استمع لهذه القصة
الكتابةُ الأدبية عن الحرب إشكاليةٌ بالحدود بين الواقعي والمتخيَّل، إذ قد تكون هذه الكتابةُ المرجعَ البديلَ في غياب المَراجع الأُخرى، أو قد تكون مرجعاً مختلفاً إلى جانب المراجع التوثيقية. ذلك أن الأدب يقدّم قراءةً خاصةً وفريدةً عن الحرب. يرسم فيه مشاهدَ الدمار كما كانت تُعاش، وهو ما لا تستطيع أن تفعله كتابةُ التاريخ الأكاديمي المهمومةُ بالبحث عن فهمٍ سياسي. والكتابة الأدبية ليست مشغولةً بتفسير الحرب بقدر سعيِها إلى تكثيفِ الحدثِ الشخصيِّ للحربِ بالبحث عن الحياة اليومية للناس في ظلِّها. توضّحُ قراءةُ الحربِ الأهلية اللبنانية هذا الأمرَ، لا سيّما إذا ما قارَنّا أسلوبَ نقاشها الذي يركّز على تجربة الحياة اليومية لشخصياتٍ متنوعةٍ تجاورَت في عمارةٍ ما، كما في رواية "طيور الهوليداي إن" الصادرة سنةَ 2011 للروائي والكاتب ربيع جابر، والأسلوب الأكاديمي الذي يركّز على سرد الأحداث والمعارك العسكرية، كما في عمل أستاذ العلوم السياسية سمير قصير "حرب لبنان" الصادر سنةَ 2007.
بينما يُحاول المؤرِّخُ فهمَ الحدثِ وتفسيرَه بوضع أسبابٍ تؤدّي إلى نتائج ثم يجادِل عن هذا التفسير، تتميز الرواية بأنها الإيقاظُ الشِعريُّ للناس الذين عاشوا العصورَ السابقة، كما عرّفها الفيلسوف والناقد المجري جورج لوكاش في كتابهِ "الرواية التاريخية". يكتب كلٌّ من كارل ماركس في كتابه "الصراع الطبقي في فرنسا 1848-1850" وغوستاف فلوبير في كتابه "التربية العاطفية" عن ثورة 1848 في فرنسا، لكنَّ البَوْنَ شاسعٌ بين أسلوبيهما بالسرد. فمقالات ماركس في كتابه تعتمد على سرد أحداثٍ وتحليلها، والمناظرة الجدلية عن التحليل، بأسلوبٍ يشبه الكتابة الصحفية، وبمنظورٍ واحدٍ يركز على الصراعِ بين البرجوازية الصناعية والبورجوازية المالية. أما فلوبير فيكتب في روايته عن الثورة بتقليدٍ كتابيٍّ ينتمي إلى تقاليد الرواية الأوروبية في القرن التاسع عشر، وبتجديدٍ لا يقلّ عن تجديد ماركس في الكتابة الصحفية. ورَسَمَ فلوبير بشخصياتٍ متباينةٍ كلّاً من فريدريك مورو، الشاب المنتمي للطبقة الموسِرة السلبي والعاطفي، وديلورييه الساخط والطَموح والثائر من أجل مصلحته، وسينيكال محبّ السلطة والثائر من أجل السيطرة، وديسردييه الثائر بحماسةٍ لحماية المقهورين، صورةً شاملةً لجيل الثورة المُجهَضة، بإبراز الطابع المتناقض للواقع المُعاش، وطموحات الثائرين وأحلامهم وإحباطاتهم.
يَكشف تشخيصُ الحدث التاريخي بتكثيفِ الحدثِ الشخصيِّ، وتوضيحِ انفعالاتِ الشخصيات، عن أوجُهٍ عدَّةٍ للحدثِ بمنظورِ هذه الشخصيات. فلا توجد سرديةٌ كبرى منتهيةٌ بالحياة في التاريخ، ولا ينتهي الحدث ونحن فيه، وربما تغيب عنَّا الصورةُ الكاملة فتكون الروايةُ التي تتبعُ سيرةً شخصيةً أو شخصياتٍ عدّةً أقربَ إلى الكتابة التاريخية في إيصال الحدث كما وقعَ مِن وجهة نظر الفاعلين ومَن عايَشوه.
