من دالميشا إلى السويس.. كيف صارت سيناء ملاذاً للاجئين الكروات

الحكاية المنسية لثلاثين ألف لاجئ كرواتي. نساء وأطفال فرّوا من جحيم الحرب العالمية الثانية إلى مخيماتٍ شُيّدت في صحراء سيناء.

Share
من دالميشا إلى السويس.. كيف صارت سيناء ملاذاً للاجئين الكروات
صُبَّ تمثال الأم دالميشا سنة 1945 من الخرسانة | الصورة عن موقع ويكيبيديا

في السادس عشر من فبراير 2025 حلّ رئيس وزراء كرواتيا أندريه بلينكوفيتش ضيفاً على مصر في زيارة رسمية لبحث آفاق التعاون بين كرواتيا ومصر. لم تبدأ الزيارة من قاعات الاجتماعات ولا من مكاتب المفاوضات، بل من قلب الصحراء. فقبل أن يشرع في لقاءاته الرسمية، توجه برفقة وزير الثقافة المصري ومحافظ السويس وسفير بلاده إلى بقعة نائية في سيناء، حيث مقبرة غامضة تضم رفات ثمانمئة وخمسين كرواتيّاً نبذتهم الحرب العالمية الثانية على أرضٍ غريبة.
وضع بلينكوفيتش إكليلاً من الزهور فوق حجارة الذاكرة، ثم عاد إلى القاهرة. وفي اليوم التالي، أثناء المؤتمر الصحفي الذي جمعه برئيس الوزراء المصري، استعاد تلك اللحظة وأكد امتنان بلاده لمصر التي آوت أسلافه وقت الحرب. أثارت تلك الكلمات فضولي، كيف انتهى مئات الكروات القادمون من ضفاف البحر الأدرياتيكي في شبه جزيرة البلقان مدفونين في عمق صحراء السويس.
بدأتُ رحلة بحث طويلة عن هذا التاريخ، حتى قادتني الصدفة وانعطافة خاطئة في طريق صحراوي مهجور إلى المقبرة نفسها. في وسط الصمت والرمال الممتدة ظهر أمامي تمثال امرأة حزينة تُدعى "الأم دالميشا"، تحرس مقبرةً مصممة على شكل نجمة خماسية تتوسطها لوحة رخامية نقشت عليها أسماء من رحلوا. هناك تكشفت خيوط الحكاية المنسية لأكثر من ثلاثين ألف لاجئ كرواتي، معظمهم نساء وأطفال، فرّوا من جحيم الحرب ليستقروا في مخيمات شيّدت في صحراء سيناء.


ليست مقبرة الكروات في سيناء مجرد أثرٍ من حجر. بل هي شهادة حية على تضامنٍ إنساني نادر في زمن الحروب وقصة تستحق أن تروى، لا لتأبين من رحلوا فحسب، بل لتذكير من بقوا بأن الإنسانية كانت قادرة على أن تجد ملجأً حتى في الصحراء وما زالت كذلك.


