تعود أصول هذا الجدل إلى وقت تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران سنة 1979. فبعد سنوات من الاحتجاج والتظاهر، نجحت الثورة الشعبية في إنهاء حكم الشاه محمد رضا بهلوي الذي تولى الحكم منذ 1941، والقضاء على نظامه. تأسست على الأثر "جمهورية إسلامية" تستند إلى نظرية "ولاية الفقيه" في التراث الفقهي الشيعي. وفيها أن ولاية الأمر تكون للفقيه في غياب الإمام المهدي، الإمام الثاني عشر الذي يَعتقد الشيعة الاثنا عشرية أنه سيعود ليملأ الدنيا عدلاً. وقد طوَّر الخميني، قائد الثورة والمرشد الأعلى للجمهورية، هذه النظرية وجعلها مرجعيةً للحكم.
سرعان ما ظهر انقسام المواقف الإقليمية من الجمهورية الوليدة ومشروعها، وتجلى بدايةً في تباين المواقف العربية من الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن العشرين. ثم انقسام دول المنطقة في موقفها من إسرائيل والولايات المتحدة إلى "محور ممانعة" تقوده إيران، و"محور اعتدال" تصدّرته السعودية ومصر. برز هذا المنحى جلياً في ثورات الربيع العربي والحراك الشعبي الذي عمَّ المنطقة العربية في العقد الثاني من الألفية.
يقوم كلا الموقفين على تصوّرٍ مختزَل للنظام الإيراني، إما مشروعاً شيعياً مناوئاً أو مشروعاً إسلامياً جامعاً. أما تصوّر المشروع الإيراني شيعياً فارسياً، فيتجاهل دعم إيران حركاتٍ سُنِّية عربية تقاوم الاحتلال الإسرائيلي، وتركيزها على ضرورة وحدة المسلمين لمواجهة "الاستكبار العالمي" المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. وأما تصوّر النظام الإيراني مشروعاً إسلامياً جامعاً، فلا ينظر لتباين مواقف طهران من الثورات العربية على أساسٍ طائفي، بدعمها المظاهرات ذات الطابع الشيعي في اليمن والبحرين، ووقوفها ضد المظاهرات التي قادها سُنَّةٌ عرب في سوريا. ويتجاهل كذلك استناد نظام الحكم في إيران إلى ولاية الفقيه الشيعية.
لا يمكن تفسير طبيعة الجمهورية الإسلامية في إيران بهذه الثنائية المستندة لتصوّرات عن طبيعة الدولة والإسلام تختلف عن التي أنتجها المسار التاريخي للثورة الإيرانية. فمع تأسيس الجمهورية، واجه مُنظِّرها الأول روح الله الخميني معضلة التناقض بين معتقداته وأفكاره الإسلامية، التي تشكَّلت في العقود السابقة وعبَّر عنها في كتاباته وخطبه من جهة، والواقع الذي لم يكن ثمة سبيل لتجاهله من جهة أخرى. كان التناقض الأبرز بين اعتقاده ضرورة الاحتكام للمفاهيم العقدية، مثل مفهوم الأمة ورفضه الدولة القومية، وبين عمله في هذه الدولة التي ورثها عن النظام البهلوي والنظام القاجاري من قبله، وفرضها عليه النظام الدولي. بالنتيجة، تأسس نظامٌ يتعارض أساسه الجمهوري الشيعي الفارسي مع محتواه الإسلامي الأممي. ومع الوقت، أُعيدت صياغة هذه العلاقة على نحوٍ يتجلى بالأساس في مجال السياسة الخارجية.
وكانت المؤسسة الدينية ساهمت في الحكم في إيران إلى بدايات القرن العشرين. في كتابه "آ هيستوري أوف موديرن إيران" (تاريخٌ لإيران الحديثة) المنشور سنة 2008، يرصد إرفاند أمبراهاميان الدور البارز للدين والمؤسسة الدينية في الدولة القاجارية التي حكمت من 1779 إلى 1925. فقد امتلك علماء الدين أراضيَ واسعةً وحصَّلوا الزكاة وأموال الخُمس وتولَّوا المحاكم الشرعية، وأشرفوا على الأوقاف ومعها المساجد والمدارس التي استندت إليها. كذلك صوَّر الحكام القاجاريون أنفسهم حماةَ الشيعة وحفظة القرآن وأمراء المؤمنين الذين يحكمون بالشرع الإسلامي. وفي الجملة، تداخل الإسلام مع نمط الحكم السائد في الدولة القاجارية على نحوٍ جعل تمييزهما مستحيلاً.
نشأ روح الله الخميني في هذه الأجواء. وُلد سنة 1902 بمدينة خمين في إيران لعالمٍ دينيٍّ هو ملَّا آية الله مصطفى الموسوي. وبعد خمسة أشهر من ولادته قتل مسلحون والدَه، وقيل إن ذلك كان نتيجة وقوفه في وجه إقطاعيين ومحسوبين على الحكومة في منطقته آنذاك، فتولَّت والدته تربيته. حفظ الخميني القرآن في طفولته ودرس الفقه الاثنا عشري منذ صغره، ونبغ في الدراسات الدينية في الحوزةِ العلمية في مدينة آراك التي سافر إليها سنة 1919 للدراسة. وفي سنة 1922، اتجه إلى الحوزة العلمية في قم، حيث واصل الدراسات الشرعية تحت إشراف كبار علمائها.
