء بعنوان "موريتانيا: آ فيوتشر فري فروم سلايفري؟" (موريتانيا: مستقبل خالٍ من الاسترقاق؟) المنشور سنة 2002. يشير التقرير إلى استمرار بعض أشكال التبعية غير الرسمية في مناطق ريفيةٍ وحضريةٍ، مثل العمل مقابل الغذاء أو السكن أو العلاج أو أداء خدماتٍ منزليةٍ وزراعيةٍ تحت ضغط الحاجة، أو في سياق علاقاتٍ اجتماعيةٍ غير متكافئة.
وقد كشف استمرار هذه المظاهر، بعد أكثر من عقدين على إلغاء الاسترقاق قانونياً، عدم كفاية الإطار التشريعي لسنة 1981 لمعالجة آثار الرقّ أو لحماية الفئات الأضعف. وهو ما دفع الدولة إلى تبنّي إصلاحاتٍ قانونيةٍ لاحقة. ففي سنة 2007، صدر قانونٌ يجرِّم الممارسات المرتبطة بالرقّ بنصوصٍ واضحة. عُزّز هذا المسار سنة 2015، حين عُدّت هذه الممارسات "جريمةً ضدّ الإنسانية". وتوالت بعد ذلك جهودٌ مؤسساتيةٌ تكميليّةٌ، من بينها إنشاء ثلاث محاكم متخصصةٍ للنظر في قضايا الرقّ والممارسات الشبيهة به بحلول سنة 2016. وقد مثّلت هذه الخطوات بحسب "بيورو أُف إنترناشنال ليبَر أڤيرز" (مكتب شؤون العمل الدولية) في تقريرٍ لسنة 2016 تحسناً مؤسسياً في آليات المتابعة القانونية. وكذلك أحرزت البلاد تحسناً في جهودها للقضاء على أشكالٍ من عمالة الأطفال. ومع ذلك، أشار التقرير إلى أن هذه الإصلاحات على أهميتها محدودة الأثر الاجتماعي.
وبالتوازي مع هذا المسار القانوني المتدرّج، ارتفع مستوى الوعي داخل المجتمع في مسارٍ لا يقلّ تعقيداً. فخلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، أظهر الواقع عدم كفاية النصوص القانونية لإحداث تحوّلٍ فعليٍّ في أوضاع الفئات الأكثر هشاشة. إذ بقيت الهوّة واسعةً بين ما أقرّه القانون وما عاشته تلك الفئات في تفاصيل حياتها اليومية. وفي هذا السياق، تحوَّل سؤال التحرر من نقاشٍ قانونيٍّ إلى نقاشٍ حول التمثيل والعدالة وفرص الارتقاء داخل البنية الحديثة للدولة.
وبعد الدور المبكر الذي لعبته "الحر" في سبعينيات القرن العشرين، دخلت الحركة في الثمانينيات مرحلةً جديدةً اتسمت بإعادة التموضع داخل الحقل السياسي. فوفقاً للباحث جوزيبي مايموني في دراسته السابقة، شغلت بعض شخصيات الحركة مواقع تنفيذيةً وإداريةً داخل الدولة. إذ ضمّت الحكومات المتعاقبة وزيراً أو وزيرَيْن من ذوي الأصول الحراطينية، غالباً من الناشطين السابقين في صفوف الحركة.
ومع أن هذه التعيينات شكّلت مكسباً رمزياً واعترافاً رسمياً بتمثيل الحراطين في مؤسسات الدولة، فإن أثرها بقي محدوداً على المستوى الاجتماعي الأوسع. فبحسب تقرير منظمة العفو الدولية سابق الذكر، استمرت مؤشرات الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية في الظهور داخل القواعد العريضة من الحراطين.