حتى نفكّ لغز المقبرة لا بدّ أن نعود عقوداً إلى الوراء، وتحديداً إلى يوم تأسيس دولة يوغوسلافيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ففي الأول من ديسمبر سنة 1918، اتحدت كلٌّ من مملكة صربيا ومملكة الجبل الأسود ودولة السلوفينيين والكروات والصرب تحت قيادة ملك الصرب بيتر الأول، ليُعلَن عن قيام الدولة الجديدة بِاسم "مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين". وفي سنة 1929، غيّر ألكسندر الأول، ابن بيتر الأول ووريث عرشه، اسم البلاد إلى مملكة يوغوسلافيا، وأسس نظاماً سلطوياً عسكرياً استمر حتى اغتياله سنة 1934، ليخلفه ابنه القاصر بيتر الثاني بوصاية الأمير بول، ابن عم الملك الراحل.
بعد سنتين من اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939، انضمت يوغوسلافيا إلى محور ألمانيا وإيطاليا واليابان بتوقيعها على الميثاق الثلاثي. فدعم الحلفاء، بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، انقلاباً أطاح بالحكومة وألغى الوصاية على العرش ومكَّن بيتر الثاني من الحكم. أثار ذلك غضبَ زعيم ألمانيا النازية أدولف هتلر، فاجتاحت جيوشه يوغوسلافيا بمشاركة كلٍّ من إيطاليا والمجر وبلغاريا. ومع سقوط المملكة تفككت يوغوسلافيا ما نتج عنه كيانات إحداها "دولة كرواتيا المستقلة" التي لم تكن في الحقيقة سوى كيانٍ تابعٍ ألمانيا وإيطاليا، سيطرت عليها حركة الأوستاشا ذات التوجّه الفاشي، وانضمت إلى دول المحور.
وفي خضم هذا الصراع الدموي تشكّلت داخل يوغوسلافيا المنهارة حركتا مقاومة رئيسيتان. جيش التحرير الشعبي اليوغوسلافي (البارتيزان) بقيادة جوزيف تيتو، والجيش اليوغوسلافي الملكي في الوطن (الشيتنيك) بقيادة دراغوليوب ميهايلوفيتش. تعاونت الحركتان في مواجهة قوات احتلال دول المحور، ثم اندلع الصراع بين الحركتين بسبب الاختلافات في التوجهات والسياسة. مثّل الشيتنيك التيار الملكي القومي الصربي، بينما تبنّى البارتيزان التوجه الشيوعي الأممي. وفي سنة 1943 حوَّل الحلفاء دعمهم العسكري من ميهايلوفيتش إلى تيتو، بسبب فعالية قواته في الميدان.
توالت هزائم قوات المحور في شمال إفريقيا. ومع نجاح الإنزال العسكري لقوات الحلفاء في جزيرة صقلية في يوليو 1943 بلغت حالة السخط الشعبي داخل إيطاليا ذروتها. وتفاقمت الأزمة الاقتصادية، وفقد الإيطاليون ثقتهم في قدرة بينيتو موسوليني على قيادة البلاد. وفي 25 يوليو 1943 عزل الملك الإيطالي فيكتور إيمانويل الثالث موسوليني وحبسه، وعين المارشال بيترو بادوليو رئيساً جديداً للوزراء. بدأ بادوليو مفاوضات سرّية لإنهاء الحرب. وفي 3 سبتمبر 1943 وقَّع هدنة كاسيبيل التي نصّت على استسلام إيطاليا غير المشروط، فعمَّت الفوضى في صفوف الجيش الإيطالي الذي تُرك دون أوامر واضحة.
عدّ هتلر استسلامَ إيطاليا خيانةً فهاجمها بجيشه واحتل شمال البلاد ووسطها، ووصل العاصمة روما. وحينئذٍ فرّ الملك فيكتور إيمانويل الثالث وحكومة بادوليو جنوباً إلى المناطق التي سيطر الحلفاء عليها. وفي 12 سبتمبر 1943 حررت القوات الخاصة الألمانية موسوليني من الحبس، ونُصّب رئيساً لجمهورية في شمال البلاد عرفت بِاسم "الجمهورية الإيطالية الاشتراكية" التي خضعت للسيطرة الألمانية. فانقسمت إيطاليا قسمين، جنوبي يسيطر عليه الحلفاء والحكومة الملكية وشمالي يسيطر عليه الألمان وموسوليني.
خلق هذا الوضع فراغاً في السلطة على طول الساحل الدالميشي، وهو الشريط الساحلي الشرقي للبحر الأدرياتيكي الممتد على طول جمهورية كرواتيا الحديثة. مع تراجع القوات الإيطالية المسيطرة على الساحل فرضت القوات الألمانية سيطرتها عليه، فخاف سكانه الانتقامَ الألماني، خاصة من تعاون منهم مع حركة تيتو. فسعى تيتو لإجلاء السكان غير المقاتلين من النساء والأطفال وكبار السن.
بدأت المفاوضات مع القيادة البريطانية لتأمين وجهة آمنة للاجئين. لاذ اللاجئون أولاً بجزيرة فيس في البحر الأدرياتيكي التي تحوّلت إلى مقر للجيش البارتيزاني وقاعدة للقوات البريطانية المتحالفة معه. سرعان ما غصّت الجزيرة بعشرات الآلاف من اللاجئين الذين استنزفوا مواردها المحدودة من الغذاء والمأوى. استدعى ذلك تنظيم عملية إجلاء جديدة. وفي كتابه "وور آند ريفولوشن إن يوغوسلافيا، 1941–1945: ذا تشِتنِكس" (الحرب والثورة في يوغوسلافيا، 1941–1945: الشيتنيك) المنشور سنة 1975، يحكي المؤرخ الكرواتي الأمريكي يوزو توماشيفيتش نقل اللاجئين اليوغوسلاف، خصوصاً الكروات، عبر البحر الأدرياتيكي إلى جنوب إيطاليا الخاضع لسيطرة الحلفاء. غير أن إيطاليا لم تكن محطة نهائية مناسبة بسبب استمرار المعارك بين الحلفاء والألمان، وسوء الأوضاع في المخيمات. عندئذٍ بدأ البحث عن حلٍّ آخر، وكان هذا الحل من مصر.