شهدت إيران في هذه الفترة تحوّلاتٍ كبرى غيّرت موضع المؤسسة الدينية في نظام الحكم. في سنة 1905، واجهت الحكومة أزمةً اقتصاديةً كبرى فتحت الطريق أمام احتجاجاتٍ شعبيةٍ قادها البازار (طبقة كبار التجَّار) وأيّدهم فيها بعض علماء الدين. طالب المحتجون بتحويل الدولة القاجارية مَلَكيةً دستوريةً بوضع دستورٍ للبلاد وانتخاب مجلسٍ وطني.
وبحسب أمبراهاميان، رفضت الحكومة هذه المطالب في البداية واعتبرتها "هرطقة" مدعومة من "عملاء الإنجليز". إلا أنها في النهاية لم تجد بداً من الانصياع. وضعت الحكومة دستوراً على نمط الدستور البلجيكي في صيف سنة 1906 مستلهمةً النموذج الملكي الدستوري، وبإضافة القرآن مصدراً للتشريع، وانتخب المجلس في أكتوبر من السنة نفسها. على أن هذه التجربة الدستورية لم تطل. إذ سرعان ما اندلعت اضطرابات داخلية وحركات تمرد استمرت سنوات، ومهّدت الطريق لانقلابٍ عسكريٍّ سنة 1921 قاده رضا خان بهلوي وأطاح بحكم أحمد شاه، آخر حكام السلالة القاجارية. تولى رضا بهلوي حكم إيران رسمياً سنة 1925 وأسس دولةً جديدة.
قلَّصت الدولة البهلوية دور الدين والمؤسسة الدينية في الحياة العامة. وكانت هذه الدولة قد تأسست في سياق ما بعد الحرب العالمية الأولى الذي هيمن عليه سقوط الدولة العثمانية، واحتلال قوى أوروبية جل أراضيها. إضافةً إلى نشأة الحركات الوطنية المقاومة للاستعمار في ظلّ ثنائياتٍ فرضها عليها الاستعمار، مثل ثنائية التقدّم والتأخر، والتراث والحداثة. وفي تركيا المجاورة لإيران، ظهر مصطفى كمال أتاتورك الذي استند تصوّره للعالم إلى هذه الثنائيات، ورأى السبيل لإنقاذ بلاده في مسار الدولة القومية العلمانية. تأثر بهلوي بأتاتورك وقرَن في مشروعه الفارسيِّ القوميِّ العلمانيةَ بالتقدّم، وأزاح بالقوة مظاهر الدين من نظام الحكم والمجال العام. فضيَّق على ارتداء الحجاب وغيَّر قوانين الزواج والطلاق واستبدل القوانين والمحاكم الشرعية بالمدنية وألغى استعمال الألقاب الدينية ونزَع سيطرة رجال الدين على أموال الأوقاف وتوسّع في مؤسسات التعليم الحديث الخارجة عن سيطرة علماء الدين.
استفزت صورة التحديث الذي فرضه بهلوي القوى التقليدية في المجتمع. وفي مدةٍ وجيزةٍ، فقدَ العلماء ومعهم حلفاؤهم من طبقة البازار من التجَّار قسطاً كبيراً من سلطتهم ونفوذهم، فحاولوا الدفاع عنها بالاحتجاج والعنف.
يقول الباحث أحمد ليلة في دراسته "التحالف التاريخي للبازار ورجال الدين في إيران"، المنشورة سنة 2024، إن هذه التحولات كانت سبباً في تأسيس الحركات المقاومة مثل حركة "فدائيان إسلام". تشكَّلت الحركة بقيادة رجل الدين الشيعي مجتبى نواب صفوي وعضوية التجَّار، ونشطت في منتصف القرن. تركَّز نشاطها على اغتيال القيادات السياسية المتَّهمة بالعمالة للغرب. اغتالت الحركة عدداً من رؤساء الوزراء، أوّلهم عبدالحسين هجير سنة 1949 بعد اتهامه بالعمالة للإنجليز، ومن ثم حاج علي رزم آرا سنة 1951 بسبب معارضته تأميم النفط الإيراني. اغتالت الحركة أيضاً رئيس الوزراء حسن علي منصور في 1965 بسبب إحيائه معاهدة الامتيازات الأجنبية، وهي المعاهدة التي منحت الكيانات والشركات الأجنبية في القرنين التاسع عشر والعشرين امتيازاتٍ اقتصاديةً وقانونيةً في إيران وأثارت حفيظة الشعب.
