السودان المفقود.. يوميّات امرأة سودانية في أيام الحرب

هذه يوميّات امرأة في حرب السودان، ابنة عائلة توارثت النزوح مراراً. واليوم تعيش تجربةً سمعت عنها من جدّتها ووالديها، وتوثّقها لنا.

Share
السودان المفقود.. يوميّات امرأة سودانية في أيام الحرب
اختفاءُ الناس في السودان صار مثل اختفاء السلع في الأسواق | تصميم خاص بمجلة الفِراتْس

قديماً إبّان الحرب الأهلية الأولى في السودان من 1955 إلى 1972، جنوبيّ البلاد، تركَ أهلُ جدّتي لأُمّي قِدرَ الشاي على اللَّداية، أي الموقد، في المنزل ونزحوا شمالاً. تركوا منازلهم في الصباح الباكر مثل أيّ يومٍ عادي. منازل نظيفةٌ ومرتبة وكلّ شيءٍ منظّم. ولم يعودوا إليها حتى الآن. ثمّ دُمّر كلّ شيء. ما فتِئَت جدّتي تذكر ذلك اليوم حتى وفاتها: هنا كانت بيوت زينب الممتدّة في أراضيها الواسعة في عدّة مناطق مختلفة بالجنوب، حيث عاداتنا وتقاليدنا ولغتنا الأم. وبعد، أصبحنا ما ترونه الآن. لا ننتمي سوى للقِدر الذي يحلو لي تخيّله باقياً مكانَه، على اللَّداية، فوق الحطب الذي قطعناه بأنفسنا ولا يزال مشتعلاً. وتحب جدّتي أن تقتطع المشهد مجيء زوج أمّها لينبّههم بذعرٍ أن الحرب طالتهم وعليهم مغادرة البيت فوراً.

كلما قصّت جدتي لنا الحكاية تقولُ إنهم تركوا أنفسهم في البيت عندما غادروه. وتصمتُ برهةً ثم تواصل حكايتها عن رحلة النزوح الشاقّة بعد وصولهم مدينة الرنك، الواقعة شمال دولة جنوب السودان اليوم. ساروا في طريقٍ طويلٍ تحكمه نقاط تفتيشٍ لا تشبه التي نعرفها اليوم. ففي تلك الحرب تُقتلُ حسب لونك أو لسانك أو قبيلتك، والسبيل الوحيد للنجاة أن تكون أسودَ البشرة بلسانٍ غير عربي.

نزح أجدادي في السبعينيات. واليوم يعيد التاريخُ، أو بالأحرى يعيد السودان سيرتَه الأولى. لأعيش، وأنا بنتٌ من الجيل الثالث في أسرتي، تجربةَ الحرب والنزوح ذاتَها التي لا تنفكّ تلاحق أجيال عائلتي في كلّ ركنٍ من السودان نرتحل إليه.


عرفتُ مفهومَ الحرب وما هي عليه من حكاية جدّتي أكثر من مطالعتي قصصها في الكتب. ومع ذلك أعتقد بأني لم أفهم الحرب، ولم أستشعر في أيام الحرب الأولى، أي بعد 15 أبريل 2023، خطرَها المحدق بنا أو ما ستؤول إليه أحوالنا بتفاقمها. فهذه تجربتي الأولى معها. بدأتُ أفكر بالحروب وأسبابها جديّاً، ولم أفهمها حتى الآن. ولكني، وإن كنتُ لا أستطيع شرح شعوري باللامبالاة إن متُّ أو عشت، فهمتُ الآنَ جيّداً معنى أن تترك منزلك دون تفكيرٍ تحت تهديد الموت. وأتذكرُ الآن أجدادي الذين مرّوا بتجربةٍ مماثلة. أحزنُ لحزنِهم وأقدِّر شعورَهم أكثرَ، بعد مروري بالتجربة نفسها.

مع بدء الحرب في السودان، يوماً بعد يومٍ، اضطررتُ للتعامل مع أشياء لم تخطر عليّ. ومن ذلك مثلاً "التدوين المدفعي"، وهو أسلوب الجيش وقوّات الدعم السريع في إثبات الوجود وإنذار العدوّ. كذلك أصوات الرصاص، والقذائف الصاروخية التي تهزُّ المنازل أو تنهار بسببها، وموت الآخرين، والنشرات الإخبارية التي تنذر دائماً بكارثية الوضع وتفاقمه المستمر. صعوبةُ النوم، ونوبات الحزن، والأسوأ ألّا ندري ما القادم. كلّ هذا أنهكنا سريعاً، ناهيك عن الهلع والخوف وسماع كلماتٍ مثل انتهاك واختفاء وموت وإصابات واعتداءات، وتوقف خدمات الكهرباء، والماء، وصعوبة العثور على الأدوية، والنقص في الطعام. صار علينا أن نتكيّف وندبّر شؤوننا.

