ومع هذا النمط التاريخي المتكرّر، لم أشأ أن أظلّ مجرّد مراقب من بعيد وأن أضيع فرصة مراقبة هذا الحدث التاريخي عن قرب. فشددت الرحال إلى حمص بعد هجرة قسرية استمرت أكثر من اثني عشر عاماً. وصلت المدينة بعد سقوط نظام الأسد بعشرين يوماً، وكانت نشوة النصر وجميع مظاهر الاحتفال ماتزال حاضرة في الأجواء. ومن حمص عكفت على مقارنة أوضاع المدينة، وما آلت إليه اليوم، بالفترة التي تلت مغادرة العثمانيين سوريا. وبين أمسٍ يفصله عن اليوم أكثر من مئة عام، تبدو المتشابهات كثيرة في الانتقال السياسي والعسكري لحقبة جديدة. وكذا الوضع الاقتصادي ودور الجمعيات والصحافة وإشكالية الأقليات.
قبيل بداية الحرب العالمية الأولى، كانت مدينة حمص تتبع سنجق حماة –والسنجق تقسيم إداري عثماني– ضمن ولاية سوريا العثمانية. عاشت المدينة حتى بداية الحرب انتعاشة ملحوظة. فتضاعف عدد سكانها أربعة أضعاف في نصف قرن فقط، وفاق عددَ سكان حماة، وهي مركز السنجق. ولكن مع تلك الانتعاشة، كانت حمص تشهد مقدّمات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بالدولة العثمانية بعد خسارة البلقان في 1912. ومن قبلها خسارة ليبيا في ذات العام، عندما تنازل السلطان العثماني عن حكم ليبيا للإيطاليين. وكانت علامات الشقاق العربي التركي قد بدأت بالظهور حينها بوضوح، وتعززت إرهاصاتها مع تنامي المزاج القومي التركي، وظهور الحركة الطورانية. ثم تُوّج ذلك الشقاق على الأرض باندلاع الثورة العربية الكبرى ضد الوجود التركي، انطلاقاً من الجزيرة العربية بقيادة الشريف حسين في 1916.
عاشت حمص في سنين الحرب الكبرى ما عاشته بقية المدن السورية من ركود اقتصادي وفقر مدقع وغلاء فاحش. وقد أثرت هذه الأزمة الاقتصادية حتى على أعيان المدينة وأثريائها. فانتشر التسوّل في الشوارع. وشاعت أيضاً حوادث سرقة الخبز من المارّة، حتى أصبحت جملة "كرمى لله جوعان" شعار تلك الفترة العصيبة في حمص. وزاد الطين بلّة أزمة "السفربرلك"، أي النفير العام. وجنّدت بموجبه الدولة العثمانية الشبان إجبارياً بداية من 1914، لخدمة المجهود الحربي العثماني في الحرب العالمية الأولى. فاستنزف التجنيد شبابَ المدينة وقواها العاملة. أضف لذلك قرارات النفي والاستملاك التي أصدرها جمال باشا بحقّ العديد من العائلات الحمصية. ثم رُزِئَت المدينة بثلاثة من نخبة رجالها الذين ناضلوا في سبيل القضية العربية، وهم الشيخ عبد الحميد الزهراوي رفيق رزق سلوم وعزت الجندي.
بعد قرنٍ من الزمان، أي مع نهاية سنة 2010، كانت نشوة الانتعاش الاقتصادي الذي عاشته حمص حالها حال بقية المدن السورية بلا أريافها قد شارفت على الزوال. بل إن بعض إرهاصات الثورة في المدينة كانت ظهرت بالفعل. خصوصاً بعد انطلاق مشروع "حلم حمص" سنة 2005 بريادة محافظ المدينة الأسبق إياد غزال الذي وقّع مذكرة تفاهم رسمية بين المحافظة وبين شركة الديار القطرية سنة 2007 لإعادة تأهيل مناطق وسط المدينة والمدينة القديمة. رفض أهل حمص المشروع لأسبابٍ اقتصادية ولغياب التعويض العادل. وأيضاً لأسبابٍ اجتماعية أهمها إحساس الأهالي بأن هذا المشروع هدفه التغيير السكاني ومحو معالم المدينة التاريخية. وإثر ذلك شهدت حمص عدة مظاهرات سنة 2008. ودُعي إلى إضراب في أسواق مركز المدينة، ولهذا كان شعار أولى المظاهرات فيها سنة 2011 "الشعب يريد إسقاط المحافظ".
