كان أوّل عهدي بقماشة الجينز في حقبة الستينيّات في منطقة الرصافة ببغداد. وقتئذٍ كان الحوذيّة، الذين يقودون عرباتٍ تجرّها الخيول، يلفّون شرائحَ من قماشةٍ زرقاء قاسية النسيج على بطون خيول عرباتهم بغيةَ ربطِ سروجِها. لم يكن أحدٌ يعرف عن الخيوط الخشنة تلك سوى أنها قويةٌ وتسمّى بِاسم ٍغريبٍ على آذاننا، "جينز". ضمنت تلك الخيوطُ ربطَ الخيول "بربلات" تلك العربات التي تجوب شوارع "خليل باشا جادة سي" والرشيد وغيرها لتنقل أهل بغداد.
على مرّ سنين السبعينيات والثمانينيات تطوّر استخدام الجينز من إزار خيول الجرّ إلى لباسٍ يحكي تطوّرُه قصّةَ تغيّرات العاصمة العراقية وحركتها الاجتماعية والاقتصادية، وعلامةً على تبدّلاتها الثقافية كذلك. ارتبط صعوده بما سُمّي عصر بغداد الذهبيّ. ورسم حضورُه ثمّ تراجعُه الإجباريُّ فعودتُه خطوطَ حضور السلطة في حياة السكان، وتدخُّلَها في السيطرة على أجسادهم التي سُخِّرت في الحقبة ذاتها آداةً للحرب، وشراء مجد من يعتلون مقاعد الحكم.

بدأت التغيّرات الاجتماعية التي قادت إلى ثورة الجينز في السبعينيات متأخّرةً، وتحديداً بعد سنة 1965، مع بدء ظهور آثار القفزة الاقتصادية الكبيرة لحقبة الستينيات التي أدّت إلى هذا الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي على صيحات الأزياء. فقَبْلَها لم تحمل لنا ثورةُ الزعيم العسكري عبد الكريم قاسم سنة 1958 أيّ تجديدٍ ولم تتّخذ موقفاً ضدّ الأزياء المدنية الشائعة، وربما لم تُتِح له مدّةُ حكمه القصيرةُ التي لم تتجاوز خَمس سنواتٍ أن يتبنّى ثورةً اجتماعيةً وثقافيةً على الحقبة التي انقلب عليها، والتي ساد فيها ما سُمِّي "الزيّ العقلاني" وظلّ سائداً حتى سنين تلت انتهاء الملكية. يتكون هذا الزيّ من اللباس "الإفرنجي" أي البدلة الغامقة مع القميص الأبيض، مع ما أضافه الملك فيصل الأول من لباس الرأس "السِدارة الفيصلية" وهي قبعةٌ نصف مقوّسةٍ ومدبّبةٌ من الوسط، بعد إزالته "الجَرّاوية" الموروثة من العهد العثماني، وهي عبارةٌ عن شماغٍ (قطعة قماش مرقّط) تُلَفّ على الرأس لفَّ العمامة.
سادت الثياب "العقلانية" في الفترة بين عامَي 1930 و1965. وهي أزياءٌ محافظةٌ تميلُ إلى الحشمة والتقشّف، بل والفقر المدقع أحياناً. فكان البغدادي يكتفي ببدلةٍ كاملةٍ وبنطالَيْن ومعطفٍ طول السَنة بتقلّبات طقسها، فيخلع المعطف في الصيف ويلبسه في الشتاء. حينها اكتفت غالبية البغداديات بارتداء عباءة الرأس السوداء عند ظهورها في الأسواق، فلم يكن الأسودُ لونَ الأحزان بل مَثّل لونَ التعقّل والحشمة، وربما ظهر من تحت العباءة ثوبٌ بلونٍ زهريّ. وكانت الموظفات يرتدين اللباس الرسمي، وهي حُللٌ نسائيةٌ عصريةٌ ذات إزارٍ نسائيٍّ "تنانير" وألوانٍ تميل للقتامة مع حقيبةٍ ونظارةٍ سوداء، بشعورٍ مقصوصةٍ حسب الموضة العصرية الشائعة. وسُمح لبعض النساء ارتداء البدلات البيضاء في المحافل العامة والقاعات المغلقة، بينما تأخر ارتداؤهن البناطيل حتى منتصف السبعينيات، إذ لا تظهره لنا الصور ولا الذاكرة إلّا ما ندر، كما يرصد وثائقيّ "ملابس العراقيين وأزياؤهم خلال نصف قرن" المنشور ضمن سلسلة وثائقيات "العراق في قرن".
