شاهدٌ على قبره: فقُل لرفاقنا أن يعبروا.. عبد الله الحامد المناضل في الفكر والسياسة

قام مشروع داعية الملكية الدستورية السعودي عبد الله الحامد على أن الإصلاح السياسي لا يتم إلا بإصلاح ديني، لكن مطالبه كانت أكبر من قدرة السياق السعودي على الاحتمال.

Share
شاهدٌ على قبره: فقُل لرفاقنا أن يعبروا.. عبد الله الحامد المناضل في الفكر والسياسة
خلّف عبد الله الحامد وراءه تركة مهمّة واستثنائية | تصميم خاص بالفِراتْس

رأيت الأكاديمي والحقوقي السعودي الدكتور عبد الله الحامد آخر مرة في ضحى يومٍ ربيعي في مبنى قديم شمال الرياض. كان ذلك يوم التاسع من مارس 2013 في مقر المحكمة الجزائية المتخصصة، أو المحكمة الأمنية، التي كانت تتأهب للنطق بالحكم على الحامد ورفيقه في العمل الحقوقي الدكتور محمد القحطاني بعد عشر جلسات قضائية عُقدت لهما في الشهور السابقة. وكعادته كان هادئاً ومبتسماً ويحادث الحضور، الذين تجاوزوا مئة متضامن ومراسلي بعض وسائل الإعلام، عن الحكم القضائي المتوقع. حضر القاضي وقرأ مسببات قراره وحَكم على الحامد بخمسة أعوام يُضاف إليها ستة أعوام متبقية من حكم سابق عليه بعد الإفراج المشروط عنه سنةَ 2005، وحُكم على القحطاني بالسجن عشرة أعوام.

ومع كثرة المسببات التي ذكرها القاضي في حكمه، إلا أن السبب الرئيس تأسيس الحامد والقحطاني جمعية الحقوق المدنية والسياسية التي عُرفت اختصاراً باسم حسم. أضاف القاضي أسباباً أخرى غير تأسيس حسم، منها السعي إلى تقويض سياسات الدولة والإخلال بالطمأنينة العامة وإثارة الفوضى ووصف الدولة بأنها "دولة بوليسية". وعقب النطق بالحكم، تحرَّك عشرات من رجال الأمن وشكّلوا حاجزاً بشرياً بين المتضامنين وبين القاضي ومساعديه ومعهم المحكومان وطلبوا من الجميع الخروج. ومع أن هذه الأحكام كانت متوقَّعة إلا أن الحزن ارتسم على وجوه الحضور، ومعظمهم من رفاق الحامد ومحبّيه، وهم يسيرون بوجومٍ وصمتٍ خارج مبنى المحكمة.

كانت تلك المرة السابعة التي يُسجن فيها عبد الله الحامد. وفي السجن كانت وفاته، بعد سبعة أعوام، في صباح يوم الجمعة 24 أبريل 2020. ختمت وفاته مسيرةً فكرية سياسية نضالية بدأت في سياق حرب الخليج 1990 قبل ثلاثين سنة. تَركّز مشروع الحامد على المطالبة بتحوّل السعودية إلى ملكية دستورية ذات برلمان منتخب ومؤسسات مجتمع مدني وحقوق إنسان وحريات عامة مكفولة. كان الحامد مؤمناً أن الإصلاح الديني هو المدخل الرئيس نحو الإصلاح السياسي. فكان إنتاجه الفكري الناقد لما اعتبره منابع فكرية ودينية في الفكر السلفي التقليدي للاستبداد السياسي رديفاً لنضاله السياسي المرتكز على أهمية العمل السلمي والحقوقي. ومع أهمية التجربة الفكرية والسياسية التي خلفها وراءه، إلا أن السياق السعودي لم يكن يحتمل سقف مطالبه العالي. ولم يولِ الحامد في إنتاجه الفكري اهتماماً كافياً بالأطروحات المتنوعة في مجال الانتقال السياسي. ولم يراعِ دور الاقتصاد وغيره من العوامل في تفسير الاستبداد ومواجهته.


كانت حرب الخليج سنة 1990، وما تلاها من أحداث، منعطفاً مهماً في حياة عبد الله الحامد دفعه لخوض معترك الإصلاح السياسي كتابةً ونشاطاً. فالحامد، المولود سنة 1950 في أحد أرياف مدينة بريدة بمنطقة القصيم شمال الرياض، تعلّم في المعهد العلمي ببريدة. والمعهد هو مدرسة ذات محتوى دينيّ مكثّف يفوق ما يُدرَّس في المدارس العامة. اختار بعدها الحامد التخصص في اللغة العربية متخرجاً في كلية اللغة العربية في الرياض. ثم رحل إلى جامعة الأزهر في مصر ليكمل دراسة الماجستير والدكتوراه، قبل أن يعود إلى الرياض سنة 1975 ليعمل في جامعة الإمام محمد بن سعود المكتظة بالأساتذة والشيوخ المنتمين إلى الفكرة السلفية. وطوال عقدَي السبعينيات والثمانينيات كانت جلّ كتابته تدور في إطار تخصصه الأكاديمي عن النقد الأدبي والشعري. إذ  ألّف أكثر من عشرة كتب وعشرات المقالات وبعض الدواوين الشعرية.