وعلى مدى ثلاثة عشر عاماً من الثورة، عاشت المدينة تغييرات هائلة. فقد افتتحت سنة 2012 بأول حملة عسكرية شاملة من نظام الأسد في الثورة على حَيَّي بابا عمرو والإنشاءات. تبع ذلك بداية حصار حمص الذي استمرّ حتى سنة 2014، وانتهى بتهجير الأغلبية العظمى من أهالي أحياء المدينة المركزية وتدمير أغلب أبنيتها. ثم حصار حي الوعر في أكتوبر 2013، والذي انتهى في 2017، بنفس طريقة حصار الأحياء القديمة. ومنذ بداية العمليات العسكرية لجيش النظام والقوى الموالية له في حمص مع بداية 2012 وحتى وقت قريب، كان الخزان البشري السنّي والمسيحي يتعرّض لاستنزافٍ مستمرّ بسبب الهجرة التي فرّغت المدينة من نصف سكانها تقريباً. وخسرت المدينة نسبةً كبيرة من شبابها الذين اضطروا لتركها بسبب المخاطر الأمنية أو الطلب للخدمة العسكرية أو بسبب البطالة وتردّي الأوضاع الاقتصادية.
وبعد يومين فقط من تشكيل الحكومة المؤقتة، دخل الجيش العربي إلى حمص بقيادة عمر الأتاسي، الذي كان رئيس بلدية حمص قبل أن تعزله حكومة الاتحاد والترقي التركية. بدأت هذه الحكومة منظمة ثورية قومية علمانية في نهاية القرن التاسع عشر ثم ما لبثت أن وصلت للسلطة في 1909، بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني. اعتقلت هذه الحكومة الأتاسي بتهمة التعاون مع تنظيمات عربية انفصالية، كونه أحد أوائل المنضمّين لجمعية "الفتاة العربية" المناهضة لحكم الاتحاد والترقي وضد دورها في تهميش العرب ومحاولة تتريكهم. ومع دخول الأتاسي حمصَ مرتدياً الزي العربي والكوفية، زحفت المدينة على بكرة أبيها لاستقبال ابنها البار وقائم مقامها الجديد أمام دار الحكومة (السرايا). أقيم احتفال عظيم أعلن فيه الأتاسي من على شرفة مبنى دار الحكومة تشكيل حكومة مؤقتة جديدة لضبط الأمن في حمص، إلى حين تشكيل دوائر الدولة والمجالس المحلية تحت مظلّة النظام الجديد.
غير بعيد عن موقع مبنى دار الحكومة حوالي مئتي متر إلى الغرب، كان أهالي حمص بدأوا بالوصول فرادى بعد منتصف ليل 8 ديسمبر 2024 للاحتفال بنهاية الحقبة الأسدية في حمص. إذ بدأت القوات الأمنية والعسكرية التابعة نظامَ الأسد بالانسحاب المفاجئ قبل ساعتين من منتصف الليل. وسبق ذلك خروجٌ جماعي لأغلب العلويين في حمص من عسكر ومدنيين على مدى اليومين السابقين. ولم ينسَ المحتفلون تمزيق صور الأسد الأب والابن عند نادي الضباط، كما فعلوا يوم 25 مارس 2011. ثم توجّهت جموعهم لهدم تمثال الأسد الأب عند الدوار الذي أطلق عليه الحماصنة تهكماً في فترة الثورة اسم "دوار أبو موزة"، بعد أن كان اسمه دوار الرئيس حافظ الأسد.
