وقعَ ذلك في ظهيرةِ 14 فبراير 2005، حين اغتيلَ الرَّجلُ الباسمُ في اللوحةِ التي تعلو الآن مدرَّجاتِ الصالة قُبالتي، رئيسُ الوزراءِ الأسبقُ رفيق الحريري. حدثٌ وضعَ رصاصة فاتكةً في رأسِ حربِنا الكُروية، ولم يكُن قد مرَّ عقدٌ منذ ظهورِها على هيئةِ عُروضٍ تُعبِّر حشودُها عن اختلال التوازنات السياسية والطائفية، ولا تنفكُّ تَحمَى لشدَّةِ ما أخذَ الناديان المتباريان لَبُوسَ الانقسامِ السياسيِّ الحادِّ القائمِ في لبنان. فمِن جهةٍ، هناك نادي الحكمة وجمهورُه الذين يرفعون رايةَ المعارَضةِ السياسيةِ المسيحية. ومن جهةٍ أُخرى، فالنادي الرياضيّ المَحظِيُّ برعاية رئيس الوزراء القويّ رفيق الحريري، الذي تخشاه هذه المعارَضة.
موقفي حائرٌ، بعد كلِّ العبثِ الذي تَراكَمَ من حولِنا على مدار عقدَيْن، تجاه رفيق الحريري أو كما سمَّاه المخرجُ السوريُّ عمر أميرلاي "الرَجُل ذو النَعْل الذهبيِّ"، في وثائقيٍّ حواريٍّ صدر في بداية الألفيَّة. ومع انتصافِ ليلةِ اغتيالِه، بدا لي الشطرُ الغربيُّ من بيروت خاوياً على عروشِه، ما خلا تجمُّعاً أمام قصرِه "قصر قريطم" القريبِ من ملعب النادي الرياضيّ في منطقةِ رأس بيروت وتجمُّعاً آخَر حول مستشفى الجامعة الأمريكية، حيث رَقَدَ الساعات الأخيرةَ في عالَمِ الأموات.
ومِمّا أذكرُه أيضاً مِن ليلةِ الاغتيالِ، ثُلّةٌ من المسلَّحين الفُرادى عند أبوابِ بناياتٍ تسكنُها شخصيّاتٌ سياسيةٌ، خاصّةً في منطقة "وطى المصيطبة" قرب منزلي. "كُلُّ شيءٍ أَوْحَى بأنَّ لا شيءَ سيبقى على حالِه"، هكذا قال لي الصحفيُّ في جريدة السفير آنذاك، جهاد بَزِّي. وتابع أنّ الحرب الأهلية بَدَت كأنَّها "تجمَّدت على آخِر صورةٍ في مشهدِها" سنةَ 1990، ثمّ أتى من "ضغط على الريموت كونترول" لنُعايِنَ مجدّداً الزجاجَ في الشوارع والدَّمارَ والحفرةَ العميقة والدخان.
بوسعي أن أقفزَ فوق هذه الذكريات وقصَّتِها، فأنهضَ "عن هذه الطَّاولة [. . .] ولن يبقى سوى حقيبةٍ من صفيحٍ وبضعِ قصاصاتٍ من الورقِ"، على حالِ بطلِ روايةِ "أقاصي النسيان" للفرنسي باتريك موديانو الصادرةِ سنةَ 1995. ولكنَّها مرحلةُ الشباب الأُولى، أعود إليها من طريقِ مهنتي الصحافة المكتوبة بحثاً عن كرةِ جيلٍ تلاشَت في غَفْلةٍ مِنَّا، في الهواء. ونحن جمهورُ نسخةِ الدِيربي وحشودُه الحربِيَّةُ تلك، كنّا أيضاً على حالِ بطلِ باتريك موديانو: "في حُلُمٍ فيه ندرِكُ أنَّه يُمكِنُنا أن نستيقِظَ في أيِّ لحظةٍ حين تُهدِّدنا الأخطار". فالفريقُ الآخَرُ (الحكمة) هو الأخطارُ ولا شيءَ سوى ذلك. فيما تغدو كرةُ السلَّة حُلمَنا الجماعيَّ التي تُعلَّقُ سِلالُها بدءاً من جدران الأزِقَّة. وفي واقعِ الأمرِ لم أقصد استعادةَ ذلك كلَّه حين وجدتُ نفسي واقفاً في صالة "النادي الرياضي بيروت". كنتُ أرافق ابني لكي يتمرَّنَ مع أصغر فئةٍ عمريَّةٍ في النادي، ثمّ وجدتُ بابَ الصالةِ مُوارِباً، فدخلتُ شاعِراً بأنَّ كلَّ شيءٍ حدث بالأمس، لا غير.
كان "الأمرُ تغيَّرَ" في بيروت، إذ "لَم يَعُدْ بالإمكان أن تكونَ بعهدةِ عائلةٍ واحدةٍ"، مثلما رَوَى تمَّام سلام، نجلُ صائب بِك، في مقابلةٍ مع جريدة السفير نُشرت في 11 أكتوبر 1996. كان والدُه قد شَغَلَ رئاسةَ الوزراء عدَّةَ مرّاتٍ في عهدِ أربعةِ رؤساءَ مختلفِين منذ سنةِ 1952 في آخِرِ عهدِ بشارة الخوري، أوَّلِ رئيسٍ لبنانيٍّ بعد الاستقلال عن فرنسا سنةَ 1943، وصولاً إلى سنةِ 1973 في عهدِ الرئيسِ سليمان فرنجية، أيْ قبل الحربِ الأهليةِ بعامَيْن. لكنْ لا أظنُّ أحداً في حربِنا الكُرَويّةِ الغريبةِ ضدَّ نادي الحكمة قَصَدَ الانتقاصَ من إرثِ صائب بِك، فهو مَن قال: "لو تُرِك اللبنانيّون لقرارِهم لخِفْتُ عليهم من الاختناقِ بعناقِ بعضِهم بعضاً"، فيما كان جمهورُ الرياضي والحكمة الحشدَيْن اللَّذَيْن كَشَفا عن عدمِ واقعيةِ كلامِه، وقد سَبَقَنا من تحارَبوا بالرَّصاص إلى ذلك.
