ثلاث ساعاتٍ قضيتُها وحدي بعدما انصرف جميع المسافرين، ولم يقطع صمتَها إلا الضابطُ الذي اعتذر بابتسامةٍ عريضةٍ على تأخيري، ثم سمح لي بالانصراف. وفي الثانية بعد منتصف الليل خرجتُ من مطار "أركان"، أو كما يُنطق في شمال قبرص "أرجان"، وما زلت أتذكر نظرات رجال أمن المطار لي وأسئلتهم التي أدهشتني. أقول لنفسي "يبدو أن هذه الرحلة ستحمل جوانب جديدةً ومثيرة". تناولتُ شطيرة التونة مع كوب شايٍ تركيٍّ في مقهىً صغيرٍ للغاية أمام المطار. فقد كان عليّ الانتظار حتى السادسة صباحاً لأستقلَّ حافلةً عامّة. لكنّ قواي الجسدية والنفسية لم تتحمّل الانتظار أكثر. فالبرد قارسٌ، وبالكاد وبعد عناء، وافق سائق تاكسي على توصيلي إلى فندقٍ في لفكوشا، عاصمة قبرص التركية.
ومن المطار في شتاء سنة 2017 بدأت رحلة بحثٍ دامت ستة أيامٍ في طرفَي قبرص، الشمالي الذي يخضع للولاية التركية والجنوبي المعروف باليوناني. بلدٌ واحدٌ بعَلَمَيْن وعاصمتين وعملتين، ولكلٍّ منهما قِيَمُه الخاصة وديانته الغالبة وحتى تاريخه. وبقراءةٍ في تاريخ الأزمة القبرصية، وجدتُ نفسي في قلب أغرب أزمةٍ بين دولتين في نصف القرن الأخير، راح ضحيّتها الآلاف ما بين قتيلٍ ومصابٍ ولاجئٍ ومشرّد. وبمحادثتهم أيضاً، اقتربتُ من تفاصيل ما جرى وما زال من أزماتٍ وانقساماتٍ وصراع. تساءلتُ مراراً وأنا أجولُ في هذه الجزيرة الحائرة عن الأمل بأن يتوقف هذا الصراع، وعن الفاتورة المطلوب دفعها، ليعيش الشعبان القبرصيّان مطمئنَيْن تحت سماءٍ واحدةٍ آمنة.
ووسط هذا كلّه ومن باب الأمن الشخصيّ، تظاهرتُ أنّي أحدّثُ صديقةً لي في الهاتف تعيش في تركيا، وقد أخبرتُها عن تحرّكي وتفاصيل السيارة. تعمّدتُ في هذه المكالمة المختلَقة أن أسأل السائق عن نوع السيارة التي ركبتُها مسرعاً ولم أدقّق في علامتها. أخبَرَني أنها مرسيدس، وأشار إلى رقمها المكتوب على الجانب الأيسر بجوار علبة مناديل داخل السيارة ماركة "سولو" التركية. أضاف وقد ابتسم: "أنت في أمانٍ، اطمَئِنّ".
أخبرني أنه يجيد ثلاث لغاتٍ هي الإنجليزية والتركية واليونانية وأن اسمه ديميتري، وأخبرته أني صحفيٌّ جئتُ للسياحة. فبادر بالسؤال وقد رأى أَمارات التوتّر على وجهي عمّا كان يضايقني. فأخبرته بما حدث لي بالمطار وأنهم ما إنْ شاهدوا بيانات حجز الفندق حتى حدثت حركةٌ غير عاديّةٍ انتظرتُ بعدها ساعات. سألني عن اسم الفندق. قلتُ "كليوباترا"، فانفجر ضاحكاً. ردَدتُ بمزاحٍ: "كليوباترا ممنوعةٌ هنا؟".