كنّا في شهور الحرب الأولى وحدنا بالعاصمة الخرطوم نشهد كلّ شيء. نراقب القتال ونحتاط منه. وفي ذاكرةٍ من شمعٍ رُسِمَت صورٌ واضحةُ المعالم لما يحدث. صورٌ لم تُمحَ أبداً في ليالٍ طوالٍ عاشتها ثلاثة أجيال. سبعون عاماً تخلّلتها حروبٌ عانت منها وورثتها أسرتي، بين جنوب السودان وغربه، من نزوحٍ ولجوءٍ وتشرّدٍ وفقدٍ وجوع.

أدركتُ في لحظةٍ ما أنّ الحياة تغيّرت، وأن الحرب في السودان أصبحت واقعاً مفروضاً علينا. بعد أسبوعين متتاليين من زخّات الرصاص والقذائف الصاروخية، واحدةً إثرَ أخرى، في الشهر الأول من الحرب.

جنوب الخرطوم، هطلَ مطرٌ توقّف معه كلّ شيء. في تلك الليلة أصلحنا ثقباً وسطَ الغرفة أحدثَته رصاصةٌ، ثم جمعنا الماء المتسرِّب بعد أن بلّل المطر كلّ شيء. تفقّدنا بقيّة المنزل، وعُدنا لنجلس في الغرفة تحت الثقب الناتئ الملتئم حديثاً. بين الحين والآخَر يقطعُ صوتَ المطر صوتُ إطلاق رصاصتين أو أربعٍ من مكانٍ بعيد. وقفتُ في مكانٍ عالٍ أعاين الوضع، وأحسستُ بضآلتي تنكشف وبدا لي أن ساقَيَّ الضعيفتين داخل البنطال الواسع سترتجفان في أيّ لحظة. علمتُ أن أخي، الذي أكبُره بأربعة أعوامٍ، لاحظَ ذلك وبدا لي أنه سيتفوّه بتعليقٍ ما، ولكنه لم يفعل. كنّا نرتجف مبلّلين وخائفين، والمطر في الخارج لا يُنبِئ عن توقُّف. لَعَنّا المدينة والحرب، وسِرّاً تمنّينا أن تشفى البلاد.


بالكاد عاش السودان سنوات سلامٍ طوالَ نصفِ قرنٍ من الاستقلال. لا تكاد تنتهي حربٌ حتى تبدأ أُخرى تُودي بحياةِ أبناء البلد. وانشقَّ السودانُ إلى بلدان جديدةٍ، لكلّ واحدةٍ تَرِكَتُها من الفشل، فشلٌ نفسيٌّ وسياسيٌّ وجغرافيّ.

لكثيرٍ من السودانيين قصةُ نزوحٍ ورحيلٍ دائم. رحيلٌ من أجل التوسع أو العكس. ونزوحٌ قسريٌّ وهجرةٌ وهلاكٌ بسبب النزاعات والحروب وأحياناً المجاعات. فالحركةُ والنزوح سبيل نجاة السودانيين والسودانيات، جماعاتٍ ووحداناً. وطبعاً ليس كلّ النزوح سواءً. فالنزوح الموسمي للرعي مثلاً، أو الرحيلُ من أجل العمل أو التعليم، مختلفٌ عن نزوح الحرب.

هناك أيضاً هجرةٌ مؤقتةٌ من الريف إلى المدن. نَمَت مدن السودان سريعاً، بدءاً بالخرطوم ثمّ نيالا ومؤخّراً جوبا العاصمة الجنوبية. انتقل القرويون من الضواحي إلى المدن وأصبحوا حضريين، وإن عاشوا في فقر. تجري هذه التنقّلات المكانية الآن على قدمٍ وساقٍ في معظم ولايات السودان بسبب الحرب الدائرة. يبحث الجميع عن مساحةٍ صغيرةٍ آمنةٍ له داخل هذا البلد الآيل للسقوط وخارجه. فلا يكادُ امرئٌ أو جماعةٌ يحطّون رحالهم بعد ارتحالٍ شاقٍّ ومُهلِكٍ، إلّا وشرعوا بعد استراحةٍ قصيرةٍ مؤقتةٍ بارتحالٍ جديدٍ من حيث انتهى الأوّل. ومن موقعي قربَ خطوط النار، رأيتُ رأيَ العينِ قوافلَ البَشَر هذه تَتْرَى. وقد مررتُ بإحداها وعايشتُها. وربّما لغايةٍ أجهلُها، عدتُ أدراجي بعد رحلة نزوحي الأولى من الخرطوم في 28 يونيو 2023 لأشهدَ مزيداً.

بالقرب من خط النار تصطبغ الأشياء بصوت الحرب ورائحتها ولونها. تحضرُ الحربُ في حياتنا اليومية بقضّها وقضيضها. فالأسلحة منتشرةٌ في كلّ مكانٍ، ورائحة البارود والدم، وأصوات الأسلحة الثقيلة تهدر بلا توقّف. العجزُ في الطعام والماء والكهرباء والخدمات الأخرى أصبح معتاداً عند السواد الأعظم. واختفاءُ الناس صار مثل اختفاء السلع في الأسواق.