في حقبة الستينيات مثلاً، كانت الموضة محصورةً ببناطيل من نوع "باي 22" المصنوعة من قماش الصوف الإنجليزي الشائع في ذلك الوقت. وكانت تأتي مستوردةً من الهند. وانحصرت في لونَيْن لا ثالث لهما، هُما الأسود الفاحم والرمادي الغامق. ارتداها البغداديون من الموظفين وطلاب الجامعات وغيرهم من وجهاء المدينة. وفي المناسبات والاحتفالات يحلّ محلَّها بناطيل القطيفة، قبل أن تحلّ أقمشة الحرير الصناعي وتستحوذ على ثياب ذوي الذوق المخمليّ من الأثرياء. وظلّت القماشة الإنجليزية القريبة للخشونة منتشرةً بين العامّة وفي أسواق الأقمشة، خصوصاً أن معظم خيّاطي البناطيل فضّلوا العمل عليها لسهولة قصّها وقوالبها المريحة. نلحظ من هذا أن الموضة ارتبطت بنوعية القماش بعيداً عن اللون وطريقة التفصيل. لذلك لم يلتفت البغدادي، أو لم يدخل مزاجه قضية موضة اللون وتدفق طيفه في الاختيار. كانت الموضة تمثّل روح "العقلنة" والالتزام التقليدي بقيم "الما قبل". غير أن انقلاب الجينز، بثورته الناعمة، ضرب بعرض الحائط كلّ التقاليد السائدة، متشدّقاً بروح المدنية المتطلعة إلى الحداثة، ثورةً على المظاهر التقليدية.
كان مستوردو تلك الحقبة تجاراً من المسيحيين واليهود من القريبين من المجتمع البغدادي الراقي، والراغبين في نشر الذوق الذي رَأَوه راقياً وحداثياً بين البغداديين. فجدّوا في استيراد ما تنتجه دور الأزياء العالمية وإشاعتها بالترويج والإعلان. في البداية كانت تلك الموضات الجديدة تظهر في محلات سوق الثلاثاء بالكرادة و"أورزدي باك" في شارع الرشيد، وأسواق "حسّو إخوان" في منطقة حافظ القاضي في محالّ مملوكةٍ للإخوة ناصيف وبشير وإلياس حسّو. ومثلها عملت عائلة من السبتية، وهم طائفةٌ مسيحيةٌ، في معارضها في شارع الرشيد ومعارض "عائلة قطّان" شارع السعدون للألبسة العصرية، وهي العائلة التي استوردت الجينز وروّجته على استحياءٍ في بداية السبعينيات قبل انتشاره، حسبما يرصد الوثائقيّ السابق ذكرُه.
نجحتُ في مسعاي واشتريت البنطال، فوقعت مشادّةٌ مؤلمةٌ مع أبي الذي رفض فكرة الجينز، قائلاً: "هذا ملبوس عمّال النفط والميكانيك". ولم تكن تلك المشادّة وحدها سبباً لألمي، إذ أضيف إليها اكتشافي أنها وقعت بسبب بنطالٍ مزيّف. فما اشتريتُه لم يكن إلّا نسخةً مشوهةً من قماش الجينز، مجرّد قطعة صوفٍ مصبوغةٍ بالأزرق ومرصعةٍ بمسامير نحاسيةٍ فسدت بمجرّد غسلِها.
كان حيُّ الباب الشرقي الذي احتِيل فيه عليَّ معقلاً للموضة الوافدة حيث ظهرت بناطيل الجينز والمعاطف والأحذية الرياضية وغيرها. ومع قرب حيّ الباب الشرقي من مركز السلطة، إذْ لا يفصلهما سوى نهر دجلة، إلّا أنها غضّت الطرف عن هذا التمرّد الصغير. شكّلت منطقةُ الباب الشرقي واحدةً من أهمّ بؤر التمرّد على هراوة العقلانية التقليدية في العراق. على موقعها المميّز في الرصافة حيث مركز بغداد الحيويّ، تنتمي المنطقةُ اجتماعياً إلى قاع مدينة بغداد، وعمومُ روّادها من الطبقات المسحوقة الحالمة بمواكبة الأزياء العالمية.