عاد فسألني: "أكيد أوّل مرّةٍ تأتي إلى قبرص التركية؟". وبعد أن أومأتُ إيجاباً. قال لي إنّ فندق كليوباترا ذي الأربعة نجومٍ موجودٌ في نيقوسيا، الجانب الجنوبي من العاصمة الذي يُعرف بقبرص اليونانية (أما قسمها الشمالي التركي فيسمى لفكوشا باللغة التركية)، وقال لي: "أنت في مطار قبرص التركية وممنوعٌ الوصول إلى الفندق من هذا المطار". لهذا تشكّكوا في الأمر إلى أن تأكّدوا أنه خطأٌ غيرُ مقصود. ساعتَها أيقنتُ أن هذه الرحلة ستغيّر نظرتي إلى هذه الجزيرة، وقد وقفتُ بلا عمدٍ على عمق الخلاف وحساسية التاريخ بين قبرص التركية وقبرص اليونانية.
أخبرني المؤرّخ جمال شقرة، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس في القاهرة، أن قبرص عاشت فترةً من الاستقرار النسبيّ تحت حكم الدولة العثمانية. ازدهرت الحياة الاقتصادية والثقافية وتعايش القبارصة اليونانيين والأتراك سلمياً، حتى تولّت الإمبراطورية البريطانية أمور الجزيرة من الدولة العثمانية عام 1878، وهو ما عُرف حينها باسم "اتفاقية قبرص". مُنحت الحكومة البريطانية وفقاً للاتفاقية سيطرةً إداريةً على الجزيرة، ودفعت بموجبها فائض إيرادات قبرص من نفقاتٍ حكوميةٍ للباب العالي، بينما احتفظت الدولة العثمانية بحقوق الأرض. هذا مقابل دعم بريطانيا للسلطان عبد الحميد ضدّ أيّ عدوانٍ روسيٍّ، باستخدام قبرص قاعدةً عسكرية. مع اندلاع الحرب العالمية الأولى في 1914، واصطفاف تركيا لدول المركز وهي ألمانيا والنمسا والمجر وبلغاريا ضدّ دول التحالف ومنها بريطانيا، ضمّت بريطانيا قبرص لها رسمياً واحدةً من مستعمرات التاج.
شهدت هذه الفترة اضطراباتٍ واحتجاجاتٍ في قبرص على الحكم البريطاني. وحسب المؤرّخ البريطاني روبرت هولاند، المتخصّص في تاريخ قبرص الحديث في كتابه "بريتين آند ذا ريفولت إن سايبْرس" (بريطانيا وولادة التمرّد في قبرص)، كانت بريطانيا مسؤولةً عن إدارة الجزيرة حين التوتّر العرقيّ وقد ساهمت في تأجيج الصراع فيها.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى وولادة الجمهورية التركية الحديثة سنة 1923، برزت مطالباتٌ من القبارصة اليونانيين بالانضمام إلى اليونان بما أن الظروف باتت مواتيةً. اشتدّت تلك المطالبات في الثلاثينيات وتطوّرت إلى اشتباكاتٍ مع الإدارة البريطانية الحاكمة، سرعان ما تخلّلَتها إجراءاتٌ بريطانيةٌ قمعيةٌ حُظِرَت معها المدارس اليونانية والجمعيات والاتحادات التجارية. كذلك ثار القبارصة الأتراك على الوجود البريطاني ونالوا أيضاً نصيبهم من القمع. فشلت بريطانيا بتسيير حكومةٍ دستوريةٍ في قبرص تُشرِك القبارصة اليونانيين فيها بلا الاتحاد مع اليونان بعد الحرب. بقي الأمر على هذه التجاذبات حتى حصلت قبرص على استقلالها سنة 1960 وإعلان الجمهورية القبرصية. إلّا أنه حتى بعد الاستقلال وإعلان الجمهورية، اشتدّ الصراع بين اليونانيين والأتراك في الجزيرة. وكما يرى جمال شقرة "انقسمت الجزيرة في وقتٍ مبكرٍ بين قوميةٍ تركيةٍ وقوميةٍ يونانيةٍ، وكان القبارصة الأتراك يرفضون الوحدة مع دولة اليونان، فسعوا لتقسيم الجزيرة في الوقت الذي كان فيه القبارصة اليونانيون يميلون إلى الاتحاد مع اليونان".