العاديّة تطغى حتى على أشدّ الأفعال فظاعةً. ولا يناقش أحدٌ لِم لَم تعد حياتنا طبيعية. فالموت أصبح خبراً متداولاً، مثله مثل تغيّر أسعار السلع. والاختفاء القسري والانتهاكات التي ترتكب طوال الوقت صارت موضع نقاشٍ عاديٍّ بين الناس. أرى الوجود الآن بعدسةٍ رماديةٍ، عدسة الواقع الذي صنعته أيدٍ كثيرةٌ متعاقبةٌ على السودان، حتى صيّرته مكاناً خالياً من الألوان، وجرّدته من غلالة السحر التي يصبغها شعور الاحتفال بأثر الحياة في الأشياء والناس.


رحلة نزوحي الأولى بدأت من العاصمة الخرطوم إلى مدينة كوستي بولاية النيل الأبيض. في طريقنا مررنا بنقاط التفتيش والارتكازات المتناثرة في كلّ مكان. واسترجعنا أنا ووالدتي تاريخَ أسرتنا الذي يعيد نفسه كلّ مرّةٍ، مأساةً فقط. حكت لي والدتي –التي تمتدّ جذورها عميقاً في بحر الغزال جنوب السودان– أنَّ أسرة أمّها التي استقرّ جزءٌ منها في منطقة السامراب، وجزءٌ في منطقة الديم بالعاصمة الخرطوم، لم يعودوا أدراجَهم أبداً ولا حتى للزيارة. وبعد قرابة ستّة عقودٍ، طالتهم الحرب مرّةً أخرى في الخرطوم، ليتجرّعوا المرارة نفسها التي ذاقوها في السبعينيات.

يروي والدي تجربة نزوحٍ مماثلةٍ خاضتها أسرته بسبب الحرب غرب السودان بعد نشوب صراع دارفور سنة 2003. يحكي والدي عن أحداثٍ عصيبةٍ شهدها وأسرته. ويتذكر كيف وقفت أمّهُ في ساحة المنزل وأبناؤها حولها، محاولةً تهدئتهم وطمأنتهم بقولها مبتسمةً: "ما تخافوا يا أولادي، بنمرق من هنا إن شاء الله". ولم يكن أمامهم إلّا الموت أو حمل السلاح، فهجروا البلاد وابتعدوا مجدّداً في نزوحٍ أبدي. أفرادٌ هامشيّون، ولو كانوا في بلدتهم الأمّ، وسط دارفور. نزحوا شباباً إلى الهامش في الخرطوم فغيَّروا مِهنَهم ومُنِحوا هوياتٍ جديدةً، ولكن ظلّوا أفراداً من الهامش وفيه. وبغضّ النظر عمّا وصلوا إليه، فإن العيون هناك تزدريهم. أخبرني أبي بكلّ ذلك في أثناء رحلةِ نزوحٍ جديدةٍ شملتني وإخوتي، جيلاً ثالثاً يعيش تاريخاً مُعاداً.
مكثتُ في ولاية النيل الأبيض ستّة أشهرٍ ويومين، بعيداً عن البيت مصابةً بالحنين إلى المكان. كانت تجربةً نوعيةً لم أعِشْ مثلَها من قبل. في العشرين عاماً الماضية لم أنَم ليلةً واحدةً خارج العاصمة الخرطوم. وفي النيل الأبيض بدت كلّ المشاهد ضبابيةً. لا شيء يسعد القلب على امتداد البصر. وفي لحظةٍ ما، نهاية سنة 2023، قررتُ العودة وسط الحرب والدمار إلى الخرطوم. إلى البيت، بيت أمّي.

ما إن وصلتُ الخرطوم، ولاحت لي منطقتي التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع جنوب العاصمة، حتى رأيتُ الورود في أفواه البنادق. صورةٌ تنمّ عن تناقضٍ لا تخطئه العين. وكلّما خَطَوتُ في المكان اتّسعت دائرة التناقض لتشمل كلّ شيء. فالمركبات المحلّية منزوعة الأسقف ومزيّنةٌ بالورودِ في الحوافّ والأسلحة في المقدّمة. سياراتُ القتال بباقات ورودٍ بلاستيكيةٍ ضخمةٍ على النوافذ، وفي حوضها "دوشكا" وعناصر بشريةٌ تمتشق أسلحةً خفيفة. الدراجات النارية مزيّنةٌ بأضواء ملوّنة. حتى الحمير قُلّدت أعناقها بأكاليل مبهرجة. والموسيقى لا تتوقّف البتّة.

أنا الآتية إليهم بأفكارٍ مبتذلةٍ عن حروبٍ لا تجتمع فيها الموسيقى مع السلاح، لم أرَ سوى التناقض. واكتشفتُ أننا لسنا وحدنا المهمومين بالحياة. فالمشغولون بالحرب يعكفون على الحياة.