ومع جدِّيتها، ظلّت المواجهة بين دولة بهلوي والمؤسسة الدينية محصورةً في العاصمة طهران. أما المدن الكبرى والريف، خاصة في الشرق والجنوب، فلم تصلها إصلاحات الشاه. وظلّت، بحسب أبراهاميان، محكومةً بأطرها التقليدية، لا يربطها بطهران ومشروع الشاه رابطٌ قوي.
في تلك الفترة ظلّ الخميني منشغلاً بالدراسة والتدريس، وظهر تميُّزه في الفقه والعرفان (التصوّف). وبحسب أمل حمادة في كتابها "الخبرة الإيرانية: الانتقال من الثورة إلى الدولة" المنشور سنة 2008، انشغل الخميني في كتاباته وتدريسه في هذه الفترة بالقضايا الفقهية البعيدة عن الحكم، الذي لم يكن انشغاله به كبيراً. كما لم يكن الخميني ثورياً، بل دافع في كتابه "كشف الأسرار" المنشور سنة 1943، عن نظام الشاه. ومع انتقاده المثقفين العلمانيين والتوجهات العلمانية للحكومة في الكتاب، إلا أنه اعتبر وجود الحكومة – وإن كانت ظالمةً – أفضل من غيابها.
تعمَّقت النزعة الثورية للخميني بسبب التحولات السياسية في منتصف القرن العشرين. ففي سبتمبر سنة 1941، أجبر البريطانيون والسوفييت الشاهَ على التنازل عن عرشه بسبب تعاطفه مع ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وتولى ابنه محمد رضا بهلوي الحكم. ومع انتهاء الحرب تصاعدت الحركة الوطنية الإيرانية المطالِبة بالاستقلال والسيادة على الموارد الوطنية، لاسيما النفط، على نحوٍ تجلى في تولّي محمد مصدق رئاسة الوزراء سنة 1951، وتأميمه النفط سنة 1953. دبّرت المخابرات البريطانية والأمريكية في نفس العام انقلاباً أزاحه عن الحكم وركز السلطة في يد الشاه.
ساعدت سياسات الشاه في العقدَين التاليَين في ترسيخ حكم الدولة القومية من جهة، وتعميق دوافع الثورة من جهةٍ أخرى. ففي سنة 1963، أطلق بهلوي مشروعاً للتحديث سُمِّي "الثورةَ البيضاء" واستهدف الريف أساساً. تضمَّن البرنامج مشروعاتٍ للإصلاح الزراعي، وتطوير البنية التحتية وشبكات المواصلات، وحملات تطعيم ضد الملاريا، إضافةً لبرامج تعليمية وصناعية وإصلاحات اقتصادية مثل تأميم بعض الشركات والمؤسسات الاقتصادية الخاصة. ومع نجاح هذه الإصلاحات في تمديد سلطة الدولة إلى الريف، فإنها ساهمت في إفقار الفلاحين الذين لم يستفيدوا منها، بحسب حمادة في كتابها "الخبرة الإيرانية". وفي نفس السنة، توفي المرجع الشيعي آية الله العظمى سيد حسين بروجردي. فأصبح الخميني "آية الله عظمى"، وهو لقبٌ يطلَق على من وصل أعلى مراحل الاجتهاد عند الشيعة.
تزامنت الثورة البيضاء مع مسعى تغريبي علماني للنظام، أقصى علماءَ الدين عن إدارة الدولة. وبحسب حمادة، سعى الشاه لتأكيد الهوية الفارسية لإيران على حساب الإسلامية. فأطلق مشروعاً لتنقية اللغة الفارسية من الألفاظ العربية، وألغى اشتراط الإسلام في المرشحين للمجلس النيابي. وقد أجاز للنواب القَسَم على أيٍّ من الكتب السماوية بدل اقتصاره على القرآن، وسمح للمرأة بالتصويت والترشح في الانتخابات، واستكمل إزاحة علماء الدين عن إدارة الأوقاف.
قوبلت هذه التحولات بموجةٍ من الغضب تجسدت في انتفاضة سنة 1963. في 22 يناير من ذلك العام، وبالتزامن مع الاستفتاء على "الثورة البيضاء"، أصدر الخميني والعلماء في حوزة قُمّ بياناً استنكروا فيه الإصلاحات. فاتجه الشاه إلى المدينة في حماية الجيش، وألقى خطاباً هاجم فيه العلماء.
استمر التصعيد المتبادل حتى ألقى الخميني في يونيو خطبةً بمناسبة ذكرى عاشوراء شبَّه فيها الشاه بالخليفة الأموي يزيد بن معاوية، قاتل الحسين بن علي بن أبي طالب، وانتقد علاقاته السرية مع إسرائيل. خرج أنصار الخميني في طهران في مسيرةٍ هتفوا فيها "الموت للدكتاتور"، وهاجموا مراكز الشرطة ومنظمة الاستخبارات والأمن القومي "السافاك". واجهت السلطة المتظاهرين بالجيش، فسقط العشرات بين قتيلٍ ومصاب، وأُعلنت الأحكام العرفية. قُبض على الخميني، وظلَّ مسجوناً عدة أشهر، قبل أن يطلَق سراحه في أبريل من العام التالي.
