ماطلت إسرائيل بالسماح بعودة النازحين. تارةً تتهم حماسَ بانتهاك بنود تسليم الأسرى الإسرائيليين، وأخرى تتذرع بتأخر إطلاق الحركة سراح الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود. وغير بعيدٍ عن التسويفِ، القلق في إسرائيل من مشهد عودةٍ جماعيةٍ قد يهين كبرياءها. ووراء ذلك صدى تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل شهورٍ عن تمسك إسرائيل بمحور نتساريم ومنع عودة النازحين، مشابهاً في عزمه رئيسَ الوزراء السابق أرئيل شارون الذي ساوى يوماً ما بين نتساريم وتل أبيب، قبل أن ينسحب من كل القطاع سنة 2005.
جاء الأمر بالتحرك في 27 يناير، فانساب الناس بمئات الآلاف طوفاناً أسموه "العودة"، وكأنه العودة الأولى منذ نكبة 1948، وقد جاوزت أعدادهم من هُجّروا فيها يومئذ. توجهوا شمالاً على ركام ما كان قبلاً طريقاً ساحلياً حيّاً يسمى الرشيد. تراصّت على جانبيه يوماً المطاعم والمقاهي التي ارتادها أهل غزة بحثاً في نسائم البحر عن شيءٍ من الحياة الطبيعية وسط حصارٍ يمتدّ منذ سنة 2007. وكما التهم هذا البحر جزءاً من الشاطئ عاماً تلو الآخر وبات أقرب للشارع، التهمت دبابات الميركافا وقذائف النفاثات منذ السابع من أكتوبر 2023 الشارع نفسه وأحالته ركاماً. لذا كان على الناس العائدين السير على الأقدام كيلومتراتٍ طويلة.
لم يراع الرشيد حرمة السائرين عليه ولا هوانهم، ولكنهم واصلوا يخطون لشمال تغيرت ملامحه، وإن لم يعد لكثيرٍ منهم فيه بيت قائم ولا أحباب ينطقون. قال بعضهم إن للعودة نشوة، ولكن ليستوفي الفلسطيني فلسطينيته، وجب عليه أن يكون "متشائلاً"، أن يتفاءل ويستعد للغد بقدر من التشاؤم يقيه حرقة القنوط. ففي فلسطين لا غدٌ مضمون ولا أفقٌ مصون. بهذا طفق العائدون يسألون عن اليوم التالي بعد وقف إطلاق النار. أقنع البعض أنفسهم أنها نهاية الحرب، فيما اتفق الغالبية بأن علاقة إسرائيل والاتفاقات مثل علاقة الماء والزيت، لا يختلطان. فقد طفحت جعبتنا بكل خيبة أمل مذ رأت الدولة العبرية النور قبل ثمانية عقود على أنقاض ما كنا، مروراً باتفاقات أوسلو في التسعينيات وما بات نسميه تهكماً "سراب حل الدولتين". والأهم، ما زال قريباً من أذهان الكثير منا صدى انتهاك إسرائيل وقف إطلاق النار الأول بعد هدنة ستة أيام في نوفمبر 2023.
ومثل كلّ مرّةٍ، لم يخيبنا "التشاؤل"، وصار التوجس حقيقة. إذ بعد أقل من شهرين من وقف إطلاق النار، ومع قتل إسرائيل عشرات الفلسطينيين وتلكؤها في السماح بضخ المساعدات ومستلزمات الإيواء، عادت الطائرات الإسرائيلية لتشن هجوماً جوياً واسعاً شابه في كثافته الأيام الأولى من الحرب، معلنة بذلك نهاية وقف إطلاق النار. ومع كل حديث عن هدنة بعد ذلك، تحول التشاؤل إلى تشاؤم، وصار الليل بعدها أكثر سوداوية.
اليوم نقف مشدوهين كيف للحرب أن تمتد عامين، وكيف للعالم أن يكتفي بخطوات يراها معظمنا رمزيةً لدرء جريمة صنفتها محافل قانونية دولية إبادةً جماعية. ولسان حال كثير من أهل غزة أن ما بعد هدنة يناير، وإن صُوِّر استكمالاً للحرب، كان إيذاناً بحرب جديدة أكثر تضخماً، شابها تعميق للتجويع ومأسسة له. وبرز ما يمكن تسميته تطرفاً في نزع إنسانية الغزيين. رخصت قيمتهم بشراً وبُرّر مزيد من القتل والتجويع بحقهم. بل انعكس هذا في نظرة الغزيين لذواتهم، وتُرجمت للبعض لامبالاةً بالنفس والآخرين، واستهتاراً بقيمة الموت. وفي ظل فقدان الإحساس بالذات والمحيط، تطرح أسئلة عن العمل المقاوم وما إذا كان منفصلاً عن الواقع. كل هذا مع تعزز النظرة الضبابية للمستقبل، بينما تستوفي إسرائيل احتلال مدينة غزة، وتُهجر سكانها المليون على طريق الرشيد. يتدفقون بالاتجاه المعاكس جنوباً، وكأن عودة يناير كانت نكتة سمجة.