عشتُ تجربة الحرب في العامين الماضيين، ومررتُ بثلاث تجارب نزوح. وخضتُ تجربة العيش في منطقةِ سيطرةٍ عسكريةٍ تحت حكومةِ أمرٍ واقعٍ، كما لو أنني في كشمير المحتلّة من الهند.

مكثتُ عاماً ونصف العام جنوبَ الخرطوم في منطقة "الكلاكلة اللفة". كانت منطقتنا ولا تزال، مثل باقي العاصمة، تحت سيطرة قوات الدعم السريع منذ شهور الحرب الأولى. انتشرت القوات في كلّ مكانٍ، في الأحياء السكنية والأسواق والمصالح الحكومية. عاملوا المدنيين بفظاظةٍ وعنفٍ، وفرضوا نوعاً من حياةٍ طبقيةٍ في مناطق سيطرتهم. فكنّا لا نخرج من المنزل إلّا لماماً لجلب الضروريات. لم يمنعونا من الحركة، لكن رَدَعَنا الخوف والهلع، فلم نرغب بالخروج.

إلا أني كنت أخرجُ ما استطعت. وفي حديثٍ قصيرٍ لي مع "حكمدار خلا"، القائد العسكري في قوات الدعم السريع الذي انتقلَ للسكن في المبنى المقابل لبيتنا مع أسرته وجنوده، قال بزهوٍ: "الدعامي [مجنّد الدعم السريع] يجازف سلاحو براهو [يحصل عليه بطريقته الخاصة]"، وليس من مؤسسةٍ توفّر له زيّه العسكري أو تُجري عليه راتباً أو ضمانات. و"بعد ده بتسابق كمان عشان يمشي المقدمة تفتكري ليه؟". اكتفيتُ بالنظر إليه. فأردَف: "عشان القضية، عشان التارات، عشان كلنا نبقو واحد في البلد ده وماف شجرة ما حتهبّا الريح [ولن توجد شجرة لن تمسّها الريح]". يقصد أن الحرب ستعمّ البلاد كلّها.

لم أعقّب على كلامه بشيءٍ حتى لا ندخل في سجالٍ عقيمٍ، فكلانا عالِمٌ ببواطن الأمور. كلانا يرى النهب والسلب والترويع والانتهاكات التي تحدث، وطبيعة الحياة التي فرضتها قوّاته ويخضع لها الناس كرهاً في أجزاء واسعةٍ من مناطق سيطرتهم حالياً، حيث تغيبُ مؤسسات الدولة تماماً.

بغضّ النظر عن مدى نزاهة تلك الدولة أو صلاحها أو عدلها عندما كانت ما تزال فاعلةً بهياكلها قبل الحرب، فالفرق بينها وبين حكومة مناطق السيطرة الحالية –أو الدول المصغَّرة– هو أنَّ الأولى كانت تملك أيديولوجيا تشرعن وتبرّر بها ممارساتها وقمعها. أمّا هذه الأخيرة فلا يبدو أنها تملك أيّ فكرٍ، بل تكتفي بالعنف المباشر.

لَفَتَني حديثٌ للفيلسوف الساخر سلافوي جيجك، ينتقدُ فيه أطروحةً يروّج لها الطبّ النفسي مفادُها: إذا تعرّفتَ على عدوّك وروى لك قصّةَ حياته الشخصية وأحلامه ومخاوفه وتطلّعاته إنساناً، فلن يظلَّ بعدَها هذا العدوُّ عدوّاً. وهذا "مجرّد هراءٍ طبعاً"، يقولُ جيجك بلهجته الحادّة والساخرة، فالعدوّ يظلّ عدوّاً طالما اختار هذا المسارَ وتجاهل خياراتٍ أُخرى أقلّ عداوةً ووطأة. اختارَ العدوُّ ما هو فيه الآن، ويحتلّ مدينتَك ويعطِّل الحياة فيها. وها هو أمامك يتابع سرد تفاصيل حياته الشخصية. هذا ما تفعله قوات الدعم السريع في أماكن انتشارها. يسوّقون خطاباً عاطفياً للتواصل والتفاهم مع المدنيين القابعين تحت سيطرتهم.

لم أتوقع أنَّ لِخطر الموت صورةً ماديّةً، حتى رأيتُ ناسي من خلف الشاشات الزجاجية مغلوب على أمرهم في شتى الأرجاء، يفرّون من نيران الحرب نساءً ورجالاً وأطفالاً في عناء. الجسر الذي تهدّم فوق النازحين الفارّين من قُراهم في نيالا. شعوب الخيام، كما يطلِق عليهم محمود درويش، في المخيمات ومراكز الإيواء خارج السودان وداخله. رأيتُ رجالاً مذلولين مُهانين نصفَ أحياءٍ، وأُسراً بأكملها وسط البلاد وغربها محاصَرين تارةً ومعزولين جائعين تارةً أخرى، يُعامَلون بقانون "حكم القويّ على الضعيف". سمعتُ قصصاً من نساءٍ عُزّل أُحيلت أجسادهنّ جبهات قتالٍ في هذه الحرب.

