"أكانَ جدّي فاشياً"؟ مجموعة صورٍ عائلية تكشف ماضي إيطاليا الاستعماري في ليبيا

في مجموعة صور عائلية قديمة، رزحتْ تفاصيل كشفت الكثير من ماضي إيطاليا المُظلم في ليبيا.

Share
"أكانَ جدّي فاشياً"؟ مجموعة صورٍ عائلية تكشف ماضي إيطاليا الاستعماري في ليبيا
إيتالو بالبو، قائد القمصان السوداء وحاكم ليبيا بعد ذلك، مع مجموعة من الشباب الإيطالي وقد وصلوا مدينة الخمس الليبية سنة 1939 | خدمة غيتي للصور

تُرجم هذا المقال من نيولاينز، المجلة الشقيقة للفِراتْس.

في أحد أيام أغسطس الرطبة سنة 2024، كنتُ أساعد أمّي على تفريغ صناديق منزل والديْها أخيراً بعد أن أجّلنا المهمة سنوات. كان عمري تسعة أعوام حين توفي جدي لأمي، سائق الحافلة المتقاعد ألفيو ليوتا، بالغاً اثنين وسبعين عاماً. أما جدتي، فقد توفيت بعد ثلاثة أشهرٍ من حفل تخرجي في الثانوية العامة سنة 2012. منذ ذلك الوقت، بقيتْ حاجياتهم على حالها في منزلهم الواقع في حيٍّ كان يعدّ من أرقى أحياء مدينة كاتانيا، ثاني أكبر مدن جزيرة صقلية الإيطالية.

أثناء تفريغ الصناديق، وقعتْ عيناي على مجموعة صورٍ عائلية شبه ممزقة. جلست مع والدتي على الأرضية نقلّب كومة الصور الملتقطة بالأبيض والأسود. توقعنا أن نجد صوراً لها ولخالي أثناء طفولتهما، أو بعض صور جدتي في ريعان شبابها. بيد أن ما وجدناه كان شهادةً مرئية لأيام خدمة جدي جندياً في ليبيا. كانت الصور عاديةً عن يومياته. فتارةً يحدّق في شيءٍ ما وهو واقفٌ على الشاطئ في طرابلس أو يربّت على جملٍ في صورةٍ أخرى. إلا أنّ تفصيلاً واحداً أثار حفيظتي. وهو أنه كان في كل الصور يرتدي زياً عسكرياً فاشياً تقليدياً.

تدخلت أمي قائلة: "أظنك تعرفين أن جدَّك قاتلَ في ليبيا". فباغتتني فجأة ذكريات الطفولة عندما كنت أجلس إلى طاولة العشاء بينما يطعمني جدي الخبز وسلطة الريكوتا، وهي أحد أنواع الجبنة الصلبة المالحة الشهيرة في مدينتي. كان جدي يقضي ساعات أثناء الطعام وهو يحدثني عن ذلك "الساحل الإيطالي" الآخر الذي عاش به لبعض الوقت، وقاتلَ بجانب الجنود الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية. كنت صغيرة للغاية حينها لأدرك أو أتذكر هذا. لكن الصور ذكرتني ببعض الكلمات العشوائية، مثل "تريبوليتانيا" و"قورينائية"، التي عرفت لاحقاً أثناء تخصصي بالدراسات الشرق أوسطية أنها تشير لمناطق جغرافية في ليبيا المعاصرة هي أقاليم طرابلس وبرقة.

أمسكت أمّي صوراً، فوجدنا ملاحظات مكتوبة بخط اليد على ظهرها. كانت جلّ الملاحظات عبارة عن مواقع وتواريخ يرجع بعضها إلى سنة 1938. قلت لأمي بينما كنا ننظر سوياً بحيرة: "لكن هذا قبل أن تبدأ الحرب بكثير". كان جدي يحدثنا دوماً في قصصه أنّه جُنّد للقتال في ليبيا، حيث قاتلت القوات النازية والفاشية ضد الحلفاء للسيطرة على شمال إفريقيا. وحطّت الرحال بجدي هناك وقد بلغَ من العمر تسعة عشر عاماً فقط. ولكن اتضح لنا أنّها لم تكن جولته الأولى على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط.