إنها مسألة أمن قومي لمصر وتفصيلاتها معقدة، لا أقلها اتفاقية كامب ديفيد مع الدولة العبرية منذ سنة 1979. ولشبهِ جزيرة سيناء من هذا التعقيد النصيب الأكبر. أما أنا، فلا استطيع القول إنه كان لدي هدف بدخول سيناء سوى القرب من غزة، مع علمي بعبث مسعاي في إحداث أدنى الأثر. لربما دفعني لذلك الشعور بالذنب بعد نجاتي واضطراري لمشاهدة قومي يذبحون. أثقلني أني بقيت حياً فيما صمتت أنفاس كثير ممن كانوا يوماً أحباباً. أو لعله ذنب العجز الذي بدا وكأنه خيانة.
"حاسس حالي خاين" هي العبارة التي كررها رفيق سفري الخمسيني القادم من تونس للعبور معنا لسيناء، وقد أخبرني أنه من مدينة رفح جنوب القطاع، التي محيت اليوم من الجغرافيا. أراد أن "يشتمّ شيئاً من رائحة البارود عبر معبر رفح" علّه يشارك الهواء ذاته مع ذويه على الجانب الآخر، ويرفع عن نفسه عبء الشعور بالتخلي، بالخيانة.
فيما قال رفيق السفر الثاني، وهو من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، وكان عالقاً في مصر منذ السابع من أكتوبر 2023، بأن شعور العجز انتهك كرامته. فلا يعرف من بقي من أهله حياً ومن مات. وإن عرف فلا فرق، فلن يغير ذلك من أمرهم شيئاً. "أبو هيك عِيشة، لا راحمين ولا بيخلوا رحمة الله تنزل"، قال متبرماً ثم أغلق باب السيارة لنبدأ طريق العودة للقاهرة خائبين. لم نعرف بالضبط من كان يقصد بمانعي الرحمة، فهم بالنسبة لنا كثر.
ومثلما فعل العائدون على الرشيد إلى شمال غزة، حاول ثلاثتنا مواساة أنفسنا على الطريق بأنّ وقف إطلاق النار ربما يقود لوقف الحرب. وصل الأمر أن أشاد رفيق سفرنا ابن مخيم الشاطئ بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فهو برأيه كاره للحروب وقد فرض على إسرائيل وقفاً لإطلاق النار لطالما تهرَّب منه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وناور الرئيس السابق جو بايدن لتجنبه.
كان لهذا المنظور وقتئذ ما يدعمه. إذ روَّج ترامب في حملته الانتخابية نهجاً انعزالياً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، واعداً قاعدته الانتخابية بأن بلاده ستنأى بنفسها عن صراعات العالم. وتعهد بإيقاف حرب أوكرانيا وغزة فور تنصيبه. فشل بالأولى وما زال، وادَّعى النجاح في الثانية ولكنه عاد فأخفق. لكن أغلب الظن أن الهدنة كانت جهداً سابقاً على تولي ترامب الرئاسة رسمياً في 20 يناير 2025. وربما هذا ما يفسر الجدل بين بايدن وترامب حول "من له الفضل" في تحقيقها.
بدا بايدن وكأنه أراد الخروج من البيت الأبيض وقد ترك وراءه إرثاً علّه يحدث توازناً في صورته، بعدما طالته اتهامات التواطئ بالإبادة من المعسكر المؤيد للفلسطينيين، فصار لقبه "جينوسايد جو" (جو الإبادي). كذا ذكرني في الطريق للقاهرة مرافق سفري من رفح، متهكماً في نبرته، كيف رُصد بايدن في نوفمبر 2024 في الشارع حاملاً كتاب الأكاديمي الفلسطيني رشيد الخالدي "ذا هَندريد ييرز وور أون باليستاين" (حرب المئة عام على فلسطين) الصادر سنة 2020، "وكأنه يحاول إعادة رسم ذاته. وأضاف رفيق سفرنا من مخيم الشاطئ أن تشبث بايدن بأنه وراء مساعي الهدنة جاء تعزيزاً لصورته رئيساً باحثاً عن السلام بين إسرائيل وحماس، في محاولة "لتنظيف وساخته". ظهر هذا عياناً في 15 يناير 2025 عندما قابل بايدن بشيء من الازدراء سؤالاً من صحفي عمّن له الفضل بتحقيق اتفاق الهدنة، فسأل هذا الصحفيَّ عما إذا كان يمزح.
في المقابل، ادَّعى ترامب أن "فوزه التاريخي" في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2024 كان وراء اتفاق وقف إطلاق النار، خصوصاً أنه من هدد حماس بفتح أبواب الجحيم عليها إذا لم تطلق سراح "المختطفين الإسرائيليين" قبل دخوله المكتب البيضاوي.