اختارَ ربيع جابر الحياةَ اليوميةَ في الحرب موضوعاً لـ"طيور الهوليدي إن" بالتركيز على عمارةٍ استثنائيَّةٍ في زمنِ رعبٍ استثنائيٍّ، مأهولةٍ بعائِلاتٍ كثيرةٍ متنوعة يعيشون اللحظةَ الحالكةَ نفسَها. وهذا الاختيار يتقاطع ــ وإن كان يختلف عنه ــ معَ اختيارِ نجيب محفوظ معالجةَ موضوع مصر الحديثة بعدَ ثورة 1919. فمحفوظ جعلَ الثورة بطلاً روائياً، وكتبَ روايةَ الأجيال بتوزيع المَدى الزمنيّ على أجيالٍ عدَّةٍ متوالية. وهكذا كان مجازُ الأجيال مساحةً لقراءة التاريخ والزمن والبشر، يُعبَّر بهِ عن الثورة وآثارها على شخصياتٍ عدّةٍ متباينة وأجيالٍ متعددة تفكّر بأساليبَ مختلفةٍ في روايةٍ ضخمة، كما في ثلاثيّته الشهيرة "بين القصرين"، "قصر الشوق" و"السكرية". لكن أبطال ربيع جابر في رواية "طيور الهوليدي إن" هم الحرب، وصُوَر المدينة خارجَ الحياة تغشّاها الدخان والحرائق والرعب. ولاستعادة هذه اللحظة كان موضوعُه الحياةَ اليومية في الحرب، فاختار مجازَ العمارة.
لا سرديّةَ كبرى في رواية "طيور الهوليداي إن"؛ فهي تخبرنا عن مآلات الحرب بتتبّع الفاعلين الأساسيين، واتخاذ مسافةٍ بينهم وبين الحدث. وهؤلاء الفاعلون شخصياتٌ مهزوزةٌ وخائفةٌ تعيشُ لحظةَ الحرب المروعة، وأحياناً هم ضحايا أو ربما مجرمون. بل لا تفهمُ هذه الشخصياتُ المشغولةُ الحربَ. كذلك مقاتلو الميليشيات المتعطشون للدماء لا لتحقيق أهدافٍ سياسيةٍ، بل لتحقيق ذاتهم بالقتل، أو للمتعة أو الانتقام.
بمنظورٍ غير مألوفٍ في توثيق الحرب ركّزت الروايةُ على معايَشة الحرب بشخصياتها. فهي تحكي معارك حرب السنتين بثلاثة مسلحين من عمارة العبد: جرجي الخوري وريمون زخور وسعيد عازار، وبهم يتّضح لنا منظور مَن يقتلون ويدمرون بأنفسهم. لكلِّ واحدٍ من هؤلاء الثلاثة أسبابُه في المشاركة بالحرب، وانحدارُه الاجتماعي المختلف. لكنهم مع ذلك يتشاركون اللحظةَ نفسها مضطربين اضطراباً واضحاً. المقاتل الأخير في رواية ربيع جابر هو سعيد عازار، سليل عائلةٍ فقيرةٍ لا تملك شيئاً، انتقلت إلى شقةٍ فارغةٍ في عمارة العبد بعد أن هربت من بيروت الغربية. ينضمّ سعيد إلى مسلّحي "حراس الأرز" ويختفي أياماً. تنشر عائلتُه إعلاناً في الجريدة ثم يظهر فجأةً في زيٍّ عسكريٍ ومعه مسروقاتٌ كثيرة. يحارب سعيد على جبهة الأسواق، ويعود إلى عمارة العبد كلَّ حينٍ ومعه أكياس المسروقات. يفخر سعيد حين يجلب لأخيه الصغير شربل الطعامَ والألعاب. ولكنه تحوَّل إلى مقاتلٍ حقيقيٍّ تدريجيّاً، بعد أن كان يلعب وينهب. استمع إلى قادةٍ يشرحون ماذا يجري ولماذا يجري كل هذا. وحفظَ أبياتَ الشاعر اللبناني سعيد عقل و"أفرحه أنه يحمل اسمه"، كان سعيد عقل ينتمي إلى اليمين المسيحي، ويدعو إلى التدخل الإسرائيلي للقضاء على اليسار والوجود الفلسطيني في لبنان. بهذه الطريقة يرسم جابر بسعيد عازار ما تصنعه الحرب بالبشر. فذلك الطفلُ المضطرب والخائفُ بدايةَ الرواية صارَ وحشاً في معارك الأسواق، يقتل على الحواجز بلا سببٍ، كأن الرغبةَ بالقتل صارتْ جزءاً منه.