في أكتوبر 1964، وافق البرلمان الإيراني على قانونٍ منَح المستشارين العسكريين والفنيين الأمريكيين وأسرهم حصانةً قضائيةً تمنع محاكمتهم أمام القضاء الإيراني. وبهذا، جعلهم القانون في عداد الدبلوماسيين والعاملين في السفارات الأجنبية في طهران والمشمولين بالحصانة الدبلوماسية. هاجم الخميني القانون ودعا لمظاهراتٍ تعارضه. وفي نوفمبر، قُبض عليه واقتيد من بيته إلى المطار، ومنه إلى منفاه في تركيا. وفي سبتمبر من العام التالي، انتقل الخميني للتدريس في الحوزة العلمية في مدينة النجف في العراق، ومكث فيها أربع عشرة سنة، ألَّف فيها كتاب "الحكومة الإسلامية". هذا قبل أن يُرحَّل مرةً أخرى إلى فرنسا سنة 1978، حيث وجَّه رسائله المسجلة للثوار في إيران، التي عاد إليها في فبراير بعد رحيل الشاه سنة 1979.
في كتاب "الحكومة الإسلامية"، ميَّز الخميني بين "الإسلام الحقيقي" الذي ينشده والصورة المهيمنة للإسلام في الواقع التي يراها "إسلاماً مزيَّفاً". وقد جعل الإسلام الحقيقي مقابلاً لمساوئ نظام الشاه المتمثلة في ثلاثة أمور هي حكم الفرد وتفريق الأمة الإسلامية الواحدة دولاً متناحرة والاستناد إلى الهيمنة والاستعمار الغربيَّين. لم تترك هذه المقابلة مجالاً لمحاولة إصلاح نظام الشاه، بل استدعت العمل للثورة عليه واستبداله بنظامٍ إسلاميٍّ يقوم على الشورى ووحدة الأمة واستقلالها.
بحسب الخميني، لا يمانع الاستعمار وجود هذا الإسلام المزيف بل يشجعه، لأن الاستعمار لا شغل له بصلاة المسلمين، وإنما يسعى خلف نفطهم ومناجمهم ويريد بلادهم سوقاً لمنتجاته. وتتلاقى مصالح الاستعمار مع الحكومات الجائرة التي تريد إبقاء المسلمين خاضعين لتتمكن من استغلال ثرواتهم ونهب مقدراتهم، ولا يمكن إخضاع المسلمين إلا بتمزيق وحدتهم وتحويلهم دولاً منفصلةً. لهذا السبب انتقد الخميني الثورة الدستورية التي أسست دولة إيران الحديثة، وكانت اندلعت سنة 1905 واستمرت لسنة 1911. تمخض عنها أول مجلس نيابي وتحوّل معها حكم القاجاريين المتفرد لملكية دستورية. اعتبرها الخميني مؤامرةً بريطانيةً لإخراج الأحكام الإسلامية من مجال العمل والتطبيق وإبدالها بالقوانين الغربية، التي آلت إلى تمكين الحكم الفردي.
وتمييز الإسلام الحقيقي عن المزيف، برأي الخميني، يتأتى أيضاً بنزع الشرعية عن المؤسسة الدينية لأنها حاملةٌ للمزيف. انتقد الخميني في كتابه الحوزات العمليةَ في النجف وقم، وعلماءها من "متصنعي القداسة" الذين "يطعنون الإسلام باسم الإسلام [. . .] ويعارضون كلَّ صوتٍ يدعو للحياة والاستقلال من تحت هيمنة الآخرين". وهاجم تركيز العلماء على الشعائر وادعاءهم وجوب طاعة الحكام وفصلهم الدين عن دنيا الناس وإحجامهم عن خوض قضايا العدل والجهاد.
هاجم الخميني هذا الإسلام المزيف لمساهمته في تقسيم الأمة الإسلامية شعوباً يرى أفرادها أنفسهم مواطنين في بلدانٍ مختلفةٍ، كلٌّ متحيّز لذاته. ومساهمته كذلك في تعميق الجفوة بين الشعوب وحكوماتها، بسبب خضوع الحكومات للقوى الخارجية. وبسبب هيمنة هذا الإسلام، لا يرى المسلمون أنفسهم مسلمين، بل فرقاً متناحرة من سنةٍ وشيعةٍ وطوائف أخرى يكفِّر بعضهم بعضاً. وبحسب كتاب" الوحدة الإسلامية في فكر الإمام الخميني" الصادر عن مركز الإمام الخميني الثقافي سنة 2007، رأى الخميني النزاعاتِ الطائفيةَ أدواتٍ يستعملها "أعداء الإسلام" لتفريق الأمة أكثر من كونها خلافاتٍ علميةٍ جادة. واعتبر التكفير المتبادل بين طوائف الأمة أخطر عليها من القوميات التي تمزق وحدتها، وأكثر خدمةً للاستكبار العالمي.