كانت ليالي صالةِ صائب سلام إبَّان حربِنا الأهليّة الكرويّة مِثلَ التي حدَّثَنا المُتنبِّي عنها "يَسْهَرُ الخَلْقُ جَرَّاها ويَختَصِمُ". صغيرةٌ تكادُ لا تَتَّسِعُ لأكثرَ من ألفَيْ مَقعدٍ، لكنَّ نواةَ جمهورِها كانوا مثلَ جِنٍّ خافَهم الناسُ قديماً في دروبِ ومعابرَ وممرَّاتِ هذه المنطقةِ المُسمَّاةِ رأس بيروت قبل توسُّع المدينة القديمة نحوها في القرن التاسع عشر. فقبلَ "استخدام مصابيح الغازِ للإضاءة"، يَحكي كمال جرجي ربيز في كتاب "رزق الله عَهَيديك الأيام... يا راس بيروت" المنشور سنة 1986، كان بعضُ المارّةِ يخافُ هذه النَّاحية من بيروت كما لو أنّها "مسكونةٌ بالجِّنِّ". وهؤلاءِ الجِنُّ هُم جمهورُ النادي الرياضي في تلك الليالي.
أَحْسدُ صديقيَ المُشجِّعَ المندَفِعَ أيمن، وهو اسمٌ مستعارٌ، لأنَّه سكَنَ في رأس بيروت. يُخبِرني كم كان سهلاً عليه النُّزولُ من شارع الحمرا سيراً على الأقدام إلى صالةِ صائب سلام من أجلِ حضورِ مبارياتِ النادي الرياضي وحصصٍ تدريبيةٍ أيضاً. لكنَّها تداعياتُ اغتيالِ رفيق الحريري لا غيرَ التي فَرَّقَت الجَمْعَ. ومع أنّ النادي الرياضي عادَ بعد نحوِ ثلاثةِ أسابيع من الاغتيال "نازِعاً الحِدادَ من حيث الشَّكْل"، وفقَ ما وَرَدَ في جريدة السفير بعددِها الصادرِ يومَ 3 مارس 2005، إلّا أنّ حشود بيروت الغربيَّة راحت تنفَلِق في السياسة بين فريقَي 8 و14 آذار. وبينما كان تحالفُ "8 آذار" داعماً لسوريا المتَّهَمةِ بالوقوفِ وراءَ اغتيالِ الحريري، الذي سُمِّيَ رئيساً للحكومة في زمنِ الوجودِ السوريِّ في لبنان، اجتمع في عباءةِ تحالفِ "14 آذار" جمهورُ نادي الحكمة والفئةُ الأكبرُ المؤيِّدةُ للحريري من جمهورِ الرياضي، الذين طالَبوا بالانسحابِ السوريِّ من لبنان.
ذَهَبَ الرياضي "بعيداً في السياسة"، كما يرى أيمن الذي سينقطع نهائياً عن هذه المُدرَّجات. وسط قلقٍ وخوفٍ عامَّين سادا البلدَ، تغيَّر طعمُ مُدرَّجاتِ صالةِ صائب سلام. فجاءت الفرحةُ منقوصةً في مايو 2005، حين فاز النادي الرياضي ببطولةِ كرة السلة أوّلَ مرّةٍ منذ 1998 كاسراً هيمنةً دامَت ستَّ سنواتٍ للغريمِ الحكمة. سقطَتْ بديهةُ "إذا ما في رياضي ما في حكمة، وإذا ما في حكمة ما في رياضي"، التي ينقلُها هشام جارودي عن نظيرِه رئيسِ نادي الحكمة أنطوان شويري.
كانت الهويةُ السياسيةُ لكلٍّ من ناديَي الرياضي والحكمة تحملان كلَّ ما يلزم من أجلِ إضرامِ حربٍ أهليةٍ كرويةٍ بدأت في موسمِ 1993-1994، مع صعودِ نادي الحكمة بيروت إلى بطولةِ الدرجة الأولى وفوزِه بها على الفور، مع العلمِ أنَّه كان قد تأسَّس قبل عامٍ فقط مع انطلاق البطولة نفسها بعد الحرب الأهلية. يرفع الحكمةُ وجمهورُه صُوَرَ سمير جعجع، زعيمِ حزبِ القوَّات اللبنانية، كلّما أُتيحت لهم الفرصةُ خارج الملاعب. إذْ كان أنطوان شويري، رئيسُ النادي، يَمنع المظاهرَ الحزبيةَ داخل الملاعب. سيغدو سمير جعجع سنة 1994 "زعيمَ الحربِ الوحيدَ" الذي يُسجَن بعد انتهائها فيما "بقي الآخَرون يحتلُّون المناصبَ والمراكز"، على ما يوضِّح سمير قصير، الصحفيُّ البارزُ في صحيفة النهار المعارِضة إذَّاك، في كتابه "تاريخ بيروت". ويقول سمير قصير، الذي اغتيل بعد أربعةِ شهورٍ من اغتيال الحريري، عن تلك المرحلة: "ساد شعورٌ من الإحباط بين المسيحيين، لأنَّهم أيقَنوا أنَّهم يُعامَلون معامَلةَ المُنهَزِم" بعد انتهاء الحرب الأهلية. فكان نادي الحكمة المتنفَّسَ الوحيد للشارع المسيحيّ المعارِض عموماً في زمن الوجود السوري، بعد أن نُفي أحدُ زعمائهم (ميشال عون) إلى فرنسا وسُجِن الزعيمُ الآخَرُ (جعجع) في عهد الحريري أحد عشر عاماً في مقرِّ وزارة الدفاع بمنطقة "اليرزة" داخل زنزانةٍ انفراديةٍ في الطبقة الثالثة تحت الأرض.
تُعيد القوى المسيحيةُ المعارِضةُ، التي يدور جمهورُ الحكمة في مدارِها، هذا الواقعَ السياسيَّ الجديدَ إلى ما يُعرَف باتّفاقِ الطائف الذي أنهى الحربَ الأهلية. توصّلت الأطرافُ إلى الاتفاقِ في المملكة العربية السعودية سنة 1989، وعلى أثرِه أُقرَّت تعديلاتٌ دستوريةٌ سنةَ 1990 من أبرزِ موادِّها إعادةُ توزيع الصلاحيات بين السلطات الدستورية، بما في ذلك تقليصُ صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحيّ وزيادةُ صلاحيات رئيس مجلس الوزراء السُنِّي. ترى القوى المسيحيةُ أنَّ سوريا طبّقت اتفاقَ الطائف على مقاسِها، مُستفيدةً من تعزُّز نفوذِها في لبنان إثرَ مشاركتِها في تحالفٍ أمريكيٍّ ضدَّ العراق في حرب الخليج الثانية. وقد ارتبطَ الوجودُ السوريُّ المُستمِرُّ في لبنان منذ 1976 مع بداية الحرب بنفوذٍ مُطلَقٍ بما سُمِّيَ "النظام الأمنيّ اللبنانيّ السوريّ"، الذي ستَتَّهمُه هذه القوى بقمعِ أنصارِها.
