عدتُ إلى الموصل بداية نوفمبر من العام نفسه، ولكن افتراضياً هذه المرّة في معرض "متحف سجون داعش" الأوّل في مقرّ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) بباريس. ارتديتُ نظّارةً ثلاثيةَ الأبعادِ تشبه ما كنتُ أراه في أفلام الخيال العلميّ، ووجدتُ نفسي في جولةٍ تفاعليةٍ رقميةٍ في شوارع الموصل ووسط معالمها التي فتكت الحربُ بالكثير منها. كنت أُمسك قبضةً تشبه مسدّساً صغيراً، أصوّبه على موقع خطواتي الافتراضية، فيقودني إلى الأمام في طرقات الموصل ودهاليزها. ها هنا أقفُ على ضفّة دجلة مجدّداً، أتذكّر رائحتَها الغضّةَ، ثمّ تعتريني رائحةٌ معدنيةٌ حين أقرأُ أن هذا الموقعَ من الضفّة هو أحدُ مواقع الإعدامات التي نفّذها تنظيمُ "داعش".
عندما تصبح الذاكرةُ القوّةَ الوحيدةَ القادرةَ على مواجهة النسيان، يتحوّل التوثيقُ إلى مقاومةٍ حيّةٍ تُعيد تشكيلَ العلاقة مع الماضي وفهمَ الحاضر، فتحطّم دائرةَ الصمت المحيطةَ بالأفعال القمعية. يقف "متحف سجون داعش" الافتراضيّ عند مفترق طرقٍ بين الماضي والحاضر، فيجمع بين وثائق ناجين وشهاداتهم وتقنيّاتٍ افتراضيةٍ تبعثُ الجرائمَ التي يسعى العالَمُ لتجاوزها. يَكشف المتحفُ أن السجون ليست كياناتٍ مادّيةً منعزلةً، بل هي امتدادٌ لأنظمةٍ قمعيةٍ تُعيد إنتاجَ الهيمنةِ جُدُداً وتتّسم بتاريخٍ طويلٍ من القمع المؤسّسي، ما يستدعي أدواتٍ فكريةً لتحليل هذه التعقيدات وفهمها في ضوء عمل المتحف.
يبقى السؤال، أنّى للعدالة أن تُنجَز في أماكن شهدت أقسى صور المحو والإبادة؟ جزءٌ من الإجابة يكمن في تحويل هذه المواقع إلى شواهد حيّةٍ تُمكّن الضحايا من استعادة دورِهم فاعلِين تاريخيِّين، لتصبح أساساً للعدالة وكشف المصير. والموثِّق هنا ليس محضَ شاهدٍ محايدٍ، بل هو فاعلٌ يسهم في تحويل التجارب البشرية إلى أدواتٍ للمساءلة والعدالة، وإعادة بناء قصّةٍ إنسانيةٍ رامَ القمعُ طمسَ معالمها.

بَدَأَت فكرةُ المتحف بحكاية معاناةٍ شخصيةٍ تحوّلت إلى جهدٍ جماعيٍّ يعيد بناءَ الذاكرة ويبتغي العدالةَ وكشفَ مصير المختفين. مدفوعةً بألم الغياب، بدأت عائلةُ محمد نور مطر تبحث عن ابنها المفقود إبّان حكم "داعش" مدينةَ الرَقّة في سوريا. التقت الفِراتْس بأخيه عامر مطر، وهو المدير التنفيذي للمتحف، فقال: "كنّا نعيشُ تفاصيلَ الغياب. أُمّي كانت تصوّر يومياتِها وتحكي له [محمد نور] عبر الكاميرا، وكأنها تؤمن بعودته وتريد أن يرى كيف كنّا نعيش أثناء غيابه". يصف عامر مطر أيضاً كيف تغيّرت حياة عائلته كلّياً، فيقول: "لم نعد نحتفل بأعياد الميلاد، لأننا لا نعرف إن كان محمد نور على قيد الحياة. حتى الطعام الذي كان يحبّه أصبح رمزاً لفقده".