أتخيّلُ ديستوبيا هذا القرن: أجزاءٌ واسعةٌ من العالم تحكمها الميليشيات سنواتٍ طويلةً، بوصفها الحكومة الوحيدة القائمة والمقدّرة قيادة هذه الأجزاء وتقرير مصير من فيها. وضحايا هذه الميليشيات مدنيّون مغلوبون على أمرهم، عليهم المقاومة. وهي، غالباً، مقاومةٌ سلبية. إمّا بالرضوخ أو التبعية أو الهروب، لا خيارات أُخرى متاحةٌ إلّا حمل السلاح. فالمسؤولون عنهم والجهات التي يفترض أنها "نظامية" في البلاد لم تحمِهم.

أوقات السلم مختلفةٌ عن زمن الحرب. فزمنُ السلم للحياةِ وتبعاتها، وزمنُ الحرب سعيٌ للنجاة. وأنا أحاول أن أنجوَ ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً. أجرّب معالجة نفسي بممارسة الكتابة والقراءة، وسماع الموسيقى، وبالمشي المقيّد في الشوارع حول منزلي. وبالفُرجة، وتأمّل الأشياء من منظورٍ آخَر، بالمكابدة وخلق جمالياتٍ صغيرةٍ وسط الخراب. أفكّرُ في أهلي، في تجاربهم مع النزوح والحروب. وأفكّر في الحرب نفسها وتداعياتها علينا، نحن النساء السودانيات عامّةً، ونساء أسرتي خاصة. على افتراض أن الحرب هي ممارسةٌ يسهم فيها الرجل بنسبة مئةٍ بالمئة، وتقع تداعياتها بنسبةٍ أكبر على النساء والأطفال المغلوب على أمرهم. ترتسم هنا أمامي بوضوحٍ صورة الإنسان السوداني، الذي فُرضت عليه الهوية السودانية القومية قسراً مع تنوّع البلاد الديني والثقافي والعرقي الواسع. لقد اختُصرنا في: سوداني وسودانية، وصرنا منفيّين خارج المكان والذاكرة.


أتصفّح كتاب "ذا سودان هاندبوك" (دليل السودان) المنشور سنة 2011 عن معهد "ريفت فالي". يحوي الكتاب فصولاً لعدّة مؤلّفين، يَعرضون فيه طريقةً مختلفةً لقراءة تاريخ السودان باعتباره تاريخ خرائط، ويبحثون وراء قصّة صنع كلِّ خريطةٍ لمناقشتها وإعادة تشكيلها مرّةً أخرى. تلك الخرائط لا تكشفُ فقط كيف تغيّرت حدود البلاد بمرور الوقت، بل كيف أُوجدَ أصلاً ما يسمّى اليوم سوداناً.

قسَّم المستعمر البريطاني البلادَ سياسياً لأقاليم. أراضي الشمال والوسط على طول النيل بين دنقلا والخرطوم، وبين النيل الأزرق والنيل الأبيض. وشكَّل هذا اقتصاد المركز وسياسته للحكومات المتعاقبة في عقود السودان الحديثة. ثم هناك أراضي أقصى الشمال، ممالك النوبة القديمة قرب الحدود مع مصر. ثم إقليم الصحراء شرقاً، الممتد حتى سواحل البحر الأحمر. ثم إقليم شمال دارفور وكردفان في الغرب. وأخيراً خلف كلّ ذلك الجنوب، منطقة الاستوائية، في الحدود الجنوبية لغرب السودان وإفريقيا الوسطى. في بلدٍ مثل السودان، المقسّم سلفاً منذ أن وجد، الانفصال هنا حاضرٌ في كلّ شيء. لا في السياسة والجغرافيا فقط بل في دواخل الناس. واحتمالية حدوثه سياسياً تبدو مسألة وقتٍ لا غير.

في بدايات القرن التاسع عشر أرسلَ محمد علي باشا جيوشَه جنوباً إلى أراضٍ بلا اسم. قروناً بعد أُخرى كانت المنطقة شمال شرق إفريقيا تُعرف ببلاد السودان، أي "أرض السود". أمّا المساحات الشاسعة الخالية في الخرائط التي رُسمت للإشارة إلى الأقاليم جنوب مصر فحملت عدّة أسماء، كالنوبة وكردفان وسنار ودارفور. لم يكن لها اسمٌ واحدٌ يطلق على الأراضي التي حكمها محمد علي باشا وعائلته بين 1820 و1870. شملت تلك الأراضي مناطق مراكز الحضارة القديمة في وادي النيل، والصحراء الشمالية، والغابات الاستوائية ومستنقعات السافانا بينهما، وكل من يقطن هناك من العرب وغير العرب المسلمين وغير المسلمين، وأهلُ المدن والبدو والمزارعون. ومع غياب مصطلحٍ واحدٍ يُطلق على تلك الأراضي والناس، تسلّلت كلمة "سودان" وأصبحت تستخدم أولاً في مصر ثم بعد ذلك في أوروبا كلّها.