سُنّ دستور 1960 ونصّت بنوده على منح القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك حقّ الاشتراك في الجمهورية. ويتذكّر سائقُ التاكسي ديميتري والدَه الذي رَوى له حينما كان طفلاً في الخامسة من عمره أن دستور 1960 زاد التوتر بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك. أخبرني ديميتري أن الدستور أعطى حقوقاً محدودةً للأقلية التركية ما أثار استياءهم، وتجلّت معه سطوة اليونان وتركيا باعتبارهما دولتين ضامنتين لاستقلال قبرص. كان والد ديمتري يعمل وقتئذٍ صياداً في اليونان عندما اندلعت اشتباكاتٌ عنيفةٌ بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك سنة 1963، على إثر هجوم مجموعاتٍ مسلّحةٍ قبرصيةٍ يونانيةٍ بدعمٍ من الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية على القبارصة الأتراك وقتل العشرات منهم عشيّة عيد الميلاد، وهو ما يعُرف في تركيا بحادثة "عيد الميلاد الدموي". يرى شقرة أن السبب المباشر في الأزمة هو وقوع الانقلاب العسكري اليوناني سنة 1963، وقادَهُ قوميّون سعوا لضمّ الجزيرة إلى اليونان، وأكّد أن العوامل الخارجية قد لعبت دوراً كبيراً في خلق هذا الصراع وتأجيجه.
في الخامس عشر من يوليو 1974، انقلب عناصر من الحرس الوطني القبرصي، بدعمٍ من المجلس العسكري الحاكم في اليونان، على الرئيس المنتخَب مكاريوس الثالث. فنُصِّب بدلاً منه نيكوس سامبسون، المؤيّد للاتحاد مع اليونان. اتَّخذَت تركيا الانقلابَ ذريعةً للتدخل عسكرياً بعد خمسة أيامٍ تحت عنوان حماية الأقلية القبرصية التركية. سيطر الأتراك على 37 بالمئة من مساحة قبرص شمالاً، ممّا أدّى إلى تقسيم الجزيرة فعلياً. وفي 1983، أعلنت جمهورية شمال قبرص التركية استقلالها من جانبٍ واحدٍ، ولَم تحظَ هذه الجمهورية باعترافٍ دوليٍّ سوى من تركيا.
يقول ديميتري أنه عاش طفولته في اليونان وعاش شبابه بين قبرص وبريطانيا، وأنه في وقت الغزو التركي كان في التاسعة عشر من عمره في قبرص. وإن لم يرغب بالحديث كثيراً عن تلك الفترة، فقد اكتفى بالقول إن العمليات العسكرية هجّرت نحو مئتي ألف قبرصيٍ يونانيٍ من شمال قبرص إلى جنوبها، وآلافَ القبارصة الأتراك إلى شمالها. ومع الحديث المطوّل وشهادات التاريخ، تقلّصت المسافة الإنسانية بيني وبين ديمتري بعد أن كان القلق سيّد الموقف في بداية رحلتي. ومع أن حكايات ديمتري هدّأتْ كثيراً من روعي، فإنها أوقفتني على حقيقة أزمةٍ كبيرةٍ وعميقةٍ تملأ كلّ زاويةٍ في هذه الجزيرة.
في الفندق أمدّتني موظفةُ الاستقبال المرحةُ والمتعاونةُ "أسلي" بخريطةٍ للمدينة ومطبوعاتٍ لأهمّ معالمها السياحية. مازحَتْني: "كما يَظهر بجواز سفرك أنّك صحفيٌّ، فلا تنسَ أن تكتب عن فندقنا الجميل". ثم وعدَتْني أن إقامتي ستكون استثنائيةً بعد أن اختارت لي غرفةً مطلّةً على حديقةٍ رائعة. أعطتني مع الرقم السرّي لشبكة الإنترنت أسماءً لمواقع إلكترونيةٍ ستفيدني، حسب زعمها. ما طمأنني أنني لم أجد حساسية التمييز بين قبرص التركية واليونانية في حديثها، شكرتُ لها صنيعَها واستأذنتُ بابتسامةٍ خفيفة.