مثلّت حرب الخليج والسنوات اللاحقة لها لحظةً مهمة من الحراك السياسي في السعودية. ففيها نشرت تيارات سياسية، ليبرالية وإسلامية، مطالبات متعددة شملت المشاركة السياسية والسياسة الخارجية والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. وفي تلك الفترة جرى نقاش مجتمعي كبير عن قرار الحكومة السعودية استقبالَ القوّات الأمريكية لمواجهة التهديد العراقي وتحرير الكويت. وفيها قادت مجموعة من النساء السيارة احتجاجاً على الحظر الموجود. وفي سياق هذا الحراك المتنوع أصدر الملك فهد سنة 1992 النظام الأساسي للحكم ليكون بمثابة دستور للبلاد. ذلك أن السعودية قبل هذا التاريخ كانت بلا وثيقة ذات طبيعة دستورية. وكذلك أعلن الملك فهد تأسيسَ مجلس شورى معيَّن بالكامل. انتهت هذه اللحظة سنة 1994 عندما شَنّت الأجهزة الأمنية حملات اعتقال واسعة ضد قيادات من الصحوة الإسلامية ومنتمين لها.

كانت هذه اللحظة هي التي قادت عبد الله الحامد إلى الانتقال من عالم الأدب إلى عالم السياسة. كتبَ عن هذا التحوّل في مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب "حقوق الإنسان في ظلال الحكم الشوري"، وهو أول كتاباته السياسية وصدرت طبعته الثالثة التي حَوَت تلك المقدمة سنة 2010. أما العنوان الذي اختاره لها الحامد، فكان "الخروج من ميدان الأدب إلى السياسة والحقوق بعد حرب الخليج". هذه المقدمة القصيرة هي المادة الوحيدة التي كتبَ فيها الحامد شيئاً عن مسيرته في مشروع الإصلاح. ويقول فيها: "هذا هو باكورة أعمالي، بعد أن بلّغتني كغيري كوارث الخليج دروساً من الرشد والنضوج، أكثر من رشد (الأربعين). فشبَّ عمروٌ عن طوق محاولات إصلاح مناهج التعليم الديني أو اللغوي أو الجامعي، أو الكتابة في النقد الأدبي والبلاغة والأدب الإسلامي، أو إصلاح الجامعة. فالداء الأساسي إنما هو سياسي، فالمشكلة في الرأس".

ونجد إشارة أخرى لدور حرب الخليج في تحوّله للنشاط السياسي في قصيدته "تسألني بنيَّتي". ففي المقطع السابع والعشرين والأخير منها، وعنوانه "هل الصلاة خلفَ السلطان الجائرِ هي وظيفة الشاعر؟"، يقول:

تسألني بنيَّتي عَلام شِعري عَصَبي؟

بنيَّتي حرب الخليج أشعلت بي لهبي

وأوقظت من طربٍ وأججت بي غضبي

وصهرتني في بني قومي وشعبِنا الأبي

فعِفتُ عيشَ النخبِ كرِهت درس الأدبِ

قد نبهتني سودُها بدوريَ المغيَّبِ

وهذه قصيدتي تاريخ قمعِنا الغبي

سنكتب التاريخَ عن طاغٍ وعن معذبِ


بدأ عبد الله الحامد مسيرته الطويلة والصعبة والمنهكة في طريق الإصلاح السياسي سنة 1993. كان أحد المنتسبين إلى لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية التي أعلنت في مايو 1993 للدفاع عن "حقوق الإنسان التي تقررها الشريعة"، حسبما ذَكر بيانها الأول. لم تستمر اللجنة طويلاً. فقد اعتقلت الأجهزة الأمنية المنتسبين لها، وبينهم الحامد الذي اعتقل في يونيو من تلك السنة لفترة قصيرة. بعد الإفراج عنه، انشغل في التأليف في مواضيع الحقوق والإصلاح السياسي والملكية الدستورية.

ولكن مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية سنة 2000 ثم أجواء ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، بدأ النشاط السياسي في السعودية يستعيد عنفوانه. في هذه الفترة كان عبد الله الحامد يستقبل الزوار والأصدقاء بانتظام في مجلسهِ في منزله بحي الروضة بالرياض. ومن هذا المجلس تبلورت عدة مشروعات وبيانات. مثل خطاب "رؤية لحاضر الوطن ومستقبله"، الذي كان من بين مطالباته "تشكيل مجلس شورى بالانتخاب المباشر من جميع المواطنين" و"التأكيد على مبدأ استقلال القضاء" و"إعلان ملكي يكفل ممارسة الحقوق العامة للمواطنين، لاسيما في مجال حرية الرأي والتعبير والتجمع".

رأيت عبد الله الحامد أول مرة سنة 2001 حين استضفناه، أنا وأصدقاء، في ندوة كنا نقيمها بانتظام في الرياض. تحدّث الحامد يومها عن آرائه في الإصلاح الديني والسياسي، وقد بدا لجميع الحضور الجرأة العالية للضيف وتجاوزه الخطوطَ الحمراء المحلية الدينية والسياسية. تطورت بعد ذلك صِلتي به. وصرت أزوره في منزله من حينٍ لآخر وشهدت في مجلسه حوارات ومشروعات عدّة. سألته في إحدى الزيارات: "لمَ تترك باب بيتك مفتوحاً طيلة الوقت، ألا تخشى السرقة؟". رد عليّ ساخراً: "لا تقلق، فبيتي هو أأمن بيت في الرياض. سيارة المباحث (المكَلفة بمراقبته) تقف أمام باب المنزل طيلة اليوم، فمن يجرؤ على السرقة؟!".

