حاز علي الوردي هذه المكانة دون أن يقترب من أي سلطةٍ أو يخطب ودّها. عاش حياته بعيداً عن دوائر الحكم التي رأى الاقتراب منها مسيئاً للمفكر، والتعرّض لإساءاتها بطولة. عُرف الوردي طيلة حياته بجرأته وصراحته في نقد السلطة والمجتمع. ومع شخصيته الهادئة والمسالمة، اهتمّ بدارسة التاريخ الاجتماعي والسياسي وعلاقته بالسلطة والحكومات، وعبَّر في كتاباته عن دعمه التغيير والثورة.
تفتح حياة علي الوردي نافذةً لبحث علاقة المثقف بالسلطة في العالم العربي. فالوردي لم يكن معارضاً سياسياً، إذ لم ينضمّ في حياته إلى حزبٍ أو حركةٍ سياسية. لكنه نقد في كتاباته السلطة بصورها المختلفة، السياسية والدينية والمجتمع. وهاجمته بسبب ذلك أطرافٌ مختلفةٌ، على رأسها الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وضُيّق عليه في عمله. ظلّ صِدَام الوردي مع السلطة محدوداً مع ذلك. فلم يُعتقل أو يحاكَم ولم يُفصل من وظيفةٍ أو يُمنَع من النشر، بل استفادت السلطة من كتاباته في حياته، واحتفت به بعد وفاته رمزاً وطنياً رغم تهميشها مشروعه.
يرصد الشماع بعض صور تأثير طفولة الوردي في حياته ومواقفه. فحين زارا النجف في ثمانينيات القرن العشرين، حكى له الوردي عن زيارته المدينة لرؤية والده الهارب إليها من التجنيد الإلزامي في الجيش العثماني. أُعجِب الطفل علي الوردي ببندقيةٍ خشبيةٍ، فاشتراها له والده. فلما خرج يلعب بها في الشارع، رآه صبيان أكبر منه وأعجبتهما البندقية، فضرباه وأخذاها. وبحسب كتاب الشماع "علي الوردي: مجالسه ومعاركه الفكرية"، المنشور سنة 2010، بغَّضت هذه الواقعة – التي حكاها الوردي بتأثرٍ بادٍ – الظلم إليه. وكانت سبباً في انحيازه الدائم بعد ذلك للمظلومين والثائرين حتى مع ابتعاده عن العمل السياسي المباشر، حتى وصَفَه أستاذ الفلسفة العراقي مدني صالح بالثوري الهادئ.
مرَّ علي الوردي في رحلته العلمية باتجاهاتٍ مختلفة. فبدأ في التعليم الديني ثم انتقل للمدارس الحكومية، ضمن الجيل الأول من العراقيين الذين تعلّموا تعليماً حديثاً. ومع التحاقه بالعمل في محل العطارة، تأخر في الدراسة وانقطع عنها سنوات، حتى وصل مرحلة التعليم الجامعي. وفي سنة 1939، سافر إلى لبنان للالتحاق بالجامعة الأمريكية في بيروت حيث حصل على بكالوريوس التجارة والاقتصاد سنة 1943. عاد الوردي إلى العراق وعُيِّن في وزارة المعارف وعمل بضع سنين، قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة في جامعة تكساس، حيث حصل على الماجستير في علم الاجتماع سنة 1948، ثم الدكتوراه من نفس الجامعة سنة 1950. عاد الوردي من الولايات المتحدة ليبدأ مسيرةً علميةً مميزةً في العراق. في سنة 1954، ساهم في تأسيس قسم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة بغداد.
تنوعت الاهتمامات العلمية لعلي الوردي في هذه الرحلة. فخصص أطروحته للدكتوراه لبحث نظرية المعرفة عند عبد الرحمن بن خلدون، عالم الاجتماع والمؤرخ الذي عاش في القرن الرابع عشر. وفي سنة 1951، نشر كتابَه الأول "شخصية الفرد العراقي"، ثم أتبعه سنة 1954 بكتابه الثاني "وعَّاظ السلاطين"، وفي سنة 1965 نشر "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي". ولم تحل الاهتمامات العلمية المتعددة والمتنوعة دون تواصل اتصال الوردي بعامة الناس. فقد عاش حياته مندمجاً في المجتمع، سواء بالاستناد إلى موروثه الشعبي في وضعه النظريات التي تأسست عليها كتاباته، أو ملاحظاته النقدية لهذه الموروثات، أو كتابته السلسة التي أراد بها إيصال أفكاره لعامة الناس لا حصرها في دوائر الأكاديميين.
