ثورة الحجر على البندقية: حكايا الانتفاضة الأولى في غزة

بعد أكثر من ثلاثين عاماً من انتهاء الانتفاضة الأولى يسرد الكاتب حكايات عايشها بمخيم الشاطئ في غزة، مسقط رأسه.

Share
ثورة الحجر على البندقية: حكايا الانتفاضة الأولى في غزة
تصميم خاص لمجلة الفراتس

كانت قنبلة الغاز المسيل للدموع التي ألقاها الجنود الإسرائيليون في فناء بيتنا كفيلة بدفع أخي الرضيع إلى حافة الموت. ازرقَّ وجهُهُ وملأ الزبدُ فمه. خرجت أمي به هائمة على وجهها تنشد المساعدة في شوارع المخيم الخالية بسبب منع التجول. لم تجد ملجأً إلا دوريةً إسرائيلية على الشارع الرئيس في المخيم. أعطت الصغير الذي كادت تنقطع أنفاسه إلى الضابط الإسرائيلي صارخةً في وجهه: "خلي الولد إلكم ما بدي إياه، إما بتنقذوه أو بتخلوه إلكم". ثم خذلتها قدماها، فهوت على الأرض المختلطة بسواد الإطارات المحترقة على الطريق الذي طالما اشتبك فيه الشبان مع جنود إسرائيليين. إثر الجلبة خرج الجيران من بيوتهم مستكشفين. صرخت جارتنا أم وائل بوجه الضابط: "إبعد يا خواجة"، وانتزعت الصغير من يده، بينما حاول الباقون انعاشه بنفخ الهواء في فمه تارةً، وبالضغط على صدره أخرى. لحظات مرت كالدهر، حتى بدأ الصغير يفتح عينيه ثم صرخَ صرخة الحياة، أو هذا ما بدا لنا.

خاطبَ الضابطُ الجميعَ بنبرة استعلاء، وقد طلب من جنوده التراجع: "ييلد منيخ، يلا خذوه وليخ بايتا"، أي بات الولد بخير ووجب عليكم العودة إلى البيت، فلا خروج في منع التجول. ركضنا خلف أمي عائدين، أخي وأختي وأنا، وجميعنا لم نتجاوز العاشرة. أغلقت أمي الباب ثم نظرت إلينا وقد تشبَّثتْ بأخي الرضيع الذي لم ينقطع صراخه قائلةً: "ما تحكوا لأبوكم شو صار، فاهم إنت وياه؟"

في البيت، ومع تكرار الوعيد: "ولا كلمة لأبوكم"، بدأ يتعالى فوق أنين الصغير أنين "أم يحيى" جارتنا "الحيط بالحيط". قالوا لنا من وراء الجدار إنَّ الجيش أخذ ابنهم المراهق أسامة بعد أن اقتحموا البيت وأوسعوه ضرباً بتهمة رشق الحجارة. كان أسامة الابن الثالث لأم يحيى، أما بِكرها يحيى، "مثير المتاعب"، فقد كان يقبع منذ أسابيع في سجن مجمع أنصار، (أنصار 1) غرب مدينة غزة. اعتقلوه من مسجد المخيم بتهمة توزيع "المنشورات المحرضة". كبّل الجنودُ أبا يحيى وأرغموه على مشاهدة عائلته تُهان أمامه وهو لا يستطيع تحريك ساكنٍ.

مع السنين أدركتُ أنَّ والدتي لم ترغب بإخبار أبي عمّا حدث حتى لا تُهين رجولته بشعور العجز. فقد كان يكدح آنذاك داخل الخط الأخضر، بين تل أبيب ويافا، ولا نراه إلا مرة في الأسبوع، يغادر الأحد فجراً ويعود الجمعة ليلاً وقد ازدادت يداه خشونةً وملأت بقايا الإسمنت الشقوق في كفيه. كانت تعرف أنه لو كان موجوداً وركض بالطفل نحو الجنود لأهانوه ونكلوا به، أو ربما أطلقوا عليه الرصاص بما أنه رجل "مِخَّابيل"، أي مخرب محتمل. هو ذاته الواقع الذي أرغمَ أبا يحيى على الصمت بعد أن نكَّل الجنود بعائلته. سأله رجال الحارة عما حدث، فلم يُجب وأشاح بوجهه، وكأن العجز أو ربما الشعور بفقدان رجولته قد قضم لسانه ولجم عيونه. 

صور من الانتفاضة الفلسطينية

متفرقات مترابطة في يوم واحد من أيام الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة سنةَ 1987، تعيدنا إلى أصل حكاية الاحتلال، قبل أن يتحول الحجر المقاوم سكّيناً، وقبل أن تتحوّل السكينُ بندقيّةً، وقبل أن ينقلب القمعُ حرباً لا مثيلَ لها كما اليوم. ومن غزة حيث تختلط السياقات فتضيع التفاصيل، نضع التاريخ في مكانه لفهم الواقع اليوم. لنرى كيف أنَّ البطش الإسرائيلي وما انطوى عليه من إذلالٍ ممنهج للفلسطيني بغرض كسر إرادته وزعزعة ثقته بذاته، تُرجم تصرفات متباينة في أنفسنا ومن حولنا من أقارب وأصدقاء وجيران، بين من كان الإذلال دافعاً له للتمرد والثورة، وهم الغالبية، وآخرين انعكس عليهم انتكاساتٍ نفسية. وفي كلتا الحالتين كان التعويضُ والبحثُ عن معنىً سيدَ الموقف. وبعد ثلاثة عقود ونيف من انتهاء الانتفاضة نعود فنستذكر قصص بعض من عاشوا تفاصيلها في مخيمنا مخيم الشاطئ للاجئين، فنسلط الضوء على زوايا من داخل مجتمع الانتفاضة الأولى قلما نراها في أدبيات الكفاح الفلسطيني، أخباراً أو تأريخاً. 


نشأ جيل الثمانينيات على الانتفاضة الأولى. بدأ وعينا برؤية جنود مدججين بالسلاح في كل مكان، وشوارع مغلقة وإضرابات واعتقالات واقتحامات للبيوت وإصابات وقتل أحياناً. لم نكن نعرف حياة أخرى لنقيس عليها "حياتنا" هل هي طبيعية أم لا. ولكن لكلِّ شيءٍ سياق موضوعي خارج إدراكنا القاصر أطفالاً، وسياق الانتفاضة الأولى بدأ في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، ومنه امتد الغضب ثورةً في سائر الأرض المحتلة ومحيطها.

بدأت الإرهاصات الأولى في الأول من ديسمبر 1987. كنّا حينها نسكن مخيم الشاطئ المحاذي للبحر في الجزء الشمالي من قطاع غزة، وسكان المخيم كانوا من مُهجري النكبة وجيلين بعدها من أبنائهم وأحفادهم. جاءت الأخبار أنَّ شابين طعنا رجل المخابرات الإسرائيلي "شلومو موسيكل" في ساحة ميدان فلسطين وسط مدينة غزة، وعُرفت حينئذٍ بساحة التاكسيات، حتى مات. وهو الميدان الذي سلّمت فيه كتائبُ القسام في حرب طوفان الأقصى الأسرى الإسرائيليين في نوفمبر 2023، والذي نسفت القوات الإسرائيلية جل مبانيه عند اقتحامها مدينة غزة بعدها بأسابيع قلائل.

جنود الاحتلال الإسرائيلي يطاردون أطفالاً أثناء الانتفاضة الأولى في مدينة غزة، تصوير باتريك باز، خدمة غيتي للصور

إثر مقتل موسيكل عاثت قوات إسرائيل اعتقالاً وبطشاً بحق كلِّ شابٍّ وكهلٍ تقابله في شوارع المدينة ومحيطها. ذكرت جدتي لوالدي، كيف كان ذلك اليوم بداية سنوات من "ادفش الباب وادخل"، أي اركل الباب واقتحم المنزل على ساكنيه، وغالباً ما يكون ذلك في الساعات الأولى من الفجر حتى يكتمل المشهد قتامةً، وترهيباً مع صراخ الأطفال المُروَّعين من منامهم.