كان انتقال السلطة في حمص هذه المرة مختلفاً عن سابقاتها قبل قرن. فالفراغ الإداري لم يدم طويلاً قبل أن تعيّن إدارة العمليات العسكرية إدارةً مدنية في حمص بعد أسبوع من سقوط النظام. وعلى عكس ما حدث قبل مئة عام، لم يكن بالمدينة أي تحرّك مدني محلّي يملأ الفراغ الإداري المؤقت أو يقدّم أي مطالب أو مساهمة أو تمثيل. وذلك لأن نظام الأسد، وعلى مدى ستة عقود، عمل منهجياً على تحطيم النخب والتشكيلات المحلّية المدنية. وجاءت الضربة القاصمة للنخب متمثّلة بأزمة التهجير والهجرة أثناء الثورة. وهو ما جعل المجتمع المدني في حالة شللٍ شبه تام، إلا من نشاط بعض الجمعيات الخيرية الإغاثية. هذا على عكس نخب حمص نهاية العهد العثماني التي حافظت على تماسكها أثناء الحرب العظمى. بل إنها لم تتعرّض إلى هذا النوع من التحطيم والتدمير الممنهج، فعادت للحركة مجدداً في أقرب فرصةٍ سنحت لها.
ومع عودتي إلى حمص، كانت الإدارة المدنية الجديدة بقيادة محافظ حمص الجديد عبد الرحمن الأعمى قد تسلّمت زمام السلطة منذ أسبوعين. والمحافظ الجديد من أبناء حمص الذين كانوا في حصارها ثم خرجوا منها إلى الشمال المحرّر وعادوا إليها بعد سقوط النظام في 8 ديسمبر 2024. المحافظ شاب ذو خبرة إدارية جيّدة. فقد عمل وزيراً في حكومة الإنقاذ بإدلب، وهي حكومة موازية تابعة لقوى الثورة السورية، ولديه رؤية جديدة لهويّة حمص والمشاريع التنموية فيها. وكانت آخر مرة يتسلّم فيها أحد أبناء المدينة منصب الحاكم الإداري في أواخر سنة 1919 حينما عاد هاشم الأتاسي، الذي صار رئيس سوريا لاحقاً، من مدينة بوردور التركية، القريبة من قونيا. فانتدب عن السلطة العربية لتشكيل متصرفية حمص الجديدة، بعد أن كانت قضاء يتبع حماة. وعيّن الأتاسي أول متصرّف لحمص وآخر من تولّى ذلك المنصب أصالةً من أبناء المدينة.
بعد قرنٍ ونيف، حرصت إدارة العمليات العسكرية على تسليم رئاسة المجالس والتشكيلات الإدارية لأبناء المدينة وريفها ممّن كانوا في الشمال المحرّر. وكانت التعيينات الجديدة وفق أولوية النزاهة لمن ظلّوا في حمص حتى تحريرها. وهكذا يرى الناظر في أسماء أعضاء المجالس والنقابات تغييراً شاملاً لا يشبه ما حدث بين عامَي 1918 و1920. إذ أن أعضاء المجالس المحلّية والغرف في العهد العثماني ظلّوا محافظين على مواقعهم في عهد الملك فيصل، وأقلّ نسبياً في عهد الانتداب الفرنسي. على أنّ العملَ ظلّ سارياً بقوانين العهد السابق، باستثناء تعديلات تعريب الدواوين والمعاملات في عهد الملك فيصل.
في تنظيم الأمور الأمنية، حدث أمر مشابه بين العهدين. فاليوم يلاحظ المار من مبنى نادي الضباط، المدشن سنة 2000، صفوف المنتظرين للتطوع في القوى العسكرية والأمنية الجديدة في الصباح الباكر. ويرى من يكمل طريقه نحو مبنى قيادة الشرطة تجمّعات لعناصر الجيش والأمن القدامى في نظام الأسد من أجل تسوية أوضاعهم في صفوف أطول. وقد عاشت حمص جواً عسكرياً شبيهاً منذ قرن. فالمظهر الجديد لعناصر القوى العسكرية والأمنية الحالية كان ملفتاً، كما كانت الألبسة العربية لجنود الجيش العربي مثيرة لانتباه أهل الشام زمن الملك فيصل. وقد كان نبيه بك العظمة، شقيق وزير الحربية يوسف العظمة، قائداً لموقع حمص العسكري وكانت بلاغاته الرسمية عن التجنيد الإجباري والحالة العرفية والرقابة تذاع في الصحف باستمرار. ومنها بلاغه عن إنشاء "كتيبة حمص" وعناصرها من سكان المدينة وقراها، فتجمع المجندون الجدد في الكتيبة وحولها.