وبين بايدن وترامب، كان لبنيامين نتنياهو القرار النهائي. وهو من وُجه إليه الاتهام مراراً بتقويض مساعي التهدئة وانتهك الهدنة القصيرة في نوفمبر 2023 بعد ستة وأربعين يوماً من بدء العدوان. في صفوف المعارضة الإسرائيلية، بما في ذلك أعضاء سابقين في حكومة نتنياهو مثل وزير الدفاع الأسبق بيني غانتس، نُظر لرئيس الوزراء بأنه عائق أمام تحقيق وقف إطلاق النار واستعادة الأسرى الإسرائيليين. وحتى في داخل الإدارة الأمريكية، وفق ما يورد بوب ودورد في كتابه "وور" (الحرب) الصادر في نهاية 2024، شارك مسؤولون مقربون من بايدن هذا الرأي، وإن لاموا حماس بالعلن. حتى بعد أن تجاوز الجيش الإسرائيلي "خطوطاً حمراء" صرحت بها إدارة بايدن، مثل اجتياح مدينة رفح في مايو 2024.
نُسب تهرّب نتنياهو من الاتفاق لخوفه من انهيار حكومته الائتلافية، ومن ثم تعميق مشاكله السياسية والقانونية، في حين يواجه أمام القضاء الإسرائيلي تهماً منها خيانة الأمانة. وعندما وافق على وقف إطلاق النار، ولو على مضض، عُزي السبب لنجاح إسرائيل في تقويض "حزب الله" اللبناني وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا في ديسمبر 2024، وهو ما أضعف ما سمي "محور المقاومة". كان الناتج ارتفاع شعبية نتنياهو وترسيخ استقرار ائتلافه واعطائه حيز مناورة أكبر. أدخل نتنياهو مثلاً في حكومته وزيراً للخارجية هو جدعون ساعر من حزب "أمل جديد"، والمنشق سابقاً عن الليكود. وضَمنَ بقاء الائتلاف بعد خروج إيتمار بن غفير وأعضاء حزبه "عوتسما يهوديت" منه مؤقتاً، احتجاجاً على الهدنة.
لكثير منا نحن الفلسطينيين وبحكم التجربة، لعبة التوازنات هذه لم تكن سوى واجهة. فنتنياهو ليس أقل تطرفاً من الائتلاف اليميني الذي يترأسه ويتشارك معه في غالبية الرؤى العقدية والأمنية، ولكنه أكثر خبرة بالمناورة واستغلال الفرص، بل وإعادة التفسير ومن ثم التلاعب بالحقائق لتخدم أهدافه. يبدو أنه حينئذ اختار مسايرة ترامب بإعطائه وقف إطلاق نار يعزز صورته أمام قاعدته الشعبية. بالمقابل وعلى المدى الطويل، يحصل نتنياهو على دعم واشنطن لتنفيذ خططه في ساحات أخرى، منها ضم أجزاء من الضفة الغربية. وكانت بوادر هذه "المبادلة في المصالح" في اليوم الأول من رئاسة ترامب، إذ ألغى الرئيس الأمريكي إجراءات عقابية فرضتها إدارة بايدن بحق "مستوطنين عنيفين" في الضفة.
لم يبدُ أمام حركة حماس خيارات كثيرة. وبدا أنها حشرت بين تلقي ضربات إسرائيل وحاجة الحركة لإعادة تنظيم صفوفها والتقاط الأنفاس، وبين ضغط الوسطاء العرب. والأهم حاجتها الملحة لتخفيف معاناة الغزيين الذين استخدمتهم إسرائيل وسيلة ضغط بالقتل والتهجير والتجويع، فانقلب بعضهم حنقاً على حماس نفسها.
أعلنت الهدنة وابتهج الناس على ما فيهم من "تشاؤل". ولبث أغلب من عرفتهم يجمعون فتات ما بقي لهم من متاع للعودة إلى شمال غزة، وآخرون لرفح وأجزاء من خانيونس حرثتها دبابات الاحتلال شهوراً طوالاً وما أبقت حجراً على حجر. رُسمت العودة تحدياً لإسرائيل ولو على أطلال ما بقي. من هؤلاء كان صديقي طبيب الأسنان أيمن، الذي هُجر من مخيم جباليا شمال غزة إلى منطقة المواصي في خانيونس مع بداية الاجتياح البري في نهاية أكتوبر 2023.
قبل الاجتياح بأيام قصفت مقاتلة إسرائيلية بيت أيمن فقتلت زوجته وأطفاله الثلاثة، وكان حينئذ بالخارج يجوب الحواري بحثاً عن ربطة خبز. دفن أسرته بجانب ركام البيت على عجل مستخدماً يديه وقطعة "قرميد" من بقايا سقف منزله المتهاوي، ثم هام على وجهه مع آلاف آخرين نحو الجنوب بعدما صار هدير الدبابات مسموعاً من شارعه. قال إنه لم يشعر بشيء حين دفنهم ولم يذرف دمعة واحدة، وكأن ذلك "روتين يومي".