أسبوع من التوتر تخلله كثير من ركل الأبواب وسحل الشبان والاعتقالات. اندلعت بعده الشرارة من معبر إيرز مع إسرائيل شمال القطاع، إذ دهس المستوطنُ هِرتزل بوكوزا في الثامن من ديسمبر بجرار زراعي سيارتين أقلت مجموعة من العمال الفلسطينيين في أثناء عودتهم من داخل الخط الأخضر، فقتلَ أربعة وأصاب آخرين. ولأن معظم المصابين والقتلى كانوا من مخيم جباليا القريب من إيرز، فقد حاصرت قوات إسرائيل بعد الحادث بسويعات منطقة جباليا كلها ومنعت التجول، لتسيطر أمنياً وتقمع الاحتجاجات لا سيما أن القوى المحلية قد بدأت بالدعوى إليها. بعد عودتهم من مستشفى الشفاء ذلك المساء، حيث نُقلت الجثث والجرحى، تظاهر  أهالي المخيم على أضواء الفوانيس، وكبّرت المساجد في أنحاء غزة داعيةً إلى النفير. انتقل الحراك في اليوم التالي إلى الضفة الغربية، وتجاوب الناس معه بقوّة في مدن الخط الأخضر الفلسطينية وفي الجولان السوري المحتل. أنكر منسق الأنشطة الحكومية في الضفة الغربية وقطاع غزة، شموئيل غورين،  في الأيام الأولى أنَّ الحراك كان بداية ثورة شعبية. وطمأَن جنرالات الجيش رئيس الوزراء يتسحاق شامير بأنَّ ما كان يحدث لم يحمل بوادر تمرد، إنما هي أحداث في مناطق معينة، افتعلتها أقلية.


ما كان لحادث الدهس أن يشعل فتيل انفجار شامل لولا أنه جاء بعد تراكمات من بدء احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة قبل عشرين عاماً في يونيو 1967. ووطأةُ الاحتلال هذه امتدادٌ لمأساة النكبة سنةَ 1948. هنا أستذكر جدتي أم والدي، وهي تدندن في مطبخها المتهالك بمخيم الشاطئ وقد غطى دخّان "بابور الكاز" المكان حولها: "هجَّرونا وما تركونا في حالنا، لحقونا ما بدهم يحلوا عن دارنا …الله لا يهدي بالهم ولا يصلح حالهم". كنا نسأل، "مين يا ستي؟"، وتأتي الإجابة "اليهود المناكيد يا ستي"، ثم تُلوّح بيديها حاملة صينية من الألمنيوم تدفع فيها الدخان أو ما بقي منه خارجَ المطبخ. 

وضعَت إسرائيلُ بعد 1967 الاقتصادَ الفلسطيني في الضفة وغزة في حالة تبعية مطلقة للاقتصاد الإسرائيلي وفصلته عن محيطه العربي. ففرضتْ قواعد تبادل غير متكافئ بين الفلسطيني والإسرائيلي اليهودي، تبعه سيطرة على الموارد ومصادرتها تدريجياً لا سيما المياه لصالح الاقتصاد الإسرائيلي ولخدمة المستوطنات التي بدأت بالظهور في أنحاء الضفة وقطاع غزة. استخدمت إسرائيلُ الفلسطينيين أيدٍ عاملة رخيصة داخل الخط الأخضر للضخ في عصب الاقتصاد الإسرائيلي. في حين أن سلطات الاحتلال التي تولت إدارة الشؤون المدنية لمن هم تحت الاحتلال، أهملت البنية التحتية في المنطقتين المحتلتين. وأثقلت إسرائيل الفلسطينيين بالضرائب، التي وصل مجموعها ثمانمئة مليون دولار، أي ضعفي ما صرفته إسرائيل على إدارتهم في العقدين التاليين بعد الاحتلال. 

لم يكن التدهور الاقتصادي بمعزل عن القمع السياسي. فقد تجاوز عدد المعتقلين السياسيين في الأيام التي سبقت الانتفاضة الألف، مع تضييق متصاعد على أي تعبير عن الهوية الفلسطينية المستقلة ومنها العلم الفلسطيني الذي استعاض عنه السكان بالبطيخ رمزاً مشفراً لتطابق ألوانه مع العلم. ولم تتوقف الغارات على كل مظاهر العمل الفدائي أو بالتصدي للهبات والانتفاضات الشعبية الصغيرة. فطال التضييقُ أيضاً المؤسساتِ الاجتماعيةَ والأهليةَ بداية الثمانينيات، ومُنح الضباط الإسرائيليون سلطات لمنع التمويل عنها، وعُزِلَ مسؤولو نقابات العمال المنتخبين، ومُنِعَ المرشحون من خوض الانتخابات. وأُجْبِرَ الأساتذة الجامعيون أيضاً على توقيع "قسم الولاء" يتعهدون فيه بالامتناع عن النشاط السياسي. وهذا مع مصادرة الأراضي والقتل العمد والتغاضي عن اعتداءات المستوطنين. حتى أُتيح للمستوطنين العمل قوةً موازيةً للجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، ففي مايو 1987، قال الميجر جنرال يتسحاق مردخاي، قائد المنطقة الجنوبية، إن من حق مستوطني قطاع غزة القبض على راشقي الحجارة وتسليمهم إلى الجيش والشرطة الإسرائيلية.

أطفال يتسلقون براميل تملأ بالخرسانة استخدمها الاحتلال لإغلاق مداخل الشوارع، غرة

ومنعت إسرائيل كثيراً من الفلسطينيين الذي كانوا خارج البلاد قبل يونيو 1967 من العودة إلى ديارهم، فسُموا نازحين، وأضيفوا إلى مئات الآلاف من لاجئي النكبة قبلَ ذلك بتسعة عشر عاماً. شُتت عائلات ودُمرت أسر، ومنهم والد أمي، الذي ذهب إلى الأردن باحثاً عن عمل، ولم يعد. تزوج مرة أخرى وأنشأ أسرة في الأردن، ولكنه توفي في الانتفاضة قبل أن يجتمع بأبنائه في غزة مرة ثانية. باتت جدتي من مئات النساء الغزيات اللواتي سُمين بأرامل "موشيه ديان"، وزير الجيش الإسرائيلي بداية الاحتلال، لأنه فصلهن عن أزواجهن ممن عبروا الحدود إلى الدول العربية بعد النكبة بحثاً عن لقمة العيش. 

ورغبة إسرائيل أن تكون احتلالاً عسكرياً غير مسؤولة عن السكان كانت أحد الأسباب التي فجّرت الانتفاضة. ذكر جدي لأبي أن الحاكم العسكري لغزة جمع مخاتير القطاع بدايةَ الثمانينيات وحاول إقناعهم بإدارة شؤون الأحوال الشخصية لمن هم تحت مظلتهم. ويمثل مخاتير الأرض المحتلة القرى والبلدات التي هُجروا منها بعد النكبة والعائلات المنحدرة منها. فثمّة مختار لعائلات المجدل وآخرون لعائلات يافا وأسدود واللد والرملة. أما جدي فكان مختار قرية السوافير، الواقعة على بعد كيلومترات عدّة للشرق من مدينة أسدود، وعائلات غزة المنحدرة منها. رفض جدي وغالبية المخاتير أن يكونوا واجهة الاحتلال. إلا أنهم، وفي غياب نظام حكم خارج مظلة الاحتلال، أبقوا المخترة رمزياً مع ما تقتضيه من الإصلاح الاجتماعي بين العائلات إلى ختم أوراق الزواج والطلاق. ظل هذا العرف القانوني في سنوات الانتفاضة، ثم صار عرفاً موازياً لقانون الأحوال الشخصية مع قدوم السلطة الفلسطينية سنةَ 1994 بعد اتفاقات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير.  