في باحة الدير وذلك النهار الدافئ، استمعت إلى رجلٍ حمصيّ سنّي ينتقد تصرفات السلطة الحالية. فتردّ عليه امرأة مسيحية تبرّر بعض تلك التصرفات وتدافع عن بعضها الآخر. تليها مداخلة شاب علوي ثم كلمة لطبيبة من إدلب، فمداخلة من كهل مغترب منذ خمسين عاماً. كانت هذه المداخلات والنقاشات الحرة شديدة الاختلاف عما درجت عليه العادة وساد عرفاً قمعياً في فترة نظام البعث.
يعيد مشهد الحوار هذا إلى الأذهان نشاط الجمعيات والنوادي إبان العهد الفيصلي بين سنتي 1918 و1920. وعلى رأسها "النادي العربي" في حمص الذي كان مركزاً مهماً لنقاشات الشباب الحمصي المتعطّش للعمل السياسي والاجتماعي. وما يميّز هذا النادي أنه كان التجمّع الأول والتجربة السياسية الأولى لكثير من الشخصيات التي لمعت في ميدان السياسة السورية لاحقاً. مثل الوزير هاني السباعي قاضي دمشق، وعضو المحكمة الدستورية العليا أنيس الملوحي، والسياسي المخضرم وأحد مؤسسي الكتلة الوطنية ضد الانتداب الفرنسي سليمان المعصراني، وقائد الكشّاف الحمصي الشهيد فؤاد رسلان، والمحامي نديم الموصلي. لم يكن النادي العربي حالة وحيدة، بل تأسست في ذات الفترة عدة جمعيات ونوادٍ جديدة. أهمها جمعية الناشئة الأدبية وجمعية التفاهم والتعاون وجمعية زهرة الحرية وجمعية الرابطة الأخوية.
ولم يقتصر الأمر على الجمعيات المحلية، فقد ساهم المجتمع الحمصي في دول الاغتراب في دعم المدينة من الخارج قبل قرن. نشطت جمعيات مثل الاتحاد الحمصي في ريو دي جانيرو، والجمعية الأهلية الحمصية في تشيلي، وجمعية ملجأ اليتيم للسيدات الحمصيات والنادي الحمصي في ساو باولو، وجمعية الأوانس الحمصيات في بوينس آيرس. جمعت هذه الجمعيات التبرعات للمشاريع الوطنية في حمص وساهمت في تعافيها ثم نهضتها. وذلك حسب بعض نشرات جريدة حمص بين عامَي 1920 و1921. وفي فترة الثورة وسقوط الأسد، نشطت العديد من الجمعيات الحمصية في الخارج، وآخرها "قافلة العزم" التي أعادت أكثر من خمسمئة عائلة حمصية من مخيم زوغرة غربي جرابلس بريف حلب إلى مدينة حمص، وأمنت المسكن للعديد منهم.
خرجتُ من دير الآباء اليسوعيين فور انتهاء الجلسة على عجل للحاق بدعوة غداء لا تفوّت: جزر محشي. اتجهت نحو ساحة جامع ذي الكلاع والمستوصف الغساني مروراً بمبنى المسرح الأرثوذوكسي الذي قصف ببرميل متفجّر في أكتوبر سنة 2012. وهو اليوم مقرّ جمعية "تراثنا" لحماية التراث التي انتهت من ترميمه سنة 2024. كان المسرح مقرّ مطبعة جريدة حمص المؤسسة سنة 1909 والتي استمرت بالصدور بانتظام لعقود، ثم عادت قبل سنوات قليلة نشراتٍ إلكترونية. وحفظت لنا في أرشيفها الورقي شبه الضائع وغير المصنّف بعض تفاصيل تاريخ المدينة.