بعد انتصار الحلفاء الحاسم في معركة العلمين في أكتوبر 1942 تراجع الخطر الألماني في شمال إفريقيا، لترسخ مصر موقعها قاعدةً رئيسة لعمليات الحلفاء ومكاناً آمناً وسط منطقة تعصف بها الحرب. ومع انحسار الجبهة بعيداً نحو تونس ثم إيطاليا، أخليت العديد من المعسكرات البريطانية المنتشرة في مصر بعدما تحركت القوات منها لمواصلة القتال في الجبهة الأوروبية، ما جعل مصر وجهةً مثالية لاستقبال اللاجئين الأوروبيين الفارين من جحيم الحرب.
اختير مجمع مخيمات الشط القريب من مدينة السويس ليكون الموطن المؤقت لأكثر من ثلاثين ألف لاجئ كرواتي. نزح هؤلاء اللاجئون من إقليم دالميشا على الساحل الأدرياتيكي، في أعقاب انهيار مملكة يوغوسلافيا وتقدم القوات الألمانية والإيطالية في المنطقة. كذلك نقلت أعداد أقل إلى مخيمات أخرى مثل الطلمبات على بعد نحو عشرين كيلومتراً شرق الإسكندرية والخطاطبة في دلتا النيل والعريش على ساحل البحر المتوسط في شمال سيناء. وبلغ مجموع الكروات الذين استقروا في مصر قرابة أربعين ألفاً، بينما استقر آخرون بأعداد أقل في إيطاليا.
وبحسب دراسة "بيلدِنغ يوغوسلافيا إن ذا ساند؟ دالمايشن ريفيوجيز إن إيجيبت، 1944–1946" (بناء يوغوسلافيا على الرمال؟ اللاجئون الدالميشيون في مصر، 1944–1946) للمؤرخ فلوريان بيبر، المنشورة سنة 2020، قارب عدد سكان دالميشا (كرواتيا حالياً) آنذاك 466 ألف نسمة. ما يعني أن اللاجئين الكروات الذين نزحوا إلى مصر مثَّلوا نحو 10 في المئة من سكان الإقليم، وهي نسبة تظهر حجم النزوح الجماعي الذي شهدته أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية.
ولم يكن وضع الكروات فريداً، إذ أجلي مئات الآلاف من الأوروبيين من مناطق القتال إلى مناطق آمنة. فقد نقل يونانيون عبر تركيا إلى سوريا وفلسطين ولبنان ومصر الخاضعة للحلفاء. وهجِّر بولنديون إلى سيبيريا وكازاخستان وأوزبكستان، ومنها إلى مخيمات في العراق وإيران. ولجأ آلاف الأوكرانيين إلى النمسا بعد زحف الجيش الأحمر السوفييتي سنة 1944. فيما فرّ ألمان كثر من بروسيا الشرقية إلى الدنمارك للسبب نفسه.