عدت من زيارة التوضيب تلك مشتتةً متوجسة، ومتحفزة لأفهم أكثر ما الذي دفعَ جدي للذهاب إلى ليبيا قبل الحرب. فأثناء نشأتي، كانت مرحلة الاستعمار الإيطالي دائماً أشبه بتفصيلة هامشية. وفي المدرسة كنا نتعلم ببساطة أننا احتلّينا ليبيا سنة 1911 بعد أن أخذناها من الإمبراطورية العثمانية المتداعية، على أمل تعزيز نفوذ قوتنا الاستعمارية الناشئة والمتأخرة ومواكبة فرنسا والإمبراطورية البريطانية في السباق المتزاحم على إفريقيا. نجحنا في ذلك إلى أن وَجّهت الحرب العالمية الثانية ضربة قاصمة لحملتنا العسكرية هناك. هذا كل شيء. بعد سنة 1945 لم يكن هناك أي حديث عن الاحتلال، ولا عن تأثيره على السكان المحليين.


أخذت مجموعة الصور معي. وكلما بحثت وتحريت أكثر اكتشفت أن ماضي إيطاليا الاستعماري في ليبيا كان جزءاً من ماضي عائلتي، لكنه كان مخفياً عني. أدركت فجأة كم عَنَت لي مواجهة ماضي العائلة المضطرب هذا. أصدقاء والديّ وُلدوا ونشأوا في ليبيا، لكنّهم كانوا يتجنبون ذكر هذه المعلومة. وكذلك أدركت قصد طبيب أسناني عندما أعلن لي أنّه سيأخذ إجازة لمدة سنة ليدرس في كلية طب أسنان في ليبيا باللغة الإيطالية وبلا الحاجة لتأشيرة، وبراتبٍ سنوي قيمته ثلاثة أضعاف ما يأخذه في إيطاليا.

بات هذا الإدراك أكثر إلحاحاً. لاسيما في الوقت الذي يشهد فيه وطني إيطاليا عودةً كئيبةً إلى الفاشية عبرَ حكومة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، المحسوبة على ما يوصف باليمين المتطرف. ففي هذه الأيام، يبدو التنقل بين القنوات التلفزيونية الإيطالية أشبه برحلة في مجتمع فوضى غير فاضل. يُعرض اليوم برنامج جديد مؤثر عن تأسيس الفاشية، وحازَ استحسان المجاهرين بتأييدهم الفاشية. بينما تطرقت نشرات الأخبار في قناة "راي"، وهي القناة الرسمية التي تتحكم بها حكومة ميلوني، لتجمّع من الفاشيين الجدد وهم يؤدّون التحية الرومانية التي عُرِفت بها الفاشية إحياءً لذكرى "أكا لارنتيا"، عندما قَتَلَ يساريٌّ شباباً من الفاشيين سنة 1978. لم يعترض أحد على هذا الإعلان عن الانتماء الفاشي إلا محتج وحيد. سجن لقوله: "تحيا المقاومة"، وهي مقولة كان يرددها اليساريون.

لم يخطر ببالي أن أجد نفسي في مواجهة هذا الماضي الفاشي داخل عائلتي. وأتساءل كم من الإيطاليين مثلي لا يفقهون شيئاً عن ماضي عائلاتهم ومجتمعاتهم. وهو ماضٍ هناك من يشجّعنا على تمجيده.


مايزال مشروع الاستعمار الاستيطاني الإيطالي في ليبيا مبهماً، حتى داخل إيطاليا نفسها. انضمّت إيطاليا لحمى غزو القارة الإفريقية بعد أقرانها الأوروبيين بقرون. في كتب التاريخ، كان الإيطاليون –بمن فيهم الجنود– يُعرَفون دوماً أنّهم "الشعب الطيّب". تصف الأسطورة المتفق عليها اليوم الإيطاليين أنهم بريئون ولا يضرون أحداً، بل وأحياناً ساذجون لا يعرفون شيئاً. وقد غسلَ هذا التصوّر يد إيطاليا من جرائم الحرب ووضعها في صورةٍ مغايرة عن القوى الاستعمارية الأوروبية الأخرى، لاسيما زمن الاستعمار. ولكن كما في حملات إيطاليا العسكرية القاسية في إثيوبيا والصومال، كان غزو ليبيا شرساً.