لا يؤدي الفاعلون السياسيون دوراً أساسياً في الأحداث. فلا توجد شخصيةٌ ذاتُ دورٍ سياسي في الرواية، بل يأتي ذِكر الأحداث السياسية واللاعبين السياسيين متخفّياً في تفاعلاتِ الشخصيات مع بعضها البعض أو في حديثها عن الإعجاب بسياسيٍ ما، فشارل الخوري يحب كمال جنبلاط ويسميّه "المعلّم"، عكسَ رفاقه المسيحيين. ويأتي ذِكر الأحداث والسياسيين أيضاً بالصفحات الكثيرة من جريدة النهار التي ينقلها جابر كما هي في روايته. ومنها نعرف تصريحات السياسيين وأخبار الأزمة الحكومية. ومن الحديث عن أخبار أزماتٍ سياسيةٍ في سياق حديثه عن أشياء مثل أن يكتب عزيز ثابت، أحد شخصيات الرواية، على رقعة شطرنج اشتراها "عقب حوادث 1985 التي سماها كمال جنبلاط الثورةَ البيضاءَ في مقالاته المنشورة تلك الفترة. الثورة المذكورة التي منعت رئيس الجمهورية كميل شمعون من التجديد لنفسه فترةً رئاسيةً ثانية وأوصلَت قائدَ الجيش اللواء فؤاد شهاب إلى سدّة الحُكم". ومن الممكن أن تَسمع شخصياتُ الرواية تحليلاتٍ سياسيةً بالإذاعة، وهي تحليلاتٌ يضعها جابر كما هي نقلاً عن الإذاعة. وفي بعض الحوارات تظهر الأحداث السياسية التي يكون لها تأثير على مُجرَيات الحرب "العسكرية" أو التي تؤثر على الشخصيات، كأن يعبِّر بشارة الحويك عن خيبته من انتخاب الرئيس الياس سركيس رئيساً للجمهورية اللبنانية بسبب ضغط السوريين أو أن يسمع خبرَ انتخاب الرئيس جرجي الخوري وهو مصابٌ فلا يكترث. أو أن تخرج دارين عازار لإعطاء درسٍ خصوصيٍ لأحد الطلبة يوم الانتخابات نفسه، وتتأخر ساعاتٍ طويلةً بسبب الأحداث التي تَلَت إعلانَ نتيجة الانتخابات، فيبحث عنها أبوها في المدينة إلى أن يجدها. ويضع ربيع جابر في سرده لهذا الحدث صفحاتٍ كاملةً من جريدة النهار ليوم الأحد 9 مايو 1976، اليوم التالي للانتخابات.