وفي مارس 2004، وإثر توالي البيانات الإصلاحية والمطالبة بالدستور، اعتقلت قوات الأمن أكثر من عشرة ناشطين كان الحامد على رأسهم. وبعد أيام أُفرج عن معظمهم عقب توقيعهم على تعهدات بعدم الرجوع للنشاط السياسي. إلا أن ثلاثةً منهم بقوا رهن الاعتقال بسبب رفضهم التوقيع على التعهد. وهم: عبد الله الحامد، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة الملك سعود متروك الفالح، والشاعر ذو الخلفية اليسارية علي الدميني. استمر ثلاثتهم ثابتين على رفض التوقيع حتى بعد تخفيف صيغة التعهد، فحُوّلوا إلى المحاكمة. وقتها كنت أحضر مع مجموعة من الناشطين هذه المحاكمات التي كانت تُعقد في مقر المحكمة الكبرى بالرياض. كانت الجلسة الأولى علنية، لذا حضرها عشرات المتضامنين. وبعد انتهاء الجلسة، وقبل اقتياد الأمن إياه ورفيقيه وإعادتهم إلى السجن، صعد الحامد على أحد المقاعد الحديدية المثبّتة في أرض المحكمة وخطب بالحضور بفصاحة وحماسة عهدناها منه وأكد مطالبهم وأهدافهم.

منع الأمن حضورَ الجلسات التالية إلا لمن معه توكيلٌ بتمثيل أحد المعتقلين. أذكر أننا كنا ننتظر خارج مبنى المحكمة حتى يأتي المحامون بخبر ما جرى في الجلسة. وبعد عدة جلسات، حُكم على الدميني بتسع سنوات والحامد بسبع سنوات والفالح بست سنوات. وبعد شهور من صدور الحكم، وسنة ونصف في السجن، صدر عفو ملكي عنهم إثر تولي الملك عبد الله الحكم بعد وفاة الملك فهد في أغسطس سنة 2005.


استمر عبد الله الحامد بعد خروجه من السجن سنة 2005 في نشاطه الإصلاحي. في تلك الفترة كان تنظيم القاعدة بدأ عملياته داخل المملكة، وواجهته الأجهزة الأمنية بحملات اعتقال كبيرة. كان هؤلاء المعتقلون يقبعون في السجون فترات طويلة بلا محاكمة، وبدأت تتشكل قاعدة اجتماعية نشطة سياسياً من ذويهم وأسرهم. وفي الوقت نفسه كانت حرب العراق تجذب المتحمسين من الشباب للمشاركة فيها.

أمام هذا المشهد، بدأ عبد الله الحامد يشدد على أهمية الجهاد السلمي مقابل الجهاد العنفي. اعتقد الحامد أن المنتمين لتيار الصحوة الإسلامية هم الأكثر نشاطاً وحيوية وقدرة على التأثير في البلد. فانشغل بمخاطبة شبابهم لكسبهم مشاركين في النشاط السياسي. وكثيراً ما كرَّر أن الآلاف يذهبون إلى الموت في العراق، وآلاف آخرون معتقلون في السعودية لأسبابٍ مماثلة. ماذا لو اقتنع نِصف هؤلاء ثم شاركوا في مسيرة "الجهاد السلمي" من أجل الإصلاح السياسي في البلد، بدلاً من الموت في محارق القتال العسكري؟ ألن يكونوا سبباً في الضغط على السلطة ودفعها إلى أخذ خطوات إصلاحية؟

وتبنى عبد الله الحامد قضية المعتقلين وعملَ على مناصرة أهاليهم. فألف كتاباً بعنوان "حقوق المتهم بين نور الإسلام وغبش فقهاء الطغيان". وبدأ يساعد النساء من أهالي المعتقلين في تنظيم المظاهرات للمطالبة بالإفراج عن ذويهم. ولما فُرض طوقٌ أمني على بيت إحداهن في مدينة بريدة في القصيم سنة 2007، حاول الحامد مع أحد إخوته التدخل لأنه وكيل زوجها. فاعتقل مع أخيه بتهمة محاولة كسر الطوق الأمني، وحكم عليه بالسجن ستة أشهر وعلى أخيه عيسى بأربعة أشهر، وأفرج عنهما بعد انقضاء المدة.

بعد فترة من الإفراج عنه، أسس عبد الله الحامد مع رفيقه في العمل الإصلاحي الدكتور محمد القحطاني وناشطين آخرين جمعيةَ الحقوق السياسية والمدنية (حسم) سنة 2009. وضعت هذه الجمعية الملكية الدستورية سَقفاً لمَطالبها التي يناضل منتسبوها من أجلها. كان الحامد يرى أن هذا الحد الأقصى الملائم للواقع السياسي والاجتماعي في السعودية، ويرفض أي تجاوزٍ له لأنه سيعرِّض وحدة البلاد الجغرافية للانهيار. في هذه الفترة انتقل مجلسه إلى استراحته في حي الثمامة على أطراف الرياض. وصارت مقراً غير رسمي للقاءات الناشطين والإصلاحيين وأعضاء جمعية حسم. وفيها يناقش المجتمعون الأفكار ويعقدون الندوات الثقافية المنتظمة فيما سُمي "اثنينية المجتمع المدني"، والتي صُوّر بعضها ونُشر على يوتيوب. واختير للجلسة اسم المجتمع المدني للتأكيد على محورية المؤسسات الأهلية ودورها في الإصلاح السياسي. شهدتُ في مجلسه هذا عدة حواراتٍ عن الإصلاح والمؤسسات والمجتمع المدني والملكية الدستورية. كان عبد الله الحامد يؤمن بالتدرج، وأن أي خطوات جديّة في اتجاه الحريات والمشاركة السياسية واستقلال القضاء ستكون إيجابية، ويمكن البناء عليها مستقبلاً.

