تطوّرت معرفتي بشيزر وقلعتها حين بدأت إقامتي وعملي بها مدرّسةً في ثانويتها. وتطورت كذلك من نسخةٍ مهترئةٍ وجدتُها صدفةً في مكتبة المدرسة لكتاب "الاعتبار"، الذي ألّفه أمير شيزر وشاعرها وفارسها أسامة بن منقذ قبل تسعمئة عام. لم أعلم حينها أن الأقدار تخبّئ لي مواعيدَ قادمةً مع هذه القرية وأميرها. آخرها كان في مدينةٍ أخرى تقع جنوب تركيا، اسمها ماردين وتفصلها الحدود الدولية اليوم عن شيزر. لكن التاريخ يربطهما بحبل أسامة بن منقذ. فقد ساقته الأقدار هو أيضاً قبل نحو تسعة قرونٍ إلى ماردين، لتكون مستراحاً له وموطنه في المنفى.
احتضنتني ماردين مع أطفالي الثلاثة بعد خروجي من سوريا، وهدّأتْ في كثيرٍ من الأحيان من خوفي الدائم وقلقي من المستقبل. فأنا في المقام الأول امرأة، ولست فارساً أو أميراً مثل أسامة بن منقذ، يضمن له حَسَبه ونَسَبه موطئ قدمٍ واحتواءً وترحيباً في المكان الجديد. وعلى مكانة هذا الأمير والترحيب الذي لقيه في المكان الجديد، إلّا أن ذلك لم يحمِه من القلق والتربص من القادم. هذا القلق الذي لم ينفكّ عن ملاحقة السوريين في بلاد اللجوء والاغتراب، حين بات التململ منهم شائعاً في تلك الدول.
في ماردين، التقيت أناساً طيّبين. تعثرتُ ونهضتُ، يئستُ وتفاءلت. مضت السنون وأنا أشيّد لي ولأطفالي حياةً مستقرةً في المنفى. وكأنني سائرةٌ على خطى أسامة بن منقذ الذي اختار هذه البقاع ملاذاً له، حين آلمه نكران أبناء عشيرته الأقربين وجفاؤهم. وبين اليوم والأمس تسعة قرون ونيف. تلاقت سيرة ابن منقذ مع سيرة السوريين، وأنا منهم، في مواجهة الحرب التي طالت أرضه وأرضهم. وتلاقت السيرتان في النزوح والحنين في المنفى وبكاء الأهل والأحباب الذين قتلتهم الحرب أو الزلزال، حتى العودة إلى الأرض ظافرين.
كان أسامة أثيراً لدى عمه أبي العساكر الذي لم يكن له نسلٌ، وكان يرى فيه وارثَ الإمارة بعده بسبب بسالته في المعارك ضد الصليبيين. ولكن ما لبث أبو العساكر أن رُزق أولاداً حتى طغى حبّ أولاده، والخوف على وراثتهم الإمارة، على علاقته بابن أخيه. أيقن العم أن أسامة بات خطراً على ملكه، وأن قلعة شيزر لا تتسع لأميرَيْن، فأمره وإخوته بالرحيل.
خرج أسامة بن منقذ من شيزر منفياً. وقد نقل المؤرخ ابن العديم، المولود في حلب أواخر القرن الثاني عشر، عن ابن منقذ وصف هذا الخروج في كتابه "بغية الطلب في أخبار حلب" المنشور في طبعةٍ حققها سهيل زكار سنة 1988. يقول ابن منقذ في الكتاب: "فقام عمي نصف الليل وطلبني، وأمر من أسرج لي مركوباً، وأمرني بالركوب. وقال: أريد أن تجيء معي إلى موضعٍ سمّاه خارج شيزر في شغل، فركبت معه حتى أبعدني عن شيزر". ويكمل: "ثمّ قال لي: يا ابن أخي! شيزر لك فهِبها لي، فوالله ما بقيت أقدر على مساكنتك".
بيد أن خروج أسامة من شيزر، التي اتخذها من قَبل معقلاً لردّ غارات الصليبيين والروم والقرامطة وهجماتهم، لم يمنعه متابعة الجهاد في ثغورٍ أخرى. فقد قاتل في الموصل تحت إمرة عماد الدين الزنكي، وفي دمشق تحت إمرة حاكمها معين الدين أُنُر. قاتل أسامة كذلك مع ابن السلار، وزير الخليفة الفاطمي الثاني عشر الظافر العبيدي الذي حكم مصر في الحقبة ما بين 1149 و1154، ثم عاد إلى دمشق.