تُرجِمَت هذه العداوة السياسية إلى حربٍ كرويّةٍ لا تنفكُّ لياليها تشتعل. يَرِدُ في عددِ جريدة السفير الصادرِ في الثاني من يوليو 1996 قرارُ اتحاد كرة السلة إلغاءَ البطولة. وتحدَّث الاتحادُ عن أجواءٍ مشحونةٍ "حاولت استغلال نجاح اللعبة" وافتعالَ أحداثٍ "تُهدِّد الوحدة الوطنية والسلامة العامّة". وكتب الصحفيُّ عماد مرمل بعد سنواتٍ، وبلغةٍ تَصويريَّةٍ في الصفحة الثانية من عدد السفير الصادر في 9 يونيو 2003، أنَّ الاحتقان السياسي في البلاد انفَجَرَ أثناء مباراةٍ في كرة السلة، قبل أن تتحوّل إلى مباراةٍ في الشِّعارات والهتافات السياسية والطائفية "بين شَعبَين وليس جُمهورَين".
هل كان ذلك كلُّه "حرباً دون إطلاق نار"؟ يدور هذا السؤال حول عبارةٍ مقتبَسةٍ من الروائي البريطاني جورج أورويل، ويطرحُها الأستاذُ المساعد في الجامعة الأمريكية في بيروت دانيال رايش، في دراسةٍ له بعنوان "الحرب دون إطلاق نار؟ سياسات الرياضة في لبنان كحالةٍ فريدةٍ في السياسة المقارَنة"، نُشِرت سنة 2011 في العدد الثاني والثلاثين من مجلَّة "ثيرد وورلد كوارترلي"، (فصليّةِ العالَمِ الثالث). يؤكِّد دانيال أنَّه ليس ثمّةَ مجالٌ آخَرُ يشهدُ مواجهةً مباشرةً بين الجماعات الطائفية والسياسية كما هو الحالُ في الرياضة.
كانت زيارتي الأولى لهذه الصالة قبل شهورٍ قليلةٍ من رفع الحكمة كأسَ أوّلِ بطولةٍ في سلسلةِ هيمنتِهم على الصدارة، آتياً من الجنوب في عطلةٍ مدرسية. كان النادي الرياضي قد فاز بالبطولة ثلاثَ مرَّاتٍ منذ انطلاقها، مقابل واحدةٍ يتيمةٍ حقَّقَها الحكمة، قبل توقُّفِ البطولةِ في 1996. حينها بدت الصالةُ أصغرَ ممّا اعتدتُها على شاشةِ قناةِ "إل بي سي"، التي كانت تملك الحقَّ الحصريَّ لبثّ مباريات كرة السلة. أذكر من زيارتي الأولى أني جلستُ أتفرَّج وغيري على تمرين لاعبي الرياضي. أتابع عن كثبٍ أسطورةَ النادي الأمريكيَّ مايكل كامبرلاند الذي كان قد حاز لتوِّه جائزةَ أفضلِ لاعبٍ في بطولةِ آسيا للأندية، وأتقفّى قائدَ النادي وليد دمياطي الذي رَفَعَ كأسَ المرتبة الثالثة في البطولة نفسها. نجمان أحرزا نصراً احتاجَه الرياضي بشدَّةٍ مع انتقالِ حربِه مع الحكمة إلى الملاعب العربية والآسيوية. فقد حمل دمياطي الكأسَ التي لَم يَحمِلْها لبنانيٌّ من قبلُ، بعد أقلّ من شهرٍ على ليلةِ 30 مارس 1998 التي رفع فيها قائدُ الحكمة إيلي مشنتف كأسَ بطولة الأندية العربية على ملعبه. وهي التي لَم يرفعها لبنانيٌّ من قَبل.
غداةَ فوزِ الحكمة كَتَبَ ساطع نور الدين، مديرُ تحرير جريدةِ السفير المناصرةِ للنادي الرياضي، أنّ الحدث "كان علاجاً شافياً من الإحباط [. . .] لم يكن الاحتفالُ بالنصر عادياً" بعد مشاركةٍ في البطولة اتَّخذت منذ البداية "شكلَ التحدّي السياسي، فجاء فوزُه بمثابةِ انتصارٍ سياسيّ". لكنَّ وَجْهَ كرة السلَّة في لبنان كان قد تغيَّر منذ تلك الليلةِ، وصار لنا دِيربي عابرٌ الحدودَ يُنظِّمُ الجمهورُ رحلاتِ سفرٍ مُكلِفةً من أجلِ حضورِ مبارياته.
في هذه الأثناء، راحت حربُنا الكروية تُحقِّق نجاحاً اقتصادياً حقيقياً على ما تُفيد مقالة بحثية بعنوان "تأثير التوزيع السياسي الديني على لبنان: هل الرياضة كاشفة للظواهر الاجتماعية؟"، أعدَّها زياد رحّال وفيليب كامبيلّو وماثيو جنتي. تشير المقالةُ إلى ارتفاع عدد العاملين في مجال لعبة كرة السلة من مئتَيْن سنةَ 1992 إلى أكثر من تسعةِ آلافٍ في 2004. وجذب تطوُّر البطولة المحلّية لاعبين ورعاةً أجانبَ، وسط تحقيقِ عائداتٍ ماليّةٍ، لا سيّما من الإعلانات وشراء حقوق البثّ، وقرار العديد من البنوك وشركات التأمين والعلامات التجارية الاستثمارَ في اللُّعبة التي ظلّت لياليها متوقّدةً في صالةِ صائب سلام.