في المواصي سكن أيمن خيمة بناها من حصير بالٍ، واعتاش على لقيمات من معالجة أسنان النازحين وخلعها بأدوات بدائية وغالباً بلا تخدير. ولكنه نجح في تخدير دماغه وبنى واقعاً موازياً تخيل فيه أفراد أسرته أحياءً ينتظرونه في مخيم جباليا. قال أيمن في صوت ظهرت فيه نبرة التردد والإحراج، إنه كان يرسل لنفسه رسائل واتساب على أنها من من زوجته تخبره أنها بانتظاره.
جاء وقف إطلاق النار، فذهب التخدير وارتشف أيمن مرغماً جرعةً قاتلةً من الحقيقة. قال إنه راجع هاتفه ووجد رسائله لنفسه صدمةً زلزلت كيانه: "حسيت روحي طلعت من صدري. يومين وأنا انتحب مثل الأطفال". ليس فقط لأنه أدرك بأن أسرته قضت نحبها، لكن أيضاً بسبب شعورٍ عميقٍ بالعار خنقه بعد أكثر من عام لم يعترف فيه بموت أحبابه، ولم يمنحهم حقهم من الرثاء. طفق يكرر في حوارنا عبر الإنترنت: "أنا واحد خاين …".
مشاهد تتكرر، وشعور الخيانة هنا ليس إلا تعبيراً عن عجزٍ تحوّل نكراناً. وليس النكران إلا أداةً لحماية الذات من ألمٍ عارم. ولأنه ألمٌ عارمٌ بدا أيمن عاجزاً عن التكيف معه، لذا استبدل النكران بالتبرير وخلْق المعنى من رحم المأساة. صار هدفه العودة للمخيم لدفن عظام أسرته بكرامة، ليغرسها في الأرض "غصبن عنهم [رغماً عن إسرائيل]"، ويجلس على ركام منزله صامداً. ففي الصمود معنى، وفي هذا مواساة. وكأنه تبيانٌ لما قاله فيكتور فرانكل، الطبيب النفسي النمساوي الناجي من معسكر الإبادة النازي أوشفايتس، في كتابه "مانز سيرتش فور مينِنغ" (بحث الإنسان عن المعنى) المنشور سنة 1946، إن الفرد يحتمل أي معاناة طالما وجد فيها معنى. هي ذاتها السردية التي تحدث بها والدي مراراً وقت نزوحه، "رح أرجع وبعدها يللي يصير يصير… غصبن عنهم"، مقرناً المعنى بالتحدي والعودة.
وإلى جانب والدي، كان جارنا رامي واحداً من القلائل الذين أخرجوا من ديارهم في مدينة غزة بغير حق في بداية الحرب وعادوا إليها وقد زادوا رغم الفقدان واحداً. تبنّى رامي رضيعةً قُتلت أسرتها في غارة في خانيونس، واحدةً من ما لا يقل عن سبعة عشر ألف طفل يتيم في قطاع غزة قتلت إسرائيل ذويهم أو تشتت شملهم أثناء النزوح، حسب بيانات اليونيسف في أبريل 2025. وقدّر مركز الإحصاء المركزي الفلسطيني عدد أيتام الحرب بتسعة وثلاثين ألفاً، ما عُدّ "أكبر أزمة أيتام في التاريخ الحديث".
وفيما عاد رامي زائداً واحداً، عاد صديقي يانس زائداً ثلاثةً لكن لأسباب مغايرة. نزح يانس بطفلين، وعاد بخمسة، وكان الثلاثة الجدد أطفال أخيه يوسف الذي طالته شظية قذيفة إسرائيلية في دير البلح نازحاً قبل الهدنة بشهر. أخبرني يانس أن الشظية كانت صغيرة للغاية أتت من قصف بعيد نسبياً عنهم. اخترقت الشظية ظهر أخيه ولم يشعر بها في لحظتها، قبل أن يبدأ ببصق الدم ويسقط ميتاً من فوره. "قالوا لنا الشظية بحجم الدبوس الصغير دخلت قلب يوسف من الخلف"، يروي يانس عن أطباء في مجمع ناصر الطبي في خانيونس.
ولعمتي فالتحدي بالعودة كان دافعها الألحّ البحث عن قبر ابنها، واسمه أيضاً يوسف. كان قرة عينها وصديقها الأقرب من أبناءئها، قضى نحبه بصاروخٍ أطلقته مسيرةٌ إسرائيليةٌ في مخيم الشاطئ في يوليو 2024 بينما كان نائماً في شقته، تاركاً وراءه زوجةً ورضيعة. وكان قد أسرّ لزوجته أن لديه إحساساً بأنه لن يرى طفلته تكبر. ومثل أيمن، رأت عمتي بالرفات تحدياً لإسرائيل، ورغبت أن تنقل جثمان يوسف من ملعب كرة قدم صار مدفناً عشوائياً في المخيم إلى جوار أخيه في مقبرة الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، على بعد بضع كيلومترات. هناك غرسته في الأرض بكرامةٍ حذاءَ أخيه وصار لها عنواناً تعود إليه لتجد فيه ريح يوسف، "غصبن عن نتنياهو".