اصطدمَ اللاجئون الكروات عند وصولهم إلى سيناء بظروف حياة قاسية. فالمكان الذي يتلظّى بحرارته نهاراً وتشتدّ برودته ليلاً، وتجتاحه العواصف الرملية من حين إلى آخر، لم يبدُ ملائماً للإقامة. وتصف الشهادات الشخصية التي جمعها المؤرخ فلوريان بيبر في دراسته (بناء يوغسلافيا على الرمال)، والصحفي والمصوّر الأمريكي أليكس كيو أرباكل في تقريره المصور "يوروبيان ريفيوجيز إن إيجيبت" (اللاجئون الأوروبيون في مصر) المنشور في ديسمبر 2015 كيف واجه القادمون من بيئة البحر الأدرياتيكي الخضراء "واقعَ الصحراء الحارق". كان أول ما رأوه "سهل رملي أصفر شاسع يمتد إلى ما لا نهاية… يا له من منظر موحش. لا نبتة، لا زهرة، لا حشرة، لا فراشة ولا طائر".
هذا التناقض بين وطن الكروات وملاذهم الجديد شكّل خلفية قاسية لحياتهم في مخيم الشط بين سنتي 1944 و1946. أقيم المخيم على مساحة تقارب مئة وسبعين كيلومتراً مربعاً، وقُسّم إلى خمسة قطاعات فرعية جعلته أشبه بمدينة مؤقتة. وتولت إدارة الإغاثة واللاجئين في الشرق الأوسط (ميرّا) البريطانية إدارة المخيم، قبل أن تنتقل إدارته في مايو 1944 إلى إدارة الأمم المتحدة للإغاثة وإعادة التأهيل (يونرّا)، ويقتصر دور الجيش البريطاني على تأمين محيطه.
سكن اللاجئون في خيامٍ عسكرية كبيرة تتشارك الواحدة منها عادةً عائلتان، أي نحو ثمانية عشر شخصاً. وخصصتْ خيامٌ أوسع مستشفياتٍ وكنائسَ ومدارسَ. ومع الافتقار الشديد إلى كل شيء، حسب وصف أحد عمال الإغاثة البريطانيين، أظهر اللاجئون قدرة مذهلة على التكيّف فبادروا إلى تنظيم حياتهم اليومية وأنشأوا ورشاً لتصنيع احتياجاتهم الأساسية. ففكُّوا البطانة الداخلية للخيام العسكرية وحوَّلوها إلى ملابس وسراويل وتنانير لأنفسهم ولأطفالهم، وزرعوا حدائق صغيرة في الرمال القاحلة مستخدمين بقايا الشاي والرماد سماداً. وصنعوا أراجيح وملاعب للأطفال. واستخدموا المخلفات العسكرية التي تركتها القوات المتجهة غرباً في تدبير شؤون حياتهم اليومية، فصُنعت الصنادل من الإطارات البالية وقطعت علب الوقود المعدنية لاستخدامها مصدراً للمعادن وجمعت الأخشاب الطافية من قناة السويس لتحويلها إلى أثاث وألعاب. وساهم الدعم المالي الذي وصلهم من أقاربهم، ولا سيما من المهاجرين الكروات في الولايات المتحدة، في توفير ضرورات الحياة.