وبعد سنواتٍ عشرٍ مقيماً في دمشق تخلّلتها أحداثٌ كثر، شعر أسامة بن منقذ بالحاجة إلى الراحة والبعد عن القتال وخدمة الملوك. فمضى سنة 1163 إلى بلدة حصن كيفا، وهي بلدة تعرف اليوم باسم "حسن كيف" وتقع في ولاية بطمان جنوب تركيا حالياً. هناك، عكف على الكتابة. ويرجّح حامد عبد المجيد وأحمد بدوي، محققا ديوانه المنشور سنة 1953، أن أسامة اختار هذا المكان لِما كان فيه من مكتباتٍ غنية.
في مايو 2020، باتت أجزاءٌ كبيرةٌ من البلدة الأثرية في حصن كيفا من الماضي. غمرتها مياه سد إليسو، وبقي منها عمائر قليلة مرتفعة. وانتصبت مقابلها، على الضفة الأخرى من نهر دجلة، مدينةٌ حديثةٌ آوت النازحين والسيّاح. كذلك، اختفت مدنٌ سوريةٌ في السنوات الأخيرة لكن بعدما غمرتها النار.
لا تلزمنّي بالهوان وحمْله
إن احتمال الهَوْن ثقلٌ مرهقُ
وقبل ذلك بشهورٍ في قرية شيزر، التي مرّ منها ابن منقذ قبل نحو تسعة قرون، قتل جيش الأسد فلاحين كانوا يزرعون البطاطا يوم 29 يناير 2012. ثم قال في إعلامه الرسمي إنهم إرهابيون كانوا يزرعون الألغام. واعتقل في مراتٍ عدة شباب القرية وساقَهم لتفكيك ألغامٍ مزروعةٍ سابقاً، وفقدَ كثيرٌ منهم عينه أو قدمه أو حياته. وفيها أيضاً قَتلت قوات النظام ثلاثة أطفال من عائلةٍ واحدةٍ في 25 مايو 2012.
ومع تصاعد هذا العنف، لم نكن نحن النساء قادرات على ما عجز عنه الرجال في دفع الخطر، ولكننا حاولنا تخفيف الكارثة. استقبلت العوائلُ النازحين من القرى المجاورة التي شهدت الاقتحامات والمجازر، وقدّمت النساء بيوتهنّ للضيوف الخائفين، حين كنّ خائفات من مصيرٍ مشابهٍ أيضاً.
وما أشبه اليوم بالأمس. ففي مذكّراته التي اختار لها اسم "الاعتبار"، وحقّقها المؤرخ اللبناني الأمريكي فيليب حِتي ونشرها سنة 1930، دوّن أسامة بن منقذ شهاداتٍ عن شجاعة النساء في الحرب أيضاً. روى مثلاً حكاية امرأةٍ من قرية كفر طاب – في محافظة إدلب حالياً – قَتلت زوجها حين انتقل إلى خدمة أحد قادة الصليبيين وآذى المسلمين.
امتدّ الخطر إلى حياة النساء في بيت أسامة بن منقذ نفسه، ولكنهنّ بقين في مواجهة الحرب. ففي مواجهة هجوم الإسماعيليين النزاريين (الحشاشين) على قلعة شيزر سنة 1108، وكان وقتها فتىً طريَّ الغصن، عاد إلى داره يتزوّد بسلاحه الذي لم يجده. فقالت له أمه "يا بني أعطيت السلاح لمن يقاتل عنا وما ظننتك سالماً". واستغرب جلوس أخته على النافذة. فقالت له أمه "إذا رأيتُ الباطنية [الحشاشين] قد وصلوا إلينا، دفعتُها [أخته] إلى الوادي. فأراها قد ماتت، ولا أراها مع الفلاحين والحلاجين مأسورة". فقد آثرت أمه التضحية بفلذة كبدها على وقوعها أسيرةً، واعتبر ابن منقذ ذلك نخوةً "أشد من نخوة الرجال".