ومع ذلك، أسهم انفتاح حضور الدولة في المجال التعليمي منذ ثمانينيات القرن العشرين الحراك الاجتماعي داخل فئة الحراطين. إذ بدأت المدرسة النظامية تتيح فرصاً جديدةً للدراسة والارتقاء المهني لمن استطاع إليها سبيلاً. وهو ما أشار إليه الباحث والأستاذ في جامعة نواكشوط، محمد يحيى حسني، في دراسته المنشورة بمجلة "عمران" سنة 2023 بعنوان "حراطين موريتانيا: إلى أيّ مدى يتحكّم الأصل الاجتماعي في فرص الحراك وتغيير المكانة؟". وقد استند فيها إلى مقابلاتٍ ميدانيةٍ مع الجيل الأول من نخبة الحراطين.
حسب الدراسة، لم يكن التعليم مجرّد مسارٍ معرفيٍّ، بل شكّل أحد الموارد التي منحت هذا الجيل إمكاناتٍ أوسع للاندماج والاعتراف داخل بنية الدولة الحديثة، إلى جانب الطموح الفردي والمثابرة الشخصية. فالتعليم كان رافعة الحراك المركزية، وأتاح لجيلٍ من أبناء الحراطين دخول المدرسة النظامية ثم الارتقاء إلى مستوياتٍ ثانويةٍ وجامعية. وهو ما منحهم قدرةً تفاوضيةً جديدةً داخل المجتمع والدولة. وتظهر نتائج البحث الميداني التي أوردها حسني أن 53 بالمئة من أفراد الجيل الأول يعزون تقدّمهم الاجتماعي إلى تحصيلهم العلمي، مقابل نِسبٍ أقلّ للطموح الشخصي أو مكانة الأسرة. وبذلك شكّل التعليم نقطة التحوّل الأبرز، إذ مكّن هذا الجيل من الانتقال من الهامش إلى مواقع أكثر حضوراً داخل البنية الحديثة للمؤسسات.
ويضيف ولد بي أنّ تغليب منطق التسويات السياسية على خطاب التحرر الجذري أصبح أكثر وضوحاً بعد انتخابات سنة 2007، حين تولّى مسعود ولد بلخير رئاسة الجمعية الوطنية. معتبراً أنّ خطابه حينئذٍ خفّف من حدّة إدانة الممارسات المرتبطة بالرقّ، قبل أن يعلن لاحقاً عن حلّ حركة "الحر" بوصفه إنجازاً شخصياً. ويرى ولد بي أن هذه التطورات نقلت الحركة من إطارٍ احتجاجيٍّ مستقلٍّ إلى فضاء التمثيل السياسي من داخل الدولة.
ومع تراكم هذه الأحداث، تشتّتت أطر الحركة بين أحزابٍ سياسيةٍ وتجمعاتٍ مدنيةٍ مختلفة، وتراجع حضورها التعبوي الذي ميّزها في السبعينيات والثمانينيات. وقد أدّى هذا التراجع إلى فراغٍ تنظيميٍّ في المشهد الحراطيني مهّد لظهور أشكالٍ جديدةٍ من الفعل الاحتجاجي خلال العقد اللاحق. تمثلت هذه الأشكال في مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية "إيرا" التي تأسست سنة 2008، بخطابٍ أكثر حدّةً في مقاربة قضايا الرقّ ومخلفاتها الاجتماعية.