يرتكز موضوعُ رواية ربيع جابر على الحياة اليومية لسكان عمارة العبد، بأحلامهم وطموحاتهم وخيباتهم، أكثر من أيّ شيءٍ آخَر. فنرى تفاصيلَهم صورةً كاملةً عن الحياة في الحرب، وعن تغيّراتهم بسبب ما يمرّون به. وبما أن العمارة في حيٍّ راقٍ ببيروت الشرقية، فإن أغلب السكان من الطبقة الوسطى فما فوق. إلا أن المسلمين يخرجون من البناء بدايةَ الخطف والقتل بسبب الهوية، إما إلى بيروت الغربية أو إلى خارج لبنان. أما سليمان شرارة، الشيعي القادم من بنت جبيل في الجنوب، فيبقى في البناء زمناً وجيزاً بعدها لأنه متزوج من عائلةٍ مسيحيةٍ كتائبية. ومع أن والد زوجته وإخوته الثلاثة قُتلوا في الحرب وهم يحاربون في صفوفِ ميليشيات الكتائب، إلا أنَّ هذا لم يكن كافياً لحماية سليمان؛ إذ يُخبره صديقُه المسؤول في الكتائب أنه لن يستطيعَ حمايته، لأنَّ "وضع الشرقية لم يعد يحتمل. لا نقدر أن نحميك من الزعران وكلُّ الحيّ يَعرف أنك غريب ... الذي سيوقِفك على حاجزٍ طيّار لن يقرأ اسمك. المذهب: شيعي. وطاخ طاخ. تريد أن ترمل ليديا؟" لذلك يتَّفق مع زوجته على إعلان انفصالهما، ثم يختبئ في الشقة من غير أن يخرجَ منها مرَّةً واحدة. يحدث هذا كله بينما يحضر آل عطية، وهم يهود من وادي أبو جميل، من غير أن يسبب لهم دينهم مشكلة.
مع الوقت يُسافر سكانُ البناء الميسورون إلى الخارج. فآل العبد تركوا لبنانَ بعدَ أن استعملت الصحفُ اليومية كلمةَ "الحرب" بدلاً من "الأحداث". وجهَّز آل عطية جوازات سفرهم وحجزوا تذاكر الطيران إلى تورنتو في كندا، وحوّلوا مدّخَراتِهم إلى حساب ابنتهم البنكيّ هناك، لكنهم لم يسافروا بسبب مرض الجدّة وإصرارها أن تموت في بيروت وتُدفن في المقبرة وراء الكنيس العتيق حيث زوجها.
وبعد أن تركَ سكانُ بعض الشقق العمارةَ، يحلّ محلَّهم آخَرون من طبقاتٍ أخرى. فآل عازار يسكنون في شقة آل صالح الذين هربوا إلى بيروت الغربية. وراجي عازار موظف في صيدليةٍ لم يكمل تعليمه بسبب الفقر، وابنه سعيد يعمل معه في توصيل الأدوية إلى شقق الزبائن لأنه لم يفلح في المدرسة. وتصبح الحياة اليومية صعبةً جداً عليهم، خصوصاً بعد قصف الصيدلية. ترسِل الأمُ سعيداً إلى مركز حزب الكتائب للحصول على مساعَداتٍ غذائية، وترسله إلى مركز الإعاشة بهوية أبيه لاستلام الإعاشة التي ترسلها الأمم المتحدة، والتي تسرق الميليشياتُ نصفَها وتبيعُها على الطريق. بهذه التفاصيل عن عائلة راجي عازار نعرف عن أزمات الغذاء، لا سيّما حين يسمعون إشاعةً بأن أحد المخابز حصل على طحينٍ من السوق السوداء، فترسل الأم سعيداً لشراء الخبز، لكنه لا يجد خبزاً بل مجموعةً من المسلحين في الشارع من "حراس الأرز". يفتح أحدهم باب المدرعة ويُخرِج ربطةَ خبزٍ يعطيها لسعيد، فيقرر سعيد حينها أن يصبح مقاتلاً معهم ليستطيع إطعام عائلته. نعرف عن الأزمات الغذائية أيضاً من الصحف الكثيرة التي يضعها جابر في روايته: "لا خبز اليوم في بيروت لأن الطحين لم يصل أمس" من صفحة جريدة جريدة النهار الأولى ليوم الثلاثاء، 13 أبريل 1976. أو أزمة تأمين الغاز المنزلي في جريدة الخميس الأول من إبريل.