كان البحث عن محمد نور مطر فرديّاً بدايةً، وهو ما دفع عامراً للتمسّك بأيّ خيطٍ يقوده إلى أخيه المفقود. لكن مع مرور الوقت، تحوّل هذا البحثُ إلى رحلةِ توثيقٍ أوسع. بدأت السجون تفتح أبوابها بعد انحسار سيطرة "داعش" لتكشف مقرّات التنظيم عن وثائق وأسماءٍ وقصص. يقول عامر إنه وجد في هذه الأماكن أكواماً من الوثائق والأوراق تخصّ مئاتِ المفقودين ومن بينهم أخوه. يوضح عامر أن العثور على هذه الوثائق فتح أفقاً جديداً، ويقول: "أن تطاردي أشباحاً سنينَ، ثمّ تجدي نفسكِ أمام تلالٍ من الأوراق التي تحمل قصصهم … بدأتُ أتخيّل كيف يمكن لهذه المعلومات أن تكون ذات قيمةٍ هائلةٍ لعائلاتهم، تماماً كما كنتُ أتمنّى أن أجد ما يريح عائلتي".
بحسب موقع المشروع على شبكة الإنترنت، جَمَعَ "متحف سجون داعش" تجاربَ معتقَلين سابقين من سجونٍ حول العالم لفهم التشابهات بين الأنظمة السجنية القمعية ومقارنتها بنظام السجون لدى "داعش" من ناحية "الأحكام العرفية والتحقيقات العنيفة وظروف الاعتقال القاسية". ينطلق العمل من فرضيّةِ أنّ وحشيةَ "داعش" لم تكن استثناءً، بل نتاجاً طبيعياً لسياقٍ تاريخيٍّ تَأطّرَ في ظلِّ أنظمةٍ استبداديةٍ، مثل سجن صيدنايا في سوريا وسجون أبو غريب ومعسكر بوكا في العراق. عاش كثيرٌ من قادة الصفّ الأوّل في "داعش" تجاربَ القمع في هذه السجون "ممّا ساهم في تشكيل ممارساتهم القمعية" بحسب وصف المتحف "وحملوا أساليبَ العنف المكتسَبةَ إلى نظامهم الجديد".
تَحَدَّثَت الفِراتْس مع نور عبدالنور، وهي محرِّرةٌ أساس في موقع المتحف، التي قالت عن قسم المقالات الموثِّقة للتجارب السجنية في المنطقة والعالم: "صحيحٌ أن داعش يتفرّد في بعض الجوانب، مثل أَدْلَجة العنف وتجاوزاته، لكنّه نشأ ضمن سياقٍ من الأنظمة القمعية التي تتقاطع في أساليبها. على سبيل المثال، الشخص المعتقَل لدى داعش يتعرّض للتعذيب بنفس الخرطوم الذي استُخدِم لتعذيب المعتقَل لدى النظام السوري أو لدى نظام صدام حسين. هذا القِسمُ يسعى لخلق مساحةٍ لدراسة مقارَنةٍ غير مباشرةٍ. تُظهر تقاطعاتِ الأنظمة السجنية حول العالم، مع إبراز داعش كنظامٍ قمعيٍّ ضمن هذا السياق العالمي. الهدف هو تسليط الضوء على هذه التشابهات لتوضيح كيف أن القمع ليس استثناءً، بل سلسلةٌ متّصلةٌ من الأنظمة والأساليب القمعية".
كذلك عَقَدَ فريقُ "متحف سجون داعش" مئاتِ المقابَلات مع ناجين وسجانين سابقين لتكوين تصوّرٍ دقيقٍ عن الحياة داخل السجون. عمل فريقٌ من المحقّقين والمصمّمين على تحليل الشهادات والدلائل وتجسيد تفاصيل السجون تقنياً. وحتى الساعةَ، وثّق المتحفُ أكثرَ من مئة سجنٍ ومواقع أُخرى مثل المقابر الجماعية، ولا يزال يعمل على توثيق مواقع جديدةٍ وتحليلها. ويتبنّى المتحفُ رؤيةً مبتكَرةً لإنتاج محتوىً صحفيٍّ يتجاوز الأساليبَ التقليديةَ، إذْ يجمع بين الصحافة الاستقصائية وصحافة البيانات والبحث الأكاديمي في إطارٍ حقوقيٍّ بدلاً من اتّخاذ البيانات جداولَ جامدة. تُحلَّل البيانات تقنياً وتُربط بالتحليل المعماري والتاريخي، ما يضيف أبعاداً جديدةً للمعلومات المقدّمة.