كلٌ عاد لما يخصه، واجتمع شمل الكثيرين بأحبائهم أحياءً وأمواتاً. كان والدي من "المحظوظين" أن عاد لبيتٍ ما زال قائماً. وطفقت أمي تُقبّل الأثاث بعد غيابٍ ظنّت أنه سيؤبّد، وقد تركت وراءها جدتي مدفونة في دير البلح وسط القطاع، وهي التي بدأت حياتها مهجرة لاجئة وماتت نازحة مقهورة. وكأن القدر يسخر منا حد اللامعقول، فلا يعقل أن يموت المرء نازحاً في بقعة من الأرض هو فيها لاجئ. واسينا أنفسنا أننا وجدنا "للحَجّة" قبراً قديماً أرحناها فيه، فوق ميت آخر التهم الزمن عظامه. لأن الدفن بكرامة في زمن القبور الجماعية من الحظوظ.
نظفت أمي البيت من أكوام التراب والحجارة في بث مباشر معي على الهاتف، وكأنها تثبت لي "أننا عدنا". شاهدتُ في الخلفية بعض آثار الرصاص في الجدران والشظايا، طال بعضها رفوف مكتبتي الصغيرة فتبعثرت أوراقها ومعها قدر من الذكريات. ناهيك عن حفرة كبيرة في مدخل البيت أحدثتها قذيفة دبابة، وقالوا قذيفة مسيرة، أطلقت على أقارب لنا احتموا في بيتنا قبل أسابيع، ولكنهم أفلتوا.
نصّ الاتفاق على تقسيم الهدنة إلى مراحل متتابعة، تشمل تبادل الأسرى، وانسحاباً إسرائيلياً تدريجياً من القطاع، وإدخال المساعدات الإنسانية وفتح المعابر، وصولاً إلى مفاوضات وقف الحرب ومن ثم إعادة الإعمار. ولكن من اليوم الأول لم تتحرج إسرائيل في خرق بنود الاتفاق أو التحايل عليها. مثلاً سجل بيان لحكومة حماس 192 خرقاً عسكرياً إسرائيلياً في الأسبوعين الأولين من الهدنة. وحسب تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في 11 مارس، منعت سلطات الاحتلال أو أخرت 60 بالمئة من شاحنات المساعدات التي كان يفترض أن تصل يومياً عبر معابر رفح بين غزة ومصر، وكرم أبو سالم وإيرز بين غزة وإسرائيل. بل استمر الحديث عن التهجير، أو ما أسماه نتنياهو ومسؤولون في حكومته "هجرة طوعية".
وفي كل خرقٍ بيّنٍ اعتدتُ تلقي رسائل من أناس داخل غزة وخارجها تحمل المعنى ذاته، "مش قلنا لك هدول الإسرائيليين ما عندهم شرف". ظلت هذه السردية الشائعة حتى انهار كل شيء فجر الثلاثاء 18 مارس، وكأنها نبوءة تحققت. وكانت الفاتحة فاجعة، مئات الغارات الفتاكة من شمال القطاع لجنوبه حصدت أرواح المئات.
راسلني ذلك الفجر رفيق سفري الرفحاوي بكلمة واحدة، وقد كان عاد لتونس وأنا عدت للمملكة المتحدة. كتب: "بلشنا". لم أفهم مغزى ما كتب حتى تصفحت الأخبار، ثم توالت الرسائل في هاتفي شلالاً، أُرفِقَ بعضها بمشاهد القصف وسماء مدينة غزة وقد تحولت لدخان رمادي ووهج أحمر. عنون أحد أقاربي واحداً من هذه الفيديوهات بعبارة "بروفا يوم القيامة".
تبع الفيديو رسالة مقتضبة من أخي الأصغر: "أبوك بيقلك ديروا بالكم على حالكم إذا صارلنا شي". ردّدت متسائلاً: "قصف حوالين البيت؟". كنت قد اعتدت طرح السؤال ذاته شهوراً، فوصل التكرار حد اللامبالاة أحياناً، لكن لم يأت الرد. قلبت الهاتف على وجهه، واخترت الظن بأن كل شيء بخير، وأنها "مجرد موجة عدوان جديدة" استكمالاً للحرب.