في تقدمة كتاب دليل السودان، يجادلُ اثنان من محرّريه، جون رايل وجستن ويليس، بانتهاء السودان الذي بُنِيَ في القرن التاسع عشر على يد السلطة العثمانية المصرية، ولاحقاً بيدِ الاستعمار الإنجليزي على مصر. سنةَ 2011 بانفصال الجنوب، تَبَدّى انتهاء ذلك السودان الذي شكّله محمد علي باشا والبريطانيون دولةً مركزيةً موحّدة الجغرافيا. وكان هذا الحدث من مظاهر تناقضات السودان السياسية والاجتماعية وإرث الاستعمار فيه. ويحوي الكتاب فصلاً للمؤرخ البريطاني بيتر وودوارد، من مؤرّخي السودان الحديث، وعنوانه "دولة السودان الهشّة 1956-1989". يقولُ وودوارد إنّ للتاريخ دوراً مهماً في فهم نظام الدولة الجديدة بعد الاستقلال من الاستعمار البريطاني. فتلك الدولة حاولت تطوير سياسات جديدة وفرضها لإعادة بناء البلد مستخدمين ما تبقّى من تركة الاستعمار. يجادل وودوارد أنّ لدى السودانيين تصوّراتٍ مختلفةً عن تاريخهم وتاريخ بلدهم.

في الجنوب، الذي استنزفته الحروب الأهلية سنواتٍ طويلةً كما في الغرب، يبدو تاريخُ السودان تاريخَ فرصٍ ضائعةٍ لاتفاقيات السلام والمفاوضات مع الحكومة في الخرطوم. ولكثيرٍ من أبناء الجنوب يمثل تاريخ السودان تاريخاً من العبودية في القرن التاسع عشر. إذ يروون عن غارات الشماليين لخطفهم واسترقاقهم ليعملوا بالسخرة جنوداً وخدماً، أو لبيعهم إلى مصر. ولكن بين الذين يسكنون بمحاذاة النيل شمالاً، فالقصة مختلفةٌ تماماً. العبودية هناك غير مرئية. القصة الأساسية هي قصة نضالٍ من أجل الاستقلال عن النفوذ خارجي. عندها لم يكن السودان هو السودان اليوم. اليوم في مدارس الخرطوم يدرس الأطفال قصة ألمك نمر، القائد الشعبيّ الذي قَتَلَ ابنَ محمد علي باشا سنة 1822.

مناهجُ الأطفال تُدرّس على نحوٍ مختلفٍ في بلدٍ مقسّم. فما وقعَ في الشمال يُدرّس على أنه جزءٌ أصيلٌ من تاريخ البلاد القومي، مع أن ألمك نمر نفسه عاش قبل أن يوجد بلدٌ اسمه السودان. وفي الخرطوم اسم أبوقرجة مرادفٌ لبطلٍ قومي ناضل ضدّ مصر وإثيوبيا، لكن الاسم في جبال النوبة يستدعي ذكرى حقبةٍ تاريخيّةٍ بائسةٍ لحاكمٍ عنيف. أما جنوباً في الاستوائية فلا يعني اسم أبوقرجة شيئاً. بالنسبة للجنوبيين، لا يحرّك اسم شارع زبير باشا في الخرطوم حسّهم القومي. فما الزبير عندهم إلّا تاجرُ رقيق. وهذه المهنة تغيب عن صورته التي يستحضرها السودانيون شمالاً، مقاوماً لنفوذ مصر الخديوية فرضَ سيادته على مناطقه دون تدخل خارجي بريطاني أو مصري تركي، ولذا فهو بطلٌ جديرٌ بأن يسمّى شارعٌ بِاسمه.


في طريق العودة إلى الخرطوم نهاية العام الماضي توقفنا لسببٍ لا يعلم كُنهَه سوى السائق نفسه. كنت أجلس بمحاذاة النافذة، وأتت سيدةٌ بتعابير غامضةٍ على وجهها وبابتسامةٍ تشبه ابتسامة النساء من بلاد أمّي. وسألتني بعربيّةِ جوبا: "إتّا بنيّة بتاع غرّابة؟". أومأتُ لها بالنفي، فأردفَت "بنيّة بتاع شُلُلُك؟"، تقصد قبيلة الشلك الجنوبيّة. عندها تحسستُ "طابورا"، وهي وسومٌ تُرسم بالحديد والنار على الجبين ولكلّ قبيلةٍ علاماتها، وهميّاً على جبيني ولم أجده البتّة. فكرّرتُ النفيَ بالإيماء. واصلت السيدة تقصّيها بإصرارٍ، وهذه المرّة كان الارتباك واضحاً على وجهها أكثر من ذي قبل: "طيب بنيّة بتاع دينكا؟"، وهي قبيلةٌ جنوبيّة أُخرى. أجبتها: لا. فقالت "بنيّة بتاع شنو خلاص؟". أجبتها "بنيّة ساي"، أي لا أنتمي لقبيلةٍ، وضحكنا. ولمّا تحرّكنا مساءً قاصدين مدينة الدويم، جلست المرأة بمحاذاتي. لم نتحدث أبداً حتى الغداةِ عند وصولِنا الخرطوم، وحينها افترقنا دون كلمةٍ واحدة.