يحكي لي أيمن عن مباراةٍ في هذه الصالة، قَهَرونا فيها الحكمة حين سجَّلوا في الثواني الأخيرة رميةً ثلاثيةً "من نُصِّ الملعب". لا أذكُرُها، لأنّهم قهرونا كثيراً. لكنَّ ما أذكرُه أنَّ مِن شأنِ كلِّ هزيمةٍ أن تهُزَّ عوالِمَنا القائمةَ على عدوِّ وصديقٍ جَلِيَّيْن في مجالاتٍ تسبق الرياضةَ لتطالَ السياسةَ والتاريخَ والجغرافيا. كنّا في مجتمعٍ غدا مجتمعَ فُرجَةٍ، كما يقول المفكِّر الفرنسيّ غي ديبور. مجتمعٌ راح يُعبِّر عن اختلالِ توازناته في عروضٍ كرويةٍ تَصنعُ الوسائطُ الإعلانيةُ والإعلاميةُ واقعَها الاجتماعيَّ، ويَغرَقُ فعلاً في ثقافةٍ استهلاكيةٍ من أعراضِها أن تبعِدَنا عن السياسة وشؤونِها أفراداً، ولكن تعيدُنا إليها جماعاتٍ.
في "عصر لبنان الذهبيِّ في كرة السلَّة"، وهو عنوانُ وثائقيٍّ لقناة الجزيرة، يقول قائدُ الرياضي وقتئذٍ وليد دمياطي إنّ الجوَّ العامَّ صنَع "رموزاً طائفيةً [. . .] الرياضي نادٍ مسلمٌ والحكمة نادٍ مسيحيّ"، مع أنَّ هناك لاعبين في صفوف الفريقَيْن من غيرِ الهويّة الطائفيّة للنادي. ولكن ليست مفارَقةً على الإطلاق أنّ المُهندِسَ الأوَّلَ لحربِنا الكروية هذه هو رئيسُ الحكمة أنطوان شويري، "مهندسُ الإعلانات في الشرق الأوسط"، مثلما وصفَته "ذا ناشونال نيوز" الإماراتيةُ حين رَحَلَ في التاسع من مارس 2010. فقد كان لصاحبِ "مجموعة شويري" الضخمةِ في لبنان والسعودية نفوذٌ كبيرٌ في مجالِ صناعةِ الإعلام في المنطقة، حتى كان يُنظَر إليه كما تنقل "ذا ناشونال نيوز" في مقالةٍ بعنوانِ "رجلُ إعلاناتٍ جديرٌ بالتذكُّر" أنه قادرٌ على إنجاحِ أيِّ محطةٍ تلفزيونيةٍ أو إفشالِها "بمنحها أو حرمانها من الانضمام" إلى شبكتِه.
أُحِبُّ أنطوان شويري بسببِ الحُلمِ الذي أرساه للُّبنانيّين جميعاً، على خصومتي وعداوتي الكروية معه، وعلى تعارُضي مع نهجِه الذي يبدو كأنَّه يُسَلِّع كلَّ شيء. في حربِنا الكروية، نجح شويري في إنشاء منظومةٍ تُدِرُّ أرباحاً هائلةً بالإعلانات وحقوق النقل التلفزيوني، فضلاً عن أرباحٍ تصنعُها هذه المنظومةُ بفضل المنافسات العربية والآسيوية التي أَخَذَ لبنانُ يستضيفُها واحدةً تلوَ أُخرى مع انتعاشِ سوق لعبة كرة السلة. وقد انعقد له التوفيقُ بتحالفٍ قديمٍ جديدٍ مع قناة المؤسسة اللبنانية للإرسال "إل بي سي"، المواليةِ لسمير جعجع وقتئذٍ، مع رئيس مجلس إدارتِها بيار الضاهر، في شراكةٍ تجاريةٍ سياسيةٍ أسَّست لحربِنا هذه.
كان حزبُ القوَّات اللبنانية قد حُلَّ سنةَ 1994 وفق ترتيباتِ السِّلْمِ المنقوصِ، فنجح أنطوان شويري في هذا الظرف السياسي بخلقِ العلامة التجارية "الحكمة ضدَّ الرياضي [أو] المسيحيون ضدَّ المسلمون: الكلاسيكو اللبناني"، وفق ما تَخلصُ إليه مقالةُ "تأثير التوزيع السياسي الديني على لبنان: هل الرياضة كاشفة للظواهر الاجتماعية؟". يصفُ كتّابُ المقالةِ أنطوانَ شويري بأنَّه صاحبُ رؤيةٍ لأنَّه كان واعياً بالمآزقِ التي يُسبِّبها النظامُ الطائفيُّ وتداعياته على الرياضة، لكنَّه انخرطَ فيها وحَوَّلَ كرةَ السلة إلى "عرضٍ فريدٍ يُقدِّم لِلُبنانَ مرآةً لهويَّتِه".
ويبدو أنَّ جهاتٍ مسيحيّةً نصحت أنطوان شويري قبل حلِّ حزب القوَّات بأن يسعى إلى تأسيس منظومةٍ رياضيةٍ "تُعيد لملمةَ ما خلَّفته الحربُ الأهلية والوصايةُ السورية من شتاتٍ"، وفق رواية الصحفي عاصم عبد الرحمن في مقالةٍ بعنوان "بروح رياضية" نُشِرت في موقع "غراند". نجح شويري في مسعاه حتى صار فريقُ كرة السلة لنادي الحكمة "نَفَسَ المسيحيّين" في التسعينيات، وفق ما يقول قائدُهم وقتذاك إيلي مشنتف في وثائقيِّ الجزيرة. يوضح مشنتف أنَّه، وبعدما بلغ المسيحيون واقعاً قالوا فيه "ما عاد عنَّا شي"، اعتبروا أنَّه لم يبقَ سوى نادي الحكمة يُحقِّق لهم الآمال.
لقد صنعَ أنطوان شويري أيقونةً للشارع المسيحي المُعارِض في وقتٍ احتاجَ نجاحاً ما، على ما يوجِز بيار كاخيا، الرئيسُ السابقُ لاتحاد لعبة كرة السلة، في وثائقيِّ الجزيرة. جعلَ شويري من ديربي الحكمة والرياضي مُنتَجاً تجارياً وإعلانياً، على حدِّ تعبيرِ بيار، مدرِكاً ضرورةَ "اللعب على العصبيات [لمن أراد] أن يُكبِّر منتَجَه في لبنان". أمّا الصحفيُّ غسَّان سَعود، فيَرى في مقالةِ "حِكايةُ إمبراطور" المنشورةِ في جريدة الأخبار بُعَيْد رحيلِ أنطوان شويري في مارس 2010، أنَّه استثمر بعلاقاتِ "إمبراطوريته الإعلانية من أجل أن يملأ الفراغَ السياسيَّ المسيحيَّ بالكرة البرتقالية"، ويحتَضِن ملعبُ الحكمة كلَّ الهتافات السياسية المحظورة.