قابل الخميني هذا الإسلامَ "المزيف"، الذي أنتجته التجربة التاريخية للمسلمين، بالإسلام "الحقيقي" المجرَّد عن التاريخ. واشترك مع المودودي وسيد قطب، مثلاً، في تجريد الإسلام عن التجربة التاريخية ومقابلة النظام المعاصر الذي أنتجته هذه التجربة بالإسلام "النقي" للعصور الأولى، التي سبقت الخلافات العقدية والمذهبية والتاريخية. فدعا للتفرقة بين "الإسلام وما يعرض على الإسلام". واعتبر التاريخ الإسلامي منذ تأسيس الدولة الأموية انحرافاً عن الإسلام لا ينبغي الاحتجاج به، وهو بهذا الطرح بدا أنه صاغ مشروعاً يتجاوز الطائفية والوطنية.
لم يقصر الخميني الإسلامَ المزيف الذي يحاربه على إيران ولا على الحوزات الشيعية، بل صوَّر الشاهَ والحوزات نموذجاً لحالةٍ تعمّ العالم الإسلامي السني والشيعي على حدٍّ سواء. صوَّر الأجهزةَ الحكومية كلها "فاسدة ومفسدة"، ووصفها بالخيانة والظلم. لم تكن المشكلة إيرانية ولا شيعية، بل إسلامية يستوجب علاجها قيام "المسلمين في كل بلد من البلدان الإسلامية" بالسعي لإسقاط الحكومات ومعها الإسلام المزيف المرتبط بها والمتسبب في فرقتها، "والوصول بالثورة السياسية الإسلامية إلى النصر".
شبَّه الخميني الدول القائمة بحُكم يزيد بن معاوية، حُكم الفرد المستبد القائم على الإسلام المزيف، وشبَّه الإسلام الحقيقي بثورة الحسين بن علي. ليس ثمة مشترك في هذا التصور بين الإسلامين، ولا يمكن استيعاب الحسين في حكم يزيد. ولا يمكن للإسلام الحقيقي الانتصار ما لم يكن نقيض المزيف. فإذا كان المستعمرون والحكام المستبدون وطالبو الجاه يحافظون على مصالحهم بالدولة القومية التي تمزِّق الأمة الإسلامية وتحوِّلها شعوباً متفرقةً وقوميات، فإن الثورة لا يمكن أن تنجح إلا بتوحيد المسلمين ورفض هذا التقسيم. إذ تمكِّن هذه الوحدة من مواجهة "الاستكبار العالمي".
لم يكتفِ الخميني بالتعبير عن هذه الأفكار في كتاباته، بل حوَّلها مشروعاً سياسياً يدعم الثورة في إيران. تواصل من منفاه في العراق مع الحركة الثورية التي تصاعدت مع بداية السبعينيات ووجَّه إليها رسائله بانتظام عبر شرائط التسجيل "الكاسيت"، وقُتل ابنه الأكبر مصطفى بداية موجتها الأخيرة سنة 1977. ومع مغادرة الشاه طهران إلى القاهرة وتخلّيه عن الحكم في يناير سنة 1979، عاد الخميني إلى البلاد من منفاه في فرنسا، وقاد التحوّل إلى "الجمهورية الإسلامية" التي أصبح مرشدَها الأعلى.
تناقض مشروع الخميني الأممي مع أركان الجمهورية التي سعى لتأسيسها على أنقاض نظام الشاه، المواطن والدولة القومية والديمقراطية. أما المواطن، فلم يخاطبه الخميني في دعوته للثورة، ولم يخاطب المسلمَ الشيعي كذلك. بل خاطب "العناصر المؤمنة والفاضلة"، والمؤمن "العادل التقي"، والإنسان "المهذب الفاضل". وهنا يبدو المؤمن – بعيداً عن مذهبه ووطنه – لا المواطن، أساس الحقوق والواجبات وموضوعها لدى الخميني. لم يعترف بالعقد الاجتماعي أساساً للعلاقة بين الحكام والمحكومين. غربية هذه الفكرة كانت سبباً كافياً لرفضها. أما أساس العلاقة عند الخميني، فهو ديني. فالحكومة تستمد شرعيتها من امتثالها شرع الله الذي يعبِّر عنه الفقيه، لأن الفقهاء "أمناء الرسل" ولأن "الله قد ألزمنا بطاعة الرسول الأكرم، كما أمرنا بطاعة أولي الأمر والمراد منهم بحسب ضرورة مذهبنا: الأئمة". أما الإطار الوطني الجغرافي للحكم، فمتناقض مع التصوّر الأممي للخميني.