المثير أن افتتاحية الجريدة في أول عدد لها سنة 1920 بعد احتجابها سنوات الحرب العالمية تبدو وكأنها كتبت يوم سقوط النظام في 8 ديسمبر 2024. تقول الافتتاحية "مضى ما مضى وقد ارتفع الكابوس الهائل عن صدور أبناء الوطن، فانطلقت الألسنة من عقالها، وبرزت عرائس الأفكار من خدورها، وتطارح القوم الرأيين الصائب والمخطي…". وما يلفت النظر كذلك مقالة في العدد الرابع لسنة 1920 بعنوان "الأنغام القديمة ومحتكرو الوطنية". تتناول المقالة ظاهرة سمّتها "الحماسة"، وتشير لمن "احتكروا الوطنية لأنفسهم ظانّين أن من ليس منهم خائن لوطنه". وكأن رئيس تحرير الجريدة، المؤرخ الخوري عيسى أسعد، يصف ظاهرة "المزاودة الثورية" المنتشرة اليوم في المجتمع الثوري السوري لتكميم أفواه الرفقاء والأعداء. والبارز أيضاً أن الجريدة تطرّقت في العدد ذاته لمواضيع ما زالت في قائمة الشأن السوري إلى يومنا هذا، وتعززت في سنوات الثورة. فطفت للنقاش بقوة جزءاً من مداولات المرحلة اللاحقة لانهيار نظام الأسد. ولعلّ أكثرها إلحاحاً المقالة الافتتاحية بعنوان "حقوق الأقليات".
وفي حالة مدينة حمص، يظهر تباعد وانفصال طائفي بين أحياء حمص السنّية والعلوية. نسبة كبيرة من السنّة مثلاً لم يسبق لهم أن مرّوا بالأحياء التي يسكنها العلويون. والتوتر الطائفي في حمص لا يمكن تجاهله. وذاك الذي دفع سكان أحياء المدينة الشرقية من العلويين من متورّطين مع النظام وأبرياء إلى إخلائها قبل دخول الفصائل وعودة المدنيّين المهجّرين من الأحياء المجاورة خوفاً من الحالات الانتقامية. غير أنهم عادوا إليها جماعياً عصر 9 ديسمبر 2024، بعد أن اطمأنّوا إلى ضبط إدارة العمليات العسكرية للوضع الأمني. وحين عودتهم كان أهل حمص من السنّة بانتظارهم عند مدخل المدينة الغربي. "حفلة" الاستقبال الصاخبة التي حصلت في ذلك اليوم، والتي كان يُتخوف أن تنتهي بمذبحة طائفية، خلت من أبسط مظاهر العنف مع الاحتقان الشديد ونشوة النصر والسطوة التي كانت لدى سنّة حمص. إلا أن الحماصنة اشترطوا على كل العائدين رفع أصابع النصر، وترديد عبارة "يلعن روحك يا حافظ".
حرصتُ أثناء إقامتي في حمص على التجوال في الأحياء الشرقية التي يسكنها العلويون. فدخلت إلى حي النزهة عدة مرات. ودعاني أحد الأصدقاء إلى مقهى في شارع الحضارة، وآخر في شارع العشّاق. ومررت بأحياء عكرمة والزهرة أكثر من مرة. وكانت مداخل الأحياء قد أغلقت بحواجز إسمنتية وقفتْ عندها قوى أمنية تراقب السيارات الداخلة والخارجة، بلا طلب الأوراق الثبوتية أو توجيه الأسئلة في أغلب الأحيان. وعلى ما أعلمه ممّا في الصدور من حنقٍ كامن. إلا أنني، وفي جميع تردّداتي إلى تلك الأحياء، لم ألحظ بالمشاهدة الشخصية أي شكل من أشكال التوتّر الطائفي في الأسواق والشوارع. هذا مع علمي بأن مشاهداتي الشخصية، حتى ولو تعدّدت في فترات زمنية مختلفة، لا تعني الحقيقة كلها.