الصورة من بغداد سنة 1979 | خدمة غيتي للصور
تعكس المعاينةُ الدقيقة لصور العراقيين في منتصف السبعينيات اختيالَ شباب تلك الحقبة بثيابهم، ومَيْلَهم للتميّز عن أبناء الأجيال الأكبر. تظهر في صور السبعينيات ملابس الفتيات الملونة المتحررة والبناطيل الغريبة التي يرتديها الشباب في الشوارع والجامعات، مستعرضين الموضة الوافدة معلنين طوراً جديداً في حياة العاصمة العتيقة.
كانت سينما "الويست إند" في شارع الرشيد مركزاً رمزياً لتلك المدينة الشابّة، إذ مهّدت الطريق للجينز عبر أبطال أفلام رعاة البقر الأمريكية التي ربطت بين الجينز ونمط الحياة المنطلقة المتحررة المليئة بالبطولة والقوة. وروّجت صناعةُ الدعاية في الأفلام وفي عالم الإعلانات لصورةٍ شاعريةٍ للجينز بإبرازه كاسياً البنية القويّة لأكثر ممثلي هوليوود جاذبيةً، فكانت دعوةً للمستهلكين الذين رأوا فيه زيّاً يليق بالمناسبات الخاصّة وعطلات نهاية الأسبوع، ممّا زاد انتشارَه. ولذلك فتحت دور السينما ببغداد، مثل الخيّام وغرناطة وأطلس وسميراميس والنصر وبابل والحمراء وروكسي، أبوابَها لزوّار منطقة الرصافة عارضةً أفلاماً ساهمت في ترويج الأزياء المعاصرة. ثم التقطت المحالُّ المحيطة في الباب الشرقي الموجةَ، وسارعت شركة "لانكستر" المختصّة في استيراد الملابس الأوروبية والأمريكية المستعملة فضخّت دفعاتٍ متتاليةً من الجينز إلى بغداد. هذه الشركة الرائدة اختفت فجأةً مع حلول سنوات الحصار مطلع التسعينيات، ونشأ بديلاً عنها شركاتٌ عدّةٌ –لا يَذكر اسمَها أحدٌ– تستورد "بالات" أي الأَجْوِلةَ الضخمةَ المغلقةَ التي تحوي ملابسَ مستعمَلة.
ضرب جينز بغداد استحقاق الطقس وهَيمَن طاغياً على مواسم السَنة. وتلك ميزةٌ جعلته مفضّلاً في الشارع البغدادي. فمنه ما يناسب الخريف وآخَر أخفّ للصيف ثمّ جينز الشتاء الثقيل. وقد حرم تصميمُ جيوبه لصوصَ بغداد من الوصول إلى غايتهم بسهولة. لم يلقَ الجينز مقاومةً من اليسار العراقي بمن فيه شيوعيّو العراق الذين وجدوا الجينز متّسقاً مع أفكارهم المتمرّدة على المجتمع وتركيبته. فقد كان زيَّ الشباب و"الشغّيلة" الكادحين وأصحاب الحِرَف، وهُم ذخيرةُ الحزب الشيوعي. وربما كان أشهرهم حبيب، الأنيق العامل البغدادي البسيط سيّد الموضة وملك شارع السعدون.
في نهاراته كان حبيب الأنيق يتنقّل بين صالات العرض لينتقي منها ما يَعِدُه بمشاهَدةٍ ماتعةٍ لفيلمٍ جديد. وحسبما روى لي أصحابه، فهو لا يركّز على حكاية الفيلم وأحداثه بل على التقاط الزيّ الذي يرتديه بطل الفيلم ليضمّه إلى خطّته لموضته هذا الموسم. ولم يترك حبيب تقليعةً إلّا جرّبها، فهو صاحب أكبر سالفٍ "زلف" على شكل جزمةٍ سوداء عريضة الحوافّ تمتد من شعره إلى قرب فمه، وشعره الأسود ينسدل طويلاً حتى يكاد يلامس كتفيه. كان حبيب محطّ دهشة المراهقين والمراهقات الذين شغفوا بمتابعته ومتابعة أحدث صيحات الموضة التي كان هو ممثّلها. وفي الليل يمكن العثور عليه في حانات شارع "أبي نوّاس" المحاذي لنهر دجلة، والذي يزدحم بالحانات والمقاهي ومطاعم السمك وحدائق لجلوس العوائل. كلّ تلك الأماكن هي جِنان متعةٍ لحبيب الأنيق بعد خروجه من إحدى دور السينما.