تجلى الإيمان بالتدرج في قبول الخميني الأوّلي بالمواطنة والدولة القومية والديمقراطية. وهنا يشير رسول نمازي، في دراسته "آية الله خميني: فروم إسلاميك غوفرمنت تو سوفرين ستيت" (آية الله الخميني: من الحكومة الإسلامية إلى الدولة ذات السيادة) المنشورة سنة 2022، إلى أن الخميني وعد بتأسيس "مجتمع مفتوح يضمّ كل أطياف الإيرانيين". فجعل الدولة القومية، لا الأمة كلها، مجال حكمه ومسؤوليته. وأما الديمقراطية، فقبل بنسخةٍ "إسلامية" منها، لا تدَّعي الحكومة فيها التشريع من دون الله، ولكنها ترضخ لمطالب الناس الشرعية والقانونية وتعمل وفقاً لها، وتوجّه اهتمامها للضعفاء والمحرومين وسماع صوت الشعب وقبول رأيه. هذا مقابل الديمقراطية الغربية التي رآها "مفرغة من المعنى"، ولا تهتم إلا برأس المال. وإن لم يقبل الخميني بهذه المفاهيم إطاراً نهائياً لمشروعه، إلا أن قبوله الأوّلي المرحلي بها فرض صيغةَ التفاوض بين مشروعه الفكري والدولة التي ورثها. تجلت نتائج هذا التفاوض في دستور الجمهورية الإسلامية، وفي الممارسات العملية لنظامها.
أما الدستور، فاعتمد الدولةَ القوميةَ إطاراً للجمهورية، التي يظهر بُعدها الأممي الإسلامي في السياسة الخارجية بالأساس. مثلاً، تجعل المادة التاسعة عشر من الدستور المواطنَ الإيرانيَّ، بقطع النظر عن عرقه ولونه ولغته، محل الحقوق. وتؤكد المادة الثالثة والعشرون حريته الدينية، وتضمن المادة العشرون مساواة الرجال والنساء. وتقصر المادة 145 عضوية الجيش وقوى الأمن "الإسلامية" على المواطنين الإيرانيين. وتوكل المادة 176 حماية مصالح "الثورة الإسلامية" إلى "مجلس الأمن القومي"، الذي تقتصر عضويته على الإيرانيين. إلا أن المادة 144، التي تنص على إسلامية الجيش الإيراني، توجب التزامه "بالعقيدة الإسلامية". كما تلزم المادة 152 الحكومة الإيرانية الدفاع عن حقوق جميع المسلمين، وعدم الانحياز لأي من القوى العظمى المتسلطة.
وأما الممارسات، فقد قوضت الجمهورية الإسلامية في أحيانٍ شتى حقوق المواطنة خطاباً عملياً معتمدةً على خطاب المواطنة والدولة، لا الخطاب الإسلامي. ينقل نمازي، مثلاً، تبرير الخميني استهداف أجهزة الدولة المعارضين السياسيين للجمهورية الإسلامية بتبريراتٍ وطنيةٍ ثورية. أهمها وجوب تطهير الساحة من "الطبقة الفاسدة" التي تعادي الثورة، وإن استدعى ذلك "كسر الأقلام وإغلاق جميع المجلات والمنشورات الفاسدة، ومحاكمة رؤوسهم"، وكذلك حظر جميع الأحزاب الفاسدة ومعاقبة رؤسائها الفسدة.
أحد تجليات مركزية الفارسية في اهتمام الحكام بالشاهنامه، أو كتاب الملوك. وهي ملحمة شعرية من نحو ستين ألف بيت ألَّفها أبو القاسم الفردوسي في القرن الحادي عشر، تغنى فيها بتاريخ فارس من العهود "الأسطورية" إلى الفتح الإسلامي. بحسب أبراهاميان، دعم حكام الدولة القاجارية قراءة هذه الملحمة في المناسبات والأماكن العامة، وسلك رضا بهلوي نفس المسلك، وكذلك حزب الشعب الشيوعي (توده) بعد نشأته في أربعينيات القرن العشرين. ومع تمدد الدولة في عهد محمد رضا بهلوي، شُكّلت القومية الفارسية أساسها، على نحوٍ ساهم في تهميش القوميات غير الفارسية، مثل الآذريين والبلوش والعرب والأكراد. لم ترسخ الشاهنامه الفخر الفارسي فحسب، ولكنَّها رسخت معه الولاء للإمبراطورية الفارسية، غالباً على حساب الانتماء الإسلامي.
لم يظهر الخميني أي اهتمام بالشاهنامه، وهاجم القومية الفارسية المناقضة لمشروعه لأنها معطِّلة لدعوة الأنبياء. وفي دراسته بالفارسية "إمام خمینی وجریان ملیكرایی" (الإمام الخميني والحركة القومية) المنشورة سنة 2015، يرصد محسن زيار تقديم الخميني الاعتبارات الأممية على القومية، بتأكيده مساواة الإسلام بين الأعراق ورفضه تمييز أي جماعة عربية أو أعجمية "إلا بالتقوى". ولا يمانع الخميني مع ذلك وجود عاطفةٍ قوميةٍ أو وطنيةٍ يرتبط بها الإنسان بموطنه، لكنه يؤكد وجوب تأطُّرها بحدود الإسلام.
ولوهلةٍ، بدا أنه لم يبقَ من الفارسية في الجمهورية الإسلامية إلا اللغة التي نصَّت المادة الخامسة عشر من الدستور على أنها اللغة الرسمية "والمشتركة" لشعب إيران. وسمحت الجمهورية الإسلامية باستخدام اللغات القومية والمحلية الأخرى في غير المكاتبات الرسمية.