ومع كل الفاعلية والعنفوان وصلابة موقفه الذي لم يتراجع عنه مع السنين، إلا أنه في مراحل عدة كان الأحرص بين المجموعة الفاعلة في النشاط الإصلاحي في الدعوة إلى التأني وعدم الاستفزاز. فقد رفض الإدلاء بأي تصريحات لقناة الجزيرة –في فترات الخلاف السعودي القطري– حمايةً لمطالبهم الإصلاحية من التوظيف السياسي. ولم يَقبل أي لقاء مع صحفي أو باحث أو دبلوماسي غربي حتى لا يفسَّر فِعله على أنه استقواء بالخارج. وظلّ معارضاً لمطالب بعض الإصلاحيين بتكوين حلقة تنسيقية منظمة كي لا يُفهَم هذا الفعل أنه تنظيم بدون موافقة السلطات. وقد حذَّر بشدة مجموعة كانت تنوي الإعلان عن تأسيس حزب سياسي، تأثراً أو امتداداً لتجربة حصلت في الكويت، لمعرفته عواقب ذلك. وصحّ توقعه، إذ اعتُقل كامل أعضاء المجموعة قبل إعلان التأسيس. وكان يلقي اللوم بغضبٍ على مَن دفعهم إلى هذه الخطوة التي عدّها انتحارية.

كان عبد الله الحامد مسروراً في عامه الأخير قبل اعتقاله، بمعرفة تطبيق "تويتر". إذ استطاع منه إيصال صوته وأفكاره إلى شريحة واسعة من الناس لا يستطيع الوصول إليها عادة، وبلا رقابة الأجهزة الأمنية وتحكّمها. فشارك فيه بفعالية. وكان حين يخرج من أي تحقيق أمني، يكتب تفاصيل ما جرى معه في حسابه على تويتر.

كان الحامد عرّاب النشاط الإصلاحي بامتياز. وكان يصوغ بقلمه كل مسودات المطالب والخطابات قبل التشاور بشأنها مع الآخرين. وكان دؤوباً أيضاً في كسب أي نصير حتى يكون موقّعاً إضافياً على تلك المطالب أو ضيفاً جديداً في الندوة الثقافية. وكان ينشط في سعيه هذا بحماسة شاب في العشرين. الغريب أنه مع كل الإحباط المحيط والتضييق المستمرّ وانفضاض كثيرين، لم يسأم ولم يملّ. كان مريضَ سكّر وضغط وضعف بصر، وتعاوده أعراض الروماتيزم كلّ حين. وحين عَرض عليه أحد الأطباء –في حديثٍ جانبي كنت طرفاً فيه– أن يفتح له ملفاً في "المستشفى التخصصي"، رفض وقال إنه لن يعالَج بالواسطة بل مع عموم الناس وفي مستشفياتهم.


يقوم المشروع الفكري لعبد الله الحامد على دِعامة نظرية مركزية، كثفها في عنوان فصل لأحد كتبه "الإصلاح السياسي لا يقوم إلا بإصلاح ديني". فهو لا يرى إمكانية لإصلاح سياسي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بلا رافعة دينية. ورأى أن السعي لدرء التعارض بين الشريعة والحرية وتنقية العقيدة مما علق بها من الإرث العباسي سيجعلها محارِبةً الاستبداد السياسي وقائدةً المجتمع إلى التحرر والتقدم والحداثة. وعلى قاعدة هذا التلازم الشرطي ووفق هذا المدخل الثقافي، بنى الحامد كل ترسانته النظرية في "مشروع الإصلاح" في عشرين كتاباً وأكثر من خمسين مقالة مطولة وعشرات القصائد الشعرية.

عند تفحص مشروع عبد الله الحامد، نجد فيه ثلاث سمات رئيسة. أولاها التحيز إلى مدرسة "مقاصد الشريعة" التي تعتمد على مركزية القيم والكليات في فهم الإسلام وتفسير نصوصه. وفي هذا يرى أن مقاصد الإسلام وكلياته القطعيّة لا تهدمها الأدلة الظنية. ومع أن الفقهاء حددوا خمسة مقاصد للإسلام، هي حفظ النفس والعقل والمال والدين والنسل، إلا أن الحامد رفض حصرها بهذه الخمسة. ورأى أنّ الإسلام يؤكد مركزية مقاصد أخرى، مثل العمران والعدل والحرية. وهو في ذلك يؤيد ما قرره العالم والفقيه التونسي الطاهر ابن عاشور والمفكر والسياسي المغربي علّال الفاسي والمحدث الأصولي المصري عبد الوهاب خلّاف والعالم المفكر العراقي طه جابر العلواني.