يتلامز عنه المحافظون والمتمسكون بالأزياء التقليدية ظلماً ويختلقون عنه الأقاويل. ومن هؤلاء شابٌّ من باب الشيخ، وهي منطقةٌ قديمةٌ تاريخيةٌ محاذيةٌ للباب الشرقي، يدعى صبري حديد. كان صبري يترصّد حبيب الأنيق ويمزّق ملابسه من دون سببٍ، ويقول عنه: "إنّه يضع قنّينة بيبسي كولا كاملةً على شعره الكثيف، ليحاكيَ شكلُه الخنافس". ويسخر من استمرار الأنيق في ارتداء بنطال الجينز الذي مزّقه له، دون أن يدرك أن الأنيق يرسي موضةً أخرى ستنتشر بعد خمسين عاماً من تلك المشاجرة. والأنيق هو قائد ثورة الألوان الغريبة وكسر محرّم العقلانيين. نسّق الأنيق بين القميص باللون الأخضر الفاقع وبنطال الجينز الأزرق بكل جرأةٍ لونيّةٍ، مُرسياً موضة تضادّ الألوان قبل ميلادها بزمن. يسير الأنيق في شوارع بغداد متحدّياً منافسيه في الموضة الطارئة، مدشّناً أسطورته صعوداً من صيحات موضة الستينيات وثورة الشباب وتمردهم قبل أن تبدأ بغداد كلّها ثورة الجينز.
حبيب الأنيق هذا كان ينحدر من عائلةٍ مُعدَمة. بيته كوخٌ متداعٍ من الطين والتبن على تخوم بغداد الجنوبية الشرقية في منطقةٍ لا اسم لها. يعمل بأجرٍ يوميٍّ يبدّده في شراء الملابس والأحذية. استطاع أن يصبح رمزاً يقلّده شباب بغداد على اختلاف طبقاتهم. يكرّرون حركاته ومشيته التي يختال بها في شارع السعدون متجولاً بين محطات الفُرجة في دور السينما، متطلعاً لإعلانات الأفلام الضخمة وألوان ثياب أبطالها الصارخة ليختار منها ما يناسب مزاجه. يغبّش كلّ يومٍ منذ ساعة الفجر الأولى إلى مسطر العمال، ويعمل مع محترفي البناء الذين يحبّونه ويتمنّون تقليده، لكنهم لا يجرؤون على ثورة ألوانه. كانوا يميلون إلى عقلنة الألوان بالأزياء الشائعة والتقليدية، لكنهم يتعرفون بشغفٍ على رؤاه اللونية وما ينوي ارتداءه في شهور الصيف القريبة من بناطيل أو قمصان أو أحذية الكعب العالي وحتى قَصّة شَعر الخنافس الوافدة حديثاً آنذاك.
لا أحد في بغداد كلّها يعلم بالضبط من أين تأتي أفكار الموضة التي يبتكرها حبيبٌ الأنيق. لا أحد يعرف بالضبط خيَّاطه الخاصّ. ولا أحد يدري من أين يأتي بالأزرار والأشرطة الملوّنة على قميصه الوردي أو البنفسجي الجريء جدّاً ولا تلك الرقع المرصّعة لبنطاله الجينز. لكن "شريف الخيّاط" يعتقد أن حبيباً الأنيق صاحبُ خيالٍ ثريٍّ في ابتكار تفاصيل الموضة وأنه يرسم للخيّاط ابتكاراته. ويقال –والعهدة على القائل– إنّه المطوّر الرهيب بخياله المنفلت لموضاتٍ خياليةٍ، وإنه كان ينشرها فيما بعدُ لأبناء جيله منشوراً سرّياً، قبل التجوال والعرض المسائي في الشوارع، بمهمّةٍ يراها مناسبةً لحصد أتباع ثورته على التقاليد وتلوين شوارع بغداد التي يهوى.