تُوضح نور عبدالنور هذه الفلسفة بقولها: "من وجهة نظري كصحفيةٍ، أرى أن هذا النوع من العمل جديدٌ ومُبتكرٌ، ويتناسب مع طبيعة المتحف في كونه مفهوماً حديثاً وغير تقليديٍّ أو اعتيادي. رغم تنوّع الأشكال التي نكتب فيها، يبقى الهدف واحداً: تقديم محتوىً يخدم قضايا حقوق الإنسان والعدالة بطريقةٍ دقيقةٍ وفعالة".
وتضيف نور: "نعتمد سياسةً صارمةً تهدف إلى تقديم معلوماتٍ شديدة الدقّة، لأننا نعتبر أنفسنا نتعامل مع أدلّةٍ وليس مجرّد معلومات. يقوم عملنا على مستوياتٍ متعدّدةٍ من التحقق تشمل تحليل البيانات وجمع الشهادات والتحليل المعماري الذي يكشف التغيرات التي طرأت على المباني أو المواقع المدروسة".
ترتبط هذه المنهجية الدقيقة بهدفٍ أوسع يتمثّل في كشف الانتهاكات وتوثيقها صراحةً، فتوضّح نور: "هذا العمل، مدعومٌ أيضاً بتحليلٍ معماريٍّ، يكشف التغيّرات التي طرأت على المباني أو المواقع المدروسة. الهدف النهائيّ من المنتَج التحريريّ هو توفيرُ أدلّةٍ صريحةٍ عن انتهاكات الجهات المتورطة. وغالباً ما نركّز على انتهاكات تنظيم الدولة، دون إغفال انتهاكات أيّ أنظمةٍ قمعيةٍ أخرى أو جهاتٍ لعبت أدواراً مشابهة".
ولكن في سجون "داعش" انحرف هذا النموذج. فلَم تكُن الغايةُ إعادةَ التأهيل ولا الإصلاحَ، بل تفكيك الذات الإنسانية وإخضاعها لهيمنةٍ مطلقةٍ بالعنف الجسدي والنفسي. كان تنظيم "داعش" في مرحلةِ تثبيت حكمه أكثر اهتماماً بترسيخ سلطته بفرض السيطرة المُحكَمة، واتّخذ السجونَ أماكنَ لاستجواب الأفراد واستخراج المعلومات باستخدام أساليب الإخضاع الجسدي والنفسي.
باتت سجونُ التنظيم امتداداً لمنطق السلطة السيادية القائم على العنفِ الفوريّ، لا إعادةِ تأهيلِ الأفراد ودمجِهم في المجتمع. وفي ضوء تحليلات فوكو، يمكن فهمُ تجربة السجون التي أنشأها التنظيمُ موسّعاً دورها في احتجاز الأفراد، ليشكّل منها شبكاتٍ واسعةً من السلطة يمارس بها المراقبةَ والإخضاعَ، ما يجعل السجن نظاماً متكاملاً يعيد إنتاج علاقات القوة داخل المجتمع. كذلك أصبحت السجونُ فضاءاتٍ للرعب الجمعيّ، إذ لم تَسْتَبِن تفاصيل ما يحدث داخلها، وهو ما عزّز من هيمنة التنظيم بالغموض والخوف.