بلغت المواجهة ذروتها في أبريل 2012، حين أحرق زعيم حركة إيرا كتباً من الفقه المالكي، واصفاً إياها بـكتب "فقه النخاسة". وقد أثارت الخطوة جدلاً واسعاً داخل موريتانيا وخارجها. وبحسب التغطية الصحفية التي واكبت الحدث — ومنها تقرير صحراء ميديا بتاريخ 30 أبريل 2012 — سارعت الحركة إلى عقد مؤتمرٍ صحفيٍّ قدّمت فيه اعتذاراً للموريتانيين وللمسلمين عموماً، مؤكدةً أن الحرق كان "عملاً فردياً" لم يُتَّفَق عليه داخل القيادة. وصرّح المتحدث بِاسمها آنذاك، إبراهيم ولد بلال، بأن هدف الخطوة لم يكن إهانة المقدسات وإنما لفت الانتباه إلى حجم ما تتعرض له شريحة الحراطين من تمييزٍ اجتماعيّ. وأشار بيان الحركة حينها إلى أنّ المواد الفقهية التي أثارت التحفظ تتعلق بأحكامٍ تاريخيةٍ حول وضع الإماء والتفريق بين الأحرار وأبناء الرقيق، وأن مراجعة هذه القراءات ضروريةٌ من وجهة نظرها. ووجّه محامي الحركة زايد مناشدةً للمسلمين للتهدئة وقبول الاعتذار وعدم استغلال الخطأ لعرقلة جهود مكافحة الرقّ. وقد اعتُقل بيرام بعد الحادثة قبل أن يُفرج عنه لاحقاً بصفةٍ مؤقتةٍ في سبتمبر 2012، ليُعتقل مجدداً سنة 2014 ويقضي عاماً في السجن.
لم يقتصر نشاط الحركة على المجال الاحتجاجي. بل سعت إلى توسيع قاعدتها عبر استقطاب فئاتٍ أخرى، خصوصاً من المكوّنات ذات الأصول الساحلِ إفريقية الموريتانية، في محاولةٍ لبناء جبهةٍ مدنيةٍ أوسع. ونظّمت الحركة مسيرةً كبيرةً سنة 2014 للتنديد بما سمّته "العبودية العقارية"، أيْ حرمان فئاتٍ من الحراطين من ملكية الأراضي الزراعية التي يعملون فيها منذ أجيال، نظراً لأن ملكيتها تعود إلى أسيادهم السابقين.
مع منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت الحركة تحوّلاً تدريجياً في خطابها. تراجعت نسبياً النبرة الصدامية التي ميّزت مراحلها الأولى، واتجه جزءٌ من قيادتها إلى مقاربةٍ سياسيةٍ تقوم على توسيع دائرة التأثير بدل الاكتفاء بالاحتجاج المباشر. أسهم هذا التحوّل في انتقال الحركة من موقع المنازعة الجذرية إلى محاولة التموقع داخل المشهد السياسي الوطني، عبر بناء تحالفاتٍ أوسع واستقطاب شرائح جديدةٍ من خارج قاعدتها التقليدية.
وفي هذا السياق، جاء ترشّح بيرام الداه أعبيد للانتخابات الرئاسية سنة 2014. فرض هذا المسار الجديد تعديلاً في نبرة الخطاب وتوسيعاً للقاعدة الانتخابية، بما في ذلك استقطاب فئاتٍ من المكوّن العربي ومن المكوّنات الوطنية ذات الأصول الإفريقية جنوب الصحراء. وهو ما تجلّى أكثر في حملة 2024 التي ضمّت شخصياتٍ من خارج الفئة الحراطينية، من بينها يعقوب ولد امرابط الذي شغل منصب مدير الحملة العامّ.
غير أنّ هذا التحوّل لم يَسلم من الانتقاد. فقد رأى الناشط السياسي محمد غلام ولد أمَيّا أن الحركة بدأت تميل إلى "تسويق المظلومية" بدلاً من تفكيك أسبابها البنيوية. ففي مقاله "إلى متى؟ الابتزاز السياسي في موريتانيا واستثمار خطاب الضحية" وكالة الأخبار بتاريخ 4 مايو 2025، اعتبر ولد أمَيّا أنّ بعض التيارات الحقوقية — وفي مقدمتها حركة إيرا — تحوّلت من الدفاع عن الضحايا إلى استثمار معاناتهم أداةً للابتزاز السياسي. وأوضح أن تكرار خطاب الاضطهاد دون العمل على معالجة جذوره لا يحرّر المهمَّشين، بل يُبقيهم رهائن لزعاماتٍ تقتات من معاناتهم. ويخلص الكاتب إلى أنّ هذه المقاربة جعلت من النضال الحقوقي رأسمالاً انتخابياً تُدار به التحالفات وتُقاس به المواقف، بدل أن يكون رافعةً لمشروعٍ وطنيٍّ جامعٍ يتجاوز الانتماءات الضيقة.