في اليوم التالي، اصطحبني ديميتري في جولةٍ لزيارة معالم لفكوشا. شاهدتُ "بوابة كيرينيا"، وهي بوابةٌ تاريخيةٌ شيّدت سنة 1567 ورمّمها العثمانيون وأضافوا إليها. زُرتُ كذلك "بُيوك خان" أو الخان الكبير وكان أكبر "نُزُل" تاريخي للمسافرين في قبرص، وقد بناه العثمانيون سنة 1572، وهو أحد أهمّ المزارات الأثرية في قبرص التركية، ورمزاً للتعايش والسلام في العهد العثماني.
مرّةً أُخرى وجدتُ نفسي في سيارة ديميتري، وعلى الجانب الأيسر من السائق أيضاً، وهو الأمر الذي سبّب لي بعض الدوخة لأنّي غيرُ معتادٍ على هذا في بلدي. انعطف ديميتري بالسيارة إلى ممرٍّ ضيّقٍ ولكنه غارقٌ بين الأشجار والزهور، ووقف بالسيارة أمام منفذٍ صغيرٍ طالباً منّي بلطفٍ جوازَ سفري. تبادَلَ التحيّةَ مع ضابطةٍ شابّةٍ ترتدي زيّاً أخضر زيتونياً، وغطاءَ رأسٍ عليه شعار الشرطة القبرصية. حادَثَها بصوتٍ عالٍ وبلغةٍ فهمتُ أنها يونانية. ابتسمتُ وعلمتُ أننا على حدود قبرص اليونانية.
سُمح لي بزيارة نيقوسيا (اليونانية) عدّة ساعاتٍ على مسؤولية ديميتري الخاصّة، ومازحني بلهجةٍ عامّيةٍ مصرية: "إنت مبسوط؟"، أجبتُه: "تمام خواجة أبْدَ الكادِر" (عبد القادر) بعدما كنتُ قد شرحتُ له أنه شديد الشبه بالفنان المصري يحيى الفخراني، خاصّةً بدَورِه في مسلسل "الخواجة عبد القادر" المنتَج سنة 2011، وقدّم فيه الفخراني دورَ الإنجليزي العجوز "هربرت هوبرفيلد" الذي حَوَّلَ اسمَه إلى الخواجة عبد القادر. كانت ملامح ديمتري طيّبةً ومتسامحة.
حكي لي ديميتري عن علاقته الطيّبة بمسؤولِي الأمن على المنافذ بين القبرصَيْن لأنه ينقل الكثير من السيّاح من جنسياتٍ مختلفةٍ ومعظمهم من الأوروبيين. انطلقنا وكأننا صديقان، وكان الكثيرون يعرفونه في المطاعم ومحال التسوّق ويحترمونه،كما ظهر لي من تعاملهم، وهذا ما سهَّل جولتي في الجزء اليوناني من العاصمة.
كان قصر رئيس الأساقفة وجهتي الأولى. رأيتُه من الخارج بسرعةٍ، فلَم يكن مفتوحاً على مدار الساعة للجمهور. شُيّد القصر في الخمسينيات، وهو الآن مقرّ رئيس أساقفة قبرص في نيقوسيا، ويقع بجواره قصرٌ قديمٌ بُنِيَ في القرن السابع عشر للغرض ذاتِه. مررتُ بعد ذلك بالقرب من فندق هيلتون نيقوسيا، وفيه اغتيل الأديب المصري يوسف السباعي سنة 1978. وقد اختلفت الروايات عن المتورطين بالاغتيال وأسبابه. بعضهم قال إنها منظمة التحرير، والسبب ذهاب السباعي مع الرئيس أنور السادات إلى القدس سنة 1977، وآخَرون نسبوا الأمر لاحتكاره المناصب الثقافية في مصر باعتباره مقرّباً من السادات. وعلى فضولي وقربي من الموضوع إلّا أنّني آثرتُ ألّا أعلِّق حتى لا أدخل في نقاشاتٍ حسّاسة. تجوّلتُ كذلك في شارع ليدرا التاريخي الذي يفصل نيقوسيا التركية عن نيقوسيا اليونانية.