هيمن على الفلسطينيين في الداخل شعور الوحدة  في تحمّل عبء الاحتلال لا سيما مع الانفصال عن قيادات  منظمة التحرير في الخارج. حدثني قريبي أيهم، وقد قضى دهراً من حياته معتقلاً عند الاحتلال فترة الانتفاضة الأولى، أنَّ عمليات الثورة الفلسطينية في الخارج بدت أحياناً واقعاً موازياً، "ما إلو علاقة فينا جوه البلد … كنا نتحمس لها، بس كانت كأنها لناس تانيين". ثم عزّزَ الاجتياحُ الإسرائيلي بيروتَ في 1982 وخروجُ ياسر عرفات وقيادات المنظمة إلى تونس ودول عربية أخرى، أنَّ الاعتماد على الذات هو الطريق الوحيد لتغيير الواقع، خصوصاً بين الأجيال الشابة. اعتدنا القول أن الانتفاضة أنقذت المنظمة، فقد أعاد الحراك الشعبي في الضفة وغزة ربط قيادات الشعب الفلسطيني في الخارج والجماهير في الداخل، فسعت المنظمة بخليل الوزير (أبو جهاد) الرجل الثاني بعد عرفات، إلى تنسيق الفعاليات الشعبية العفوية، مع القيادة الوطنية الموحدة (السرية) للانتفاضة في الداخل المحتل. اغتيل أبو جهاد  في إبريل 1988 بعد تسلل وحدة عسكرية إسرائيلية خاصة إلى بيته في سيدي بوسعيد بتونس. لكن زخم الانتفاضة لم يتأثر، لأنها جماهيرية ولاتساع نواتها الصلبة من قادة مجموعات ولجان شعبية بلغت ما بين عشرة إلى عشرين ألفاً، كما قدّر الإسرائيليون، وأربعين ألفاً حسب تقدير حركة الشبيبة التابعة لفتح، الفصيل الأكبر في منظمة التحرير. 


كان هذا كله فاتحة ست سنوات من الغضب والشّد والجذب. حشدت فيها إسرائيل ما يقارب ثمانين ألف جندي، وتضاعف عدد القوات ثلاث مرات في قطاع غزة. فُرض على الفلسطينيين إجراءات قمعية بدءاً بالعقاب الجماعي وإغلاق المعابر والشوارع والمؤسسات، ومنع التجول وسحب تصاريح العمل داخل الخط الأخضر، وقمع الاحتجاجات بالوسائل العسكرية. ثم صار الأمر في أسابيع قليلة "سياسة تكسير عظام"، وهي سياسة أقرَّها وزير الجيش في وقته يتسحاق رابين، الذي صعد لرئاسة الوزراء ووقع اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير في 1993، ثمّ اغتاله المستوطن اليهودي إيغال عامير في 1995. كسَّر الجنود أيدي الشبان وأرجلهم عقاباً من جهة وتحييداً جسدياً عن ساحات الاحتجاج من جهة أخرى. ومَنْ من جيلنا لا يذكر وائل وأسامة جودة من نابلس سنةَ 1988، إذ بثَّت وسائل الإعلام العالمية صورهم الصادمة والجنود يهشمون عظامهم بالحجارة والعصي. وكأنه تحقيقٌ لما قاله موشيه ديان بداية الاحتلال، بأن السجون الإسرائيلية "سوف تُخرج معاقين وعجزة يشكلون عبئاً على الشعب الفلسطيني".

"أطفال فلسطينيون في غزة يشتبكون مع جنود الاحتلال".

هشم الجنود ركبتي جارنا يحيى بالهراوات والركلات لخروجه في أثناء منع التجول. لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره آنذاك. ولم تسعفه قدماه المكسورتان في أن يكونَ نزيلاً دائماً في سجن مجمع أنصار. زاره الجيش مراراً في بيته، وفي كل مرة تصرخ أم يحيى، ويثبت الجنود أبا يحيى للحائط، ثم يخرجون حاملين يحيى إلى المعتقل من ذراعيه وقدميه المجبّرتين. كنا نقول: "يحيى راح يشرب شاي مع شلومو"، وشلومو واحد من الأسماء اليهودية الشائعة،  التي تشير بسخرية أحياناً إلى الإسرائيلي. 

 يغيب يحيى أياماً وأحياناً أسابيعَ فنذهب لنواسي أمّه، ثم يعود فنذهب لتهنئة أهله بعودة يحيى"كْثير الغَلَبِة"، أي مثير المتاعب، كما وصفه والده: "مش عارف شو أعمل مع هذا الولد. ممكن لو زوجناه يقعد ويروق". ثم يتدارك: "ما بدنا نظلم بنات الناس"، فيضحك الجميع. في مجتمع الانتفاضة بدا ضرورياً صبغ الواقع بشيء من الضحك للتأقلم مع حياة معوجة لا سليم في قيمها وتوقعاتها. وكأنه تطبيق لما قاله عالم النفس والفيلسوف النمساوي فيكتور فرانكل، وأحد الناجين من المحرقة النازية ، بأن رد الفعل غير السوي من موقف غير سوي هو استجابة سوية. 


حصدت إسرائيل في سنوات الانتفاضة الست أرواح 1555 فلسطينياً، وفي إحصائية أخرى لمنظمة بتسليم الإسرائيلية لحقوق الإنسان كان العدد أقل من ألف وثلاثمئة بقليل. جُرِحَ ما يُقارب المئة وعشرين ألفاً، واعتُقل مثلهم تقريباً. كان نصيب قطاع غزة أربعمئة وخمسة وخمسين قتيلاً وأكثر من سبعين ألف جريح.  وفي تقرير مركز غزة للحقوق والقانون كان عدد الأطفال الذين قُتلوا مئتين وسبعة وسبعين طفلاً، بعضهم قَتلهم المستوطنون الإسرائيليون.

في الأسابيع الأولى ماتَ جار جدتي، صبيٌ من آل الحمامي برصاص مطاطي ولم يكن سوى كتلة معدنية مغلفة بمطاط رقيق مصمم للإيلام لا القتل. بلغنا أن العيار اخترق عين الصبي واستقر في جمجمته. وقيل إنَّ الصبي كان وحيد أمه و"حمامة المسجد" وحافظاً للقرآن، وأن وجهه في جنازته كان نوراً أبلجَ تعلوه ابتسامةُ رضى. وقيل أيضاً إنَّ وصية أمه كانت أن تُدفن مع ابنها بعد وفاتها. وعندما لحقت به بعد ثلاث سنوات إثر غيبوبة سكر، فُتح القبر ليجدوا دم الصبي ما زال رطباً. فتهلَّلَ الجمعُ وكبّر: "الله أكبر …كرامات الشهداء".

حكايا تصنع المعنى سواء جانبتها الحقيقة أم لا. إذ لا مستقبل في كنف المخيم وتحت بنادق الاحتلال، فكان لزاماً أن لا يُرى في الموت عدمية أو في القتل عبثاً. أو هذا كان شعوري وأقراني عندما قتلَ الجنودُ الشابَّ العشرينيَّ محمد الدواوسي، ابنَ بائع الدواجن في منطقتنا. خرجنا يومئذٍ من مدرسة أبو عاصي الابتدائية التابعة لوكالة الغوث (الأونروا) في مخيم الشاطئ الشمالي، لنجد محمد، ولم نعرف اسمه حينها، وقد ثبت الجنود رأسه فوق قناة مياه الصرف الصحي بعدما أطلقوا عليه الرصاص. منعوا الطواقم الطبية والناس من الاقتراب، فنزف حتى الموت. نقله الجنود إلى مكان مجهول بعربة لوحدة "شْمَار غْفول"، أي حرس الحدود، وكنا نميزهم من قبعاتهم البنفسجية وغلظة طباعهم. كان كثير منهم دروزاً من الجليل ينطقون بلسان عربي فلسطيني مبين، تفنن بعضهم بالتنكيل بنا وكأن ذلك مدخلهم ليصبحوا إسرائيليين أكثر من اليهود، وسبيلهم ليكونوا مقبولين في مجتمع إسرائيلي حصرَ الامتيازات لليهود، بينما بقي الدروز العرب من الفقراء والمهمشين. كُتل الدم المتخثر على رمال الشارع وجدران قناة المجاري جعل من مكان سقوط محمد صرحاً نجتمع حولَه محاولين، وإن بسذاجة الصغار، أن نضع للموت سياقاً ومعنى. تخيلنا محمداً في السماء وقد أضحى ملاكاً، فاعترض بعضنا قائلاً، "لربما شيخاً وقوراً بثياب بيضاء ناصعة، أو أنه عاد طفلاً نقياً كيوم ولدته أمه".