واشتغل الحامد على استنباط قِيَم العدل والعمران والتمكين والسعي في الأرض ومفاهيم الاستخلاف والصلاح في القرآن الكريم والسُنة النبوية. وناقش نصوص عددٍ من كبار المفسرين والفقهاء في تفسيرهم كثيراً من الآيات والأحاديث عن هذا المعنى. وهو يرى أن الإسلام شرّع الجهاد لدفع الطغيان أياً كان، فكيف نتوهم أنه يأمر الناس بالصبر على جور السلطان. ويرى عبد الله الحامد أن الحرية من أصول العقيدة. وأن الآيات التي تقررها أدلة قطعية ولا يمكن نسخها أو تخصيصها بظنيّات. ويؤكد على مركزية التعددية في الخطاب القرآني، وأن تشريع الفقهاء قمعَ "أهل البِدع"، هو المدخل الرئيس لقمع كل مختلف وكل منكِر على مظالم السلطة. وأن مفهوم "ولي الأمر" الذي تشكل في الفقه والتراث السياسي الإسلامي تجسيدٌ للاستبداد والطغيان. وأنه في سبيل مواجهته، يغدو "الجهاد السلمي" الوسط الشرعي بين حمل السلاح ودعاوى الصبر على جور السلطان.

وفي نقاشه مع الفقهاء والأصوليين، رفض عبد الله الحامد اعتماد المصالح المرسلة مصدراً من مصادر التشريع. والمقصود بالمصالح المرسلة، المصالح التي لم يأمر بها النص الشرعي ولم ينهِ عنها ويفرضها الحاكم. والسبب في رفضه إياها أنه عدّها جهاز تشريع محتمل يمكن أن يقع بيد الحاكم لتكريس الاستبداد والقمع باسم الدين. ولإقامة حجته خاض الحامد نقاشاً مع أقوال أنصار المصالح المرسلة من فقهاء الحنابلة، من أمثال ابن عقيل الحنبلي ونجم الدين الطوفي، وانحاز إلى موقف ابن تيمية في هذه المسألة. وفي نقاشاته مع علماء الحنابلة، المذهب الفقهي المعتمد في السعودية، كان دائماً يكرر إيراد مقولة ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" المنشور سنة 1351: "الشريعة الباهرة مبناها على الحكم ومصالح العباد، في المَعَاش والمَعَاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها. فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت بالتأويل".

أما السمة الثانية التي تضمنتها كتبه، فهي الموقف النقدي الحاد للتيارات والاتجاهات التي تشجع على العزوف عن الانخراط في الشأن العام. فتجده ينتقد التصوف والزهد بالسياسة والشأن العام والانزواء للعبادة والعلم، وترك الاحتساب على السلطان (مراقبته ورده) ورفض المظالم. وتجده كذلك ينتقد الثقافة الشعبية المرتبطة بالتواكل وغياب البصيرة الاجتماعية والسياسية. ويشيد بأفكار مفكري عصر النهضة، من أمثال عبد الرحمن الكواكبي وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، بسبب حضور قيم المدنيّة والحضارة والعمران والعدل في خطابهم وانشغالهم بالإصلاح الديني. ويشيد أيضاً بتجربة الفقهاء الإيرانيين فيما يعرف "بالثورة المشروطة" التي انطلقت سنة 1905، التي واجهوا فيها الاستبداد وطالبوا السلطان مظفر الدين القاجاري بتأسيس الدستور والسماح بالمشاركة السياسية.

ويحمّل عبد الله الحامد فقه الفترة العباسية مسؤولية تشويه القيم السياسية التي تقوم على أساسَي العدل والعمران في النموذج النبوي والراشدي، وتشويه العقيدة الإسلامية التي تتشكل من مركزي الروحي والمدني. وهو يبني هذه الحجة على أن الفقهاء في العصر الأموي حاولوا سبع مرات أن يحتجوا على استبداد الخلفاء ومنهج التوريث ويصححوا المسار. شملت هذه المحاولات ثورات الحسين وابن الزبير وابن الأشعث ومحمد النفس الزكية وسواهم. ولما فشلت هذه المحاولات، صاغ الفقهاء ما اعتبره فقهاً عباسياً مشوهاً. اهتم بالجانب الروحي والطقوسي والخلافات الكلامية وكرس أحاديث الطاعة والخنوع والرهبنة وزهَّد الناس في السياسة والإصلاح ورسخ الفصل بين ما لقيصر وما لله وحقن "القيم الكسروية والفرعونية"، أي القيم الاستبدادية الممزوجة بالفقه الصحراوي، في أوردة المجتمع المسلم. رأى الحامد أيضاً أن العصرَين المملوكي ثم العثماني ساهما في مزيدٍ من التنظير والتشريع لأفكار ذلك الفقه العباسي المشوّه، وأن معظم التصورات الدينية والفقه الحالي في المجتمعات العربية والإسلامية هما نتاج هذا التشوّه الطويل والممتد والمتراكم.

أما ثالث سمات مشروعه الفكري، فانحيازه إلى النزعة العمليّة في التعاطي مع العلوم والأفكار، وتبخيس شأن التنظيرات التي لا تنتج عملاً ولا تدفع للتغيير. وقد عَنون أحد فصول كتبه "كل عِلمٍ نظري لا يؤدي إلى عملي فهو مفسدة". وكرَّر في عدة مواضع مقولة الإمام أحمد بن حنبل: "ما ترك قومٌ العمل إلا ابتلاهم الله بكثرة الجدل". وانسجاماً مع هذا الموقف يأخذ الحامد على الفلاسفة المسلمين الأوائل أنهم أخذوا من اليونان الفكر التجريدي والسفسطة، أي الجدل لغرض الجدل والكلاميات، ولم يأخذوا الفكر والتجربة الديمقراطية. وهو دائم الدعوة إلى الاهتمام بالتفكير العلمي والعلوم التجريبية والتطبيقية والتقنية، وموضوعات الشأن العام في علوم الاجتماع والفلسفة والمنطق.