نشأتُ في منزلٍ يعجّ بهوياتٍ ثقافيةٍ مختلفة. فأمّي من الجنوب وأبي من الغرب، ولي إخوةٌ من الشمال من أمّي، ولدينا زيجاتٌ من قبائل مختلفةٍ، وأقاربُ مترامون في كلّ شبرٍ من البلاد. كثيراً ما سألني الناس "من أين أنت؟". بالطبع يمكنني أن أجيب إجابةً بسيطةً، أنا فلانة ومن كذا، لكني أحسُّ بالزيف فور إقدامي على ذلك. وفي أحسن الأحوال أسردُ تاريخاً طويلاً عن التشكُّل الهويّاتي الذي نشأتُ فيه. ففي البيت الذي وُلدت فيه السودانُ كلّه، بميراثه من الفشل والنجاح، بقبائله ومدنه وعاداته وتقاليده. وهذا التنوعُ الرهيب الغنيّ غنىً أوسعُ من أن يقع على كتف شخصٍ واحدٍ، مثلي أنا.

في رحلتنا رأينا الخنادق محفورةً حول المدن. كل شيءٍ كان يوحي بالحرب. أوّلاً في رَبَك، ثمّ عسلاية، ثم الجزيرة أبا، فيما بعد الشوّال والكوَّه، وهكذا دواليك حتى الدويم. خلّفنا النيلَ بعد الجسر مباشرةً. بدا منحسراً بمقدارٍ بادٍ للعيان. فكّرتُ: "يا ترى، هل هذا انحسارٌ موسميّ؟ مذ متى أصبح النيل بخيلاً هكذا؟ منذ متى وهو يتراجع القهقهرى؟". لا أعرف. ما أعرفه هو أن هذا النيل شاهدٌ منذ الأزل على كلّ شيء. وفي تلك اللحظة تحديداً بدا لي عجوزاً ملولاً، منهكاً وفقيراً، هادئاً ووحيداً، يشبه السودانيَّ اليوم.


قبل رحلة نزوحي الأخيرة إلى أقصى جنوب السودان، وبعد شهورٍ من توقّف الاشتباكات في جنوب الخرطوم، ظهر الطيران الحربيّ في سماء المدينة مرة أخرى. استيقظنا على موجات نزوحٍ واسعةٍ وافدةٍ من المناطق المجاورة لسلاح المدرعات. وتكرَّر ما شهدتُه في شهور الحرب الأولى. خوفٌ وهلعٌ وانهيارٌ نفسيٌّ أفراداً وجماعاتٍ، وموجات نزوحٍ كاسحة. أصوات الأسلحة بمختلف أنواعها وازدياد وتيرتها وانقطاع التيار الكهربائي، وإغلاق الطرق والعودة إلى العزلة القسرية، المفروضة سلفاً منذ بداية الحرب، والترقُّب، ما التالي؟

قررتُ النزوح مرّةً أخرى. هذه المرّة أخذَ الطريق من عمري شهرين. تنقّلتُ بين ولاياتٍ ومدنٍ كثيرةٍ وحدي. حاول الجميع أن يثنيني عن هذا القرار. امرأةٌ وحيدةٌ في الثالثة والعشرين تسافر وتقطع الحدود في رحلةٍ شاقّةٍ على ثلاث جولات. قضيتُ أياماً طويلةً أسافر برّاً في مناطق سيطرةٍ عسكريةٍ ومدنٍ مُعسكرة. الجولة الثانية كانت بحراً طيلة أربعة أيّامٍ شاقّةٍ في قاربٍ ضائعٍ مررتُ فيها بأكثر من سبعة موانئ جنوب البلاد. والجولة الأخيرة كانت ساعةً واحدةً بالطائرة من مدينة ملكال إلى العاصمة الجنوبية جوبا. وحدي في الطريق، مدّة شهرين. من حيث المبدأ، هي الرحلة نفسها التي مرّ بها أسلافي. لكن بطريقةٍ ما، رحلاتي لا تشبه رحلات أهلي، لأنني كنت وحدي على الطريق. الأيام لا تمرّ، أو ربما تدور على المنوال نفسه. لا أعرف. كأنّ الزمان توقّف أو أصابه عطب. الطعامُ مكرورٌ وبلا مذاقٍ معيّنٍ، أو أنني في لحظةٍ ما توقّفتُ عن تذوّقه. كذلك تخلَّى الجميع عن المظاهر المعتادة اليومية الأخرى. ما عدنا نحسب الساعات والأيام. وخيّم حزنٌ ويأسٌ جماعيٌ على المكان.