يقول عامر مطر في هذا الصدد: "تحولت حياتنا، نحن الأفراد الذين يعيشون في هذه المدن [تحت سيطرة داعش] إلى حياةٍ محاصَرةٍ بالسجون. أيّ منزلٍ يبدو كأنه منزل عائلةٍ قد يكون في الحقيقة سجناً، أو ربما قبو مدرسةٍ، أو جزءاً من مستشفى". هذا التوتر بين العلنية والخفاء يُبرِز تطويعَ العقوبة لتتجاوز الفضاءَ المادّيَّ إلى الفضاء النفسيّ والاجتماعيّ الأشمل. هنا تَحوّل السجنُ إلى منطقٍ كامنٍ في كلّ زاويةٍ من الحياة اليومية، في كلّ زاويةٍ في المدينة، حيث تُنتِج السلطةُ من احتمالية العقوبة بقدرِ ما تُنتِج من ممارستها المباشرة. يتناسق هذا مع تصوّر فوكو بأن السلطة الحديثة تعمل عبر "الانتشار"، أي تستطيعُ الوصولَ وباليد الطُولى، فيصبح الخوفُ آليّةً قمعيةً تشمل المجتمعَ بأَسرِه.
وَرَدَ في تحقيق "المقاومة المدنية في الموصل: حكايات من واجهوا داعش"، المنشور في موقع المتحف، شهادةٌ من حدّادٍ يسمّى محمد شاكر عن بعضٍ من مشاهداته أيّام سيطرة التنظيم. يقول شاكر: "أذكر أنني شاهدت ثلاث جثثٍ معلقة من الأقدام أسفل سياج جسر الحرية [الذي يمرّ فوق دجلة ويربط شطري الموصل]. كانت الرؤوس متدلّيةً باتجاه مياه النهر. بقيَتْ على هذا الحال فترةً طويلةً إلى أن تعفّنَت وجفَّت، إلى أن انتهت إلى هياكل عظمية". يضيف: "رأيتُ مثل هذا المشهد مرّةً أخرى عند مقدمة الجسر العتيق [من أقدم جسور الموصل فوق دجلة]، الذي لا يبعد عن دكَّاني سوى بضعة أمتار. كان هناك جثّتان معلقتان في أوّل الجسر على جانبيه. وما علق في ذاكرتي هو أنّ أحشاء إحدى الجثّتين كانت متدلّيةً إلى الأسفل، ما أثار شهيّة الكلاب لنَهشِها".
يتحوّل هنا الجسدُ المُعاقَب إلى تمثيلٍ بصريٍّ ورمزيٍّ يعبّر عن قوّة السلطة، ويؤكّد أنّ أيّ تحدٍّ للتنظيم سيُقابَل بعنفٍ ساحق. هذه المشاهد تتوافق مع رؤية فوكو بأن الجسد في الأنظمة السيادية القديمة لم يكن محضَ هدفٍ للعِقاب، بل مسرحاً تُعرَض فيه السلطةُ أمام المجتمع. كلُّ عملية إعدامٍ كانت تُعيد التأكيد على العلاقة بين الجريمة والعقاب والهيمنة. الناتج هو خطابٌ قمعيٌّ يردع أيّ محاولةٍ للتمرّد. يضيف فوكو أن الأنظمة التأديبية الحديثة بالمقابل لا تكتفي بالقمع المباشر، بل تسعى إلى تشكيل الأفراد ليصبحوا ذواتاً مطيعةً وممتثلةً للمعايير المجتمعية. هذا التشكيل يتطلّب وجودَ شبكاتٍ مؤسّسيةٍ معقّدةٍ مثل المدارس والمصانع والسجون التي تعمل منهجياً لفرض الانضباط وتطبيع السلوك. يمكن فهم إخفاق "داعش" بإنتاج "أجساد طيّعة"، وفقاً لمفهوم فوكو، بسبب افتقار التنظيم إلى البنية المؤسّسية التي تتيح عملياتٍ طويلة الأمد تستهدف تشكيلَ أفرادٍ يخضعون داخلياً للنظام بمفهومه المؤسساتي الحديث.