جلستُ أنا وديميتري نحتسي القهوة في مقهىً بمنطقة "الخط الأخضر" أو "الأرض الميتة" أو ما يُسمّى "المنطقة العازلة" التي تفصل بين طرفَي قبرص وتديرها قوّاتٌ تابعةٌ للأمم المتحدة. جزءٌ من هذا المقهى في قبرص التركية والآخَر في قبرص اليونانية. أصرّ ديميتري بعنادٍ أن يدعوني على فنجان قهوةٍ قبرصية. قهوتهم داكنةٌ جدّاً تُقدّم في فنجانٍ صغيرٍ للغاية، مع قطعة حلوى اسمها "شوشوكو" مصنوعةً من العنب والمكسرات. دَعَوْتُه في لحظتها بعناد المصريّ على فنجان قهوة "أورتا"، أي مضبوطة باللغة التركية، ومعها قطعة بقلاوةٍ تركيةٍ أيضاً. أعجبني هذا المقهى ورأيتُ مقاهيَ كثيرةً مماثلةً تحاول أن تصنع حالةً من الودّ بين طرفَي قبرص، حتى في أصناف الأطعمة والمشروبات التي يقدّمونها.
أَخبرَتْني بيرنا أنها كانت تعمل في الفندق منذ ثلاث سنواتٍ، وهي واحدةٌ من سكّان قبرص التركية الأتراك الذين يمثّلون نحو 98 بالمئة من سكّانها، البالغ عددُهم 382 ألفاً حسب إحصائيات سنة 2021. باقي السكان هم أقلّياتٌ صغيرةٌ من القبارصة اليونانيين والأرمن بالغالب. اللغة الرسمية هي التركية والعملة هي الليرة التركية، والدولار الأميركي واليورو عملتان متداولتان أيضاً.
بيرنا مسلمةٌ كما الأغلبية العظمى من السكّان، لكن لها أكثر من زميلةٍ مسيحية في الفندق، إذ توجد أقلّيةٌ مسيحيةٌ قبرصيةٌ في الشمال. يتركز غالبية سكّان قبرص التركية في المدن الرئيسة مثل لفكوشا وفاماغوستا وكيرينيا. في المقابل، يقارب عدد سكان قبرص اليونانية تسعمئة ألفٍ، ويشكّل القبارصة اليونانيون ما نِسبَتُه 78 بالمئة من سكّان جنوب قبرص، والباقي أقلّياتٌ من القبارصة الأتراك والبريطانيين والروس.
بيرنا تؤمن مثل العديد من الشباب القبرصي التركي بأنّ "عملية السلام"، التي أطلقتها تركيا على إثر الانقلاب العسكري على الرئيس القبرصي مكاريوس الثالث قبل أن تتحرك أنقرة عسكرياً للسيطرة على شمال الجزيرة سنة 1974، كانت ضروريةً لحماية القبارصة الأتراك من العنف والتمييز. وكما معظم الشباب القبرصي التركي الذين حادثْتُهم، تُفضِّل بيرنا حلَّ الدولتين مع الاعتراف بـجمهورية شمال قبرص التركية دولةً مستقلة. وهو ما يراه مسؤولون أتراك. وآخِرُ تداعيات الأمر تمريرُ البرلمان التركي في يوليو 2024، في الذكرى الخمسين لدخول الجيش التركي شمال قبرص، قراراً يدعو فيه المجتمع الدولي إلى الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية دولةً مستقلةً، وبالتالي حلّ الأزمة على أساس وجود دولتين مستقلتين في الجزيرة.