استهلّ علي الوردي صدامه مع المجتمع بوصفه الشخصية العراقية بالمزدوجة. وقال في كتابه "شخصية الفرد العراقي" إن العراقي الذي يصرّ في حديثه على المُثل والقِيَم العليا يخالف ذلك بالتطبيق. فهو يتحدث مثلاً عن التسامح والخير، لكنه يكذب ويسرق مدفوعاً باهتماماته ومصالحه المباشرة. لم يقصر الوردي هذه الظاهرة على العراقيين، ولم يعمّمها فيهم. لكنه قصر حديثه عليهم وادعى انتشار هذه الظاهرة فيهم أكثر من غيرهم. ولا يفسر ذلك بالنفاق، بل يرى تمسّك العراقيين بالقسم حقيقياً وأصيلاً. ويعزو ذلك لقربهم من تراث البداوة، ويستدل بخروج الحركات المتمردة والثورية من العراق على مدار التاريخ. أما مخالفة الفعلِ القولَ، فسببه بحسب الوردي تغيّر الظروف. فالإنسان صنيعة المجتمع والظروف، وتلقين الأفكار والوعظ لا يقوى على فرض سلوكٍ مخالفٍ لما تفرضه هذه الظروف. ولذا يزيد الإصرار على هذا التلقين دون معالجة الأسباب الاجتماعية هذا الازدواج.
ساعدت طبيعة كتاب "شخصية الفرد العراقي" على انتشار أفكاره خارج الدوائر الأكاديمية. فقد كان في الأساس محاضرةً ألقاها الوردي، لا للأكاديميين في الجامعة، ولكن للعامة. ومع استناده لعددٍ من النظريات الاجتماعية، إلا أنه قدَّمها للقارئ والمستمع في صورةٍ بسيطةٍ يسهل متابعتها. وحرص الوردي على تأسيس ما أسماه "علم اجتماع عربي"، بدمج النظريات الغربية مع واقع المجتمع العراقي.
لم تمضِ سنوات حتى بدأ الهجوم على علي الوردي. إذ انتقد في كتابه "وعَّاظ السلاطين" استخدام علماء المسلمين الخطاب الشرعي لإخضاع الرعية للحكام، وتساهلهم في مخالفات الحكام وتغاضيهم عنها. وبحسب محمد عيسى الخاقاني في كتابه "مئة عام مع الوردي" المنشور سنة 2013، فتح هذا باب الهجوم على الوردي على خلفية اتهامه بمهاجمة رموزٍ إسلاميةٍ، مثل الخليفة عثمان بن عفان ومعظم الخلفاء الأمويين والعباسيين. لم يتضرر الوردي كثيراً من هذه الاتهامات، إذ جاءت في سياق صعود الأفكار التحديثية في العراق، وإحجام السلطة الملكية عن مجاراة الهجوم على المفكرين.
ناقش الوردي بعد ذلك مناهج البحث في العلوم الاجتماعية. ونقد في كتابه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" الطرق التقليدية في العمل الميداني، الموروثة من العلوم الاجتماعية الغربية. مثل الاستبيانات واستطلاعات الرأي، وغيرها من الأدوات الإحصائية التي لا تناسب المجتمع العراقي، وربما العربي. فالعراقي ينظر بريبةٍ لمن يسأله ويسجّل جوابه أو يطلب منه تسجيل الجواب بنفسه على ورقة. فيظنه موظفاً حكومياً يجمع المعلومات لجباية الضرائب أو سوق الناس للتجنيد أو الوشاية بهم، أو يظنه جاسوساً، فيخفي عنه الحقيقة في الحالتين.
قدَّم علي الوردي في الكتاب تحليلاً للمجتمع العراقي يصلح أساساً لمشروع العلوم الاجتماعية العربية. إذ استند فيه لنظريات ابن خلدون، خاصةً نظرية صراع الحضارة والبداوة، أكثر من استناده للنظريات السائدة. وبحسب الوردي، استقبل العراق طوال تاريخه – وإلى تشكّل دولته الحديثة – القبائل البدوية المهاجرة من الجزيرة العربية وبادية الشام. فعاش حالة صراعٍ دائمٍ بين قِيَم البداوة وقِيَم الحضارة، وبينهما قِيَم الريف الذي تستقر فيه القبائل وتحوّل نشاطها الرئيسي من الرعي والغزو في البادية إلى الزراعة في الريف، وإلى أعمالٍ وحِرفٍ أخرى في المدن. ولكلّ من تلك البيئات قِيَمٌ مختلفة. واستمرار الحركة والهجرة جعل العراق في حالة صراعٍ دائمٍ وصدامٍ بين الثقافات المختلفة والقِيَم المتناقضة.