ربط بين اللاجئين تصميمٌ جماعي على "الحفاظ على وهم الحياة الطبيعية". لم يكن ذلك مجرد آلية نفسية للبقاء، بل طريقة جماعية لمقاومة اليأس وتأكيد الهوية. أسسوا نظاماً تعليمياً شاملاً، وتعلم الأطفال القراءة والكتابة على الرمال بسبب ندرة الورق والأقلام. وأصدروا صحيفتهم الخاصة "ناش ليست" (صحيفتنا) التي أبقتهم على اطلاع بالأخبار. وأنشأوا مسرح "الروّاد في الشطّ" الذي قدّم عروضاً مسرحية حافظت على اللغة والتقاليد الكرواتية حية في المهجر، وكانت في الوقت ذاته وسيلة للدعاية الفكرية وتعزيز قيم حركة البارتيزان والنظام الاشتراكي.
مع قسوة الظروف دارت دورة الحياة الطبيعية داخل المخيم. فعُقد نحو ثلاثمئة زواج، وولد ستمئة وخمسون طفلاً بحسب تقدير الكاتب الكرواتي الأمريكي نيناد ن باخ في مقاله "ذا مِموريال آت إل شَت إِز سايلِنت" (النصب التذكاري في الشط صامت) المنشور في فبراير 2006. وحفظت الحياة الدينية بإقامة الصلوات في خيمة خصصت كنيسة يديرها قساوسة فرّوا مع أبناء رعاياهم. وأنشئت محاكم محلية للفصل في النزاعات، وعُيّن حراس غير مسلحين لحماية المخيم ومعاونة القوات البريطانية. وتكوّنت ثمانية أندية رياضية نُظمت بها مباريات كرة القدم وأقيمت العروض المسرحية والأمسيات الشعرية والغنائية والرقصات الشعبية.
حوَّلت هذه الأنشطة المخيمَ إلى مجتمع شبه متكامل، حتى وصف بأنه "قطعة من يوغوسلافيا زرعت في الصحراء المصرية".
ضمّ المخيم بين سكانه فنّانين ومثقفين وسياسيين بارزين ساهموا في توثيق التجربة لاحقاً. من هؤلاء سافكا دابتشيفيتش كوتشار التي أصبحت فيما بعد سياسية بارزة في كرواتيا، ولخّصت التجربة بقولها: "إذا كانت الشيوعية قد تحققت في مكان ما، فإن هذا المكان هو الشطّ." ومنهم الملحن يوسيب هاتسه الذي نظم العروض الموسيقية في المخيم لرفع الروح المعنوية. والكاتب نيفن بوغدانيتش، الذي نشر سنة 1995 كتابه "إل شات ناش نيزابورافليِن" (الشطّ الذي لا يُنسى). أما المؤرخة فيزنا ياكيتش تسستاريتش، الناشطة في المخيم في شبابها، فروت تجربتها في فيلم وثائقي عنوانه "الشط مخطط لليوتوبيا" سنة 2023 وعمرها ثمان وتسعون سنة، وصفت الحياة في الشط بأنها "كانت منظمة بحيث لا يجلس أحد عاطلاً عن العمل". كانت مذكرات الطبيب كارلو بانسيني، أحد أطباء المخيم، من المصادر الأساسية للفيلم ذاته.
كان التفاعل بين سكان المخيم والمجتمع المحلي المصري محدوداً. فقد تأسس المخيم في موقع قاعدة عسكرية بريطانية سابقة وتحت حراسة مشددة، ولم يُسمح للاجئين بالخروج منه إلا بتصاريح خاصة. وكان المخيم مكْتفياً ذاتياً تحت إدارة اللجنة المركزية للبارتيزان داخله. ومع ذلك، يشير فلوريان بيبر في دراسته (بناء يوغوسلافيا على الرمال) إلى أن اللاجئين "تفاعلوا مع متطوعين من منظمات إغاثة مختلفة، ومع مصريين ربما عمل بعضهم في الخدمات اللوجستية التابعة للجيش البريطاني".