ولكن ومع هذا الجو الذي يبدو هادئاً ومع اقتراب يوم 8 مارس 2025، الذكرى الخامسة بعد المائة لإعلان المملكة العربية السورية والذكرى الثانية والستين لانقلاب البعث، عاد الغليان إلى حمص بعد وصول أخبار الأحداث في الساحل. فهبّ الأهالي غضباً بعد أنباء النفير العام في إدلب وحماة والساحل. وتجمع مئات الشباب ليلاً في ساحة الساعة وسط المدينة لإظهار تأييدهم الحكومةَ والجيش والأمن العام. بينما توجّه قسم غير قليل منهم باتجاه حارات العلويين الشرقية.
مّا زاد الطين بلّة محاولة أحد سكان تلك الحارات إطلاق النار على تلك الجموع من شرفة منزله، فأمطر الشباب المسلّحون منزله بوابل من الرصاص. تمكّن الأمن العام من ضبط الجموع قبل أن تحصل حالات تخريب كبيرة. وانتشر الأمن في الشوارع الرئيسة كشارع الحضارة وشارع العشّاق. وفي النهار التالي شكّل عشرات العناصر المسلّحين من الأمن العام جداراً بشرياً لمنع المتجمهرين من الدخول إلى الأحياء الشرقية. فيما ظهر مقطع مصوّر لأحد عناصر الأمن يخاطب الجموع الهائجة باللهجة الحمصية ويبلغهم أنه لم ينم منذ يومين ويترجّاهم العودة إلى بيوتهم. هذه الخطوة أنقذت المدينة مجدداً من فتنة طائفية كبيرة وكانت الضامن الوحيد ربما للسلم الأهلي.
وتذكّرنا قصة الجدار البشري بأحداث مشابهة من القرن الماضي. لم يكن الاحتقان الطائفي بين المسلمين والمسيحيين في حمص آنذاك موجوداً. بل لم يكن هنالك أي نوع من أنواع التباعد أو الفصل الطائفي داخل أحياء المدينة القديمة. فجامع ذي الكلاع ملاصق للكنيسة الإنجيلية المشيخية، وبناء واحد يفصل كنيسة أم الزنار عن مسجد الشيخ عدّاس (الذي سُمّي محمد بن مسلمة لاحقاً). ولكنّ كبار أعيان حمص قدّروا أن الليلة، عشية المعركة المرتقبة بين جيوش الملك فيصل والجيش الفرنسي في ميسلون في يوليو 1920، قد تكون فرصةً لضعاف النفوس من اللصوص أو المخرّبين حدثاء الأسنان ممّن قد يغرّهم الخطاب الطائفي.
وحسب ما تورد جريدة حمص في عددها السابع في 31 يونيو 1920، شكّل أعيان حمص مجموعاتٍ أهلية مسلّحة توزّعت على خمس وعشرين نقطة داخل أحياء المدينة القديمة بإشراف المتصرّف الوكيل عمر الأتاسي. تولّى الأتاسي بنفسه الإشراف على المجموعات على الأرض متقلّداً سلاحه وبوقاً ينبّه به أقرب نقطة إليه في حال رصده أيّ مخرّبين. واستمر ذلك عدة ليالٍ سبقت دخول الجيش الفرنسي حمص.
وفي ذلك نشر السيد جرجس سلوم بياناً باسمه وأولاده في جريدة حمص كتب فيه:"شكر وتقدير مروءة: إذا كان عمل الجميل واجباً فالاعتراف بالجميل أوجب. لذلك أعلن على صفحات جريدة حمص الغراء شكري العميق للمروءة التي أظهرها الباسل المقدام أبو الخير افندي الجندلي الذي تقلّد سلاحه وسلّح وحيده وطائفة من انسبائه وتولّى تحت رئاسة وكيل المتصرف حماية محلّتنا وسواها. وقد أوقف على منزلنا وحيده مع رهط لحمايته، وباسم الانسانية أقدم له شكري القلبي الوافر صانه الله من بوائق الايام".