نقرأ في رواية جابر أيضاً عن آثار الحرب النفسية والاجتماعية بالشخصيات كلّها. فنرى السمكريَّ يضرب زوجتَه البوّابةَ وأبناءَه بلا سبب. وتصاب سيسليا زيدان بانهيارٍ عصبيٍ بعد رؤيتها الجثثَ في الشوارع، ثم يأخذها زوجها إلى المشفى بعد محاولتها الانتحار، لكنها تبقى مضطربةً ومصابةً بنوباتِ هلعٍ وغير قادرةٍ على العناية بأبنائها. ويدمن جرجي الخوري على الهيروين. كان هذا الرعب الذي أصاب شخصيات الرواية إما بسبب المسلحين على الحواجز أو بسبب القصف المدفعي.
في سياق سرد الأحداث يُطلِعنا جابر على تفاصيلَ أُخرى من الحياة اليومية. فنعرف مثلاً أن مستودع العمارة يصير ملجأً وقت القصف العنيف. ونعرف عن "هيئة الأشرفية الشعبية" التي يسيطر عليها حزب الكتائب سواء في نداءاتهم للتبرع بالدماء أو عندما يرسلون شابين إلى عمارة العبد لإعداد لوائح مفصّلة بسكان المنطقة. ونعرف عن الوضع الاقتصادي تفاصيلَ دقيقةً من صفحات الجرائد وإعلاناتها، أو من حوارات الشخصيات. ويذكر جابر أسعارَ العملات الأجنبية مقابل الليرة اللبنانية قبلَ الحرب وبعدها. ويضع تكاليفَ المعيشة في لبنان بين 1820 و1860 بمصدرين، مقدمة بطرس البستاني، وهي مخطوطٌ غير منشورٍ لرواية روبنسون كروزو، ومفكرة الشيخ طنوس الشدياق، ليُذكِّرنا بالحياة الاجتماعية في ظلِّ الحرب الأهلية اللبنانية الأولى 1860. وبينما الشخصيات تتجول في المدينة، يُطلِعنا جابر على الشعارات والملصقات التي انتشرت على حوائط بيروت الشرقية.
يخلق قصير صورةً للمدينة. فيكتب: "عناصر ميليشيات تستولي على الشوارع، وجبهات تنبت في الأحياء المكتظة بالسكان، وتبادل للقصف المدفعي. ففي ربيع العام 1975 كانت الحرب فعلاً قد اندلعت وغرقت بيروت فيها بنشوة مرضية". ثم يحكي عن حادثةِ "بوسطة عين الرمانة" التي أشعلت فتيلَ الحرب الأهلية، وما تلاها من إعلان اليسار الإضرابَ عاماً. وعن المواجهات بين عناصر الميليشيات الكتائبية ومقاتلي المنظمات الفلسطينية، وأنواع الأسلحة المستخدمة في الاشتباكات، وتوقفها الجزئي بعد ثلاثة أيامٍ مع إعلان وقف إطلاق النار برعاية الأمين العام لجامعة الدول العربية محمود رياض. بعد هذا السرد الموجَز للحدث، يتتبّعُ جغرافيةَ هذه الاشتباكات ويوثِّقُ حصيلةَ المعارك من خسائر بشرية واقتصادية بتفسير لكل المعطيات. ثم يعلّق على بداية ظاهرة القناصة الذين كانوا يصطادون المدنيين في الشوارع وبداية الخطف الطائفي وتمدد المعارك وسط بيروت، ويرى أنها إشارات تنذر بتقسيم بيروت. يعود بعدها قصير لحدث إطلاق النار على البوسطة، ويحلّله من بيان الحكومة وتقارير قوى الأمن وتنديدات منظمة التحرير واليسار، وحديث حزب الكتائب عن عمليةٍ استفزازيةٍ سبقت حادثةَ البوسطة في مزجٍ بين المشهد السياسي والمعارك على الجبهات.