مع اقتراب الحرب من نهايتها بدأت التحضيرات لعودة اللاجئين إلى وطنهم، لكن العملية استغرقت عدة شهور منذ أبريل سنة 1945. تحججت السلطات البريطانية آنذاك بوجود نقص في السفن نتيجة استمرار القتال في الجبهة الآسيوية. ومع طول الانتظار ساد القلق في المخيم، ونفد صبر مئات اللاجئين وسعوا إلى مغادرته. عبّر كثيرون عن رفضهم الفكر الشيوعي الذي ترسخ في يوغوسلافيا المحررة بقيادة تيتو، إذ سُمعت أخبار عن إعدام المعارضين هناك. ويَعتقد المؤرخ فلوريان بيبر في دراسته (بناء يوغوسلافيا على الرمال) أن اللجنة المركزية اليوغوسلافية للاجئين كانت تميل إلى تطبيق نفس النهج في السيطرة على أبناء المخيم، إلا أن وجود الحلفاء حال دون ذلك.
راقبت اللجنة المركزية اليوغوسلافية الأوضاعَ عن كثب بواسطة شبكة من المخبرين السرّيين الذين رصدوا كل ما يدور في المخيم. ومع الوقت انقسم اللاجئون بين أنصار النظام الملكي السابق، وأنصار حركة البارتيزان ذات التوجه الشيوعي. أبعدت اللجنة المركزية الموالين للملكية إلى مخيم الطلمبات ثم إلى مخيم العريش، ولم يبق منهم في الشط إلا عدد قليل، إضافة إلى بعض الديمقراطيين الذين عانوا من المراقبة ورفع التقارير عن نشاطهم. دفع ذلك بعضَهم إلى الهروب من المخيم عبر التسلل ليلاً والسباحة في قناة السويس نحو الضفة الغربية ثم التوجه إلى القاهرة.
لم تبدأ رحلات الإعادة إلى الوطن بانتظام إلا في يناير 1946، حين أعيد معظم اللاجئين إلى جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية الجديدة، لا إلى المملكة التي كانوا قد فرّوا منها. استأنف بعضهم حياته هناك في ظل حكم جوزيف بروز تيتو، لكن روايات متعددة تشير إلى أن كثيراً من"المعارضين" سُجنوا أو أعدموا أو اختفوا بعد عودتهم. وبعد رحيلهم جميعاً، لم يبقَ في مخيم الشط إلا من هم تحت الأرض، نحو ثمانمئة وخمسين متوفى دفنوا في مقبرة كبيرة لا تزال قائمة حتى اليوم.


كانت مقبرة الكروات أبرز ما يميز مخيم الشط وربما ما زالت كذلك. أنشئت المقبرة في أطراف المخيم منذ وصول اللاجئين الكروات في ربيع سنة 1944. إذ إنّ صعوبة الحياة داخل المخيم وسط ظروف مناخية وصحية بالغة القسوة أدت لزيادة الوفيات في صفوف الأطفال وكبار السن. ومع جهود الأطباء والهيئات الدولية ميرّا ويونرّا ، لم تنجُ المخيمات من موجات متكررة من الأوبئة والأمراض، أبرزها الملاريا والتيفوئيد والزحار والالتهاب الرئوي وسوء التغذية، إلى جانب إصابات ناجمة عن العواصف الرملية ونقص الدواء.
غير أن الأمراض لم تكن وحدها المسؤولة عن الوفيات داخل المخيم. فبحسب ما جاء في الفيلم الوثائقي الذي أنتجه التلفزيون الكرواتي سنة 2009 "بريتشا أو زبييِغو هرفاتا أو إل شات 1944 – بوستينسكا بريتشا – إل شات" (قصة لجوء الكروات إلى الشط سنة 1944 قصة الصحراء الشط) نقلاً عن عدد من الناجين في المخيم، ترجع بعض الوفيات إلى قنابل "ألقيت بالخطأ" على المخيم من قبل سلاح الجو الملكي اليوغوسلافي الذي منحه الإنجليز قاعدة عسكرية في سيناء. وقد تكرر هذا الخطأ خمس مرات.