وتُظهر تجربة حركة "الحر" مثالاً مبكراً لهذا التداخل. فقد دخل بعض قادتها بعد أعوامٍ من تأسيسها إلى مواقع تنفيذيةٍ وإداريةٍ داخل الدولة. وهو انتقالٌ يعكس من جهةٍ انفتاحاً أكبر على الفضاء العامّ لكنه كشف أيضاً عن صعوباتٍ تتعلق بكيفية الحفاظ على التوازن بين تمثيل القاعدة الاجتماعية والانخراط في مؤسسات الدولة. ومع مرور الوقت، بدا أن آليات التدرج داخل بعض الحركات أصبحت أكثر ارتباطاً بأوزان الأشخاص الرمزية، وهو ما ولّد حساسياتٍ داخليةً انعكست على مساراتها اللاحقة.
وفي مقابلةٍ أجرتها الفراتس مع الباحث في التنمية والتحولات الاجتماعية بجامعة نواكشوط، عبد الله محمد، أوضح أن أبرز تجليات تسليع المظالم في موريتانيا يمكن ملاحظتها من خلال اعتمال الانشقاقات داخل الحركات الحقوقية. فكلّ انقسامٍ يولّد كياناً جديداً يسعى إلى رأسمالٍ رمزيٍّ خاصٍّ، إمّا عبر إنشاء منظمةٍ مستقلةٍ أو عبر التقرّب من السلطة. ووفق تعبيره، فإن ما يجري هو "تحويل المظلومية إلى رصيدٍ قابل للتداول"، أيْ إلى موردٍ يمنح شرعيةً ومكانةً أكثر مما يمنح حلولاً.
ويمكن ملاحظة هذا المسار أيضاً داخل حركة إيرا. فوفقاً لدراسة الباحث جوزيبي مايموني، شهدت الحركة انسحاب نائب رئيسها السابق إبراهيم بلال سنة 2015. وقد علّل قراره بوجود ما وصفه بأنه "تسييس" النضال ضد مخلفات الاسترقاق. ويأتي هذا المثال ضمن سياقٍ أوسع شهدته الحركة، حيث برزت لاحقاً أصواتٌ داخليةٌ تنتقد طريقة إدارة النقاشات والملفات.
ومن بين هذه الأصوات، تصريحات القيادي السابق السعد ولد لوليد الذي أشار في أكثر من مناسبةٍ — منها مقابلةٌ متلفزةٌ بثّتها قناة "الوطنية" بتاريخ 28 يناير 2016 — إلى أنّ بعض الاجتماعات الداخلية بدأت تنشغل بقضايا شخصيةٍ لقادة الحركة. مثل الجدل حول منع أحد المسؤولين من جواز سفره، في حين كانت بحسب تعبيره قضايا التعليم والعمل والتمثيل تستحق أولويةً أكبر على مستوى النقاش. ويرى ولد لوليد أن هذه الممارسات كانت أحد مظاهر الابتعاد عن "جوهر القضية الحراطينية"، كما وصفه.
تتكرر الملاحظة نفسها لدى الزبير ولد امبارك، وهو عضوٌ سابقٌ في لجنة السلام داخل الحركة. إذ يرى أن مواقف قيادة حركة إيرا تتبدّل حدّتها تبعاً لطبيعة العلاقة مع الدولة. ففي مقطعٍ مصوّرٍ بثّته منصاتٌ إعلاميةً متعددةً، يلاحظ الزبير أن فترات الانسجام السياسي تنتج خطاباً أكثر هدوءاً، في حين ترتفع النبرة الاحتجاجية في لحظات التوتر، معتبراً أن هذا التقلّب لا يساعد على بناء رؤيةٍ طويلة المدى لقضية العدالة الاجتماعية.