أمّا جريدة السفير التي كانت تُمثِّل نَفَسَ هذا الشطرِ الغربيِّ الحاكمِ لبيروت، فقد كانت في الوقتِ نفسِه في شراكةٍ إعلانيةٍ وتجاريةٍ مع أنطوان شويري، بصورةٍ من شأنِها أن تختَزِلَ تناقضاتِ البلدِ وشخصيةَ الرجلِ وميادينَهما الكثيرة. كتبت "السفير" في نعيِها لأنطوان شويري أنَّه "جازَفَ للنجاح ورَضِيَ أن يُقامِر بالمستقبل". وفي الواقع كان أنطوان شويري طوال الحرب التي قادَها وخاضَها "لاعبَ نردٍ [. . .] لا يُحِبّ الخسارةَ"، وفق توصيفٍ لشخصيَّتِه تنقلُه مقالةُ "ذا ناشونال" عن رمزي رعد، أحدِ المخضرمين في عالَمِ صناعةِ الإعلانات. يتحدَّث رمزي عن لقائه الأوَّل بشويري سنة 1968، واصِفاً غضبَه وسطَ الحَرِّ لخسارته، وكيف رَمَى طاولةَ الزَّهر من الشرفةِ في شارعٍ وسطَ بيروت، والذي لَم تَطُل الحربُ الأهلية حتى دَمَّرَتْه سنةَ 1975.
في مهرجانِ ذكرى حَلِّ القوَّات اللبنانية في أبريل 2009، صَفَّقَ المشاركون لأنطوان شويري تصفيقاً قويّاً، خاصّةً بعدما قُدِّمَ على أنَّه "أوَّل واحد نزَّل الناس على الشارع بإيَّام كان النَّصر فيها ممنوع". ظهرَ شويري في الحفل في هيئةٍ غيرِ مألوفةٍ لنا، نحن جماهير كرة السلة، إذْ كنّا نَعُدُّه رمزاً من رموز اللعبة. أَطَلَّ هَرِماً بآثار علاجٍ من مرضٍ عُضالٍ يأخذ به إلى الأشواط الأخيرة. وقد بَدَت كلمتُه، وفق غسان سعود، "أقرب إلى شهادةِ قوّاتيٍّ منها إلى أيِّ شيءٍ آخَر"، لكنَّها نهايةُ من يوصَف بِعرَّابِ كرة السلة في لبنان. هو "رجلٌ في عدَّة رجال"، كما نعاه البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، الشخصيةُ المؤثّرةُ بشدّةٍ في تاريخ لبنان. أعاد شويري في حياته الشارعَ المسيحيَّ المُعارِضَ إلى ميادين النِّزال على الحُكم، بعدما هزَمَتهم الحربُ الأهلية. ولم ينجح في مشروعِه إلّا حين جعل من صالة النادي الرياضي معقِلاً لا بُدَّ من دَكِّه على الدوام، لأنَّها ترمز إلى رفيق الحريري، بلْ إلى مجمَلِ السلطةِ في زمنِ السِّلْمِ الذي أقصاهم.
كان رفيق الحريري والرئيسُ الشيعيُّ لمجلسِ النُوّابِ نبيه بِرّي، زعيما بيروت الغربية، بمثابة حاكِمَي البلد فعلياً. يُضاف إليهما الزعيمُ الدرزيُّ وليد جنبلاط، المنتصرُ بدعمٍ من سوريا على القوى المسيحية في حرب الجبل بين 1983 و1984. كان الثلاثةُ يتحرَّكون في التسعينيات وبداية الألفيَّة في مدار دمشق، وبرضاً سعوديٍّ مثَّله وجودُ الحريري نفسه في الحُكم. يقول هشام جارودي في مقابلته مع ريكاردو كرم إنَّ الحريري جاء في البداية بدعمٍ من حافظ الأسد، ثم حَكَم بتعاونٍ قويٍّ من برِّي وجنبلاط.
كانت نظرةُ الشارعِ المسيحيِّ المعارضِ إلى رفيق الحريري تندرِج في خانةِ توصيفِ عمر أميرلاي ضمن وثائقيِّ "الرجل ذو النَّعل الذهبي"، والقائل بأنَّ اللبنانيين لم ينقسموا إزاءَ أيِّ شخصيةٍ "مثلما انقسموا حوله". كان الحريري قد انغمَس في السياسة اللبنانية، على ما يروي في الوثائقي، مع اجتياح إسرائيل لبيروت صيفَ 1982. ثمّ انخرط في جميع مبادرات إنهاء الحرب الأهلية، قبل أن يدخلَ في الختامِ سنةَ 1992 السرايَ العثمانيَّ وسطَ بيروت، حيث نقَشَ على بلاطةٍ من الرخام "لو دامت لغَيْرِكَ ما اتَّصَلَتْ إليكَ".
يشير الحريري في أحدِ فصول وثائقيِّ عمر أميرالاي بنفسِه إلى مفارقةِ أنَّ بلوغَه رئاسةَ الوزراء أضعَفَ نفوذَه مقارنةً بما كان عليه قبل أسبوعٍ فقط، مُرجِعاً السببَ إلى أنَّه تحوَّل إلى طرفٍ في اللُّعبة السياسية. كان الحريري قد بلَغ الحُكمَ سالِكاً طريقَ بيروت دمشق، وهي كنايةٌ عن نفوذِ سوريا، اشتهرَت في معجم الحياة السياسية اللبنانية. لكنَّها أيضاً طريقٌ شُقَّت في منتصف القرن التاسع عشر مع توسُّع بيروت إلى خارج سورِها، قبل أن تصبحَ خطَّ التَّماس الذي سيقسّم المدينةَ بعد أكثر من قرنٍ بقليلٍ بين شرقيَّة وغربيَّة في خضمِّ حربِها الأهلية. أمّا في حربِنا الكروية، فهي بصورةٍ ما: حكمة ورياضي.