أعادت التطوّرات اللاحقة للثورة اللغة الفارسية إلى قلب النظام السياسي الإيراني. في سبتمبر سنة 1980، شنَّ العراق حرباً على إيران استمرت إلى سنة 1988. اصطفت دولٌ عربية على رأسها دول الخليج مع العراق في هذه الحرب على نحوٍ سمح بتصويرها حرباً عربية فارسية. وبحسب نايل إلهان في مقاله "بانال ناشوناليزم إن إيران" (القومية الرتيبة في إيران) المنشور سنة 2016، أوجدت الحرب حاجةً ملحةً لإنتاج الفخر والحشد القوميين ضد "العدو العربي". فاستخدم الدين جنباً إلى جنب مع الأساطير والاستعارات والرموز الفارسية المركزية في التاريخ الإيراني.
تجلى استعادة الفارسية موقعها في عودة الاهتمام بالشاهنامة التي اصطبغت في الجمهورية الإسلامية بصبغةٍ دينية. ووفق آراش بيدُالله خاني في مقاله "ميث آند أبيك آز آه نَن-ريليجيس ريفايفل أوف ناشونال آيدنتِتي" (الأسطورة والملحمة إحياءً غير ديني للهوية الوطنية)، والمنشور سنة 2024، وُظِّفت الشاهنامه لا نصاً أدبياً قومياً فحسب، ولكن وسيلة لدمج الإرث الفارسي والهوية الإسلامية الشيعية في إيران.
في سنوات الحرب العراقية وما بعدها بعقود، أعادت المؤسسة الدينية قراءة الشاهنامه ضمن منظومة القيم الإسلامية، مبرزةً تناغم مضامينها الدينية والأخلاقية مع الإسلام ومع منظومة الحكم في البلاد. وصُوِّر استشهاد الحسين في كربلاء سنة 680 فصلاً ضمن الملحمة الممتدة. وفي سنة 2010 مثلاً، أعلن إسفنديار رحيم مشايي، مستشار الرئيس الإيراني لشؤون الإيرانيين بالخارج، عن مشروعٍ لإنتاج فيلمٍ سينمائيٍّ ومسلسلٍ يستندان إلى قصص الشاهنامه بهدف ترسيخ "الهوية الثقافية الوطنية".
ساهم الاهتمام الرسمي بالشاهنامه، بعد أسلمتها وتشييعها، في عودة الفخر بالإمبراطورية الفارسية على حساب الأممية الإسلامية. مثلاً تحدث علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني سنة 2015، عن عودة إيران "إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ". وفي 2017، عبَّر وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان عن فخره بصعود التأثير الإيراني في العراق بعد الغزو الأمريكي سنة 2003، بقوله إن العراق أصبح "جزءاً من الإمبراطورية الفارسية".
ويبدو أن هذا الصعود الفارسي انعكس على مواقف إيران من الأقليات العرقية. وترصد غدي قنديل في بحثها "عرب إيران: الأقلية المنسية بين القومية والطائفية"، المنشور في مركز الدراسات العربية الأوراسية سنة 2024، انتهاج الحكومة الإيرانية سياسات للقضاء على الثقافة العربية والتضييق على الأقلية العربية، مثل حظر اللغة العربية في المدارس ومنع الأقلية العربية من تأسيس أحزاب سياسية.
وتدريجياً، مع تراجع بُعد الأممية الإسلامية في الجمهورية الإيرانية، صارت الدولة – لا الأمة الإسلامية – المقصدَ النهائي. ظهر هذا في إعادة تأويل الولاء للإمام أو الفقيه، ليأخذ بعداً وطنياً وعقائدياً.
يشير شادي علي في دراسته "الفلسفة السياسية لولاية الفقيه" المنشورة سنة 2025، لتخلّي الدولة بعد وفاة الخميني سنة 1989 عن اشتراط كون المرشد الأعلى مرجعية دينية، واكتفائها بكونه "مجتهداً عادلاً مؤيَّداً من قِبل مجلس الخبراء". سمح هذا التعديل باختيار مرشد أعلى للجمهورية لا يحظى بمكانةٍ فقهية عليا بقدر تمتّعه بالكفاءة السياسية والقبول المؤسسي. ويحاجّ نمازي أن الخلاف بين مقتضيات الشريعة الإسلامية والسياسة الوطنية حُسم لصالح الأخيرة. بل في كثير من الأحيان، شكَّلت الشريعة عقبةً أمام تحقيق "المصلحة الوطنية الإيرانية"، فلوى الفقه عنقها لتتسق والمصلحة الإيرانية، كما حدث في تصريح الخميني بجواز إيقاف الحكومة فريضة الحج في ضوء العلاقات المتوترة بين السعودية وإيران سنة 1988.