لا يعني هذا أن "داعش" لم يسعَ إلى ترسيخ حكمه بالطرق الأُخرى مع نشوء التنظيم وتوسّعه. في تحقيق "المقاومة المدنية في الموصل: حكايات من واجهوا داعش"، المنشور في موقع المتحف، يَرِدُ مثلاً أنّ التنظيم بعد سيطرته على الموصل بأربعة أشهرٍ، في أكتوبر 2014، أصدر تعليماتٍ جديدةً لإعادة هيكلة مناهج التعليم في مختلف المراحل الدراسية.
شملت هذه التعليماتُ إلغاءَ موادٍّ علميةٍ، وتبديلَ المناهج السابقة بما يتماشى مع عقيدة التنظيم. أعلن التنظيمُ حينئذٍ أن هذا العامَ هو "عام نهاية العمل بالمناهج القديمة"، وأَمر بحذف عبارة "جمهورية العراق"، واستَبدَل بالأناشيد الوطنية والقصائد الشعرية محتوياتٍ دعائيّةً له. أجرى كذلك تغييراتٍ على المسمّيات التعليمية، فاستبدل بِاسمِ "وزارة التربية" اسمَ "ديوان التعليم" وبدلاً من "التربية الرياضية" اسمَ "الإعداد الجهاديّ البدنيّ" وعوضاً عن "التربية الوطنية" اسمَ "السياسة الشرعية" وبدلاً من "الصف الأول الابتدائي" اسمَ "الصف الأول الشرعي". رفض كثيرٌ من الأهالي إرسالَ أبنائهم إلى مدارس التنظيم، بينما امتنع بعضُ طلّاب الجامعات عن حضور دروسهم. أَكْرَهَ "داعش" المعلِّمين على تدريس هذه المناهج الجديدة، على بُعدِها كلَّ البُعدِ عن النظام التعليميّ الذي اعتادوه.

افتقارُ "داعش" لأنظمةٍ مستقرّةٍ مثل هيئات التعليم والمؤسسات الإدارية الحكومية، وافتقارُه لإطارٍ قانونيٍ متماسكٍ حالَ دون قدرة التنظيم على بناء نظامٍ اجتماعيٍّ متكاملٍ يعتمد على "الأجساد الطيّعة". جعل ذلك سيطرةَ التنظيم مؤقّتةً وغيرَ قادرةٍ على إنتاج خضوعٍ مستدامٍ أو داخليّ. هذا الفارق يُبرز أن "داعش" منظومة قمعية اعتمدت أساساً على آليّات الإكراه المباشر بدلاً من السيطرة التأديبية بمفهومها المؤسساتي الحديث.
رأى غرامشي أن المثقّفين ليسوا كياناتٍ معزولةً، بل هم مرتبطون بالصراعات الاجتماعية التي تنشأ داخل مجتمعاتهم. فالمثقف العضوي هو الشخص الذي يعبّر عن تطلعات فئته الاجتماعية، ويعمل على تفكيك الخطابات المهيمنة وبناء معرفةٍ جديدةٍ تخدم المهمَّشين وتسعى لتغيير علاقات القوّة. من هذا المنطلق، فالصحفيّ أو الموثّق العضويّ لا يكتفي برصد الأحداث أو توثيقها مجرَّدةً، بل ينخرط بوعيٍ كاملٍ في حياة المجتمعات التي يوثّقها، واعياً بحساسياتها ومتطلّبات واقعها المحلّي. وهو لا يَفرض خطاباً خارجياً بل يعمل على إنتاج معرفةٍ تنبثق من داخل هذه المجتمعات وتعبّر عن همومها وتطلّعاتها، ليصبح وسيطاً بين صوت الناس والمنظومة الإعلامية أو التوثيقية الأكبر. وهذا المثقّف العضويّ لا يقدّم المادّة الإخبارية أو التوثيقية فحسب، بل يعيد تشكيل الأفكار السائدة بطريقةٍ تفكّك الهيمنة وتعزّز المقاومة.