لم يكن في ذلك العصر تطبيقات تواصلٍ اجتماعيٍّ ولا محطّات تلفزةٍ أو فضائيات، ولا أحد ينقل له آخِرَ صيحات فِرَق "ذا بيتلز" أو"آبّا". كلّ ما في الأمر أن صديقيه شريف الخيّاط وجبّار الملاكم كانا يذهبان كلّ شهرٍ إلى بيروت ويعودان له بأخبار الصيحات الجديدة في عصر الموضة بقصاصاتٍ ورقيةٍ من مجلّاتٍ أجنبية. هذا السرّ أفشاه بعضُ مناصريه. وبلغت شهرتُه حدّ أن صار له أتباعٌ ومناصرون وخصومٌ، يتراشقون بالكلام كي ينتهيَ المؤيّدون لتقليد ما يبتكره الأنيق لإغاظة فريق المعارضين. وله وحده الحكم على من يقلّده في اختراعاته. كان حبيبٌ يقضي الوقت في آخِر الليل يشرح لشريفٍ الخيّاطِ في دكّانه في زقاقٍ من شارع الخيّام في بداية شارع الرشيد. ويقصّ من وحي خياله ما ينعش مخيّلته وإبداعه بابتكار طرف القميص العُلوي كي يصبح تارةً مثل أذن الماعز الطويلة، وتارةً أخرى كورقة الخسّ الذابلة.
في يومٍ من سنة 1975، تهجّم معارضو الأنيق عليه ليحدّوا من شهرته، إمعاناً في الحسد والمنافسةِ غير النزيهة. كلّ ذلك لما له من حظوةٍ لدى الشباب المتطلّع إلى الأناقة ودحض مقوّمات الذوق التقليدي السائد. هذه الهجمة التي باركها غريمُه صبري حديد انتهت بضرب حبيبٍ على باب سينما أطلس، وإيقاعه أرضاً وتمزيق قميصه الزهري المزركش من الساتان، وشقٍّ طويلٍ لبنطال "التشارلستون". لكنّه أصرّ في اليوم التالي على الوقوف في باب السينما ذاته مرتدياً ثياباً جديدة.
عاد فريق المعارضين للهجوم على الأنيق. وكانت هذه المرّة هجمةً شرسةً بدافع المحافظة على تراث الأمّة والمجتمع. فحاول أكثر من عشرين شابّاً الإطاحةَ به وإجهاضَ ثورته اللونية، فحَلَقوا شعرَه وسالِفَيْه الطويلَيْن ومزّقوا الجينز وشقّوا القميص ولطّخوه بالتراب. بعد تلك الحادثة هاجَرَ حبيبٌ الأنيقُ إلى بيروت وانتهت ثورته، وإن احتفظت بها ذاكرتُنا التي لا تزال تشهد له بأنه رائد الموضة البغدادي. وكما غادر حبيبٌ العراقَ بعد كسر المحافظين والحاقدين ثورتَه في نهايات السبعينيات، كان الجينز الأزرق على وشك الأفول في بغداد هذه المرّة بفعل السلطة السياسة وما نتج عن الحرب العراقية الإيرانية من فرض أزياءٍ وألوانٍ على العراقيين.
حاولت سلطة البعث منذ تسلّمها الحكم محاربةَ الجينز وغيرَه من الثياب الوافدة. وكان أكثرُ المتحمّسين لذلك القمع خير الله طلفاح، خالُ صدّام حسين، الذي عُيّن محافظاً لبغداد مدّةً قصيرةً أعقبت تولّي البعث السلطةَ في يوليو 1968. وفي عهدته تلك دعا طلفاح إلى "محاربة الاستعمار والإمبريالية" بوَأدِ الثياب الحديثة التي بدأت بالظهور في الشارع البغدادي قبل تمدّد شعبيّتها. استجابةً لقراراته شنّ رجال السلطة حملاتٍ ضدّ طلّاب الجامعات ممّن يرتدون البناطيل التشارلستون والجينز، فردّ الشباب بموجةٍ من السخرية والتسفيه أثارت غضب السلطة التي صعّدت من حملتها وباتت تطارد الشباب والفتيات في الشوارع. بعد ترك طلفاح منصبَه هدأت الحملة واستسلمت السلطات وتركت الجينز ينتصر في ثورته في بداية السبعينيات. لكن الحملة على الجينز ما لبثت أن عادت إلى شوارع بغداد في 1978 مع تولّي القيادي البعثي سمير الشيخلي منصب أمين العاصمة.