يُركّز سمير قصير على اللاعبين السياسيين تركيزاً كبيراً. وهذا يشمل اللاعبين الدوليين مثل سوريا وإسرائيل ولبنان، أو اللاعبين شبه الدوليين مثل منظمة التحرير الفلسطينية، أو اللاعبين من غير الدولة مثل زعماء الميليشيات والطوائف والأحزاب والزعامات السياسية. ويتتبعُ تصريحات السياسيين ومواقفَهم وتبدلات رهاناتهم وتحولاته والتنافر بين الخطاب السياسي والمزاولة وتحركات الجيش ومواقفه. وذلك بأساليب عدّة، منها أنه يتتبع مواقف السياسيين وتصريحاتهم في سرده للحدث نفسه. ففي كتابته لحادثة اغتيال النائب معروف سعد، يضع تصريحات الأحزاب اليسارية باتهام الجيش وتصريحات الجيش الذي لم ينكر التهمة في البداية وموقف الأحزاب المسيحية التي تضامنت مع الجيش، ويكتب عن استقالة الوزير السُنّي مالك سلام ومشروع قانون إعادة تنظيم الجيش الذي قدّمه كمال جنبلاط. وذلك ضمن سرده لحادثة الاغتيال بصفتها أحداثاً متعلقة به، وهو ما يضطرّه للانتقال الزمني في السرد بسبب تعدّد المواضيع وانتقاله بينها. ففي سياق الكتابة عن المواجهات بين الجيش والمسلحين إثرَ حادثة الاغتيال يرجع بالزمن إلى احتفالات المولد النبوي سنة 1973 التي حضرها الإمام موسى الصدر وتميزت بظهور عددٍ كبيرٍ من الأسلحة.
يضع سمير قصير إشاراتٍ متفرقةً عن الحياة الاجتماعية واليومية لسكان لبنان في ظل حرب السنتين في سياق تفسير الأحداث غالباً، أو لقراءة دلالاتِها السياسية. فمثلاً فسَّرَ موكبَ الجنازة المهيبَ لمعروف سعد بالتداخل الوثيق بين المسلمين واليسار، ولفّ جثمانه بالعلم الفلسطيني الذي رآه قصير مجاهرةً بالولاء. أو ردّ الفعل المسيحي المتمثل بتظاهرات وإضرابات طلابية شارك فيها آلاف الطلبة من بينهم تلميذات المعاهد الدينية المسيحية، ونزول "لبنان الماروني" بأكمله استقطاباً صريحاً لمسحييّ لبنان، مما فاقم من تصدّع المجتمع.
وتستمرّ قراءةُ المستوى الاجتماعي بتحليلاتٍ تفسيرية لأحوال المعسكَرَين المتقاتلَين بعد تقسيم بيروت مجتمعيّاً. فيُعلّق بأن المعسكر المسيحي في بيروت الشرقية قد أدَّت به الجغرافيا الطائفية إلى استبعاد الآخَر من الحياة اليومية. واتّسَم بهيمنةٍ مطلقةٍ لحزب الكتائب، الذي طبع بشعاره المناطقَ المسيحية برمّتِها، وقدر على ممارسة عملية جذبٍ تماسكية للمجتمع، الذي يشهد مسيرةَ تشدّدٍ في المواقف السياسية والعقائدية. أما عنصرُ التوحيد الثاني في بيروت الشرقية فقد كان تلاحمَ الزعامة المارونية. ويُقرأ هذا التماسك المجتمعي الطائفي من استبعاد كلِّ آخَر، كما جرى في السبت الأسود وهو السادس من ديسمبر سنة 1975 يومَ قُتل مئات الفلسطينيين والمسلمين اللبنانيين إثرَ العثور على جثث أربعة مقاتلين من حزب الكتائب المسيحي في منطقة الفنار ويعدُّ من أبشع أيام الحرب الأهلية. وكان من بين وسائل الاستبعاد تبعاً لذلك التصفية الجسدية أو الترحيل العنيف. وكانت طقوس تطهير جيران الحي بموافقة الجماهير بل بمشاركتها أحياناً. ويُنتبه إلى أن بعض حالات التسامح النسبي مع الفلسطينيين المسيحيين في بيروت الشرقية كان تأكيداً للقرار الطائفي في استقطاب المجتمع.