أما الشباب القبارصة اليونانيون الذين قابلتهم، فيَنظرون إلى الغزو التركي سنة 1974 حدثاً "مُؤلماً وظالماً"، وتجمعهم رغبةٌ قويةٌ في استعادة وحدة الجزيرة وسيادتها. يفضّل معظمُهم حلّاً فيدرالياً، أي دولةً واحدةً بكيانين سياسيين شماليٍّ وجنوبيٍّ، بما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة. وهو أيضاً ما يذهب إليه خبراء وسياسيون يونانيون، ومنهم أندرياس ثيوفانوس، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة نيقوسيا، والذي سبق له العمل مستشاراً سياسياً للرئيس القبرصي اليوناني السابق ديميتريس خريستوفياس بين سنتَيْ 2008 و2013. يؤيّد ثيوفانوس حلّاً فيدرالياً والعمل على إيجاد حلٍّ سلميٍّ ومستدامٍ بمعاونة دول الإقليم، ويرفض بشدّةٍ التدخّلَ التركيَّ في الجزيرة.
رحّب العديد من القبارصة اليونانيين الذين قابلتُهم بفكرة التواصل والتعايش مع القبارصة الأتراك. وهناك مُبادراتٌ لتعزيز الحوار والتفاهم المُتبادَل والتعاون في مختلف المجالات تقودها كوادر قبرصيةٌ تركيةٌ ويونانيةٌ مشترَكة. منها فرقة "آيلاند سيدز" (بذور الجزيرة) التي تحيي حفلاتٍ موسيقيةً تسعى لجلب الطرفَيْن القبرصيَّيْن، التركي واليوناني، قريباً من بعضهما بعضاً.
على طول الخطّ الذي يضيق في بعض المناطق إلى عدّة أمتارٍ ويتّسع في مناطق أخرى إلى سبعة كيلومتراتٍ، رأيتُ مبانيَ مهجورةً ومتهالكةً وأسلاكاً شائكةً وحواجز عسكريةً، وبعض نقاط تفتيشٍ يقف عليها ضباطٌ ودودون بملابس الأمم المتحدة الزرقاء يرتدون القبعات الزرق، ومن هنا صاروا يسمّون قوّات "القبعات الزرق".
فضولي دفعني للاطّلاع على ثمانيةٍ وثلاثين عدداً من أصل مئةٍ وثمانية عشر، من مجلّة "القبعات الزرق" التي تصدرها الأمم المتحدة، محاولاً فهم دور هذه القوّة ومدى انغماسها في الواقع القبرصي. لَفَت نظري ما قالته في المجلة الكندية ميشيل أنجيلا هاملين (75 عاماً) التي خدمت في قوات القبعات الزرق سنة 1986 وعادت سنة 2024 زائرةً المنطقة: "جئتُ اليوم لأرى ما حدث بعد كلّ هذه السنين، وقد عانينا الكثير ونتمنى أن تنتهي هذه الأزمة". ويتذكر المحارب السويدي أندرياس أريدوس ما حدث معه عندما جاء أوّل مرّةٍ سنة 1974، وكيف كانوا يتعرّضون لإطلاق نارٍ واعتداءات. يقول: "لا يجب أن ننسى أن هناك في هذا المكان، الخطّ الأخضر، قُتل 187 من موظّفي الأمم المتحدة وهم يحاولون الحفاظ على السلام في قبرص".
شُكّلت قوّة الأمم المتحدة لحفظ السلام في قبرص بموجب القرار 186 لسنة 1974، ووصلت بوادر القوة في الثالث عشر من مارس 1974. ويخدم حالياً على الأرض ما يقارب ثمانمئة جنديٍّ ينتمون لعدّة دولٍ، بينما خدم مئةٌ وخمسون ألف رجلٍ وامرأةٍ في هذا المكان في العقود الخمسة الماضية.