في بداية الثمانينيات فرضت السلطة القومية ارتداء "الزي العربي" المكوّن من ثوبٍ وكوفيةٍ وعقالٍ في بعض الأماكن في أيام الإجازات والعطلات الرسميّة وحفلات الليل في مزارع أُعِدَّت لهذا الغرض، ومنعت ارتداء الجينز "الاستعماري" في تلك الأماكن. في تلك الأثناء وقعت حادثةٌ شهيرةٌ سنة 1983 في جامعة بغداد، يوم قرّع الدكتورُ أحمد الكبيسي طالبةً على ملابسها "الإفرنجية" أمام زملائها، فردّت عليه: "ولماذا ترتدي الرباط والبدلة الغربية وتدرّسنا علوم الفقه؟". نُشِر الخبر في جريدة جامعة بغداد من ذلك العام، التي أضافت أنه في اليوم التالي جاء الدكتور الكبيسي "رجل الدين التقليدي" إلى الكلية مرتدياً الزيّ العربيّ، الذي لا يزال يتمسك به إلى اليوم، وأقنع العميدَ ومجلسَ الكلّية أن هذا الزيّ هو المناسب عربياً وإسلامياً في الجامعات.
وهناك صورةٌ أُخرى تُظهِر حجمَ الخلاف بين المثقفين والسياسيين حول الجينز. ثمّة علاقةٌ وطيدةٌ ربطت بين الشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري مع البعثي المثير للجدل صالح مهدي عمّاش. وبينهما مساجلةٌ شعريةٌ سنة 1969 وقتَ كان عمّاش وزيراً للداخلية في العراق، فأصدر قراراً غريباً بصبغ سيقان النساء اللواتي يرتدين التنورة القصيرة (ميني جوب)، وتمزيق بناطيل الجينز، وحلاقة شعور "المتخنفسين". فأرسل الجواهري –وكان وقتئذٍ في براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا– قصيدةً نشرتها جريدة "عراق اليوم" بعنوان "رسالة مملّحة"، وإن اشتهرت بين الشباب بِاسمِ قصيدة الميني جوب، جاء فيها:
أأبا هُدى شوقٌ يلحّ ولاعجٌ يزكي الشغافا
نُبِّئْتُ أنك توسِع الأزياء عتّاً واعتسافا
وتقيس بالأمتار أرديةً، بحُجّةِ أن تَنافى
[…] أتَرَى العفافَ مقاسَ أقمشةٍ.. ظَلَمْتَ إذن عفافا
عندما قرأ صالح مهدي عمّاش القصيدةَ وعتبَ الجواهري عليه، ردَّ بالوزن والقافية ذاتهما في قصيدةٍ جاء فيها:
فعلامَ نَمرحُ والسويس تُدَكُّ بالنار انقذافا
للّاجئات المقبلات الطول أَولى أن يضافا
راشيل تضربنا رصاصاً دمدماً غدراً بيافا
والموشي يغترف الدماء القانيات بها اغترافا
وشبابنا يتخنّثون خنافساً هوجاً عجافا
[...] نبغي من النسوان تربية البراعم والعفافا
سَلْها، أيُعجِبُها المخنفس أن يُزَفّ لها زفافا؟
يُقال إنه عندما وردته قصيدةُ الردّ، ضحك الجواهري وهزّ يده ثمّ ارتدى الجينز الأزرق والتقط صورةً لنفسه بالجينز وأرسلها إلى صالح مهدي عمّاش.
بدلة السفاري هي طقمٌ متكاملٌ اعتاده المسؤولون في نواحٍ عدّةٍ في المشرق العربي، خصوصاً في العراق ومصر. وهو زيٌّ وافدٌ من الدول الاشتراكية المحافظة. ظهر في العراق في نهاية السبعينيات واستمر مسيطراً على مظهر المسؤولين والموظفين الحكوميين حتى التسعينيات. ففي بداية سنة 1979 ذهب محمد عايش، رئيسُ نقابات العمّال، على رأس وفدٍ عمّاليٍ إلى الصين للاطلاع على المصانع. وفي زيارةٍ لأحد مصانع الألبسة أُهدُوا بِدَلَ السفاري المكوّنةَ من قميصٍ وبنطالٍ من اللون والخامة نفسيهما. وعندما عاد الوفد إلى بغداد خرج أعضاؤه جميعاً من الطائرة مرتدين السفاري ليبدأ انتشاره بين العراقيين.