شكَّل رفيق الحريري حكومتَه الأُولى عقب فوزِه بمقعد بيروت في انتخابات سنة 1992، بعد شهورٍ قليلةٍ من احتجاجاتٍ أسقطَت حكومةَ الرئيس عمر كرامي. ويرى ألبير منصور، وزيرُ الإعلام في حكومةِ الأخيرِ، في كتابه "الانقلاب على اتفاق الطائف"، أنَّه كان مخطَّطاً أن ترحل حكومةُ كرامي لكي يُكلَّف الحريري باعتبار أنَّ أولوية المرحلة المقبلة هي الإعمارُ، ولا يمكن لِسواه أن يقودَها لكونِه "مقاولاً كبيراً [. . .] وموثوقاً به من الأوساط المالية". ويوضح منصور أنَّ "عملية الترحيل [حكومة كرامي] جرَت عبر استخدام لقمة عيش المواطنين والتواطؤ مع الميليشيات ضدّ الحكومة والدولة". يقصد منصورُ هنا الحلفَ الذي جَمَعَ رفيق الحريري وزعيمَيْ حركة أمل والحزب الاشتراكي نبيه برّي ووليد جنبلاط، والذي عبّد له الطريق إلى السراي الحكومي. لكن هنا بدأ الحريري يخسَر جديَّاً من نفوذه، فكان دخوله اللعبة السياسية ووقوفه المباشر في وجه المعارضة السياسية المسيحية من أبرز مُحرِّكات الحرب الكروية بين الحكمة والرياضي.
سادت في تلك الأيام نظرةٌ عن رفيق الحريري في الشارع المسيحي، على ما يروي صديقٌ كان قريباً من القوَّات، أنَّه "زَلْمة السوريين والسعوديين القويّ، يلّي إجا أخد صلاحيات رئيس الجمهورية" بمقتضى اتفاق الطائف وتعديلاته الدستورية. هذا صحيحٌ بقدرٍ، لأنَّنا سنعلم بعد رحيله عبر تسجيلٍ صوتيٍّ مسرّبٍ له قُدِّم إلى المُحقِّقين الدوليين في جريمة اغتياله، أنَّه اعتبر نفسَه "بَيْ وإمْ [أب وأم] الطائف". قال ذلك في لقاءِ عتابٍ حادٍّ جَمَعَه مع نائب وزير الخارجية السوري وليد المُعلِّم في قصر قريطم قُبَيل الاغتيال في فبراير 2005.
في مقابل كُرْهِ معظمِ جمهور الحكمة للحريري وحليفَيه برّي وجنبلاط، كان الحشدُ في صالة صائب سلام التي صارت تسمّى "ملعب المنارة" يكره رموزَ المعارضة السياسية بالقدر نفسه أو أكثر. وبوجهٍ خاصٍّ سمير جعجع وبشير الجميِّل، مؤسّس القوّات وقائدها التاريخي الذي اتُّهِمَت سوريا باغتياله في سبتمبر 1982 بُعَيْدَ انتخابه رئيساً للجمهورية. كان هتافُ "سورِيَّا، سورِيَّا، سورِيَّا" الذي يردّده جمهور الرياضي هو الأشدّ استفزازاً بوجه "الحكماويّين". أيمن نفسه الذي غدا طبيباً في أمريكا يُخبِرني ضاحِكاً أنَّه هو من أطلق هذا الهتاف في مدرَّجات ملعب الرياضي في إحدى المرَّات، دون أن ينسى التوضيح أنَّه كان قد التحق "بجامعة مسيحية، وصرت فهمان مدى حساسية الموضوع عندهم".
أظهرت حربُنا الكروية حقيقةَ أنَّ الحرب الأهلية الدموية لم تنتهِ. كأنَّ متاريسَها تُبعَث حيَّةً في النُّفوس. يقول أيمن إنَّه كان يتعرّض ورفاقه لأيّ سيارةٍ يُحتمل أن تمرّ أمامهم "هون بالغربيّة" رافعةً عَلَمَ الحكمة، لأنَّها بنظرهم تستفزُّهم في منطقتهم، فيُقدِمون على "كسر الآنتينّا [الهوائيّ] مثلاً". صارت صراعات لبنان سلعةً رياضيةً سياسيةً على المُدرَّجات وخلف الشاشات، وراحت تُذكِي نيرانَ الدِيربي وتشغل البلد.
أخذَت هذه الحماوةُ تُسهِم في تعريف حدود تدخُّل المؤسَّستَين الأمنية والعسكرية ضمن المجتمع، في مرحلةِ ما بعد الحرب الأهلية. حدث ذلك لأنَّ حدَّة المواجهات استجلبَت توسُّعاً لأدوار هذه القوى، داخل صالات الملاعب أو في محيطِها. مثلاً، يقول الصحفيُّ عبد الوهّاب السروجي في عددِ جريدةِ السفير الصادر في 15 مايو 1997 إنَّ إشكالاً تسبَّب في إيقافِ مباراةِ دِيربي طوال "ثُلثَيْ ساعةٍ تخلَّلها إطلاقُ عياراتٍ ناريةٍ" من قوى الأمن الموجودة في حرم الملعب. ولإيفاءِ الكَيلِ في الليلة الحامية الوطيس، انهالَت الزُّجاجات البلاستيكية على أرض الملعب، واقتيدَ إيلي مشنتف إلى خارج الصالة قبل أن يعودَ "بعد تدخُّلاتِ سُعاةِ الخير"، على حدِّ تعبيرِ عبد الوهّاب.
غالباً ما كانت قوّاتُ الجيش والأمن، التي تنتشر في محيطِ واحدٍ من المَلعَبَين، من انتماءٍ طائفيٍّ معيَّن. يُخبِرني أيمن مثلاً أنَّ صديقَه منعه ضابطٌ في الجيش إبّان الانتفاضة الفلسطينية الثانية من الدخول إلى مُدرَّجات ملعب الحكمة وهو يلبس الكوفيَّة الفلسطينية، بل طَلَبَ إليه "رميَها في الساقية". كان العَصَبُ المسيحيّ للمؤسَّسة العسكرية ما يزال موالياً لقائدِها السابق ميشال عون المنفيّ منذ صيف 1991 إلى فرنسا. إنَّما جمهور القوَّات، وتالياً غالبية جمهور الحكمة، لا يطيقونَه بسبب حربه مع سمير جعجع. عَجِزَ أيمن عن تحديد تاريخ تلك المباراة التي "خسرناها بفارقٍ بسيطٍ"، لكنَّ الأسوأ حدث داخل صالة الملعب، إذْ "مَنَعَ الجيش جمهورَنا من الوقوف على المُدرَّجات. ممنوع نوقف، تخايل"، يقول لي أيمن.