على كتل التراب المدمية كان لقاؤنا الأقرب مع "الاستشهاد"، ومنه حاولنا أن نصنع المعنى لعلنا نلتمس طريقاً وسط فوضى الانتفاضة ومسالكها المتشعبة. لم نفكر بالأسباب الموضوعية  لانتفاض الفلسطيني، ولم تكن تهمنا كثيراً تفاصيل السياسة. بل كانت عيوننا على "بطولة محمد" الذي تحدَّى الجنودَ فلقيَ حتفه، قيل لنا إنَّه بالموت نال الخلاص، وكأنه تحرّرَ من سطوة المحتل عليه.

هذه النظرة على بساطتها فيها شيء من الحقيقة. وبإعادة تقييم العوامل الموضوعية ــ السياسية والاقتصادية والاجتماعية لقيام الانتفاضة ــ نجد أنَّ ما جمع بينها كلها كان فعلاً غير عادل،  فسيطرة طرف على آخر سيطرة مطلقة كانت عاملاً أساساً: إسرائيل على الفلسطينيين، المحتل على من هو تحت الاحتلال. ولا سيطرة بلا إخضاع، ومع  محاولات إخضاع الطرف الأضعف يصبح الإذلال سيد الموقف، كما تشرح المؤرخة الألمانية أوتيه فريفِرت في كتابها "ذا بوليتيكس أوف هيوميليشن" (سياسة الإذلال) المنشور سنةَ 2020. وتُضيف بأنَّ الإذلال في الحالة الاستعمارية ليس تصرفاً اعتباطياً، بل يشوبه عناصر تتكرر تشبه الطقوس تهدف إلى ترسيخ علاقة القوة بين المُستعمِر والمُستعمَر. في هذه الآلية يُنتهك شرف الطرف الأضعف. وتكرار الإذلال يهدف حتى لتدمير احترامه لذاته، يتطور لشعورٍ بأن الإهانة مستحقة، فيتقبّلها عقاباً لا لجرم فعله سوى أنّه عضو في مجموعة بشرية ما. أي، وجوده بحد ذاته ذنب. 

سألت أحد أعمامي، وكان من ناشطي الانتفاضة في مراهقته، عمّا إذا كانت الأسباب الموضوعية، كالاقتصاد المتردي أو الكبح السياسي سبباً لتمرده والتحاقه بركب راشقي الحجارة على الجيش الإسرائيلي. اعتُقل عمّي مِراراً وأُصيب بالرصاص الحي في ذراعه في إحدى المواجهات، ويعاني من آلام مزمنة في ظهره إثر مطاردة أفرغ فيها جندي إسرائيلي عبوة العيارات المطاطية في جسمه من مسافة مترين. لم ير في الاقتصاد عاملاً، وإن لم ينكر تأثره بالعامل السياسي، كالحرية لحق تقرير المصير وحق العودة. فهذه قيم تُلقن مبكراً في كل بيت فلسطيني تقريباً. ولكن تجربته الذاتية كان لها الوقع الأكبر. إذ تحدَّث عن إهانة الجنود له وفرضهم عليه أن يتصرف تصرفاتٍ غير طبيعية بوجودهم، كأن يكونَ "مطيعاً" على الحواجز، وأن يُخرِجَ بطاقة هويته الخضراء ــ التي أصدرتها له إسرائيل ــ لتراها مجنّدة أصغر منه حجماً أو "مجند ولد". ويضطر أن يقفَ مؤدباً في حضرة السلطة "مثل تلميذ في غرفة ناظر المدرسة"، وإن لم يذنب في شيء، من أجل أن يتكرَّم عليه الجندي ويدعه. كان إدراكه الفطري أنَّ الفلسطيني أقل في إنسانيته من اليهودي الإسرائيلي. وذنبنا أننا موجودون.  

يذكر أنه في الشهور السابقة للانتفاضة كان الجنود يأتون أحياناً ليلعبوا كرة القدم مع شبان مخيم الشاطئ في "المنتزه". وهو ملعب ترابي جنوب المخيم، قربَ سوق الخضار على بعد دقائق من شاطئ البحر، المكان الذي بات اليوم مقبرةً تتبعثر فيها جثث من قضوا منذ السابع من أكتوبر 2023 من أهل المخيم والنازحين إليه. وبينما بدا الانخراط في المباراة مع الجنود ضرباً من "الاختلاط المتساوي"، كان الشبان يلاعبون الجنود بحذرٍ مخافةَ أي حركة خاطئة  قد تحول "التساوي" إلى تمييزٍ مسلّح، أو أي جدال إلى قضية أمنية بين مسيطِر ومسيطَر عليه تنتهي بالبطش أو الاعتقال. يقول عمي: "ما كان عنا خيار ما نلعب معهم، وكنت أشعر بالقهر بعد كل مباراة، بس ما كنت أعرف وقتها ليش".

بعد الانتفاضة توقف اللعب "المختلط"، على ندرته. إذ صار الشبان يتحاشون الدوريات الإسرائيلية التي جابت المنطقة، مع الاستعداد لكل الاحتمالات، فلا ضمان أن لا تتوقف الدورية فيتحول الملعب إلى ساحة اعتقال واستجواب. فالكلُّ مذنبون حتى يُثبتوا أنهم غير منتفضين، لا فرق بين صغير وكبير. كثيراً ما أوقفنا الجنود أطفالاً في طريقنا إلى المدرسة أو عائدين منها ليفحصوا أكفنا بحثاً عن غبار عليها يفضح انخراطنا برشق الحجارة. كنا غالباً مذنبين، ولكن بفضل خرطوم مياه جارتنا أم وائل نصل إلى جنود الاحتلال في الطريق الرئيس للمخيم وقد نظّفنا أيدينا من غبار الحجارة وذنب الانتفاضة معاً، فيسُمح لنا بالمرور إلى مدرستنا "ظافرين".

أما قريبي أيهم، الذي ما زال صامداً اليوم في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة وغالبية سكان الحي تاريخياً من أهل مخيم الشاطئ، فيرى أنَّ إسرائيل حاولت دائماً، خصوصاً مع بدء الانتفاضة، "إخصاء رجولتنا". لم يُلقِ بالاً للعوامل الموضوعية، ويعلق بأن النقطة الفارقة عنده كانت في الأسابيع الأولى من الانتفاضة عندما سحل جنود الاحتلال صديقَه على طريق الإياب من مدرسة فلسطين الثانوية، شرق غزة.

ارتجفَ هذا الصديق غضباً، فقد أُهينت كرامته. تحول الغضب إلى شعورٍ بالعار بعد أن وصل إليه بأن الفتاة التي كان مولعاً بها، وكان بالعادة ينتظرها على ناصية مدرسة بشير الريس الثانوية للبنات، القريبة، رأته وقد ثبته الجنود أرضاً وألصقوا وجهه بقذارة "الأسفلت". كان الجنود مجموعة من المراهقين، قيل من وحدة غِفعاتي الخاصة، أوقفوا مراهقاً آخر لا لغاية أمنية ولكن للإذلال. صرخوا عليه بينما حاولوا تثبيته: "داي بِن زوناه"، أي توقف يا ابن العاهرة. "داي"، أي توقف أو كُف، فعل أمر بالعبرية يُستعمل غالباً للأطفال والحيوانات الأليفة.