مع استمرار الحرب، اهتمّت الدولة بكلّ سلطاتها الدنيا والعليا بتغيير أزياء العراقيين. فأنشأت مصانع نسيج مدينة أور بالناصرية جنوب العراق لصناعة الأقمشة الخاصّة بزيّ الحرب، وقسمٌ منها خُصّص لقماشٍ زيتونيٍ اختصّ به "الرفاق" من كبار رجال السلطة. في الوقت نفسه كان الجينز قد انتشر بسرعة النبات البرّي في كلّ مكانٍ من المدارس الثانوية إلى الشوارع العامّة. غير أنّ سلطة الجامعة والكلّية استحدثت فكرة "الزيّ الموحّد". يتكون الزيّ الموحّد من معطفٍ كحليٍّ وقميصٍ أبيض وبنطالٍ رماديٍّ بحجّة رفع شعار المساواة بين الجميع. استُحدِث هذا الزيّ موضةً محايدةً لا يمكن لأحدٍ الطعنُ بشرعيتها أو الاختلاف عليها. مع ذلك حدثت بعض التمرّدات في حفلات التعارف أحياناً، بارتداء ملابس مقاربةٍ للجينز، وهو ما تسبب بمشاجراتٍ مع رجال الاستعلامات في كلّ كلّيةٍ، لفرز من يلتزم بالزيّ الموحّد عن غير الملتزمين.
لكن مع استطالة أمد الحرب العراقية الإيرانية، انشغل النظام بإدامة المعركة الضروس وترك شأن الأفراد في اختيارات ما يناسبهم من أزياء. وعندما حلَّ ظلام الحروب وطغيان الزي العسكري على الحياة العراقية، بقي هامش الجينز على تقلّص انتشاره في الجامعة وبعض الشوارع. لكنّ الطلب عليه كان خجولاً مع طغيان زيّ الحرب ورضى السلطة عن اللباس العسكري تعبيراً عن القوّة المناسبة لإدامة الحرب.
في هذا الفضاء المشحون، حاول تجّار بغداد شيطنةَ فكرة الجينز باستيراد قماشِ الدِينِم الذي يُخاط منه الجينز لتصنيع الملابس محلّياً. لكن الخيّاطين فشلوا فشلاً ذريعاً في إقناع الشباب ببناطيل الجينز الجديدة المُخاطة محلّياً. وفي هذه الأثناء ظهرت الفتيات مرتدياتٍ بنطال الجينز وبلا اعتراضٍ من المجتمع، بل وجده البعض أستر للفتاة من الإزار القصير الذي يُظهِر بعض أجزاء الجسد عند هبوب الريح العالية أو أثناء الجلوس. هذا القبول بات ملحوظاً في حافلات النقل وفي شوارع النزهة ببغداد. إنَّ فكرة الجينز تشرعنت فكرةً ذكوريةً في بدايتها لخشونة الملمس ورمزيتها عند مستخدميها من الذكور. غير أنَّها تأنّثت شيئاً فشيئاً حين تبنّت الإناثُ تمزيقَ وثيقةِ احتكار الذكور البنطالَ. تماهت السلطة تدريجياً مع فكرة فتح عنق الزجاجة لترتدي الأنثى ما يناسبها. ربما كانت السلطة تعمل بمبدأ "الضد النوعي" للطرف الآخَر في إيران الذي يمارس حصاراً قاسياً على أردية النساء.

الصورة من شارع بغداد سنة 1989 | خدمة غيتي للصور
بدأ العقد الأخير من القرن العشرين بقرارِ صدّام حسين اجتياحَ الكويت. وكانت النتيجةُ هزيمةً عسكريةً وحصاراً خانقاً جعل الجوع والفاقة الجماعية فصلاً طويلاً من فصول تاريخ هذا البلد المتقلب. بدأ الحصار المؤلم بفرض شُحّ الرغيف وانتهى بأزياء مخترَعةٍ من بطن الجوع ذاته. إذ جاء الحصار الاقتصادي المفروض على العراق بعد أربعة أيامٍ من غزو العراق الكويتَ، ليدفع العراقيين لاختراع جينزٍ جديدٍ يواكب عصر الجوع. فعقب الحصار صار الجينز قادراً على مواجهة الفقر بقدرته على تحمل الاستهلاك مُدداً طويلةً وصلاحيته للعمل والنزهة معاً. السلطة التي حاربته رفعت يدَها عنه بعدما أصبح مناسباً للحالة الاقتصادية التي يمرّ بها المواطن العراقي. ووفّرته عصابات التهريب بأسعارٍ معقولةٍ في سوق المستعمَل. وتوسّعت أسواق المستعمَل "البالة" خارج بغداد، وامتدّت في كلّ رقعةٍ من أرض العراق.