يقول علي عبد اللطيف حميده، في كتابه "الإبادة الجماعية في ليبيا" المترجم للعربية سنة 2023، إن "إيطاليا عدّت ليبيا 'شاطئها الرابع'، امتداداً لها، مثل ما عامل الفرنسيون الجزائر". كشف بحثه أن هدف إيطاليا الاستعماري كان توطين ما يقارب نصف مليون إلى مليون إيطالي في مناطق "الجبل الأخضر" الخصبة شرقي البلاد. خصوصاً من الفلاحين المعدمين من وسط إيطاليا وجنوبها، مثل أسلافي. بيد أن المستوطنين واجهوا مقاومة محلية واسعة لمشروعهم، في تفصيلٍ تكاد لا تجده في المناهج المدرسية الإيطالية. عندما وصل الفاشيون إلى الحكم بقيادة بينيتو موسوليني سنة 1922، جاؤوا بخطة أكثر شراسة: إحلال المستوطنين مكان السكان المحليين.

يكشف حميده أن السلطات الاستعمارية الفاشية بَنَت عدة معسكرات اعتقال، أهمّها في صحراء سرت في منطقة "العقيلة"، وضمّت تلك المعسكرات ما يقارب مئة ألف ليبي. لقد كان معظم هؤلاء من مقاومي المشروع الاستعماري الإيطالي، لكن كان بينهم كذلك أناسٌ بسطاء وضعوا هناك مع قطعانهم. كان لا بدّ من إبعادهم قسراً لإخلاء الأرض وإفساح المجال للمستوطنين القادمين، وعزلهم عن حركة المقاومة التي يقودها شيخٌ اسمه عمر المختار. وصلتْ الموجة الأولى من عشرين ألف إيطالي سنة 1938. وكان هذا العام الذي وصل فيه جدي من إيطاليا. هل يعني هذا أنه كان أحدهم؟

لقيَ ما يقارب من ثلثي الليبيين المعتقلين حتفهم في معسكرات الاعتقال. هذا الفصل الوحشي من التاريخ لم يشغل أبداً اعتبارات عائلتي أو أحاديث أفرادها، ولا حتى الأمة الإيطالية. وغياب الوعي والبحث الأكاديمي في القضية جعل تصالح إيطاليا مع جرائمها الاستعمارية أصعَب. بل إن خطاب إيطاليا منذ نهاية الحرب والاستعمار كان يوحي أن الإيطاليين أنفسهم كانوا ضحايا الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا.

لم تعرف أمي شيئاً عن هذا الجانب من تاريخ بلادنا، ولم تفكر أبداً في طرح أسئلةٍ عن سبب قضاء والدها زمناً في ليبيا. في إحدى الأمسيات، جلسنا نشرب الشاي وبدأنا نربط الأدلّة في رحلةٍ عائلية لفهم الماضي على أمل التصالح معه. باستحضارها ذكريات الطفولة عن الوقت الذي قضته مع جدها، جيوسيبي ليوتّا، تذكرتْ والدتي أنه كان يتحدث اليونانية بطلاقة. سألتها: "كيف يمكن ذلك؟". فأجابتني أنه "كان من الكارابينييري [قوات الدرك الوطني الإيطالية] في جزيرة رودس اليونانية. ألا تعلمين أن جزءاً من اليونان كان إيطالياً؟". بالطبع لم أكن أعلم، لأنه لم يحدثني أحد عن ذلك، لا في المدرسة ولا في المنزل.

احتلت إيطاليا سنة 1911 جزر دوديكانيسيا اليونانية في محاولتها لزيادة نفوذها في المشرق. أصبحت الجزر تحت حكم موسوليني أرضيةً لمشروعٍ استعماري آخرَ أراد به "طَلْيَنَةَ" المنطقة. فكان ربع سكان تلك الجزر سنة 1940 إيطاليين ضمن برنامج إعادة الاستيطان. وأُرسِلت قوة شرطة وحشية إلى هناك "لحماية" المستوطنين وملكياتهم. خَدَمَ جدي شرطياً في هذه القوة.


استطعنا عبر ذكريات أمي الباهتة، ومساعدة خالي، أن نعرف أن والد جدي كان مدفوعاً بالدعاية الفاشية حينها. حثّت الحكومة الإيطاليين على استعادة غزو أراضي كانت جزءاً من الإمبراطورية الرومانية. دفع الرجل ابنه، أي جدي، للانطلاق إلى ليبيا. ومثل أبيه، انضمّ جدي إلى القوى الأمنية الاستعمارية لما اعتبره حماية المستوطنين و"لَجْم" الثوار على ساحل متوسطي آخر.