هناك أيضاً جهاتٌ ضمن الأجهزة الأمنية كانت تعمل بعد مباريات الدِيربي على مطاردةِ أفراد جمهور الحكمة "لأنَّهم هَتَفوا لجعجع وضدَّ سوريا، والأهم أنهم حملوا صوَرَه وأعلام القوَّات"، على ما تروي فيرا بومنصف في مقالتها. لكنْ مع ذلك، كنَّا نحن "الفريق الآندردوغ [المستضعف]"، يقول أيمن ثم يضيف: "كانوا كتير يضيّقوا علينا القوى الأمنية، والجيش بعد أكتَر". يُرجِع أيمن، وما سمعتُه عن عددٍ من أشخاصٍ معنيِّين باللُّعبة، أسباب "استضعاف الرياضي" إلى واقع أنَّ اتحاد كرة السلة في لبنان "كان يعود إلى المسيحيين وفق التركيبة الطائفية اللبنانية، بعكس كرة القدم". وهذا ما يُلمِح إليه الرئيس السابق لاتحاد كرة السلة بيار كاخيا في وثائقيِّ الجزيرة، حين يشير إلى أنَّ أنطوان شويري حاول إطلاق مشروعه مع فريق كرة القدم لنادي الحكمة، ولكنَّه أخفق "وتصادَم مع القيِّمين على اللُّعبة وقتها". ولم تكن هذه المسألة الطائفية خفيَّةً في الفضاءِ العامّ، إذ يرِدُ على سبيل المثال في أعلى الصفحة الثامنة لعدد السفير الصادر في 15 نوفمبر 1994 عنوان "اتحاد كرة السلة يخرج عن صمته ويَرُدّ على الرياضي: اتهام رئيس الاتحاد بالطائفية أمرٌ خطيرٌ وغير منطقي".
يَعكُس هذا البُعد في العلاقة بين اتحاد كرة السلة والنادي الرياضي آنذاك كيف أنَّ نهاية الحرب الأهلية سنة 1990 لم تَعنِ بالضرورة غيابَ نزاعات المجتمع وصراعاته، بل كانت "السياسة استمراراً للحرب إنَّما بوسائل أخرى"، اقتباساً من المفكِّر الفرنسي ميشال فوكو في كتابه "يجب الدفاع عن المجتمع". يوضح فوكو أنَّه ضمن ما يُسمِّيه "السِلْم الأهلي" يجب تفسير الصراعات السياسية والمواجهات باعتبارها استمراراً للحرب. وهذا ما ينطبق على الحرب الكروية بين الرياضي والحكمة، بمبارياتها التي بدَت كأنَّها عروضُ سيركٍ من زمنِ روما، فتُلبِّي الرغبات المباشرة للحشود المُتواجِهة وسط استثمار السلطة فيها أيضاً لأنَّها تُجنِّب الذهابَ بعيداً في تقويضِ سِلْمٍ يجعلُها مُسيطِرةً.
وفي الواقع، هناك نزاعٌ تأسيسيٌّ حادٌّ بين النادي الرياضي واتحاد كرة السلة يدور حول تاريخ إنشاء البطولة المحلية. يحصره اتحاد اللّعبة بسنة 1992، فيما يرى الرياضيُّ أنَّه تاريخٌ يمسح كلَّ ما سبق له تحقيقُه من بطولاتٍ بين تأسيس الاتحاد نفسه سنة 1951 وبين توقُّف النشاطات الرسمية مع بداية الحرب الأهلية. يعطي مسؤولو النادي الرياضي في تلك المرحلة صورةً بأنَّ الحريري كان يُؤثِر تجنُّبَ المواجهة في لعبة كرة السلة مع نادي الحكمة، وتالياً مع المسيحيين. إذا صحَّ الأمر، فالسبب الأرجح هو إدراكُه أنَّ موازين القوى في الحكم لن تستقِرَّ له أبداً، وهذا ما سيتضِّح في أجلى الصوَر ليلةَ 29 مايو 1999، حين بلغت الحرب الكروية ذروتَها مع فوز الحكمة ببطولة آسيا على ملعبه في غزير.
لم يُشجِّعهم أيمن "من القلب"، بل لأنَّهم فريقٌ لبنانيٌّ "مش أكتر". ولا يتردَّد في الإعراب عن كرهِه في تلك الأيام لإيلي مشنتف ومدرِّبهم غسَّان سركيس وفادي الخطيب، النَّجم الصاعد بقوَّةٍ وغير المنتمي إلى طائفة النادي. يُفلِتُ أيمن لسانَه للشتائم. ولكن في تلك الليلة من مايو، حضر إلى الملعب رئيسُ الجمهوريةِ وقائدُ الجيشِ السابقُ العِماد إميل لَحّود، "مفاجئاً الجميع". ولحّود ليس سوى الرئيس المسيحي القويّ الذي أزاح رفيق الحريري من رئاسة الوزراء مع وصوله إلى الحكم في 1998.
كانت شظايا حربِ الحكمة والرياضي قد طالت في وقتٍ باكِرٍ العلاقةَ بين موقعَيْ رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، على ضعفِ مراكزِ القوى المسيحية في النظامِ اللبنانيِّ الجديدِ، وغيابِ صفةِ التمثيل الشعبيّ عن غالبيّة من كانوا يَتولَّون المناصبَ المحسوبةَ على المسيحيين. فيذكر الصحفي الرياضي يوسف برجاوي في عدد جريدة السفير الصادر يوم 26 فبراير 1994 أنَّ التسابق السياسي بين الرئاسَتَيْن تحوَّل إلى تنافسٍ رياضيّ. ويوضح أنّ رئيس الجمهورية إلياس الهراوي استقبل وفداً من الحكمة "قدَّم له كأس لبنان التي أحرزها مؤخّراً"، فيما استقبل رئيس الحكومة وفداً للغريم الرياضي "قدَّم له كأس بطولة لبنان التي أحرزها في نهاية العام الفائت".
حين يتذكَّر أيمن زيارةَ لحُّود إلى الملعب وتحيّةَ جمهور الحكمة الكبيرة له، يُخبِرني أنَّ في تلك المرحلة "كانوا صحابنا مؤيّدي الحريري" من جمهور الرياضي يقولون إنَّ هذا الرئيس "بَدُّه يجيب المسيحيّي لَيِرجعوا يِحكموا البلد"، وأنَّ مشروعَه إخراجُ جعجع من السجن. فيسأل سؤالَه الاستنكاريَّ بعد كلِّ ما شهدناه مذَّاك: "شِفت السُّخرية وين؟". لكن في واقع الأمر كان رفيق الحريري يواجه أزمةً متراكِبةً في ظلِّ انتقاداتٍ تواجهه على خلفية إخفاق وعوده الاقتصادية، وسط بداية تباعدٍ مع حُكَّام دمشق جاء بالرئيس الجديد إلى "قصر بعبدا".