يمكن فهم مشروع عبد الله الحامد الفكري ومفرداته إذا أدركنا موقعه بين تيارات المشهدَين الثقافيين السعودي والعربي. فهو خصمٌ للفكرة السلفية المعاصرة، خصوصاً في شِقّها السياسي الذي يجوّز حكم المتغلب ويقدّم الاستقرار على إقامة العدل، وكَتب في نقدها كثيراً. ولهذا السبب لجأ خصومه من السلفيين إلى اتهامه بالعلمنة والليبرالية والتغريب. وكانت طريقته في قطع الطريق عليهم بانتقاد العلمانية والغرب الإمبريالي. أما الليبرالية، فكان نقده إياها بدرجة أقلّ لأنه على ما يبدو لم يكن يريد أن ينجرّ إلى تشويهها لأنه مؤمن ببعض قيمها. وهو ما دفعه للإشادة بها في عدة مواضع.

وبسبب هذا المناخ السِجالي، تجنّب عبد الله الحامد استخدام مفردة الديمقراطية رغم تبنّيه كل آلياتها وهياكلها، مع انحياز إيجابي إليها في السياقات القليلة التي وَرد ذكرها في كتبه. وعِوضاً عنها، كان يستخدم مصطلحات أخرى. فهو دائم الدعوة إلى الدستور والمجتمع المدني والمجلس النيابي المنتخَب وحرية الرأي والتعبير والتجمّع، والحق في تأسيس التكتلات الأهلية "النقابات والجمعيات والأحزاب" واستقلال القضاء وفصل السلطات، وحقوق الإنسان والشورى والتعددية والمواطنة والعدالة والتسامح والتعايش. وكان يطلِق على اللافتة الكبرى التي تجمع كل هذه الأمور "دولة العدل والشورى". ويصف نفسه والمجموعة الناشطة معه أحياناً بدُعاة الدستور.

إضافة إلى ذلك، كانت لغته في السجال تتضمن كثيراً من المفردات الشائعة في الخطاب  السلفي. فهو مثلاً يسمّي العمل السلمي ونبذ العنف "الجهاد السلمي". ويصف أحياناً مواقف خصومه بالابتداع والضلالة والشبهات. ويدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات السياسية من ظلم وفساد، ويدعو إلى الاحتساب على الحاكم قاصداً ممارسة الرقابة المدنية عليه ومحاسبته على أفعاله. وبسبب هذه البيئة أيضاً، كان اهتمامه الواسع في نقد مرتكزات التعليم الديني وقواعده، ونقد التعليم السائد للقرآن الكريم الذي يرى أنه يعتمد فقط على الحفظ والتلقين. ويكرر المقولة المنسوبة إلى عبد الله بن مسعود: "نزل القرآن الكريم للعمل، فاتخذ الناس قراءته عملاً".

امتلك عبد الله الحامد ناصية لغةٍ متينة وجذابة. واستثمر مخزونه الأكاديمي متخصصاً في الأدب العربي، وشاعراً أصدر ثمانية دواوين شعرية في لغته الكتابية الزاخرة بالصور البيانيّة اللافتة والتراكيب الاصطلاحية الحديثة. انبعثت لغته من وسط المعارك الفكرية والسجالات الشرعية والسياسية، ومزجت بمرارة تجاربه في السجون والمعتقلات. لذا يقف القارئ أمام نصوصٍ فيها قدر وافر من التعبئة والشحن النفسي والثنائيات، والسعي للإقناع والتبشير بنموذج ناجز. ويجد قارئه استخداماً واعياً لقدرٍ من التعميم والاختزال والقطعية.

يتجلى هذا الحضور اللغوي الكثيف في عناوين فصول بعض كتبه. مثل: "العلم ليس محايداً بل عِلمان: عِلمٌ ينتج الحضارة والعدالة، وعلمٌ يندمج في الطغيان والجهالة"، وأن أمام الأمة "إما إحياء شِق العقيدة المهجور أو الإمبريالية"، وأن "الإسلام والاستبداد نقيضان لا يجتمعان"، و"أنه يجب تقسيم العالم إلى داري عدل وطغيان لا كفر وإسلام". وهناك عناوين أخرى متعددة تبدأ بكلمة "كل" الحاسمة والقاطعة. مثل: "كل فقهٍ للإسلام لا ينبثق من بصيرةٍ سياسيةٍ حضاريةٍ فإنما هو فقهٌ صحراوي أو رهباني"، "كل تديّن لا ينتج عدالةً وعمراناً فإنما هو ابتداع"، "كل استبدادٍ فهو كفرٌ بواح"، "كل تدين روحي لا يؤدي إلى تقدم مدني وسياسي فإنما هو هوىً فاسد"، "كل عقيدةٍ تصادم الحرية والتعددية لا بد أن تنهزم". إضافة إلى الحمولة السلبية التي تنطوي عليها مفردات: الكسرويّة والتفرعن والرهبنة والفقه الصحراوي، وسواها من أوصاف يكرر إطلاقها على الفقه الذي تشكل في العصر العباسي وما تلاه. وكذلك في تعاطيه مع نظريات مركّبة كالعلمانية والليبرالية بقدرٍ لا يمكن تجاوزه من اختزالٍ ربما استلزمه السجال مع تيارٍ يملك قدرات عالية في التشويه والتدمير المعنوي لخصومه.