عاشت النساء في زمن الثورة السورية قلقاً مشابهاً من الاعتقال والتعذيب والانتهاكات الجنسية. في قريتنا، كما في غيرها، هدد النظام النساءَ والعوائل إمّا باعتقالهنّ ليسلمّ الرجال من أقاربهنّ أنفسهم، أو دفع مبالغ ضخمة لئلا يُعتقلن أو يُطلَبن إلى الفروع الأمنية. دفع تهديد الاعتقال والقتل عوائل كثيرة في ريف حماة الشمالي إلى النزوح. هذا ما حصل معي شخصياً، بسبب انتمائي لعائلةٍ انحازت إلى الثورة في وقتٍ مبكر، وقتل النظام عدداً من أبنائها.
تكررت هذه القصص كثيراً مع النساء اللواتي عاشرتُ بعضهن واستمعتُ لشهادات أخريات. وأنجزتُ مع كتّابٍ سوريين روايةً جماعيةً بعنوان "ثلاثة أجيال تحت جسر الرئيس"، نُشرت سنة 2023، مستندةً إلى الشهادات الشخصية والتاريخ الشفوي. إحدى شخصيات الرواية الحقيقية هي لينا من مدينة معضمية الشام في ريف دمشق. أصبحت لينا مطلوبةً لنظام بشار الأسد بعد مشاركتها في تنظيم المظاهرات وتدريب النساء على إسعاف الجرحى. وكذلك خولة التي خاضت رحلةً مؤلمةً في البحث عن زوجها المعتقل بين الأفرع الأمنية، حتى وصلت إلى السؤال في سجن صيدنايا العسكري. وحين تلقّت تحذيراتٍ، خافت على نفسها وأولادها وقررت أن تنجو معهم بالهروب إلى خارج البلاد.
عاش أسامة بن منقذ، مثلنا، القلق الذي لازمنا على أطفالنا في المنافي وعلى أهلنا الذين بقوا خلفنا. فقد صحا ذلك الأمير ذات صباحٍ خائفاً على ابنته، التي وُلدت بعدما تجاوز السبعين، فقال عنها بهواجسنا نفسها:
رُزِقْتُ فَرْوَةَ، والسبعون تُخبِرُها
أنْ سوف تَيْتَمُ عن قُرْبٍ، وتَنعاني
وهي الضعيفةُ، ما تَنْفَكُّ كاسفةً
ذليلةً تَمْتَري دمعي وأحزاني
ما كان، عمّا ستَلقاهُ وعن جَزَعي
لِما ستَلقاهُ، أَغْناها وأَغْناني
وعندما وقع زلزال حماة وشيزر المدمّر سنة 1157، وهو في دمشق حينها، فقد أسامة بن منقذ كل عائلته المقيمة في شيزر. فبَكاهم ورثاهم، وعلى ما كان بين أسامة وأبناء عمه من عداوة تسبّبت بمنفاه، أحزنه موتهم وتمنى لو بقوا أحياء:
بَنو أبي، وبَنُو عمّي، دَمي دَمُهُم
وَإِنْ أَرَوْني مُناواةً وشَنْآنا
كانوا سيوفي إذا نازَلْتُ حادِثةً
وجُنَّتي، حين أَلْقَى الخَطْبَ عُريانا
ضرب زلزالٌ كبيرٌ المنطقة نفسها وشمل جنوب تركيا وشمال سوريا في فبراير 2023، فنُكب السوريون بآلاف القتلى مرةً أخرى. وفي جنوب تركيا، حيث كتب ابن منقذ سيرته ورثى عائلته، كان النازحون يبكون أحبابهم أيضاً ممن قضوا في المنفى وفي شمال سوريا حيث بقي بعضهم. وكما نجا ابن منقذ من الزلزال لأنه كان خارج بلده شيزر، نجت عائلاتٌ سوريةٌ وتركيةٌ كثيرةٌ لجأت إلى ماردين وأماكن قريبة أخرى واحتمت بها.