وكم كنت مخطئاً، وإن نجت عائلتي من ليلة ظلماء طالت بعضاً من جيرانٍ جرحى. أثبتت الأسابيع التالية أن أولئك "المتشائلين" الذين خَطوا على طريق الرشيد عائدين شمالاً في نهاية يناير، حُكم عليهم بالعودة لنقطة البداية. لكنها بداية غلفت هذه المرة بغشاءٍ من جهنم أكثر سواداً. فما قبل الهدنة، على وحشيته، ليس كما بعدها. ومسار الحرب وإن بدا في جوانب كثيرةٍ منه استمراراً للنمط الذي ساد قبل الهدنة، إلا أنه عاد متضخماً وكأنه حربٌ جديدة.
بدا لي أن هذه "الحرب الجديدة" بعد الهدنة تسارعت لتنفيذ ما يصفه أستاذ العلوم السياسية اليهودي نورمان فينكلستين، بأنه "الحل الأخير" لغزة، مقتبساً المصطلح من أدبيات المحرقة اليهودية. تصورت أنه مثلما اجتمع راينهارت هادريك، رئيس مكتب أمن الرايخ، مع كبار قادة الجيش الألماني في قصرٍ ببرلين أوائل يناير سنة 1942 لتنسيق جهود الانتهاء من "المسألة اليهودية" بتسريع وتكثيف إبادة اليهود تحت عنوان "الحل الأخير"، يبدو أن نتنياهو وزبانيته وجدوا فرصة مواتية أكثر بعد الهدنة للتخلص من "المسألة الغزّية".
طيلة سنوات مارست إسرائيل على غزة حلولاً جزئية رأتها وقائية. أهمها سياسة "كيسوخ ديشيه" (جزّ العشب)، وتمثلت بسلسلة من العمليات العسكرية على فترات لتقويض أي نمو عسكري محتمل لحركات المقاومة في القطاع. كان هجوم السابع من أكتوبر فرصةً للانتهاء من غزة كلياً بدفع السكان وتكديسهم جنوباً، ولكن اصطدم هذا الجهد مع تصلب مصري ومناخ إقليمي غير مرحب. لذا كان ما بعد الهدنة تغولاً في استكشاف طرق أخرى لتحقيق "الحل الأخير" بالتهجير. وكيف لا، ودونالد ترامب تحدث عن غزة مع بدء انهيار التهدئة باعتبارها "ريفييرا" وعقاراً سياحياً تديره الولايات المتحدة. وهو ما فهمه الإسرائيليون ربما إقراراً أمريكياً يطلق يدهم بلا تحفظ على القطاع وسكانه.
تبين المستوى الجديد والمتضخم من العدوان في هندسة التجويع ومأسستها. وازى هذا ما يمكن تسميته "التجريد المتطرف لإنسانية الغزيين"، وما نتج عنه من تفتت إحساس كثير منهم بذاتهم بشراً. بل وهز علاقة بعضهم بمسلمات اجتماعية صمدت نسبياً في المراحل الأولى من الحرب. وبين التجويع ونزع الإنسانية، تعمق الانقسام الفلسطيني حول فاعلية المقاومة ومعناها. وتضخم في "الحرب الجديدة" فقدان البوصلة للمستقبل، فيما واصلت إسرائيل حرثها القطاع وأهله غير مكترثة للعالم.
لكن لمنير، وتقريباً لكل من أعرفه في غزة، لم يعنِ تفاؤل ويتكوف الكثير في الوقت الذي بدأ سكان القطاع يستشعرون البوادر الأولى لأزمة إنسانية فاتكة، في قلب أزمة طاحنة قائمة أصلاً منذ السابع من أكتوبر 2023. وهذا كله في قطاع محاصر منذ 2007. إذ عادت إسرائيل في الثاني من مارس 2025، قبل استئنافها العدوان بحوالي أسبوعين، لفرض حصارٍ مطلقٍ على القطاع. مُنع كل الطعام وتوقف تماماً قليل الوقود والدواء الذي سُمح بوصوله لما ظل عاملاً من مستشفيات غزة الخمس وثلاثين. ومع دخول الشهر الثاني للحصار "صار الموضوع مخيف"، حسب منير.
اعتقدت أن منير ربما نسي حملات التجويع في مدينة غزة قبل الهدنة، وهو الذي آثر البقاء فيها بعدما نزح عدد كبير من سكانها في نهاية 2023، فأكد لي بأن الأمر هذه المرة مختلف جدّاً. ولكنه أقرّ بمأساوية الوضع قبلاً، وأخبرني أنه فقد أناساً يعرفهم وهم يبحثون عن الطعام. بعضهم قضوا نحبهم في ما بات يعرف بمجزرة دوار النابلسي في 29 فبراير 2024، وهي واحدة من سلسلة "مجازر الطحين". حينها استهدف الجيش الإسرائيلي منتظري شاحنات المساعدات على مدخل مدينة غزة الجنوبي الغربي فأردى منهم أكثر من مئةٍ قتلى.