هذه القدرات اللغوية الرفيعة جعلته يسك عبارات وجمَلاً بلاغية كثيفة تعبّر عن أفكاره وتصوراته. منها "العدل عديل الصلاة"، و"الأمة هي ولي الأمر، والحاكم المنتخب وكيلٌ عنها لا عليها"، وأنه "لا صاحب سمو ولا صاحب دنو في الإسلام"، وأن الفقهاء "أسهبوا في فقه إقامة المناسك، وقصروا في فقه إقامة الممالك"، وأن "عجلتي عربة الحضارة هما: العدل والعِمارة"، و"أن الطواف حول الطغاة أخطر من الطواف حول القبور"، وأنه "لا بد من الدخول في الدولة –عبر المشاركة– بدل الخروج عليها". ومن ذلك عبارته الشهيرة التي كان يرددها عقب خروجه من جلسات المحاكم، في وصفه الطريقَ الصعب والطويل و"الممكن" للإصلاح، حين كان يقول أن: "النهر يحفر مجراه".


ومع أهمية مشروع عبد الله الحامد وفرادته كتابة ونضالاً، إلا أن هناك أوجهاً وجوانبَ تسترعي الالتفات إليها. فمع أن مشروعه ينضوي تحت حقل "دراسات الانتقال الديمقراطي"، إلا أن إشاراته إليه واطلاعه عليه تكاد تكون معدومة. فمشروعه يدخل في إطار السعي نحو الإصلاح السياسي، وتكوين كتلة شعبية تضغط على نظامٍ سلطوي شمولي لدفعه إلى أخذ خطوات جادة نحو السماح بالمشاركة الشعبية في القرار السياسي، وبناء المؤسسات وفتح المجال للمجتمع المدني وحرية الرأي والتعبير والتجمّع.

والمطلع على حقل "دراسات الانتقال الديمقراطي" سيجد عدداً هائلاً من الكتب المهمة والنظريات والمدارس التي حللت وقارنت بين عشرات التجارب العالمية التي تتيح للمفكر الإفادة منها في تطوير أساليبه وممارساته وخطاباته. وهناك كمية واسعة من التجارب العالمية –الناجحة والفاشلة– في التحول الديمقراطي. وتختلف هذه التجارب بحسب طبيعة النظام السياسي، ملكي أو جمهوري أو حكم عسكري أو حكم الحزب الواحد أو حكم فردي. وتختلف كذلك بحسب الوضع الاقتصادي، هل هو ريعي أو ضريبي أو في كون البلد فقيراً أو غنياً. وكذلك تختلف بحسب الوضع الاجتماعي والثقافي إذ ينظر لتفاوت البلدان حسب مستويات التعليم وعلاقة الثقافة والدين والانقسامات الاجتماعية والعرقية والجهوية والطائفية. ومع أهمية كل هذا، لا نجد في كل ما كتبه الحامد أي إشارة إلى هذا الحقل ومدارسه ونظرياته وتجاربه، وما يناسب منها المجتمع وطبيعة نظام الحكم فيه. ولا حتى ما يفيد باطلاعه على هذه الدراسات والنظريات.

ومع الدور الكبير الذي لعبه النفط في السعودية، إلا أن عبد الله الحامد همّش أثر البعد الاقتصادي ووجود النفط في تعقيد إمكانية الإصلاح السياسي. ذلك أن للعامل الاقتصادي في دولة ريعيّة دوراً بالغ الأهمية في إعاقة عملية التحول الديمقراطي وإضعاف قدرة المجتمع في الضغط على السلطة. وتتضمن معظم الدراسات في هذا الحقل حديثاً موسعاً عن "لعنة الموارد" ودورها في تقوية السلطة وتهميش المجتمع، إضافة إلى سرد تجارب دولية متعددة في هذا الإطار، ستكون معرفتها مهمة لأي ناشط سياسي في دولة ريعيّة. ولهذا يكون من المفاجئ غياب مثل هذا البعد في مشروع عبد الله الحامد.

ولعلّ السبب في هذا التهميش نابع من اختزال مشروع عبد الله الحامد لمشكلة الاستبداد، واعتماده شبه الكامل على المدخل الثقافي في الإصلاح السياسي. فهو رأى أنَّ المشكلة تتكثف في عامل جوهري مرتبط بالثقافة، هو ما يجب استهدافه بالتغيير والتصحيح حتى تنطلق بعد ذلك مسيرة الإصلاح. وقد أكد الحامد هذه الفكرة في عشرات المواضع في كتبه ومقالاته. ففي كتاب "لكي لا يكون القرآن حمّال أوجه"، نجده يضع عنواناً واضح الدلالة نصه "الإصلاح السياسي لا يقوم إلا بإصلاح ديني". يقصي هذا الاختزال الدور المهم لعوامل أخرى في معرفة ممكنات الإصلاح وهوامشه المتاحة. تشمل هذه العوامل التاريخ السياسي للبلد ونظام الحكم فيه والعامل الاقتصادي شديد التأثير في دولة ريعيّة وضعف الثقافة السياسية في المجتمع ومحدودية الخبرة النضالية وشبه انعدام الممارسة السياسية. وتشمل أيضاً تأثير العوامل الخارجية وطبيعة المناخ الدولي والإقليمي الذي قد يساعد في الضغط باتجاه الإصلاح، مثل سنوات الربيع العربي 2011 حتى 2013، أو في إعاقة أي مشروع إصلاحي مثل سنوات الثورات المضادة بعد 2013.