برزَت قراءةٌ تقول إنَّ مشروعَ رفيق الحريري للسلام مع إسرائيل وفق الشِّعار الموافَق عليه سوريّاً "الأرض مقابلَ السلام"، كان قد بلَغ نهايتَه. حتى أنَّ وزير المال البارز في الحكومة التي ستخلفه، جورج قُرم، يرى أنَّ بين تولّي رفيق الحريري رئاسةَ الحكومة في عُهدَتِه الأُولى سنةَ 1992 وبين مغادرتِه الحكمَ أوّلَ مرّةٍ في 1998، كانت هناك "سياسة مقصودة هدفها توريط الدولة بالديون على أمل إعفائنا منها عند توقيع السلام". لكنْ لِشخصَين مثل أيمن وأنا، عاشا في بيروت الغربية إبَّان تلك المُدَّة وجلسا في مدرَّجاتٍ يدعمُها رفيق الحريري، مثل مُدرَّجات النادي الرياضي أو حتى نادي النجمة في كرة القدم، فإنَّ الأزمة الأكبر للحريري كانت الزعامةَ السُّنِّيةَ غيرَ المنعقدة.
بالنسبة لنا، فإنّ سببَ رفع صُوَر الحريري في ملعب النادي الرياضي نهاية التسعينيات تحديداً هو دعمُه الناديَ، وليس لأنَّه الزعيمُ الأسطورةُ أو ذلك المُتخيَّل في ذهن جمهور نادي الحكمة. تبرز هذه الزعامةُ السُنّيةُ غيرُ المنعقدة أيضاً في علاقة الرجل "المحدودة بسُنَّة المناطق الطرفية" وفق أيمن. إضافةً إلى نفوذٍ ينحسر ويتَّسع في بيروت ومسقط رأسه صيدا، وآخَر محدودٍ على "حصّة السُنَّة داخل القطاع العام"، على غرار مؤسّساتٍ مثل الجيش وقوى الأمن والقضاء.
يُخالِف رأيُنا ما خَلُص إليه الكاتبُ إلياس خوري في وثائقيِّ "الرجل ذو النعل الذهبي". إذْ يشير إلى أنّ الخطابَ التحديثيَّ الذي تبنَّاه رفيق الحريري مع نهاية الحرب الأهلية، "أو قيل إنّه خطابه"، انتهى إلى أنَّه "الزعيم السنِّي".
بدا الحريري عالِقاً بين جمهورٍ مُعارِضٍ بمشاربَ كثيرةٍ، وبين واقعٍ تسعى دمشق فيه دائماً إلى الحدِّ من حجم زعامته السُنِّية. فابنُ مدينة صيدا وزعيمُ العاصمة بيروت لم يكن في يومٍ مشروعَ "زعامةٍ محليَّةٍ مُكتَفِيَةٍ"، على ما يَصفُ هشام جارودي زعامةَ صائب سلام.
يتناول الحريري هذه العقدةَ في سياق الدفاع عن النفس خلال جلسةِ العِتاب الحادّ التي جَمَعَته مع وليد المعلِّم في قصر قريطم. فيقول لضيفِه بشأن علاقته بصديقَيه القديمَين، وهُما مِن أبرزِ الشخصيات السُنِّية في النظام السوري، أيْ نائبَ الرئيسِ عبدَ الحليم خدام ووزيرَ الدفاعِ حِكمَت الشَّهابي، "بلَّشها الرئيس [حافظ الأسد] . . . ما عملتْ شي من عندي". ويقول إنَّه لم يرِد أبداً "الاتِّصال بأحدٍ في سوريا إلّا من خلاله".
كانت بيروت تتغيَّر إبّان اللقاء، والحريري يذهب بعيداً في المعارَضة بعد استقالتِه الأخيرةِ، في الوقت الذي بدأ الصعودُ السريعُ لزعامة الأمينِ العامِّ لحزبِ الله، حسن نصر الله. راحت الهُتافات له ولمعقلِه، ضاحية بيروت الجنوبية، تعلو مُدرَّجات النادي الرياضي. وكانت وجهاتُ الدِيربي قد بدأت تتغيَّر، خاصّةً مع استقالة أنطوان شويري من رئاسة نادي الحكمة سنة 2004. لكنَّ رفيق الحريري بَقِيَ، قبل أن يَحُلَّ شتاؤُه البعيدُ، بطلَ صالةِ النادي الرياضي الدائم. لا يمكن أن تمرّ مباراةٌ للرياضي دون أن يهتفَ جمهورُه "الله، حريري، طريق الجديدة"، شعار النادي الأشهر. وألَّا يشعر مثل أيمن حين يشاهد المباريات حيث صار يعيش في أمريكا، بأنَّه "سِنِّي، ومع الحريري، ومن طريق الجديدة".
في مقالةٍ بعنوانِ "الله، حريري، طريق الجديدة... تحوّلات قلب العاصمة"، الصادرةِ في جريدة الأخبار يوم 1 نوفمبر 2011، يكتب ابنُ هذه المنطقةِ المسرحيُّ زياد عيتاني عن زيارة الحريري إلى طريق الجديدة إبَّان التحضير لانتخابات سنة 2000 التشريعية الحاسِمة بعد إخراجه من الحكم على يد لحُّود. فيقول إنّ زيارتَه عَكَسَت "شعور الناس بعودةِ قوَّةِ تأثيرِهم في الحياة السياسية" منذ أن أُقصوا عنها في منتصف الثمانينيات، في "أحد تداعيات خروج منظمة التحرير [الفلسطينية] من بيروت واتِّساع دور النظام السوري". يشير هذا الحديث إلى مسألة الزعامة المُعقَّدة والشائكة بما يخصُّ أيَّ رجلٍ سنّيٍّ كان سيتولّى رئاسة الحكومة في عهدِ ما بعد الحرب الأهلية، بخلاف ما يمكن أن تُصوِّرَه حشودُ نادي الحكمة والمعارضة المسيحية عن الرَّجل. لكنْ في تلك الانتخابات، اكتسح رفيقُ الحريري بيروتَ بالكثير من المال السياسيّ، ثمّ عاد ليجلسَ مُنتصِراً على كرسيِّ رئاسة الحكومة إلى جانب إميل لحود، قبل أن تعودَ مدرّجاتُ الرياضي لتهتفَ له طويلاً.