لا يقتصر استثمار خطاب المظلومية على الحركات الحقوقية فحسب. بل يمكن ملاحظة لجوء الدولة الموريتانية، في سعيها لتدبير الحساسيات الاجتماعية وضمان استقرار النظام السياسي، إلى تسليع المظالم التاريخية وربطها بخطاب الوعود التنموية والمكاسب الرمزية بدل معالجتها ضمن إطار العدالة الاجتماعية الفعلية. فقد حوّلت السلطة تلك القضايا إلى رأسمالٍ انتخابيٍّ يضمن الولاء الشعبي، ويعيد إنتاج البنى التقليدية في لبوسٍ جديد. وبذلك لا تُعالَج المظالم بوصفها اختلالاتٍ بنيويةً تستوجب سياساتِ عدالةٍ اجتماعيةٍ شاملةٍ، بل يُعاد توظيفها ضمن منطقٍ يُحدِّث آليات العطاء مقابل الولاء، بما يسمح بإعادة إنتاج البنى التقليدية نفسها في لبوسٍ مؤسساتيٍّ ولغةٍ تنمويةٍ حديثة.
وفقاً للباحثة إي آن ماكدوغال في دراستها "ذا بوليتِكس أوف سليفري، ريسزم أند ديموكراسي إن موريتانيا" (سياسات الرقّ والعِرق والديمقراطية في موريتانيا) المنشورة سنة 2015، فإن دعم شريحةٍ من الحراطين المرشّحَ مسعود ولد بلخير في استحقاقات 2009 لم يكن نابعاً من وعيٍ تحرريٍّ أو انتماءٍ طبقيٍّ، بقدر ما ارتبط بوعودٍ ماديةٍ محددةٍ مثل إنشاء مدرسةٍ أو مستوصفٍ أو طريقٍ فرعيّ. أما المعارضون، فبرّروا موقفهم بعدم زيارة المرشّح لهم أو "عدم بذله الجهد الكافي" لكسب رضاهم. وتساعد هذه الملاحظة في تفسير الشعبية الانتخابية التي حظي بها الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز في الاستحقاقات نفسها، حين قدّم نفسه بحسب دراسة الباحثة "رئيساً للفقراء"، مستثمراً خطاباً اجتماعياً يمنح الفئات الهشّة شكلاً من الاعتراف الرمزي، دون أن يعني ذلك بالضرورة معالجة الأسباب البنيوية التي تنتج الهشاشة ذاتها. وتتسق هذه القراءة مع ما عرضه الباحث أحمد ولد هارون ولد الشيخ سيديا في ورقته التحليلية المنشورة على مركز الجزيرة للدراسات حول انتخابات 2009، التي أشار فيها إلى تأثير استثمار رمزية "رئيس الفقراء" في صياغة صورة ولد عبد العزيز الانتخابية. وهو ما مكّنه من استمالة قطاعاتٍ واسعةٍ من الشرائح محدودة الدخل.
وفي ضوء هذه الصورة، تتقاطع تجارب الحركات الحقوقية والفاعلين السياسيين مع تحولاتٍ أعمق في طريقة تمثيل المطالب الحراطينية داخل الدولة والمجتمع. فبين اندماجٍ مؤسسيٍّ وانشقاقاتٍ داخليةٍ ومقارباتٍ ميدانيةٍ تتغير بتغيّر المزاج السياسي، يظهر أن الخطاب الحقوقيّ لم يعد يتحرك داخل مجالٍ واحد. بل أصبح جزءاً من مشهدٍ أوسع يعاد فيه ترتيب الأدوار والمرجعيات، كلما تحركت السياسة أو تبدلت أسئلة التمثيل داخل البلد.
التحدي اليوم هو ترجمة الرصيد الرمزي إلى إصلاحٍ مؤسسيٍّ يتجاوز منطق الزعامة والوظائف نحو تعليمٍ وفرصٍ وعدالةٍ محسوسةٍ، بحيث لا تبقى المظلومية وقوداً للشرعية، بل جسراً لإنهائها.