وقعت أول مواجهةٍ بين النظام والوردي في عهد الرئيس عبد السلام عارف، عندما فوجئ الوردي سنة 1965 باستدعاءٍ من مديرية الأمن. وبحسب الخاقاني، فإن الوردي فرح بهذا الاستدعاء قبل أن يعرف سببه، لرؤيته اضطهاد السلطة علامةً على صحة موقف المفكر، وباباً لاعتباره بطلاً. زادت معرفة سبب الاستدعاء من شعور علي الوردي بأهميته وتهديده السلطة. حين وصل المديرية، أخبره مدير الأمن أن الخارجية الأمريكية والبريطانية تُلزما سفراءهما إلى العراق بقراءة كتب الوردي عن طبيعة المجتمع العراقي، قبل استلام مهام وظائفهم، وهو ما تسبّب في شكوك السلطة إزاءه.
ينقل الخاقاني ردّ علي الوردي بحدّة وتهكّم على هذا الاتهام المبطَّن بالعمالة. فقال لمدير الأمن: "هذا لأنهم يقرأون ولأنكم لا تقرأون، لأنهم يحترمون كتبي ويحترمونني بينما أنتم تستدعوني إلى مديرية الأمن مثل المجرمين". لم يتضرر الوردي كثيراً من هذه المواجهة. إذ خلصت السلطة منها لأنه ليس مصدر تهديدٍ لها، فسمحت له بالسفر بحسب طلبٍ كان قدّمه. كان الاستدعاء جزءاً من عملية تحقيق الأمن للوصول إلى قرارٍ حول السماح له بالسفر أو عدمه.
لم يُعِد غلق القضية الأمور إلى ما كانت عليه قبلها. فقد أحيل علي الوردي للتقاعد بناءً على طلبه سنة 1970. ثم مُنِع في نهاية السبعينيات، بحسب الخاقاني، حقه أستاذاً متمرساً في الاحتفاظ بمكتب في الجامعة، بسبب توجّس النظام البعثي الثاني الذي بدأ حكمه سنة 1968. وبحسب الخاقاني، تلقى الوردي تحذيراً بعد محاضرةٍ ألقاها في جامعة وارسو البولندية نهاية السبعينيات من أن تُستخدم محاضراته في تشكيل خطرٍ على أمن العراق. ولم يمنعه ذلك من السفر المستمر وإلقاء المحاضرات هناك.
أجاب صدام عن سؤال هيلمز بثلاثة أجوبة. فأكد أولاً اختلافه مع تعريف الوردي للشخصية المزدوجة، لأن الشخص المزدوج هو الذي تجتمع فيه شخصيتان متضادتان. فيكون مثلاً طيباً محباً للخير ثم ينقلب كارهاً للحياة شريراً بلا سبب، لا الذي يفترق قوله عن فعله. وفسّر ثانياً كلام الوردي بأن العراقي يكون عادةً رقيقاً وشفافاً، لكنه في لحظة القرار يكون صارماً. ثم فصَّل ثالثاً تصوّره للشخصية العراقية، الذي بناه على "دراسة مباشرة من خلال المراقبة" لا من القراءة،. وقد خلص صدام من تلك المراقبة إلى الاقتناع بأن هناك صفة عامة تميّز العراقيين، وهي صعوبة وصولهم الى مرحلة الرضا خصوصاً عن الحكومة. وهو ما يتسبب في ضيق بعض رفاقه في القيادة، لكنه شخصياً يؤيد العراقيين في تلك الصفة.
ومع تأكيد صدام اعتماده في فهم المجتمع العراقي على ملاحظاته، فإن ردّه على ما فهمه من أطروحة الوردي يذكّر بردّ أكاديمي وعالم نفس عراقي على الوردي، ذكره الوردي ولم يذكر اسمه، قبلها بسنوات. أصر الأكاديمي أن الازدواج مرضٌ نفسيٌّ، وقطع في محاضرةٍ ألقاها سنة 1958 بخطأ نظرية علي الوردي. نشر الوردي هذا النقد وردّ عليه في كتاب "طبيعة المجتمع العراقي" المنشور سنة 1965. وميّز فيه بين المرض النفسي ونظريته التي تعالج سمةً نفسيةً اجتماعيةً تحرّك الأفراد والمجتمع في العراق والمجتمعات المشابهة.
وبغضّ النظر عن حقيقة تأثر صدام بهذا الرد، فإن علاقة علي الوردي بالسلطة ازدادت بروداً بعد هذه الواقعة. لم يتعرض الوردي لاستهدافٍ مباشرٍ أو اعتقالٍ قط. لكن الحكومة تجاهلته وأعماله، مع كثرة الاحتفاء بها في الدوائر الأكاديمية وكثرة الإقبال عليها قبل ذلك. وفي بلدٍ تسيطر فيه الحكومة على عائدات النفط، ويتقلص الاقتصاد الحر، يَحول تجاهل الحكومة دون إعادة طبع الكتب والاحتفاء بها رسمياً. وبحسب الخاقاني، كان الوردي يقول في المجالس الخاصة إن فترة حكم صدام حسين هي الأسوأ في تاريخ العراق. وينقل عن أحد مستشاري صدام حسين أن الرئيس قال للمستشار إنه لا يحب الوردي، ومن الصعب على المستشار الاستغراق في الموضوع وسؤال الرئيس عن الأسباب. فقد بدا أنه أصدر حكماً في الأمر.