يتجاوز دورُ المراقب الحياديّ ليصبح جزءاً من عملية توثيقٍ تعكس تعقيدات الواقع المحلّي، وهو الأمر الذي يصفه تحقيق "المقاومة المدنية في الموصل" المنشور في موقع المتحف، تحت عنوان "الفعل ورد الفعل". يقول كاتب التقرير: "خَلّفَت السنينُ الثلاثُ التي سيطر فيها داعش على الموصل ذاكرةً موجعةً عن جرائم بشعةٍ ارتكبها بحقّ مئات الآلاف من السكان، حتّى أنّه، أثناء عملنا على هذا التحقيق، لم يكن من السهل علينا محاورة الأهالي وإعادة فتح صفحات ذاكرتهم، ومردُّ ذلك إلى عدم رغبة الكثير منهم في استعادة الماضي من ناحيةٍ، ولقناعة بعضهم بأنّ الأوضاع في العراق عموماً لا تبعث على الشعور بالطمأنينة، وبأن التجربة المريرة التي عاشوها قد تتكرّر في ضوء الصراعات الحاليّة والصفقات السياسيّة والتجاذبات الطائفيّة".
يتواءم هذا مع ما قاله عامر مطر للفِراتْس، وهو أن العمل مع أبناء المناطق المستهدَفة أنفسهم كان شرطاً أساسياً لضمان الفهم العميق للحساسيات الثقافية والاجتماعية. اختيار الفريق الذي يفهم لغة المجتمع ولهجته وخلفياته الثقافية لم يكن محض تفصيلٍ، بل كان عاملاً جوهرياً في بناء الثقة مع الناجين من التجربة السجنية وضمان دقّة التوثيق.
يقول مطر: "نحن أبناء المنطقة. عملُ فريقنا على الأرض كان واسعاً للغاية، ما مكّننا من التعاون مع أفرادٍ من المجتمعات المحلية في كلّ منطقةٍ نعمل فيها. هذا النهج أتاح لنا النجاح في تنفيذ مشاريعنا. على سبيل المثال، في مشروعنا السابق، الذي كان مهرجاناً لأفلام الموبايل في سوريا، عرضنا هذه الأفلام في أكثر من ثلاثين منطقةً داخل البلاد، من درعا، إلى جنوب دمشق، ريف دمشق، وسط سوريا، حلب، القامشلي، ودير الزور. صوّرنا أيضاً عدداً كبيراً من الموادّ الفيلمية على مدار سنواتٍ طويلةٍ، ما أسهم في بناء شبكة علاقاتٍ واسعةٍ وممتدةٍ بسبب تغطيتنا لأحداث الثورة السورية وإنتاجنا أفلاماً وثائقيةً من مختلف المناطق. في المناطق التي عملنا فيها مع النساء، كنّا نحرص على إشراك صحفيّاتٍ في فريقنا لضمان راحة الشاهدات أثناء الحديث واحترام خصوصيتهن".
هذا التوجّه التوثيقي الذي يأخذ بعين الاعتبار الحساسية الثقافية هو موقفٌ سياسيٌّ يعترف بقدرة هذه المجتمعات على حفظ ذاكرتها وإنتاج معرفتها الخاصّة. فعندما يختار الصحفيُّ العضويُّ أن يتحدّث بلغة الناجين أو أن يراعي حساسياتهم تجاه لغة القمع، فإنه لا يلتزم أخلاقيّات المهنة فحسب، وإنما يعيد تشكيل علاقات القوّة بين الموثّق والمجتمع. حينها لا تصبح العلاقة قائمةً على فرض روايةٍ خارجيةٍ، بل على تمكين المجتمع من استعادة صوته.