رصد الكاتب الفلسطيني أحمد الدجاني جانباً من هذه الظاهرة، ملاحظةً لا تعمقاً، في كتابه "الانتفاضة الفلسطينية وأزمة الخليج" المنشور سنةَ 1991. إذ وصف تمرد الشباب على الإذلال بأنه نوع من "التطهر بالانتفاض". نقل الكاتب شهادات شبان فلسطينيين ثاروا لا مِن منطلق قومي محض، ولكن لإعادة الاعتبار إلى ذواتهم المجروحة. منهم من قال له إنه متعلم ولكن عاطل عن العمل وغير قادر على الزواج، وقد أضحى عاجزاً عن تحمل الإهانات اليومية من جنود في عمره، فانتفض مواجهاً عله يموت قرير العين. آخر قد خرج توّاً من المعتقل، فضل الاعتقال على حرية لا تعطيه الفرصة لرشق الجيش الإسرائيلي بالحجارة، ففي ذلك تفريغ للقهر الذي كان يعيشه. شاب آخر رفع الجنودُ السلاحَ في وجهه، ففتح قميصه متحدياً، ووضعَ فُوَّهة البندقية في صدره، سائلاً الجنود أن يطلقوا الرصاص عليه. قيل لنا إنَّ محمد الدواوسي فعل هذا بالضبط وتحدى سلاح الجنود بصدره قبل أن يقتلوه، بينما ظلَّت باقي تفاصيل الجريمة غامضة. 

ومثلهم يذود عن كرامته، غيّر صديق أيهم دربه إلى المدرسة متجنباً حبيبته التي رأت رجولته تُمتهن، فلا رسائل مكتوبة تُمرر إليها خلسة في الشارع ولا نظرات إعجاب بعد اليوم. صار مشغولاً بالحديث عن ترميم كبريائه والانتقام. انخرط أيهم وصديقه في العمل مع الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ثم صاروا يكتبون على الجدران ملثمين ويوزّعون المنشورات.

يقول أيهم إنَّه وصديقه التهما كلَّ كتاب طالته أيديهما عن الثورة والماركسية، وكان مثلهم الأعلى نايف حواتمة الأمين العام للجبهة الديمقراطية. يذكر كيف تحولا من غاضبين أعميين إلى "ثورنجية" راسخين في الفكر السياسي. حتى بعد ثلاثين عاماً ما زال أيهم يتحدث بشغف عن الماركسية التى خبا بريقها في مساحة اليسار الفلسطيني، والكفاح الفلسطيني عموماً. يتوقف هنيهة محاولاً تذكر بعض تفاصيل ما قرأه، ثم يستدرك: "المهم، صلي على النبي، كان ماركس كذا وكذا …". أسأل: "ماركس وصلِّ على النبي؟"، فيضحك، "نعم … ما تاخذ في بالك، المهم، لقينا طريقنا نحافظ على رجولتنا وكرامتنا". 

 قُبض على صديق أيهم في الشارع ملثماً وبحوزته حزمة من بخاخات الدهان، بعد أشهر من انخراطه في العمل السياسي. أمَّا أيهم فقد اعتُقل بعده بأيام من بيته ليلاً. كان يقول مازحاً عن اعتقاله: "العملاء أدوا الواجب وزيادة وجابوا أبو مفيد للبيت". وكان "أبو مفيد" لقب مسؤول الأمن الداخلي الإسرائيلي، الشاباك، في منطقتنا ولم نعرف اسمه الحقيقي. يتكلّم العربية بطلاقة ويُقال إنه كان يهودياً عراقياً. عُرف ببطشه، فصار تجسيداً فردياً لقسوة الاحتلال. وبدلاً من "أبو رجل مسلوخة" وهو شخصية خيالية على شاكلة الغول،  كانت بعض نساء المخيم يُخفْنَ أطفالهنَّ عند النومِ  بأبي مفيدٍ قائلات: "نام، وإلا يجيك أبو مفيد"

انتهى المطاف بأيهم وصديقه في سجن نفحة أولاً، "مُعتقلين إداريين" أشهراً. ثم النقب (أنصار 3) ثانياً ثلاث سنين عجاف. والاعتقال الإداري مما ورثته إسرائيل عن الانتداب البريطاني في فلسطين قبل النكبة،  إذ اعتقل الجيش والشرطة الإسرائيلية عشرات الآلاف من الفلسطينيين بموجب أوامر إدارية بالاعتماد على "معلومات أمنية"، غالباً لا يطلع عليها المتهم ولا محاميه، ولا يحسم فيها القضاء إلا بعد أشهر أو سنوات، يبقى فيها المعتَقل وراء القضبان بلا تهمة واضحة. 


ولو كانت ردود أفعال أيهم وصديقه تطهُّراً ثورياً، فردود أفعال يحيى ودوافعه، وإن عايش الظروفَ ذاتها، كانت تطهّراً عقدياً. تربَّى يحيى في مسجد المخيم قبل أن يلتقطَ أوَّلَ حجر، ولعل هذا ما أطّر اندفاعه بدايةً نشاطاً شبابياً في صفوف حركة المقاومة الإسلامية حماس. مهمة يحيى كانت جمع أطفال المخيم لتعليمهم الصلاة والقرآن في المسجد، أو تنظيم أنشطة لهم على شاطئ البحر أسميناها تجاوزاً "مخيمات صيفية". لم تكن سوى تجمعات للصغار مع سندوتشات جبن رديئة تبرعت بها "الطُعمِة"، وهي مطبخ خيري في المخيم تابع للأونروا. نظَّم المسجد دروسَ تقوية للأطفال، لتعويضهم عن أيام إغلاق الاحتلال مدارسَهم تعسفاً أو بسبب الإضرابات.

كسب يحيى ثقةَ غالب أهالي الحارة. فنُظر إلى المسجد أنّه مساحة آمنة للأطفال بعيداً عن دوريات الاحتلال، وإن تغير هذا الواقع في السنوات اللاحقة من الانتفاضة وألِف الجنودُ اقتحامَ المساجد كما البيوت. حينها عانت غزة من ندرة في مؤسسات رعاية الأطفال والمنتزهات وأماكن الترفيه، فوجد بعضنا في مشاكسة الجيش الإسرائيلي تسليةً وإثباتاً للجدارة،  وكانت ذروةُ التسلية التقاطَ قنابل الغاز وإعادة رشقها على الجنود. ولا ضرر، فقد تسلحت نساء الحارة عادةً ببعض البصل أو الكولونيا، أو المياه المخلوطة بالنشاء أو "الكربونة"، وهي بيكربونات الصوديوم وتوضع عادة بخلطة الفلافل، ترياقاً لتخفيف "الحرقان" الناتج عن الغاز. وتسلحنا نحن بأحذية "الفورزا" الرياضية والرخيصة، وابتكرنا طريقة لثني أسفل البنطال لرفع كفاءتنا في الركض والمطاردة. انتهى الأمر ببعضنا بيد الجنود، فلا قبل لنا على سباقهم في الجري. تبع الاعتقال ــ لمن نجا من الرصاص الحي أو المطاطي ــ "زفة" من الركلات والصفعات، ثم أحياناً غرامة بلغت ألفاً ومئتي شيكل، أي حوالي ثلاثمئة دولار أو يزيد، فُرضت على الأهل لتخليص أبنائهم، فكانت سياسةً ليردع الأهالي أبناءهم.