وبحسب الشماع، القريب من دوائر الإعلام الحكومي، أدى انتقاد الوردي لحكام من تاريخ الإسلام لتوجس صدام ونظامه منه. إذ أثير رأي الوردي بالخليفة العباسي هارون الرشيد وانتقاده امتلاكه الجواري في اجتماعٍ للقيادة العراقية، وأثار قلق بعض المتحدثين واستندوا إليه في معارضتهم إدخال إصلاحات ديمقراطية. فوجود الوردي بحد ذاته سيفتح مجالاً واسعاً لانتشار الأفكار المعارضة والتأثير على الجماهير.
فرضت التطورات السياسية تغيّراً لحظياً في موقف السلطة من علي الوردي. إذ تعرّض العراق لهزّةٍ كبرى بعد حرب سنة 1991، حين قادت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً لإخراج العراق من الكويت. اندلعت في أعقاب الهزيمة انتفاضةٌ شعبيةٌ في المناطق ذات الغالبية الشيعية وسط العراق وجنوبه، وانتفاضةٌ كرديةٌ في الشمال. في هذه الظروف، بحسب الخاقاني، فكر صدام حسين في الاستفادة من تصورات الوردي للمجتمع العراقي. وبدلاً من شراء كتبه، أرسل حارسه الشخصي إلى بيت علي الوردي يطلبها. تمنَّع الوردي في البداية عن إعطاء الحارس الكتب، إذ ظنّه صاحب المبادرة. فادعى نفاذ نسخه بسبب القيود على إعادة الطباعة. وحين أخبر الحارسُ الورديَّ أن الرئيس شخصياً يطلب الكتب، ردّ عليه بدعابته وسخريته المعهودة. فقال "إذا كانت للرئيس فأنا شخصياً مستعد أصير الكتب"، وأعطى الحارس النسخ.
لم تنهِ هذه الواقعة القطعية بين النظام وعلي الوردي. فلم يتواصل حارس الرئيس مع الكاتب مرةً أخرى، ولم يعرف الوردي ما إذا كان الرئيس قرأ كتبه ولا رأيه فيها. وبحسب الخاقاني، لم يجرؤ أحد على سؤال الرئيس عن قضيةٍ سادَ الاعتقاد بأنه لا يحب الحديث عنها. كما لم تغيّر الواقعة علاقة النظام بالوردي. إذ مُنع في سنواته الأخيرة من السفر إلى بولندا حيث عمل بالتدريس في جامعة وارسو بعض الوقت. ومنعت إعادة طباعة كتبه، فنفذت الكميات المطبوعة منها وارتفع ثمنها وتعسر الحصول عليها.
فرح علي الوردي بهذا التضييق، بل يحكي الخاقاني تمنّيه الإعدام، ليختتم حياته بمشهدٍ بطوليّ. لكن الوردي مات سنة 1995 إثر إصابته بمرض السرطان، بعد تعرقل الإذن بسفره لتلقي العلاج في الخارج، في وقتٍ تأثر النظام الصحي في العراق بالعقوبات الأممية المفروضة عليه. وفي عزاء الوردي، حضر نائب رئيس الوزراء طارق عزيز ووزير الإعلام حامد حمادي، لكنهما أكدا حضورهما بصفتهما الشخصية لأنهما تتلمذا على يد الوردي في الجامعة. أما الحكومة والرئاسة، فلم ترسلا مندوبين لمجلس العزاء.
على أن العقبات التي رآها علي الوردي في حياته لم تمنعه العمل على تطوير مشروعه. بل استمر طيلة عمره يتواصل مع الصحفيين والأدباء ومع عامة الناس. فيناقش معهم أفكاره ويعرض عليهم تصوراته، حتى عُرف بحبّ النقاش والبحث العلمي. وأخلص الوردي لإيمانه أن علم الاجتماع يدرَّس بالتواصل المباشر مع الناس والعيش معهم. وظهرت بعد وفاته الكتابات التي تروي سيرته، لم يكتبها الأكاديميون المتخصصون، ولكن كتبها الصحفيون والناس الذين خالطهم. فانتهى النظام الذي همَّشه، وبقيت أفكاره وأعماله مفتاحاً مهماً لمن يريد فهم العراق