كان بين ضحايا المجزرة ابن عمّي معتز البالغ سبعة عشر عاماً. اخترقت ظهره رصاصتان، ووجدوه بعد يومين في زقاقٍ قرب مكان الحدث وقد نزف حتى الموت متكئاً على حائط، وقالوا إنه كان محتضناً كيسَ طحين. نُقل جسده لمستشفى الشفاء شبه المدمر واختفى الكيس. ونحبت أمه الجائعة فوق جثمانه تلعن كل الطحين.
أضاف منير: "وشو جديدة يعني؟ طول عمرنا بيجربوا فينا [يقصد إسرائيل]"، ويشير أنه في غزة طورت إسرائيل طيلة عقودٍ هندسةَ الجوع، ومن ثم سهل استخدامها سلاحاً مؤلماً في الحرب الحالية.
فعلياً قبل وبعد انسحاب الجيش الإسرائيلي والمستوطنين من القطاع في 2005 تحت مسمى "خطة فك الارتباط" التي أقرها رئيس الوزراء أرئيل شارون، كان للدوائر الأمنية في تل أبيب معرفة تفصيلية بكمية ما يستهلكه سكان غزة. فهي بالنهاية سلطة الاحتلال التي تتحكم بكل ما يدخل أو يخرج من القطاع وهي التي تحدد طبيعته وكميته. وصل الأمر سنة 2006 أن صرح دوف فايغلاس، المستشار الخاص لرئيس الوزراء إيهود أولمرت حينئذ وقبله لشارون، بأن إسرائيل "تضع الفلسطينيين على حِمية غذائية، ولا تجوّعهم حدّ الموت". وفي وثائق للجيش فرضت المحكمة العليا الإسرائيلية الإفراج عنها سنة 2008، بعد حملة حقوقية قادتها مؤسسة "غيشا" الإسرائيلية لحقوق الإنسان، تبيّن أن إسرائيل على مدى أعوامٍ حسبت عدد السعرات الحرارية التي يحتاجها كل فردٍ غزّي. كان الهدف إبقاء القطاع على حافة الأزمة الإنسانية وما يحمله هذا من سيطرة على مصير السكان، لكن دون الوصول لمستوى المجاعة التي قد تستجلب أزمة علاقات عامة لتل أبيب أمام المجتمع الدولي.
انفلتت هذه الكوابح بعد السابع من أكتوبر، وزادت في انفلاتها بعد الهدنة. ودخل قطاع غزة فعلياً الإرهاصات الأولى للمجاعة. وصف لي منير، وهو أصلاً شاب نحيف، واقع تجربة الجوع بأنها عجز يلتهم الكرامة قبل الجسد. فلا هو قادر على أداء مهامه أباً أو زوجاً بتوفير مستلزمات أسرته، أو الحركة نازحاً من مكان لآخر. وهو الذي "فطفط" (تنقّل) بين أحد عشر مكاناً داخل مدينة غزة منذ أكتوبر 2023، ونجا من الموت مرات أنِفَ عدَّها.
فتحَ لي قميصه في محادثة على الإنترنت ليريني كيف بانت عظام صدره بفعل ما أسماه "الرُجيم الإسرائيلي" (الحمية). بل وطفق يدق على هذه العظام بإيقاع يشبه صوت الطبل. ثم قال وكأنه يحاول التغلب على العجز بالسخرية، "شو رأيك أغنّيلك؟". نسيت هنيهةً أن منير كان يوماً "مطرب الشلة"، وذكّرته ممازحاً أن صوته كان نشازاً ، فقطع حديثي قائلاً "يا ربّ يرجع النشاز… ولا هيك". أومأت برأسي متفقاً، وغيّرنا موضوع الحديث.
بحلول نهاية مايو 2025 كانت صور الأجساد النحيلة والأطفال المنتفخة بطونهم تطرق أبواب وسائل الإعلام العربية والعالمية. فيما كان أغلب الإعلام الإسرائيلي، الذي وجدت نفسي أتابعه على ما فيه من "سمّة بدن" (تعكير مزاج) لإنسانيتنا، إذ ينشغل أكثر بنكران المجاعة واعتبارها "دعاية حمساوية" لشيطنة إسرائيل. أو أتجاهل ما يحدث وأكتفي بنقاش كيف لإسرائيل أن تجابه النقد العالمي المتصاعد ضدها "بشرح موقفها" ( بممارسة "الهاسبارا"، وتعني بالعبرية الشرح)، من غير خوض في علّة هذا النقد أو سبب امتعاض العالم من تل أبيب.
وفيما تماهت أغلب وسائل الإعلام هذه مع رواية الحكومة الإسرائيلية – وهو عادةً ديدن الإعلام العبري زمن الأزمات والحروب حسب ما يملي عليه "مقص الرقيب العسكري" لأغراض الأمن القومي – عززت ثقة غالبية الإسرائيليين بالإعلام الرسمي مناخ الإنكار. فلا مكان منذ السابع من أكتوبر لأخبار قد تُوهن الروح المعنوية أو تخالف صورة المجتمع الإسرائيلي الإيجابية عن نفسه، وهو الذي صار يرى نفسه ناجياً من "أكبر مجزرة بحق الشعب اليهودي منذ المحرقة"، على حد وصف مكتب نتنياهو في نوفمبر 2024.