تعدّ تجربة الكويت مثالاً واضحاً على أهمية النظر لهذه العوامل مجتمعة. فمع كل النشاط المجتمعي الفاعل والضاغط والمبكر في سبيل الإصلاح، إلا أن أهم حقبتين زمنيتين أقدمت فيهما السلطة على اتخاذ خطوات إصلاحية كانتا سنةَ 1938، لحظة تأسيس المجلس التشريعي الأول، وسنةَ 1961 التي تشكل فيها المجلس التأسيسي لوضع الدستور والذي تضمن وجود مجلس أمة منتخب. وفي كلتا هاتين الحقبتين تعرضت الكويت لخطر خارجي حقيقي تمثل في تهديد العراق بضم الكويت. مرةً في زمن الملك غازي ثم في زمن عبد الكريم قاسم. وحتى عودة مجلس الأمة إلى العمل سنةَ 1992 بعد الحلّ غير الدستوري له سنة 1986، كان عقب تحرير الكويت من الغزو العراقي الذي حصل سنة 1990.

وربما افتقد عبد الله الحامد بعضَ الواقعية في جعل الملكية الدستورية الهدف المنشود للمطالبة السياسية. فمثل هذه المطالبة لا يتحملها سياق تكون فيه الدولة لا تنطوي على أي شكل من أشكال المشاركة الشعبية، ونظام الحكم فيها شمولي ومطلق، وليس للمجتمع أي تاريخ سياسي يساعد في بناء تراكم نضالي وثقافي في سبيل الضغط للإصلاح. إضافة إلى أنها دولة ريعيّة قوة المجتمع فيها محدودة. ففي هذا النوع من السياقات ربما يكون الأجدى التركيز فقط على تحقيق أهداف مرحلية عملية. مثل إجراء انتخابات بلدية وبرلمانية، والسماح بتأسيس الجمعيات الأهلية والنقابات، وتوسيع هامش حرية التعبير. من ناحية أخرى، توحي المطالبة بالملكية الدستورية مباشرة إلى النموذج البريطاني الذي لا دور فيه للملك سوى صفته الرمزية. وهذا الإيحاء يجعل السلطة ترفض أخذ أي خطوة نحو الإصلاح، لأنها قد تؤدي إلى مزيد من الضغط والمطالبات التي لن تتوقف سوى بإقصاء نظام الحكم الحالي والاكتفاء بإبقاء صفته الرمزية نظاماً ملكياً. ومثل هذا الإيحاء سيجعل سلوك السلطة أشرس في مواجهة أي مطالب إصلاحية.


كنت أتحاور داخل مكتبٍ في مؤسسة صحفية كبيرة وسط الرياض في السنوات الأولى من القرن الجديد مع كاتبٍ مرموق نَشر رداً موسعاً على بيان كان قد أصدره عبد الله الحامد ورفاقه، طالبوا فيه بإصلاحات سياسية مثل فصل السلطات واستقلال القضاء وإجراء انتخابات. كان رأي هذا الكاتب أن تلك المطالب ليست إلا غلالة ليبرالية رقيقة تغطي مضموناً أصولياً محافظاً. لكن اللافت في ختام ذلك الحوار الذي امتدّ ساعة، قول الكاتب: "الحامد هو أهم شخصية إصلاحية في تاريخ هذا البلد، وسيأتي اليوم الذي يُصنع له فيه تمثالٌ تكريماً لتاريخه وشجاعته ونضاله".

يشير هذا الموقف إلى حقيقة أن معظم المختلفين مع عبد الله الحامد كانوا يتعاملون معه باحترامٍ وتقدير، ويتفقون على شجاعته وحسن نواياه. يتساوى في ذلك خصومه أو أولئك الذين يختلفون معه في التصورات والأفكار، وانتهاءً بأولئك الذين يتهمونه بالتهور وعدم الواقعية. وهو في هذا ينتمي لفئة من الإصلاحيين المتوافق عليهم، ونجد لها نماذج متعددة في دول أخرى، مثل نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا أو رياض الترك في سوريا.

لم يتوقف التواصل بيني وبين عبد الله الحامد حتى بعد سجنه سنة 2013. فقد كنت أتلقى اتصالاً منه مرة كل بضعة أشهر حتى بعد إقامتي خارج السعودية. كان يتصل أحياناً في الأعياد، إذ يُسمح للسجناء بوقت أطول في الحديث مع أقاربهم ومعارفهم. وكان آخر اتصال منه يوم عرفة في العاشر من أغسطس 2019، أي قبل عدة أشهر من وفاته. وفي كل مكالمة، كان لصوته الجهوري الفصيح والمتهدج، مع تقدّمه في السن ومرضه، وقعٌ لا يمكن نسيانه.

أياً تكن مواطن اختلاف البعض مع عبد الله الحامد، إلا أن المؤكد أنه خلّف وراءه تركة مهمّة واستثنائية. فقد قدّم إضافةً فكريةً غير مسبوقة في علاقة العقيدة والشريعة بمفاهيم العدل والحرية. ووضع بصمةً واضحةَ المعالم في تاريخ النضال السياسي بالسعودية والخليج. وكان تطبيقاً عملياً من دم ولحم وروح وعَرَق لبيتٍ شعري لعمر أبو ريشة، أورده الحامد في كتابه "الكلمة أقوى من الرصاصة". وقال فيه:

تقضي المروءة أن نَمدّ جُسومنا جِسراً، فقُل لرفاقنا أن يعبروا

على أملٍِ أن يبقى هذا الجسر ممتداً راسخاً، ويكثر العابرون عليه نحو دولة الدستور والحقوق والمؤسسات.

اشترك في نشرتنا البريدية