روّج المستوطنون لرواية أنّ ليبيا كانت جزءاً من الإمبراطورية الرومانية. وبهذا فهم كانوا يستعيدون أرضاً تعدّ حقهم بالميلاد (ذكّرني هذا بالنزاع الإسرائيلي الفلسطيني). كانت فكرة إحياء إفريقيا الرومانية جزءاً أساسياً من الدعاية التي أرادت تبريرَ الاستعمار. ومع أن تجربة الفاشيين الإيطاليين بالاستعمار انتهت سنة 1943، عندما هزمهم الحلفاء بالحرب العالمية الثانية، إلا أن العديد من المستوطنين ظلّوا في ليبيا وتبعهم آخرون كثر، وواصلوا حياتهم فيها حتى السبعينيات.

كانت جيوفانا غيونتا زميلة أمي بالمدرسة الابتدائية في كاتانيا. أخبرتني أنها ماتزال تذكر الباحة والزخرفة العربية في منزلهم المشمِس في طرابلس. ينحدر جدّاها من كاتانيا وسرقوسة، وغادرا مع عائلتيهما للاستيطان في ليبيا سنة 1912 مدفوعينَ بحلم حياةٍ أكثر رخاء. كل عائلتها وُلدت ونشأت في ليبيا، بمن في ذلك والداها وأعمامها وأخوالها وأبناؤهم. وحين سألتها عن ذكرياتها في ليبيا، أخبرتني: "لقد كان الأمر شبيها بترعرعك في أي منطقة أخرى في إيطاليا. كنا نتواصل فقط مع الإيطاليين. ولا نلعب مع الأطفال العرب، فأهلنا لا يسمحون لنا. لم نكن لنتعلم لغتهم، إلا لأسباب مرتبطة بالعمل بشكل صرف". أردفت أن والدها، الذي عمل في القاعدة الأمريكية العسكرية، كان الفرد الوحيد بالعائلة الذي تعلّم العربية بطلاقة. إذ كان يحتاجها للعمل مع "العمال الليبيين غير المهرة".

استقلَّت ليبيا سنة 1951 بعد أعوامٍ قليلة من سيطرة بريطانيا وفرنسا عليها إثرَ نهاية الحرب العالمية الثانية. مَنحتْ إيطاليا ليبيا باتفاقية سنة 1956 مبلغاً مالياً، تعويضاً عن أضرار الحرب. وأعادت كل ممتلكات الدولة إلى دولة ليبيا الجديدة. سمحت تلك التسوية الاقتصادية لبعض الوقت بالاعتراف بالأبناء الإيطاليين للمستوطنين ومنحتهم حق البقاء في البلاد. ظلّ الأمر على حاله حتى سنة 1970 حين أعلن معمر القذافي مصادرة كل أصولهم وجلائهم بلا أي تعويض. وفي أقلّ من ثلاثة أشهر، أُجْلِيَ أكثر من أربعة عشر ألف إيطالي.

كانت غينوتا وعائلتها من أولئك الذين غادروا ليبيا في 7 أكتوبر 1970، وكان عمرها آنذاك خمسة أعوام فقط. لكنها ما تزال تتذكّر كل شيء عن تلك اللحظة الصادمة في حياتها. إذ تقول: "سُمِح لكل فرد منا بحقيبة واحدة فقط، ثم أُخذنا بقارب وجُلبنا إلى نابولي حيث عشنا في مخيمٍ للاجئين لما يقارب الشهرين. لقد كنا كاللاجئين، مثل أولئك الذين نراهم اليوم على التلفاز. إننا لا نستحق معاملةً جلفاء كهذه".

كان هذا الموضوع شائكاً، وكثيرا ما يُذكر همساً. تُذْكَر ليبيا بين الأجيال الأكبر بخليطٍ من الفخر والكراهية. وبحسب بعض "إيطاليي ليبيا"، كما وُسم أولئك الذين رُحلّوا منها، كانت معاملتهم (من القذافي) قاسية. ولكن بالنسبة لليبيين، كان هذا رداً طبيعياً على استعمارهم.

التقيتُ فرانشيسكا ريكوتّي، رئيسة جمعية الإيطاليين المرحَّلين من ليبيا ومقرّها في روما وتضم اليوم أربعمئةٍ عضو تقريباً. قالت فرانشيسكا إنّ الطريقة التي طُرد بها الإيطاليون كانت غير حضارية وغير مبررة ووحشية. كان على الإيطاليين أن يتركوا كل ممتلكاتهم ويأخذوا فقط قدراً قليلاً من المال. وأضافت أن "الحكومة الإيطالية لم تفعل إلا القليل لحماية مصالحنا وكرامتنا، مما يظهر امتثالاً مبدئياً، عدّه القذافي ضعفاً".