من ناحية أخرى، لا يمكننا المقارنة مع أحداث القرن الماضي فيما يخصّ سكان حمص العلويين، لعدم وجود أي تجمع سكاني علوي داخل المدينة قبل مئة عام. ولكن كان لقريتي فاحل ومريمين العلويتين حيزٌ من أحداث ذلك الوقت. فقد رفض أهالي قرية مريمين دفع الضرائب للحكومة الفيصلية سنة 1920، وتعرضوا لقوة من الجند والدرك وجرحوا بعض عناصرها وسلبوهم سلاحهم. أتى رد السلطة بحملة عسكرية قاسية استخدمت فيها المدافع الثقيلة، فهدمت منازلهم وسقط العديد من القتلى المدنيين. وهذا حسب ما تورده جريدة حمص في 19 يونيو 1920. ولكن مع إعلان الزعيم العلوي عزيز الهواش تمرده صيف سنة 1920 وهجومه على قرى وادي النصارى ومشتى الحلو، أعلن الشيخ عباس الإبراهيم زعيم قرية فاحل اصطفافه مع أهالي الوادي ضد عصابات الهواش. وتوسّع هذا الحلف العلوي المسيحي ضد العصابات ليشمل قرى كفرام ورباح ووتان والمرانة. في الوقت الذي كانت فيه "العصابات النصيرية" تنهب قرى صافيتا والحصن وعكار، على حد وصف جريدة حمص.
في نهاية يناير 2025 تصدرت بعض القرى مجدداً الأحداث. دخلت عناصر من "إدارة العمليات العسكرية" فاحل ومريمين ضمن ما عُرف بالحملات الأمنية لتتبع فلول نظام الأسد. وما إن خرجت هذه القوات من القريتين حتى توالت أخبار عن "تجاوزات" بحق السكان. شهدت فاحل مقتل خمسة عشر شخصاً، معظمهم يحملون رتباً عسكرية. في حين قالت مصادر في محافظة حمص للتلفزيون العربي إن عدد القتلى كان ثلاثة عشر، ولم تفصح هذه المصادر عن هوية المنفذين. وفي مريمين أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن مسلحين مجهولين يرتدون الزي العسكري قتلوا ثلاثة عشر شخصاً واعتقلوا عشرات آخرين.
الكثير من تلك المشاكل طغت على مطالب الشارع الحمصي في السنوات التي تلت الحكم العثماني. ويمكن تتبعها في طبعات جريدة حمص في وقته. يضاف لذلك مشكلة ظهرت مؤخراً ولها شبيه سابق في سنوات ما بعد الحرب العظمى. وهي أزمة العقارات التي بيعت في سنوات الحرب بسعر زهيد، ثم ارتفعت أسعارها بعد نهاية الحرب في كلا القرنين. فاليوم يراجع دوائر الافتاء والمشايخ عشرات الأشخاص ممّن يريد "الإنصاف" بعد أن باعوا عقاراتهم أو فضّوا شراكاتهم بثمن بخس كما يدّعون. وفي القرن الماضي، كان المحامون الأوائل في حمص يتعاملون مع قضايا بيعت فيها بيوت وأملاك بسعر بضعة أرطال من القمح أو الحنطة في سنين الحرب والمجاعة.
وعلى اختلاف زمنيْ حمص وأناسها وظروفها، وبينهما قرن وأكثر، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه في بعض الجوانب. من انتقال سياسي ووضع عسكري تشكلَ مع دخول الجيش العربي حمصَ، لانتقال سياسي وعسكري مشابه مع سقوط نظام الأسد. في القرن الماضي أُزيح ضيم العثمانيين وعادت حمص وجل سوريا ولو لفترة لحكم أهلها. واليوم تعود إلى أبنائها بعد أكثر من ستة عقود تحت حكم بعثي ملكَ البلاد واضطهد العباد. وفي القرن الماضي حدقت بالانتقال السياسي مخاطر إقليمية والاستعمار الفرنسي على رأسها. واليوم تحدق مخاطر إقليمية، إسرائيل رأس حربتها، وتهدد بإجهاض مشروع الدولة الجديدة.
وليست حمص الأمس بتعقيدات أقلياتها مختلفة كثيراً عن حمص اليوم، ولا محاولة القائمين على الأمن رأب الصدع بين الطوائف بغريب عنها اليوم كما كان الأمر في 1920. تبدو حمص اليوم كما لو أنها تعيد لملمة ما ألفته في تاريخها. ويبقى السؤال فيما إذا كان تكرار التاريخ ودروسه كافية لتجاوز إخفاقاته اليوم.