جديرٌ بالقول أيضاً أن الصحفي العضوي يعمل تقليدياً داخل منظومةٍ معرفيةٍ مرتبطةٍ بالسلطة. وكما يشير فوكو، فالمعرفة ليست محايدةً بل هي أداةٌ للهيمنة. والتوثيق مهما بدا بريئاً يمكن أن يتحوّل إلى جزءٍ من آلة السلطة إذا لم يكن مصحوباً بوعيٍ نقديّ. ومن هنا، يدرك الصحفي العضوي أن عمله ليس فقط في جمع الشهادات، بل في التأكّد من أن هذه المعرفة لا تُستخدَم ضدّ المجتمعات التي تُوثَّق. يعلّق عامر مطر على هذا المنحى من التوثيق بقوله: "نشرت إحدى الجامعات الأمريكية كمّياتٍ هائلةً من وثائق حزب البعث. هذا الإجراءُ أدّى إلى أحداثٍ خطيرةٍ، إذ تضمّنت الوثائقُ تقاريرَ كتبها أفرادٌ عن أفرادٍ آخَرين، ممّا تسبّب في حوادث قتل. هذه التجربةُ كانت درساً كبيراً بالنسبة لنا، خاصّةً أن جزءاً كبيراً من وثائقنا يتضمّن شهاداتٍ لأفرادٍ ضدّ آخَرين، وتقارير حساسةً قد تؤدّي، إذا لم يُتعامل معها بحذرٍ، إلى تأجيج صراعاتٍ أو حتى اندلاع حربٍ أهليةٍ في المنطقة. وهذا بالتحديد ما كنّا نسعى لتجنّبه بأيّ شكل".
دور الصحفيّ أو الموثّق العضويّ يتجاوز فكرةَ نقل الخبر أو جمع الشهادات لإعادة بناء الذاكرة الجمعية على نحوٍ يحفظ للضحايا مِلكيّةَ قصصِهم ويؤسّس لعدالةٍ ناجزةٍ تتجاوز الحدودَ الرمزيةَ إلى التغيير الفعليّ في علاقات القوّة. أحد الناجين من سجون "داعش"، طلال الشويمي يذكر في شهادته في موقع المتحف استخدامَ محقِّقٍ كرديٍّ يتحدّث اللهجةَ ذاتَها للسجين بهدف استنطاق الأفراد والحصول على معلوماتٍ دقيقة. كانت اللغة في هذه الحالة أداةً لتفكيك المقاومة وتحويل السجناء إلى موضوعاتٍ لنظامٍ معرفيٍّ يستهدف الهيمنة. يظهر هنا التباين في استخدام اللغة بين الجاني والضحيّة من جهةٍ، والموثّق العضويّ والضحيّة من جهةٍ أخرى.
في الحالة الأولى تصبح اللغةُ وسيلةً للهيمنة، وفي الثانية تُطوَّع أداةً للتقارب مع الضحيّة والحفاظ على الحساسيات الثقافية والمعرفية واتخاذها وسيلةً لمقاومة الهيمنة. يقول عامر مطر: "أدركنا أهمية احترام الحساسيات الثقافية واللغوية لكلّ مجموعة. على سبيل المثال، لم نتحدّث مع الإيزيديين باللغة العربية، لأنها بالنسبة لهم لغةُ القمع والمغتصِب، وكان علينا احترام ذلك. الأمر نفسه ينطبق على الأكراد، كنّا نخاطبهم بلهجتهم المحلية. في الأنبار والموصل، كنّا نستخدم اللهجات المحلية للتواصل مع المجتمعات بما يضمن مراعاة الحساسيات الثقافية". هذا النهج يقاوم إعادة إنتاج آليّات الإخضاع التي عايشها الضحايا في السجون، لتصبح اللغةُ قناةً لإعادة بناءِ مساحةٍ آمِنةٍ، ويصبحَ الناجون قادرين على استعادة أصواتهم دون الشعور بالإجبار أو التلاعب بما يتيح مشاركةَ قصصهم دون استدعاءِ صدماتهم وتحويلِها إلى مشهديّةٍ للاستهلاك.
هذه المقارنة ليست تمريناً نظرياً صرفاً، بل محاولةً للتفكير النقدي في دور السلطة والمؤسسات في ممارسات تبدو ظاهرياً محايدةً مثل التوثيق. وهنا تنويهٌ بأن عملية الاستماع والتسجيل وإعادة السرد ليست تحرّريةً بطبيعتها ما لم تكن متجذّرةً في جهدٍ واعٍ لتفكيك الهياكل القمعية التي تسبّبت في الأذى منذ البداية. فدون تحليلٍ نقديٍّ لهذه الآليّات، ثمّة مخاطرةٌ بأن تتحوّل الجهود اللاحقة للتعامل مع الناجين إلى إعادة إنتاجٍ للأنماط القمعية نفسها، ممّا يجعل عملية التوثيق أشبه بعمليةٍ استخراجيةٍ لا فعلٍ مقاومٍ وأداةٍ لتمكين الناجين.