منظور يحيى للكرامة كان أوسع من الانتفاضة. رأى أن الاستعمار والتبعية للغرب ألحق الذلَّ بالأمة الإسلامية كلها، وما كان احتلال فلسطين عن هذا بمعزل. ولا غرابة، فمفهوم أن "فلسطين قضية دينية" كان متجذراً في قيم حماس منذ أن كانت فكرة في ذهن الشيخ المؤسس أحمد ياسين بالسبعينيات، ومن ورائه حركة الإخوان المسلمين، حتى إعلان الحركة رسمياً حركة تحرر وطنيٍّ في ديسمبر 1987. قدّمت حماس نفسَها بديلاً عن منظمة التحرير، وفي القلب منها حركة فتح. وتعزز هذا الموقف بعد تواتر أخبار في آخر الثمانينيات عن مباحثات سرية في مدريد بين المنظمة وإسرائيل، انتهت بعقد مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991. وهو الذي مهد لاتفاقات أوسلو سنة 1993 التي أُنشأت على إثرها السلطةُ الوطنيةُ الفلسطينية في غزة وأجزاء من الضفة. عدَّ يحيى "الحرس القديم" في المنظمة وفتح، ومنهم عرفات، ألدَّ أعداء القضية، وأن السلطة الجديدة لم تكن سوى امتداد للاحتلال. كنا نسمعه من الحائط الذي فصل بيتينا ينهر إخوانه ليغيّروا القناة كلما ظهر عرفات على التلفاز.

وفي انعطافة مأساوية، تشبه انتكاسة أبطال الأساطير الإغريقية، اصطدم يحيى مع الواقع الجديد، فكانَ أوَّلَ ضحايا جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني الذي أُسِّسَ سنةَ 1994، وقاده حينها محمد دحلان. كانت مهمة الجهاز الإطباق على معارضي أوسلو، الإسلاميين منهم تحديداً. عَذّب يحيى أناسٌ عُدّوا يوماً مناضلين أو خبِروا التعذيب بأنفسهم في سجون إسرائيل. أهانوا جسده وروحه وانتهكوا رجولته بطرق أنِفَ الإفصاح عنها.

وفي وصفه بعض صور التعذيب، راعنا مدى تشابهها مع وسائل التعذيب في المعتقلات الإسرائيلية. كأنه تحقيق للمبدأ النفسي المسمى "التماهي مع المعتدي". فكما قلدت إسرائيل وطبقت بعض أساليب النازية ضد اليهود من الامتهان والعقوبات الجماعية على الفلسطينيين، تشرَّبَ بعضُ الفلسطينيين وسائل القمع الإسرائيلية وطبقوها على أبناء جلدتهم. بل لعله نموذج أقرب "للكابو"، وهم اليهود الذين كلفهم الألمان بإدارة شؤون اليهود الآخرين في معسكرات الاعتقال، فكانوا متوحشين بشدة على أقرانهم. في كل هذه الحالات كان الإسقاط سيد الموقف والرغبة في تقليد القوي هو الدافع، لربما احتقاراً لضعفهم ورغبة بالتماهي مع القوي تعويضاً عن هذا الضعف المُذل. هكذا انتقلَ يحيى من سجون الاحتلال إلى سجونِ السلطة، من امتهان متوقع لامتهان من ذوي القربى قَلَب بوصلته وشتت تطهره.


وليس كل تمرّدٍ تمرداً، ولا كل تطهر يُزهر ثورة، وبيئة المخيم لم تكن خيمة لجوء تنبت مقاومين ومتمردين وحملة ألوية فكر سياسي. جاءت ردة فعل بعضهم على محاولات إسرائيل إذلالهم انكفاءً على الذات. والانكفاء مثل التمرد، وسيلة للتأقلم مع واقع غير سوي، ولكن يختلف عن التمرد بتجنب المواجهة.  

من هؤلاء كان أبو سعيد، بقال الحارة، رجلٌ أكل الزمن من عمره ستين حولاً. يأتي أحياناً الجنود إلى دكانه فيأخذون بعضَ المشروبات مجاناً، ثم يشربونها أمامه. تجاهله الجنود، وتجاهل هو وجودهم. اعتاد أن ينهرنا صغاراً كلَّما هربنا من الاحتلال محتمين بدكانه، فيصرخ علينا "يا أولاد الصرامي، بدكم تورطوني؟"، فكرهناه. كان يحيى مقتنع أن أبا سعيد عميل للاحتلال، ولكن بعض أهل الحارة رأوه "زلمة معتر على باب الله"، وبرروا سلبيته بأنه اعتنق "لقمة العيش" انتفاضةً. ولا حرج،  فقد عانت ابنته المصابة بمتلازمة داون وأثقلت كاهله أباً ومعيلاً وحده بعد وفاة زوجته في صباها، والتي شاع أنها "طَبَّتْ ساكتة فجأة" ولا يعرف أحد لماذا. بعدها انقطعت أخبار ابنه سعيد في ليبيا، وإليها ذهب للعمل مدرساً في أول الثمانينيات. 

أخبرني جدي المختار أن أبا سعيد كان "ابن أكابر"، طُرد من بيته في حي المنشية بيافا في النكبة وتشتت أهله. لم يتحدث أبو سعيد عما حدث. وعندما لحق به الاحتلال سنة 1967 إلى مكان لجوئه في مخيم الشاطئ، آثر البقاء صامتاً. وعندما انتهك الجنود دكانه في المخيم لم ير بُداً من الصمت مجدداً. قال بعضهم، ومنهم عمي الذي أدمن تحليل كل شيء بنَفَس ثوري، أن سلبية أبي سعيد كان مردها صدمة فقدان عائلته وبيته ومدينته، فقرر الحفاظ على ما بقي له من كرامة بالصمت.

وفي ذلك بعض الحقيقة. إن العقد ونيف الذي تلا النكبة كان مرحلة من "الدوخة" لمعظم أهل فلسطين. بين ليلة وضحاها وجدوا أنفسهم مجردين من كل شيء إلا بعض هندامهم ومفاتيح بيوتهم، هائمين على "درب الآلام مثل السيد المسيح"، كما كان جدي المختار يصف رحلة لجوئه لغزة. كثيرٌ منهم صمتوا، ربما شعوراً بالعار والصدمة. هو صمت "جيل النكبة" الذي ثار عليه أبناؤهم "جيل التحرير"، فانطلقوا حاملين البنادق والمعاول والكتب منتصف الستينيات بشعار الكفاح المسلح وتحرير فلسطين. ولكن عند أبي سعيد، تجمد الزمن مع جيل النكبة، فتشابهت أيامه صمتاً، وفسرها بعض أهل الحارة ضعفاً وأحياناً تواطؤاً، فأصبح هامشاً من هوامش مخيم الشاطئ، وهامشاً من هوامش الانتفاضة. تُوفي أبو سعيد بعد الانتفاضة بقليل، ومثل ما عاش مات بهدوء وشُيِّع كذلك. أكل الناس في عزائه وشربوا، ثم انصرفوا كأنه ما كان.  


لربما كان في صمت أبي سعيد ما قاله الأديب الفلسطيني غسان كنفاني في روايته "الشيء الآخر"، "صراخ من نفس النوع"، ويقصد نوع القهر، "أكثر عمقاً وأكثر لياقة بكرامة الإنسان".  ولكن ليس الصمت وحده ما وُظف لمواجهة الإذلال، بل كذلك انتكاسة العيش في واقعٍ موازٍ.

وهنا يأتي جارنا نواف، الذي لم يبال بالانتفاضة بدايةً، وعُرف عنه اجتهاده في تجنب دوريات الاحتلال. حصل على تصريح للعمل داخل الخط الأخضر، فاختفى لأسابيع وخرجت قطط الحارة تتسكع بحرية بعدما كان أرهقها مطاردةً متى شعر بضيق، قيل لأنه كان يتعاطى الحشيش، وقيل أيضاً لأنه "ما بيعرف الله"، أو لربما تعويضاً عن فقدانه السيطرة على مصيره فأسقط إحباطاته على من هو أضعف منه. سرعان ما عاد نواف للمخيم بعدما ألغى الشاباك تصريح عمله. قال الجيران أن "لسانه أطول من ذراعه"، فتورط مع رب عمله اليهودي.