بعد ذلك ينتقل سمير بتحليلاته إلى المعسكر الآخَر في بيروت. فعكسَ المعسكر المسيحي كان التنافرُ العميقُ سائداً في هذه المناطق بتفاوتِها طائفياً؛ إذ احتوى المعسكرُ على مسيحيين وسُنّةٍ وشيعةٍ ودروزٍ لم يتوحّدوا في حركةٍ شاملةٍ للاحتجاج على الهيمنة المارونية. كذلك كانت التباينات الاجتماعية في هذا المعسكر كبيرةً مقارنةً بتلاحم الطبقة الوسطى في المناطق المسيحية. هذا إلى جانب التنظيمات الفلسطينية المتنوعة.
ويضع قصير أيضاً بعض الملاحظات التحليلية على الحياة التجارية من غير أن يتخلى عن تركيزه على توظيف هذه الملاحظات لتفسير الانقسام وتقلّص مجالات الاندماج الاجتماعي. فيوثّق توقُّفَ الحياة التجارية حين انتقلت الحرب إلى وسط المدينة، وحين أحرقت الميليشيات الكتائبية الأسواق الشعبية الصغيرة، والميليشيات اليسارية أبرز الشوارع التجارية. ويكتب عن النهب الذي لم يتوقف في الأسواق ومركز المدينة. ويتطرق إلى وصول عناصر الكتائب إلى شارع الحمراء، الذي شهد واحدةً من أشدّ المعارك ضراوةً بعدَ أن بقيَ أشهراً عدّةً بعيداً عن المواجهات. يقرأ قصير هذا بأنه إشارةٌ إلى حربٍ طبقيةٍ تُرجِمَت واقعياً بعمليات نَهبٍ وسلب. وبهذا فإن تركيزه الأساسي في قراءته لهذه الأحداث هو بيانُ أثرها على الحياة اليومية لسكان بيروت بتغيير طريقة التوجه في الجغرافية الجديدة. فقد أصبح الوسطُ القديم حدوداً وغيّر الطرق الأساسية التي تسلكها السيارات ومنع التجار من مزاولة ما تبقى من أنشطتهم في أمكنتهم المألوفة.
يكتب سمير قصير في مقدمة كتابه عن هاجسه بالحفاظ على ذاكرة الحرب الأهلية الذي بات ضرورياً جداً، لأن الأمور تنحو بصورةٍ طبيعيةٍ إلى النسيان منذ نهاية الحرب. ومع تفهُّمه الرغبةَ بتبديدِ الذكريات المؤلمة وأنَّه لا مفرَّ من صدورِ العفو في بلدٍ يسعى إلى النهوض من كبواتِ الحربِ الأهلية، لكنَّ هذا العفوَ يجب أن يترافق مع سعيٍ إلى الحفاظ على الذاكرة لا فقدانها. ويرى بأن الإدلاء بالشهادة وحدها لا يحمي من فقدان الذاكرة، لأن وظيفة الشاهد تناسب إعادة إنتاج ثنائية النزاع، فتساهم في انحراف الذاكرة لا إحيائها.