كان العائدون مكروهين في إيطاليا. ينظر لهم على أنّهم مهاجرون يحملون تاريخاً محملاً بالعار تحاول البلاد إخفاءه بصعوبة. تقول فرانشيسكا إنّ "جيرانهم" السابقين، أي الليبيين، لم يكونوا أفضل من الإيطاليين. مضيفةً أنّ "الليبيين عدّونا ظلماً مستعمرين، لكننا لم نكن كذلك. لقد شجعتنا حكومتنا حينها على استغلال الفرصة لعيش حياة أفضل. لقد كنا مجتمعاً مسالماً يعيش بتناغم مع السكان المحليين. لم نبقَ هناك لأن الفاشية شجعتنا، بل لأن حياتنا كانت جيدة".

واجهتها بسؤال ما إن كانت مجموعتها تشعر بأي ذنب لأن وجودهم كان جزءاً من مشروع إبادة، وقد رفضَ السكان المحليون وجودهم فحاربوهم. أجابت فرانشيسكا: "في العشرينيات، كانت ليبيا بلداً فقيراً، ولم يكن هناك مياه، وكانت الزراعة بدائية. وفي الوقت الذي رُحِّلَ فيه الإيطاليون، كانت ليبيا قد صارت إحدى أكثر الدول تقدماً في منطقة البحر المتوسط. كان بها مدن لا تختلف شيئاً عن المدن الإيطالية. ربما قمنا ببعض الأمور السيئة، لكننا ساهمنا إيجابياً في تنمية البلاد". تظل هذه الحجة هي الرواية الشائعة في إيطاليا، كما هو الحال في العديد من الأمم المستعمِرة مثل فرنسا وبريطانيا. يُنظر للفترة الاستعمارية بحنينٍ يشوبه شيء من شعور الضحية، مع غضّ النظر عن وحشية الاستعمار وقسوته.

حاولت إيطاليا استعادة تأثيرها في منطقة المتوسط عبر مستعمرتها السابقة في ظلّ الانقسام السياسي في ليبيا بعد 2011 بدايةً كجزءٍ من خطة أوسع للاتحاد الأوروبي لاستغلال البلاد بهدف ضبط الهجرة. فمؤخراً، وتحت حكم رئيسة الوزراء ميلوني، عادت العلاقات بين البلدين عملياً عبر معاهدة تفاهم وصداقة مشتركة. وتتلقى ليبيا ملايين الدولارات لإبعاد المهاجرين عن الشواطئ الإيطالية، بينما تسمح للشركات الإيطالية ومنها تلك العاملة في قطاع النفط والغاز بالاستفادة من موارد البلاد. وحتى المستوطنون الإيطاليون الذين طُردوا من البلاد في السبعينيات استعادوا مؤخراً حق العودة للبلاد متى أرادوا زائرين. عاد الكثير منهم بالفعل، بلا وعيٍ، وهم يعيدون ترتيب ذكرياتهم. عائلتا ريكوتي وجيونتا زارتا أو تخططان لزيارة البلاد، ويتوق كبار العائلتين للعودة حتى وإن كانوا على فراش الموت.


كان عدد سكان ليبيا سنة 1951 مليونيْن ونصف. ويوثق بحث حميده والبيانات التي قدمها في كتابه ما يرقى لأن يكون عملية إيطالية للتطهير العرقي. وقد تكون عملية التطهير قلّلت عدد الليبيين بأكثر من 10 بالمئة. وبالمقارنة مع الإرث الاستعماري مع القوى الأوروبية الأخرى، لم يلقَ الاستعمار الإيطالي في ليبيا والعنف الذي مكّنه تمحيصاً كبيراً، بل تجاهلاً لأكثر من قرن. وفي الإطار الشمال إفريقي، قد تكون ليبيا المثال الأقوى على ما يسمّيه مؤرخون، مثل حميده، الإبادة الجماعية الاستعمارية.