خريطة لمعسكر الشط كما ظهرت في فيلم قصة الصحراء الشط الصادر عام 2009

لم يذهب الفيلم بعيدا لتفسير أسباب تكرار الخطأ. ولكن تتبع الأحداث يرجح أن إلقاء القنابل كان متعمَّداً. إذ يمكن النظر إليه جزءاً من الحرب الأهلية اليوغسلافية الدائرة بين البارتيزان والشيتنيك، التي تزامنت مع الحرب العالمية الثانية. خصوصاً وأن الحكومة اليوغوسلافية الملكية كانت حاضرة أيضاً في المنفى ولها وجود رسمي في القاهرة بالتنسيق مع الإنجليز الذي كانوا يحتلون مصر آنذاك، إلى جانب بقايا من جيشها، بما في ذلك وحدات من سلاح الجو الملكي، منها ميدان طيران بالقرب من مخيم الشط. رأى هؤلاء الجنود والضباط الملكيون المتمركزون في مصر اللاجئين في مخيم الشط قاعدة دعم لعدوهم اللدود، البارتيزان، وربما كان ذلك دافعاً لقصفهم.
في كتابه "الشط الذي لا ينسى"، يحكي نيفين بوغدانيتش الذي كان في المخيم عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، عن دفن الموتى في البداية في مقبرة صغيرة تابعة للمخيم اليوناني القريب من عيون موسى بالقرب من ساحل البحر الأحمر. كانت المقبرة تقع على كثيب مرتفع وحولها سياج دون أي علامات تدل على أن هذا موضع دفن. وبعد سنة 1945 صمم المهندس هيلين بالداسار مقبرةَ الشط. أما النصب التذكاري، وهو قاعدة بارتفاع ستة أمتار مع تمثال لامرأة بارتفاع ثلاثة أمتار ونظرة موجهة نحو دالميشا، فقد صنعه الفنان آنتي كوستوفيتش، زوج ابنة مصمم المقبرة. أدى كوستوفيتش دوراً قيادياً في الحياة الثقافية في المخيم، فصنع كثيراً من التماثيل النصفية لزملائه من اللاجئين. صُبَّ تمثال الأم دالميشا سنة 1945 من الخرسانة، وهي مادة كانت متوفرة في المخيم.
المقبرة الحالية ليست الأصلية. إذ دُمّرت أثناء الاحتلال الإسرائيلي سيناءَ بعد حرب 1967. وبعد استعادة مصر سيناءَ أعادت الحكومة اليوغوسلافية، وكانت كرواتيا آنذاك إحدى جمهورياتها، بناء المقبرة سنة 1985. وقد بناها المهندس زوران يانكوفيتش، بحسب كتاب بوغدانيتش المذكور آنفاً. وأحيطت المقبرة بسور على شكل نجمة البارتيزان الخماسية، رمز الشيوعية اليوغوسلافية. وكلف نفس الفنان بإعادة عمل تمثال الأم دالميشا، حيث استند إلى نموذج أصغر كان قد صنعه سابقاً، وصنع منه نسختين مكبرتين من البرونز، وضعت واحدة في الشط، والأخرى في جزيرة دريفينيك فيلي الكرواتية، مسقط رأس الفنان.
أهملت المقبرة بعد تفكك يوغوسلافيا في التسعينيات. وخربت قبل أن ترمَّم مجدداً سنة 2006، لتبقى حتى اليوم شاهدة صامتة على تجربة فريدة في التاريخ الحديث. تجربة مدينة ولدت في الصحراء من رماد الحرب، ثم عادت إلى الصمت لا يسمع فيها الآن سوى عصف الرياح.


يقصد المسؤولون الكروات المقبرةَ الصامتة في كل زيارة لمصر، لا لإحياء موتاهم فحسب، بل لإحياء ذكرى حياةٍ وُلدت من الرمل. وإلى جوار المقبرة ما زال أثر المخيم يتنفس في الفن. فمسرح الروّاد الذي نشأ بين الخيام لم ينطفئ بانقضاء الحرب، بل عاد إلى موطنه وتحوّل إلى مسرح شباب مدينة سبليت، ثاني أكبر مدن جمهورية كرواتيا، حيث واصل رواية الحكاية ذاتها بأشكال جديدة.
وفي سنة 2023، عاد الممثلون إلى الصحراء من الفيلم الوثائقي"إل شات ناتسرت زا أتوبييو" (الشطّ: مُخطَّط لمدينة فاضلة)، ليؤدّوا ما أدّاه أسلافهم قبل ثمانية عقود مرتدين أزياء البارتيزان، كأنهم يبعثون الحياة في رمالٍ لا تزال تحفظ صدى الأغاني، وخطوات أولئك الذين شيّدوا في قلب الصحراء وطناً صغيراً من الحلم والأمل.

اشترك في نشرتنا البريدية