كذلك برزت الحاجة إلى خيّاطين مهرةٍ يجيدون مهمّة الترقيع الفنّي. ثمّة علاماتٌ صغيرةٌ تُخاط على مناطق الشقوق لتزيّنها كذباً بالعلامات وتخفي عيوبها. فقماش الجينز يتحمّل هذا الهتك والاستعمال الدائم والترقيع بِاسم الموضة. شخصياً استطعتُ أن أعيد تهيئة بنطال الوظيفة الرمادي وأستخدمه ثلاثَ مرّات. قلبته على بطانته فغدا جديداً ثمّ بعد سنةٍ ونصفٍ أعدتُه من جديدٍ لمظهره الأوّل فكان مقبولاً. وفي المرّة الثالثة كاد الخيّاط أن ينتحر بعدما تمزّق القماش بين يديه.
كذلك برز خيّاطون مختصّون في قلب البطانة بعد صبغها في الأسواق الشعبية لإظهار البناطيل بصورةٍ أبهى. أيضاً انتعش سوق الخيّاطين المَهَرة بخياطة بطانيات الجيش المقلّمة على شكل معاطف تقي من برد الشتاء. أرخى الحصار الاقتصادي بظلاله على كلّ مجالات الحياة. حتى النسوة بِتْن يقلبن العباءات السُودَ أكثرَ من موسمٍ، بعد أن يبين قِدَمُها. ثمّة صبغٌ من نباتاتٍ وأعشابٍ يُدعى صبغ "الدودة" قد سَتَرَ الجميعَ بطغيانِ لونِ الحصار الأسود على فئاتٍ محاصَرةٍ فعلياً.
اكتفى موظّفو الدولة وشرائح قاع المجتمع ببنطال جينزٍ واحدٍ ومن دون جوارب ومعه قميصٌ مشترَكٌ للعائلة. في المقابل حافظت السلطة على زيّها الرسمي، المكوّن من الزيتونيّ بمستوياتٍ عدّةٍ تنتهي ببدلة السفاري ذائعة الصيت، مع ما أصابها من رتقٍ وتمزيقٍ واستهلاك. لكنّ بعضهم أصرّ على إدامتها بالترتيق الفنّي، وهي موجةٌ جديدةٌ من ابتكار زيّ الحصار. ظَلّ الرئيس صدّام حسين ينفرد بارتداء الزيّ الزيتونيّ الخاصّ جدّاً قماشاً والفريد لوناً المستورد من كوريا الشمالية له شخصياً، ولا يُسمَح بتقليده مطلقاً.
تحت فضاء العوز هذا انتعشت فكرة البحث عن الدولار في جيوب الملابس المستعملة المهرّبة إلى البلد. تلك أكذوبةٌ انطلت على الجميع سنين طالت حتى صدّقها الباعةُ أنفسهم. وبانتهاء التسعينيات ووداع طيفها الأسود الثقيل، جاءت الألفيةُ حاملةً معها اجتياحاً واستيلاءً على الموارد أضاف إلى الحصار. ولَم يتعافَ العراقُ اقتصادياً من أثر العقود الثلاثة المدمّرة التي بدأت في أغسطس 1990 إلّا في سنة 2023 إذ انتعش اقتصادُه بعضَ الشيء. لكن تلك الانتعاشة بدأت موجةً شرسةً في انفتاح السوق العراقي بثورةٍ مهلهلةٍ في كلّ شيءٍ، أزاحت الجينزَ عن عرشِه وأتت بموجاتٍ كارثيةٍ من الأزياء تقلب موازين الذائقة الاجتماعية في ما قيل إنّه عصر الديمقراطية الجديد.