أصبحت الأبحاث على مستوى الدولة الإيطالية شبه مستحيلة. إذ يفصّل حميده رفض السلطات الإيطالية محاولاته المتكررة الوصولَ إلى الأرشيف الاستعماري في ليبيا. وحتى سجلات جمعية الإيطاليين المرحلين من ليبيا وقعت ضحية نزعة إيطاليا للتلاعب بالوثائق التاريخية. والمجتمع الإيطالي، باستثناءاتٍ قليلة، ما يزال يرفض مواجهة فظائع المرحلة الاستعمارية لاسيما في ليبيا.

لن أعرف أبداً إن كان جدي ووالده قد أدركا حجم تورّطهما في أحلام إيطاليا الاستعمارية. بثت قناة ميدياسيت الخاصة، التي أسسها رئيس الوزراء الراحل سيلفيو بيرلسكوني، على مدار يناير وحتى ذكرى الهولوكوست (المحرقة النازية) في 27 يناير، مقاطعَ قصيرة من مشروعها الوثائقي "تحيا الذاكرة" أثناء الفواصل الإعلانية. في هذا المشروع النبيل يستذكر أبناء الناجين من معسكرات الاعتقال قصص آبائهم وأجدادهم. لكن غياب الذاكرة الجمعية عن معسكرات اعتقال أخرى، لاسيما تلك التي أقامها الإيطاليون، يقلقني في هذا الجو السياسي.

لا أستطيع إلا أن أتساءل إن كان جدي قد شعر بالذنب يوماً من وجوده مستوطناً في ليبيا. فعلى الأقل كان مجرد طفل حين انتهى به المطاف بطرابلس، ولم يرتكب أبداً خطأ العودة بعد 1945. لكن حين أفكر بقصصه على طاولة العشاء حين كنت طفلة، لا أذكر أبداً أنه أبدى إشارات ندم على أيامه في طرابلس. كان جدي في قصصه دائماً محرر الليبيين "الجهلة". ونبرته الحماسية تظهر أنه كان يستمتع بوقته على الشاطئ وتناول الكسكس وركوب الجمال. أكدت لي أمي أنه كان رجلاً طيباً لم يكن ليقتل أبداً أي إنسانٍ في ليبيا. لكنني مدركة أنّ مجرد وجوده فعلياً هناك يعني التواطؤ في محاولةٍ للإبادة الجماعية. ورفض الأجيال اللاحقة الاعتراف بهذا التواطؤ جزء من المشكلة.

كانت المفارقة أن يتزوج جدي بعد الحرب جدتي جوزفينا ألميراريس، ابنة المهاجرين الإسبان الفارين من الأندلس عقب انقلاب الجنرال فرانكو سنة 1936 والفاشية التي فرضها. فوجدوا أنفسهم تحت حكم نوعٍ آخر من الاستبداد اليميني في صقليّة. ربما كان قرار جدي ناجماً عن حبّه لجدتي، أو ربما أراد التكفير عن ماضيه باحتواء لاجئة من الفاشية. لن أجد الإجابات لوحدي. ولهذا من المهم أن نخوض نحن الإيطاليون هذه الحوارات بيننا، قبل أن يختفي آخر الشهود الأحياء عن تلك الحقبة. إنّ المراجعة التاريخية التي نلحّ عليها اليوم ستكون تحدياً مستقبلياً لنا.

سألني طبيب أسناني أثناء مراجعتي، لأنني سافرت كثيراً إلى العالم العربي، إن كان يجب أن يوافق على المنصب الذي عُرِضَ عليه في ليبيا. قال لي بنبرة متعالية: "أظن أنها بلادٌ متوحشة، لكنني لا أريد أن أحرم أولئك التعساء من تلقي تعليمٍ جيد. واجبنا تعليمهم". فأدركت أنّ الطريق طويل أمامنا لتحرير العقلية الإيطالية والغربية عموماً من الاستعمار.


وأنا أعيد مجموعة صور عائلتي لمكانها، بدأت أفكّر بالسفر يوماً إلى طرابلس على متن واحدة من الرحلات اليومية التي أطلقتها شركة الطيران الإيطالية "إيتا" حديثاً. أرغب بتعقب الأماكن التي رأيت فيها جدي ورفاقه يقفون لأخذ الصور، والمشي على ما أتخيّل أنه كان مساره اليوم على الشاطئ. وأنا واعية، كما آمل، بما يعنيه وجودي إيطاليةً على نفس ذلك الأسفلت. وحتى إن كانت رحلة قصيرة، إلا أنني أحمل عبئاً ثقيلاً أرغب بتخفيفه عن جدي، وعنّي شخصياً.

اشترك في نشرتنا البريدية