في آخِر أيامي بالعاصمة الخرطوم قبل ثلاثة أشهرٍ، عندما هدأت المعارك ذات يومٍ، خرجتُ من المنزل ليلاً لأتمشّى دون التفكير في خطورة ذلك الفعل الذي يبدو ساذجاً. الكهرباء مقطوعةٌ منذ أيّام. وفي أثناء سَيري نَضَحَ منّي عَرَقٌ باردٌ ولزجٌ ومزعجٌ، أظنّه عَرَق العزلة والخوف والتوتر. وفي هدأةِ الليل مشيتُ وكأن المشي هو الفعل الوحيد الصحيح في جملة الأشياء المحيطة بي. مشيتُ في الشوارع حول منزلي. كانت المباني العالية ترمي بظلالها العريضة على جسدي الضئيل الهشّ والمُهمَل. مشيتُ ودستُ غير مباليةٍ على الأوساخ والحجارة والأغصان المتكسرة الجافّة منذ آماد. وفكرتُ لو كان لذلك كلّه معنى. فكرتُ في الحرب وتداعياتها على الناس حولي وفي كلّ خطوط النار الأخرى في البلاد. فكرتُ في الرحيل وفي ما آلت إليه المدينة وما ستؤول إليه في الأعوام المقبلة.

تبدّت ملامح يدي كاملةً إذا ما فردتُها أمامي. استغربتُ وضوحَ يدي هكذا حتى إذا ما تلفّتُ ورائي ونظرتُ نحو السماء عرفتُ سبب ذلك. كان القمر مكتملاً، جميلاً مثل ولدٍ صغيرٍ، بلونٍ يميل إلى بياض اللَّبَن. وكانت هناك تلك الغزالة منقوشةً فيه. لا أعلم لماذا، لكن دوماً ما بدت لي تلك الحُفر الصغيرة والكبيرة على سطح القمر كغزالةٍ ما، مرسومةٍ أو منقوشةٍ هناك، وحيدةً، ومعزولةً منذ الأزل.

بين الحين والآخر يقطع الصمت صوت رصاصتين أو أربعٍ من مكانٍ ليس ببعيدٍ، تُنبّهك قائلةً: أنت أيضاً مثلي، ترى الحقائق. ومُذكّرةً كلّ من هناك، رغم توقف أصوات الأسلحة الثقيلة، وهدوء الليل البهيم، أن الحرب ما تزال قائمة. وربما الآن قائد المنطقة يحشد جنوده لدورة معارك أخرى مرتقبة. وهذا السهو، المُتَمثّل في الصمت الوجيز المُدرَك، ما كان سوى وَهم. محض سلامٍ مؤقّتٍ، عمره دقائق فقط لا غير.

أردّد مرّةً أخرى، رحلات نزوحي لا تشبه رحلات نزوح أجدادي، ولكن بيننا قاسمٌ مشترك. خضنا دوماً حرباً ضروساً لأسبابٍ خارجةٍ عن أيدينا. هم لم يعودوا أدراجَهم ولكنّي فعلتُ أكثرَ من مرّة. رحلةُ العودة أخذت منّي ثلاثة أيامٍ بلياليها. وعندما قرّرت الخروج من العاصمة آخِر مرّةٍ أخذت منّي الرحلة أربعة أيامٍ مرعبةٍ في الطريق. يومان في مناطق قوات الدعم السريع في طرقاتٍ مرسومةٍ بالارتكازات ونقاط التفتيش، حيث كنّا نمكث بالساعات للاستجواب. ويومان مثلهما في مناطق قوات الجيش السوداني. وبعدها مكثتُ شهرين في الطريق، وحدي. مررتُ بخمس مدنٍ مختلفة. سافرتُ برّاً وبحراً وجوّاً حتى أصل إلى أرض أمّي في أقصى الجنوب.

أرى البيت الآن فردوساً مفقوداً. أتمنّى أن أعود يوماً، مرّةً واحدةً وإلى الأبد. عودة إلى حيث انتهى الآخَرون من أسرتي، لأن البيت الوحيد الّذي أعرفه بيت أمّي. أتذكّره تحديداً ذات يومٍ، في جنوب الخرطوم بعد الثانية عشر ظهراً، وأمّي جالسةٌ أرضاً منهمكةً في تجديد لحافٍ قديم. تأتي أختي وزوجها ويجلسان. ثم نتجاذب أطراف الحديث وأمّي ما زالت منهمكةً في تجديد لحافها الوثير. يلقي زوج أختي الدعابات علينا فنضحك ضحكاتٍ خفيفةً. ثم تلتفت أمّي وتستلم دفّة الحديث، ويمضي الوقت من غير أن نشعر، وأمّي تقصّ علينا قصص الطفولة والشباب.

اشترك في نشرتنا البريدية