كانت جولاتنا في المنطقة العازلة فرصةً إذ روى لي ديميتري كثيراً من القصص عمّا يتناقله السكان المحلّيون عن مذابح حدثت وتشهد عليها نصبٌ تذكاريةٌ تحمل رائحة الموت على طرفَي الجزيرة، إلى جانب مفقودين في الجهتين. وقد أُبلغ عن فقدان 2002 من السكّان، بينهم 492 قبارصة أتراك و1510 قبارصة يونانيين، نتيجة الاضطرابات التي وقعت في الأزمة.
بدورها تشير إليزابيث سبيهَر، الدبلوماسية الكندية وممثلة الأمم المتحدة السابقة في قبرص، إلى أن تباين الروايات التاريخية حول الواقع القبرصي، خاصةً فيما يتعلق بالغزو التركي سنة 1974 وما تلاه من تهجيرٍ وتقسيمٍ، يُصعِّب توفيق وجهات النظر بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك، خصوصاً مع تدخّل قوىً خارجيةٍ في الصراع. وتشمل التعقيدات تمسّك القبارصة اليونانيين بحلٍّ فيدراليٍّ ثنائيّ المنطقة وثنائيّ الطائفة، مع ضماناتٍ لحماية حقوقهم وعودة اللاجئين، مقابل إصرار القبارصة الأتراك على الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية دولةً مستقلة. هناك تباينٌ أيضاً حول كيفية تقاسم السلطة والثروات في قبرص الموحدة، خاصةً فيما يتعلق بتمثيل القبارصة الأتراك في الحكومة الفيدرالية والسيطرة على الموارد الطبيعية. وتشير في هذا الإطار فيونا مولين، مؤلفة كتاب "قبرص والغاز"، في مقابلةٍ مع صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، إلى أن اكتشاف احتياطياتٍ كبيرةٍ من الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط زاد من تعقيد الأزمة القبرصية، حيث يثير تساؤلاتٍ عن كيفية تقاسم هذه الثروات بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك في حال إعادة توحيد الجزيرة.
بالنسبة لديمتري، فالأمر ليس بهذه المثالية. صحيحٌ أن الأمم المتحدة موجودةٌ على الأرض في "المنطقة الميتة"، ولكنها "موجودةٌ مثل شركةٍ فخمةٍ لدفن الموتى تمتلك سياراتٍ فارهةً وموظفين مدربّين يرتدون بزّاتٍ أنيقةً ولكن في النهاية مهمّتهم هي مجرّد دفن الموتى". ما يخيّم على المشهد في منظوره أن خمسة عقودٍ مرّت منذ بدء الأزمة وما زال الجرح نازفاً، والانقسام يُعمّق الهوّة بين الشعبين القبرصيَّيْن. رحل آلاف الضحايا من الجانبين، وتشتّت عائلاتٌ، وبقيَت مآسي الفقد والتهجير تُؤرّق ذاكرة الأجيال. تساءل ديمتري بأسىً في جولتنا بالمنطقة العازلة، "هل من أملٍ أن نتناول سويّاً قهوتنا في مقهىً لا يقطعه شريطٌ أخضر؟".
كانت هذه الانطباعات الأخيرة التي حملها لي ديميتري، مثل كثيرين غيره، عن أحوال هذه الجزيرة الحائرة. ومع هذه الانطباعات توجّهتُ إلى مطار أرجان بعد ستّة أيامٍ من زيارتي. ومثلما دخلتُ هذا المطار أوّل مرّةٍ قلقاً، خرجتُ منه بالمشاعر نفسها، وإن كان الطقس هذه المرّة في طريق العودة صافياً مشمساً بَدَت معه الأودية والأشجار بديعةً، لربما إشارةً بأن الأمل لا يزال قائماً.