وفي تلك الأنحاء الرحيبة الوادعة، ألّف أسامة بن منقذ قصائده وكتبه، منها كتاب "المنازل والديار" الذي حقّقه عالم الحديث شعيب الأرناؤوط ونشره سنة 1965. كان الزلزال دافع ديوان الحنين الذي ألّفه بعد خروجه إلى الجنوب التركي. إذ يقول ابن منقذ "دعاني إلى جمع هذا الكتاب، مانال بلادي وأوطاني من الخراب. فإن الزمان جر عليها ذيله، فأصبحت (كأن لم تغن بالأمس)، موحشة العرصات بعد الأنس، قد دثُر عمرانها، وهلك سكانها، فعادت مغانيها رسوماً، والمسرات بها حسرات وهموماً".
وكأن التعلّق بالديار لدى النساء أكثر من الرجال، أو هذا على الأقل ما بدا لي من تجربتي. ففي المقابلات التي أجريتها مع النساء السوريات كان حديث الحنين عن البيوت وتفاصيل الحياة اليومية الماضية وطقوسها الاجتماعية طاغياً. في مشروع عن الذاكرة والتراث المشترك في المناطق الحدودية، طُلب من النساء اختيار أماكن في الجنوب التركي لتنظيم رحلةٍ إليها، فوقع الاختيار على نصيبين وديار بكر وحصن كيفا. كان اختيارنا هذه المناطق لأنها تشبه بلادنا وتذكّرنا بها. وقد وصف أسامة بن منقذ في "الاعتبار" رحلات الصيد فيها، التي كانت تذكّره برحلات الصيد في شيزر بصحبة أبيه وعمّه.
في الجنوب التركي، قضى ابن منقذ سنوات حياته الأخيرة في تذكر حياته الأولى، وفي المكان ذاته أردت بدء حياةٍ جديدة. توثقتْ صِلتي بالمدينة حين استكملت دراستي في البرنامج العربي في جامعتها. أصررتُ مع صديقاتي النساء اللاجئات على متابعة تحصيلنا العلميّ. أردنا تحقيق ذواتنا بطريقةٍ ما، وأن نحمي أنفسنا من الشعور أن سنوات غربتنا تذهب عبثاً، عسى أن ينفعنا ذلك حين نعود إلى بلادنا يوماً ما. وقد عدنا.
وفي خضمّ بحثي في تاريخ المدينة، وجدتُني مفتونةً بالبحث في سيرة الفارس الأمير. أنقبُ في كتابه عن قصص النساء زمن الحروب الصليبية، لربطها بأطروحتي للماجستير عن أعمال الروائيات السوريات زمن الثورة السورية. انشغلتُ، مثل أسامة بن منقذ، بالكتابة والبحث في ماردين. وشاركت في مشاريع عن الذاكرة والتاريخ الشفوي مع اللاجئين السوريين، والنساء خاصة. كان اهتمامي بتاريخ المهمّشين، أو التاريخ من الأسفل، الذي أصبح له مكانة في الكتابة التاريخية الحديثة ويتيح فهم حياة الناس العاديين والمستضعفين ورواية قصص النساء في زمن الحرب. كان هذا التاريخ الوجه المقابل من سيرة النبلاء الفرسان التي تمثّلها مذكرات أسامة بن منقذ.
حررتْ الكتابةُ ابنَ منقذ من قلق المنفى والنسيان وعبء ذاكرة الحروب التي خاضها، وحررتني من الخوف الذي عشته في قريته شيزر، ومن عبء ذاكرة الحرب التي انصبّت علينا في ريف حماة.
عندما دخل صلاح الدين الأيوبي الشامَ سنة 1174، أرسل في طلب أسامة بن منقذ ليكون مستشاره. عاد أمير شيزر وفارسها إلى بلده محفوفاً بالترحيب، وتوجّه إلى دمشق في ذات العام. تخيّلته وقد غمَرَته ذكريات نفيه من مسقط رأسه، لأن أبناء عمه خافوا أن ينازعهم الملك، قبل أن يموتوا بزلزالٍ لم يعبأ بأحد.
أنقذتْ الغربة ابنَ منقذ زمناً، ومنحته الوقت للتأمل والكتابة والذكريات، ثم عاد في نهاية عمره ليُدفن في جبل قاسيون المشرف على العاصمة السورية دمشق. لم أنتظر، ولم ينتظر السوريون العائدون دعواتٍ إلى بلدهم، كما فعل صلاح الدين مع ابن منقذ. فقط اكتفينا بحرية وطننا داعياً، فانطلقنا ملبّين.