مع تردي معيشته، اشترى نواف حماراً "ليرتزق منه"، ثم خرج علينا وقد أعلن البيان رقم واحد في الحارة وهو تسمية الحمار "أبو مفيد"، محقق الشاباك، فيما بدا له إنتقاماً من المخابرات الإسرائيلية التي جردته من عمله. هدده الجيش بمصادرة الحمار إذا لم يغير الاسم. انصاع نواف، ولكنه آثر أن يبقي على "النَفَس المتمرد"، فعاد ببيانٍ ثانٍ معلناً تسمية الحمار "أبو فلان"، منتصراً بالتشفير على المخابرات الإسرائيلية. صار كلما مر بدوريةٍ إسرائيلية، وعادةً تمركزت بالقرب من سوق المخيم أو المنتزه، يعلي صوته لحماره: "حا يا أبو فلان…".

هزلية المشهد جعلت نواف كأنه "دون كيشوت" الفلسطيني، مجسداً الشخصية الروائية الخيالية، ألونسو كيخانو، والذي عاش في إحدى قرى إسبانيا في القرن السادس عشر ولقب نفسه دون كيشوت. قرأ كتب الفروسية وظن نفسه فارساً مقداماً، وكان رجلاً خمسينياً مترهلاً، امتشق سيفه وركب فرسه النحيل ليحارب طواحين هواء تخيلها تنانين جبارة. عانى لربما دون كيشوت من الوسواس وعضال الوهم. ولعل تصرفه كان أيضاً استجابة لواقع مجنون أو محاولة للبحث عن المعنى. ومثله نواف، كأنه واجه عجزه أمام الاحتلال بتخيل بطولات يرْتِق بها ما تفتت من قيمته. حتى السنوات الأخيرة من الانتفاضة، جرب كل شيء وبحث عن كل شيء في الخواء. في يوم يتحدث عن كونه عضواً في فتح، ثم ينقلب يساراً فيثرثر لنا عن عبقرية جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية. وفي اليوم التالي نجد نوافاً وقد أطال لحيته واصطف في السطر الأول في "الجامع الأبيض"، الأكبر حينها في مخيم الشاطئ وواحدٍ من بؤر أنشطتنا أطفالاً، فنصب نفسه عضواً في حماس، ولم تعلم حماس عنه شيئاً. ثم ما يلبث أن يحلق لحيته وقد عاد نواف نوافاً، لا يهمه سوى أمر حماره وزوجته وأبنائه الذين أرهقهم بمغامراته والتي لم تأت بلقمة خبز سائغة للبيت منذ أن فقد عمله.


وصلت الانتفاضة ذروتها سنة 1990.  وكانت فترة الثلاث سنوات الأولى كافية لإحداث تغيرات ملموسة في نسيج المجتمع. أهم إرهاصات التضامن وتقلص الفجوة الطبقية. فبعدما كنا، نحن أهل المخيم، نتحدث بسخرية وغبن عن سكان حي الرمال الراقي وسط مدينة غزة وأغلبهم كانوا من سكان غزة الأصليين ونقول إنهم يحاربون إسرائيل "بالكلينيكس"، أي المناديل الورقية، بتنا معهم نواجه  البطشَ نفسَه. نشأ بالتوازي في المخيم ما يشبه البيئة المغلقة واقعاً معزولاً عن إسرائيل، لتوفير الأمن والدعم المعنوي والاقتصادي. البيوت المتلاصقة ساعدت بإخفاء المطلوبين الذين طاردهم الجيش من شارع إلى شارع، فهرّبناهم من بيت لبيت. وفي أوقات منع التجول، وكانت كثيرة، مرر الناس لبعضهم الطعام والمستلزمات من فوق الجدران المتلاصقة أو من أسقف البيوت المتراصة. كان "صحن المجدرة" يخرج من بيت جدي المختار إلى البيت المجاور من الحائط الفاصل بينهما ثم  البيت الذي يليه وهكذا حتى يصل وجهته على الطرف الآخر من الحارة. 

"امرأة فلسطينية تهشم حجراً كبيراً لقطع صغيرة تستخدم لرشق الجنود"

هذا التضامن أتاح أيضاً المجال للنساء للخروج عن دورهنَّ التقليدي في البيت للانخراط في التمرد الشعبي. نشأت في المخيم ما أسميناه اعتباطاً "لجان الدفاع النسائية"، وكانت مهمتها التشويش على الجيش الإسرائيلي في أثناء المواجهات بغيةَ تخليص الشبان الذكور غالباً من أيديهم. تزعمت أم وائل جارتنا هذا الجهد وكابدت ما كابدت من لكمات الجنود وركلاتهم. وتوسعت الجمعيات النسوية في الضفة وقطاع غزة ــ مثل الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية الذي انبثق مع انطلاقة الثورة المسلحة 1965 ــ توسعاً ملحوظاً في أعداد المنتسبات الجدد. فصارت الجمعيات واجهة النشاط الإعلامي المساند للانتفاضة، وهو الزخم الذي غرس نواة المجتمع المدني النسوي بعد أوسلو. 

تراجعت الجريمةُ كذلك في ظل الانتفاضة، إذ انصبَّ معظمُ العنف على إسرائيل. أُغلقت أوكار تعاطي المخدرات والخمور، وقُمع الحشاشون والتجار المحتكرون ومن شُك في تعاونهم مع الاحتلال. وكان لمجموعات من اللجان الشعبية دورٌ محوريٌ في ملاحقة هؤلاء، وإن لم يخل "القمع" من تجاوزات بلغت أحياناً التصفية الجسدية بلا محاكمة بتهم العمالة. بينما انخرط فتية بالانتفاضة عفوياً باحثين عن المعنى، أو "التطهر". وهنا يتذكر طبيب نفسي فلسطيني أنه مع بدء الانتفاضة، لم يعد المدمنون يأتون إلى عيادته. وكانت ظاهرة الإدمان بدأت بالانتشار في السنوات السابقة للانتفاضة، بتسهيل مباشر من الاحتلال.


العبرة بالنهايات، وفي تاريخ الثورات تُقيَّم هذه النهايات بمكاسبها اللاحقة. سددت الانتفاضة ضربة إعلامية لإسرائيل، فتشظت صورة اليهودي المظلوم بعدما شاهد العالم جنوداً مسلحين يقمعون متظاهرين عُزل بالرصاص، أو يكسرون أطرافهم بالحجارة والعصي. وبينت الانتفاضة للرأي العام العالمي أن الشعب الفلسطيني شعب قائم وحي له كيان وحقوق. امتدَّ هذا التأثير إلى الحكومة والمجتمع الإسرائيليين بعد عقودٍ حاولوا فيها حبس الفلسطيني في سياق "العربي" فقط، أي جزء من العالم العربي بلا كيان مستقل يؤهله لحق تقرير المصير.

اضطر رئيس الوزراء شامير الذي تفاجأ بالهبة الشعبية إلى الاعتراف ولو ضمنياً بوجود كيان فلسطيني له طموحات قومية، فاستعد للتحدث مع الفلسطينيين. حضر بنفسه مؤتمر مدريد سنةَ 1991، والذي ضمَّ منظمة التحرير ووفوداً عربية ووسطاء أمريكيين وأوروبيين لتسوية الوضع الفلسطيني الإسرائيلي. ومن هنا يُنظر إلى مشروع المفاوضات، الذي وصل ذروته بتوقيع أوسلو في 1993، ومُنحت إثره منظمة التحرير حكماً ذاتياً انتقالياً ــ لم يكتمل ــ على جل غزة وأجزاء من الضفة، بأنّه دُرة تاج المكاسب الانتفاضة. ومع أوسلو وضعت الانتفاضة أوزارها.