كان هذا منذ البداية سؤالاً صعباً لفريق "متحف سجون داعش". يقول عامر مطر عن إدارة كلّ هذه البيانات والوثائق والأوراق والتفاصيل: "في البداية، كان هناك أعضاءٌ في الفريق يَرَوْن أنه يجب تسليم جزءٍ من هذه الوثائق إلى الأمم المتحدة أو إلى مؤسساتها المختلفة. لكننا لاحظنا لاحقاً أن مؤسسات الأمم المتحدة قد تعيد بناء علاقاتٍ مع الأنظمة الديكتاتورية وتتشارك معها في المعلومات. مثالٌ على ذلك هو 'يونيتاد'، وهي مؤسسةٌ تابعةٌ للأمم المتحدة مختصّةٌ بالتحقيق في جرائم داعش. هذه المؤسسة أُغلقت، والآن هناك جدلٌ وصراعٌ كبيرٌ حول كيفية استخدام هذه المعلومات. جزءٌ من هذه المعلومات يصعب الاستفادة منه بسبب تعقيدها الشديد، كما كانت هناك مخاطر تتعلق بإعادة تطبيع العلاقات مع أنظمةٍ مثل النظام السوري البائد. بالإضافة إلى ذلك، هناك مخاوف من تسليم بعض هذه الأدلة إلى حكوماتٍ تواجه تحدّياتٍ كبيرةً في تعاملها مع العدالة، مثل الحكومة العراقية. هذا يجعل الموضوع في غاية الحساسية والتعقيد. لهذا السبب قرّرنا، كمؤسسةٍ، تطويرَ آليّاتٍ خاصّةٍ بنا لحماية هذا الأرشيف، مع الاحتفاظ به في أماكن مخفيّةٍ لا نكشف عنها لضمان سلامتنا".
يضيف مطر: "نحن لسنا مؤسسةً تابعةً للأمم المتحدة، ولسنا محميّين بالقانون الدولي، للأسف. لذلك هناك مخاطر تهدّد فريق العمل، سواءً من الشرطة المحلّية في الدول التي نعمل بها أو من جهاتٍ أُخرى. الشرطة، خصوصاً شرطة مكافحة الإرهاب، قد تكون عنصريةً في تعاملها، ما يجعلنا عرضةً للتهم المسبقة فقط بسبب مظهرنا، مثل لون الشعر أو شكل الذقن أو لون العينين. رغم تعقيد الموضوع، نعمل باستمرارٍ على التكيّف مع القوانين التي قد تُلزِم المؤسساتِ بمشاركة بعض المعلومات، وفهمُ كيفية التعامل مع هذه القوانين هو أمرٌ بالِغُ الأهمية. نحن محظوظون بوجود فريقٍ قانونيٍّ كبيرٍ يوجّهنا وينصحنا في هذه القضايا، ممّا يسهم في تخفيف التحدّيات التي نواجهها في هذا المجال الحساس".
قد يصبح التوثيقُ فعلاً تحرّرياً يواجِه القمعَ إذا أُنجِز بوعيٍ نقديٍّ، ليجنّب ذلك بلادَنا الخوضَ في نهرِ الدمِ ذاتِه مرّةً أُخرى. وكأنّ "متحف سجون داعش"، حين وَثَّقَ عن جدرانِ أحدِ المهاجعِ كلماتَ أغنية شارة العملِ الدراميِّ السوريِّ الشهير "إخوة التراب" الذي أُنتِج سنة 1996، كان يلتقطُ من ذاكرةِ المعاناة وعداً بالحياة: "مهما الظلم تمّ وعمّ، لا بدّ يزول الظلام، مهما الحرب تدمي القلب، لا بدّ يعمّ السلام".