لم تقتصر إعادة تعريف الإسلامية على السياسة الخارجية، بل شملت التشريعات الاقتصادية والاجتماعية. مثلاً، في سنة 1987، سأل وزير العمل اليساري أبو القاسم سرحدي الخميني عن إمكانية فرض الحكومة شروطاً في العلاقة بين الشركات الخاصة والموظفين تحمي الموظفين، فأفتى الخميني بالجواز. وحين شكك المرجع لطف الله صافي الكلبيكاني، عضو مجلس صيانة الدستور، في الفتوى مدعياً عدم موافقتها أحكام الفقه، أجاب الخميني بجواز مخالفة الحكومة بعض أحكام الشريعة لتحقيق المصلحة العامة.
حاول الخميني الحفاظ على إسلامية إيران مقابل فارسيتها بعد انتهاء حرب العراق. في يوليو سنة 1988، أصدر مجلس الأمن قراره رقم 598، الذي قضى بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والعودة إلى الحدود الدولية للبلدين. وبعدها بأيام، أعلن الخميني قبوله وقف إطلاق النار في خطاب مشبَّع بروح إسلامية أممية، ركز فيه على المواجهة بين الإسلام والاستكبار العالمي.
أكد الخميني في الخطاب عزم إيران "حامية الإسلام" الاستمرار في سياستها "الإسلامية الدولية" التي تقصد "توسيع نفوذ الإسلام في العالم" في وجه "الغطرسة والهيمنة"، داعياً الأمة الإسلامية للاتحاد من أجل تكوين "قوة عالمية كبرى" هي سبيلها الوحيد للعيش في سلام. وشدَّد أن الحرب لم تكن نزاعاً إقليمياً، بل "حرباً أيديولوجية لا تعترف بالحدود"، هدفها ضمان استمرار الإسلام في العالم بتعبئة "جنود الإسلام" في مختلف البقاع.
استمر استناد إيران إلى الإسلامية في سياستها الخارجية بعد مرشدها الأول. ففي يونيو سنة 1989، توفي الخميني في طهران. وفي الشهر التالي استُفتي الشعب على تعديلاتٍ دستوريةٍ شملت إلغاء منصب رئيس الوزراء، وتعديل شروط المرشد الأعلى للجمهورية وصلاحياته، وتقنين وضع مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي شكَّله الخميني قبل وفاته. وفي أغسطس، انتُخب علي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيساً للجمهورية بدلاً من علي أكبر خامنئي الذي تولى منصب المرشد الأعلى للجمهورية. تراجع رفسنجاني عن بعض السياسات الاقتصادية لأسلافه، فقلَّص القطاع العام وسمح بدورٍ أوسع للقطاع الخاص، وقمع في سبيل ذلك المظاهرات العمالية.
أما في السياسة الخارجية، فاستمرت الصبغة الإسلامية للنظام الإيراني الذي أعاد العلاقات الدبلوماسية مع السعودية بعد انقطاعها أثناء الحرب، وسعى للتقارب مع الدول الخليجية كافة، بحسب دراسة روح الله رمضاني "إيرانز فورن بوليسي، بوث نوث آند ساوث" (العلاقات الدولية لإيران: في الشمال والجنوب)، المنشورة سنة 1992. ووفقاً لدراسة "فورن بوليسي أوف إيران آفتر إسلاميك روفولوشن" (السياسة الخارجية لإيران بعد الثورة الإسلامية) لفخر الدين سلطاني ورضا اختياري أميري، المنشورة سنة 2010، فإن التباين التفصيلي في السياسات الخارجية لرؤساء إيران المتلاحقين لم يخرج عن إطارٍ عامٍ هو محاولة الموازنة بين المصالح الوطنية لإيران، مع التزامٍ تجاه الأمة الإسلامية.
وعلى انتشارها ونجاعتها في صوغ المواقف، تعجز هذه التقسيمات عن الإحاطة بتعقيدات الظواهر السياسية. في حالة إيران التي يركز طرفٌ على فارسيتها وشيعيتها ومسعاها التوسعي، وطرفٌ آخر على إسلاميتها ودعمها حركات التحرر، يكشف البحث الصدقَ والوجاهةَ الجزئية لكلا الموقفين.
فالنظام الإيراني قائم في أساسه على تصوّرٍ إسلاميٍّ أمميٍّ يفرض عليه التضامن مع المسلمين، ودعم المستضعفين في مواجهة الاستكبار العالمي. ولكن إيران، مع ذلك، دولة تسعى لتوسيع النفوذ الفارسي. وهي دولة مذهبية شيعية تربطها علاقات أقوى بأطرافٍ شيعيةٍ في المنطقة، مثل جماعة أنصار الله في اليمن وحزب الله في لبنان. وإذا كانت أصول هذه الانحيازات المتضاربة تعود للتناقض في الجمهورية الإسلامية، بين المشروع الإسلامي الأممي الذي دعا إليه الخميني والدولة القومية الفارسية الشيعية التي ورثها، فإن صورته تتغير بتغيّر الزمن والمواقف والظروف الحاكمة لكل مرحلة زمنية، على نحوٍ يفرض دراسة المواقف المعينة وتمحيصها بدلاً من اللجوء لتعميماتٍ وثنائياتٍ تختزل الواقع.