ولكن من جانب آخر، يرى فلسطينيون كُثر أوسلو كارثةً أفقدت الانتفاضة معناها، وبسبب ثغراتها القاتلة انفجرت الانتفاضة الثانية الأعنف في سبتمبر 2000. كانت الحركات الإسلامية خصوصاً في حِل من أوسلو من البداية، وعدّت الاتفاق تجاوزاً لتضحيات الفلسطينيين، وشرعنةً للوجود الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية. ولم تكن العمليات التفجيرية التي نفّذتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي في الداخل الإسرائيلي بين سنتي 1993 و 2000 سوى تعبير عنيف عن هذا الرفض.

اصطدمت حماس والجهاد الإسلامي مع السلطة الفلسطينية المستحدثة اصطداماً دامياً. وما زالت أحداث مسجد فلسطين في نوفمبر 1994 حاضرةً في ذاكرة أهل غزة. يومها تصدت شرطة مسلحين تابعين للسلطة لمتظاهرين خرجوا من مسجد فلسطين وسط غزة بعد صلاة الجمعة، قيل تأييداً للعمليات "الاستشهادية"، وقيل تنديداً بأوسلو. قتلت الشرطة بالرصاص يومها اثني عشر مصلياً، وقيل سبعة، وأصابت العشرات. كان منهم زميلي في الفصل في المدرسة الإعدادية، علاء، الذي لقبناه تحبباً "الخروف" بسبب شعره الأشقر المجعد. قضى بعدها أسبوعاً في مستشفى الشفاء متأثراً بجراحه، ليكون أول ضحية عرفناها بنيران فلسطينية. 

يرى أيْهم أن الحديث عن مكاسب مستقبلية لانتفاضة الحجارة "حكي فاضي". بل يصف الانتفاضة بأنّها إخفاقٌ آخرُ في الإخفاقات الفلسطينية. يعتقد أن أوسلو لم تفعل شيئاً لكبح جماح الاستيطان مثلاً، وتباطأ بناء المستوطنات جذرياً في الانتفاضة، بينما تضاعفت المستوطنات أربع مرات منذ 1992 إلى اليوم . وبدلاً من أن يتحرر الاقتصاد الفلسطيني كُبلنا باتفاقية باريس الاقتصادية أي النظام الاقتصادي الملحق لاتفاقية أوسلو 1994، مُعزِزين تبعيتنا اقتصادياً لإسرائيل، وكما يقول أيهم: "وكأنك يا أبو زيد ما غزيت".

لم تتوقف إسرائيل بعد أوسلو عن إذلال الفلسطينيين رغم الحديث عن السلام والتعايش، ثم واصلت أجهزة السلطة الفلسطينية تطبيق معايير مشابهة لإخضاع المجتمع الفلسطيني تحت شعارات الدولة وسيادة القانون. شعر كثيرٌ من أهل مخيمنا، والمناطق الفلسطينية عموماً، أنَّ "جماعة أوسلو" جاؤوا ليحصدوا ست سنوات من نضالاتهم. رأيناهم يأتون من لبنان وسوريا وتونس ومصر، ومنهم من لم يدخل فلسطين من قبل، يتبوأون المناصب ويقودون السيارات الفارهة، بينما يُهمَّش أهل البلد. عاش بعضهم في عزلة عن المجتمع، وتعاملوا معنا بفوقية. يقول أيهم: "قاومت وانذليت وانسجنت سنين، مشان تيجي سها عرفات وتقعد في المنتدى [مقر عرفات على البحر في مدينة غزة] وتفكر حالها أحسن منا". أسمينا هذه القيادات "فسدة شارع الحمرا"، في بيروت، وتصف الكلمة في هذا السياق عدداً من مسؤولي منظمة التحرير الذين عاشوا في لبنان منعمين وعادوا إلى فلسطين يركبون قطار أوسلو. 

سألت أيهم عن صديقه ورفيق دربه في المعتقل، فقال إنَّه لا يعرف عنه سوى أنه هاجر إلى السويد بدايةَ الانتفاضة الثانية، "قالوا لي إنو تزوج سويدية وخلف منها". ذكرته بنواف الذي انضمَّ إلى صفوف الشرطة الفلسطينية بعد دورة شرطية تدريبية في مصر نهاية التسعينيات. قال لي إن نوافاً نهايةَ الانتفاضة الثانية "صار شيخ واعتزل الناس"، قبل أن ينتقلَ وعائلته إلى منطقة النصيرات، وسط القطاع وتختفي أخباره مباشرة بعد انسحاب إسرائيل من غزة سنةَ 2005. 

مثل أيهم لم يعرف عمي ما حل بنواف. ومثله أيضاً يرى أن الوضع في غزة بعد أوسلو لم يوحِ يوماً بأن الانتفاضة الأولى حققت إنجازات طويلة الأمد. فقد جلبت برأيه قيادات الخارج إلى الداخل وشكّلت شخصياً وعيه السياسي الذي ما زال يصاحبه اليوم زاداً في الوقت الذي لا يتوقف فيه طنين "الزنانات"، أي الطائرات المسيرة الإسرائيلية، في أذنيه بخيمة نزوحه جنوب قطاع غزة منذ أكتوبر 2023. ولا تبعد خيمة عمي كثيراً عن خيمة أخي، الذي كادت قنبلة الغاز الإسرائيلية أن تسرق أنفاسه رضيعاً. 

أما يحيى فقد رأيته آخر مرة بداية الألفية وأنا شابّ. بدا لي قصيراً ممتلئاً قليلاً بلحية قد بدأ الشيب يغزوها، بعد أن كان طويلاً شامخاً في عيني. يحيى "كثير الغلبة" ظل كذلك وتدرج في العمل السياسي حتى بات أحد الشخصيات القيادية في حركة حماس. قيل إنه ضلع في التخطيط لأحداث الانقسام الفلسطيني في قطاع غزة سنة 2007، وهو ما تسميه حماس "حسم عسكري" وتسميه السلطة الفلسطينية "انقلاباً". بُرر العمل بأنّه رد على فوز حماس الساحق في الانتخابات التشريعية سنةَ 2006، وعرقلة إسرائيل ودول غربية وعربية والسلطة الفلسطينية توليها الحكم في غزّة. كان مقرّ الأمن الوقائي في تل الهوى جنوب غزة أبرز أهداف الهجوم. دخله عناصر مسلحون من حماس واشتبكوا مع أفراد الأمن. تحوّل الصراع إلى انتقام، والانتقام إلى جرائم وهرج ومرج، وهذا كله لجرحٍ غائر قسَّم فلسطين لاثنتين. لا أحد يعرف إذا ما زال يحيى حياً اليوم. قيل لي إنه قُتل في عدوان 2014 على غزة، بينما يُصر آخرون أنه ما زال نشطاً وموجوداً على قائمة الاغتيالات الإسرائيلية. 


هذا إذن مجتمع الانتفاضة الأولى. أناس عاديون شكلتهم الأوضاع الصعبة، فمنهم من ركب موجة التمرد لإعادة الاعتبار إلى ذاته ومحيطه، ومنهم من حاول وفشل فانكفأ على نفسه وسيلة لحماية كرامته. كلٌ حمل معه إرثاً ثقيلاً بات جزءاً من مكنونه النفسي ونحت تصوره للعالم في العقود اللاحقة، من أوسلو إلى الانتفاضة الثانية، وحروب غزة المدمرة التي لم تنتهِ لحظة.  

ذكّرت والدي من أعوام بما فعلته أمي يومَ لم تخبره عمّا حدث لأخي، فأجاب: "مفهوم … مفهوم". أقر باستثنائية الموقف، ولم يعترض على الفعل.

اشترك في نشرتنا البريدية