لأخي الأصغر، وهو أب لطفلين وقد خسر منذئذ ثلاثة عشر كيلوغراماً من وزنه، فإن "الفرجة على الإعلام العبري بالعادة حكي فاضي… شو متوقع تسمع منهم يعني؟". ولكنه بدأ بمتابعة هذا الإعلام بعدما شاع حديث عن إدخال "مساعدات أمريكية لتخفيف الأزمة الإنسانية". كان أخي يستدرك في كل حديث عن المساعدات بأن "الحكي ما بِطعمي ولا بيشبع"، في إشارة لأخبار عن "ضغوط أمريكية" على الحكومة الإسرائيلية لإدخال المساعدات. ينتهي النقاش فيقول، "لعله خير… معقول يتركونا نموت من الجوع؟"، في مشهد متكرر لمواساة الذات.
وجاءت المساعدات من الولايات المتحدة بحلّة إسرائيلية على شكل "مؤسسة غزة الإنسانية"، فأضحت مأساة أضافت لوجع الأمعاء الخاوية ذل الموت بحثاً عن ملئها. وانتزعت من إنسانية الغزيين قطعة أخرى فتّتت ما بقي من إحساس كثير منهم بذواتهم بشراً. فالمؤسسة بحسب منظمات دولية، ومنها أطباء بلا حدود ومنظمة العفو الدولية، عسكرت المساعدات وصُممت بوعي لغرض الإذلال والتجريد من الإنسانية. إذ يجبر الناس على الاختيار بين الجوع أو المخاطرة بحياتهم لتأمين لقيمات قليلة لا يقمن صلباً.
انتهى رصيف بايدن بأسرع مما بدأ، لتفككه مراراً بسبب الطقس وعدم قدرته على الوصول لأغلب السكان، لاسيما في شمال القطاع حيث كان الجوع الأكبر. ناهيك عن تنامي شكوك حول كونه ممراً بحرياً سيستخدم لاحقاً لتهجير الغزيين. كان أيمن يقول لنا حين نزوحه في المواصي: "والله بكرة ليجيبوا إلنا سفن يحملونا فيهم برّى غزة". وبينما لم يستبعد أخي الفكرة، واسى نفسه بأن حمل مئات آلاف الغزيين بحراً عملية تكاد تكون مستحيلة.
غير أن ما غاب عن أيمن وأخي أن فكرة مؤسسة غزة سبقت إنشاء الرصيف. إذ تعود للأسابيع الأولى بعد السابع من أكتوبر 2023، وجاءت بمبادرة إسرائيلية. ولمنير فهذا كافٍ للاعتقاد أن الرصيف العائم كان حلاً انتقالياً لحين تهيئة الظروف "لفرض المؤسسة علينا"، وقد حصل هذا بالفعل بعد انهيار الهدنة ودخول الحرب مرحلة جديدة.
دُشنت مؤسسة غزة رسمياً في فبراير 2025 وبدأت عملها الفعلي على الأرض في 27 مايو. سُوقت حلاً للأزمة الإنسانية، غير أن هذا "الحل" بدا لي وسط ظروف ما بعد الهدنة أقرب لكونه حلقة في سلسلة الإجراءات لتطبيق "الحل الأخير" الذي تحدث عنه فينكلستين. خصوصاً أن المشروع باشر عمله بعد أسبوعين تقريباً من إطلاق الجيش الإسرائيلي عملية "عربات جدعون"، والتي هدفت لاحتلال غالبية القطاع وحشر معظم سكانه في أقل من ربع مساحته.
رُكزت مراكز التوزيع جنوب القطاع و"كأنها فخ لاستدراج السكان"، حسب منير. وبرأيه فإن الاستدراج هذا نموذج مؤسساتي متضخم لما كان يفعله الجنود الإسرائيليون عند اجتياحهم مدينة غزة في أكتوبر ونوفمبر 2023. إذ كانوا يضعون كيس طحين أو معلبات وسط الشارع في منطقة تل الهوى، جنوب غرب المدينة وفيها كان منير نازحاً، ثم يقنصون من يقترب باحثاً عن الطعام.
الهدف الإسرائيلي المعلن للمؤسسة كان "منع حماس من الاستيلاء على المساعدات"، تكراراً للمقولة ذاتها منذ بدء الحرب. وقليل من أهل غزة من قابل هذا الادعاء بجدية. "كأنه حماس من المريخ، وليست جزء من المجتمع، وكأنه الجوعى مش أهلهم"، قالها لي أيمن مستنكراً وإن شجب قادة الحركة "المْكيفين [المنعمين] بالدوحة". وأشار كذلك إلى توظيف إسرائيل وتأمينها عصابات محلية، يحسب بعضها عميلةً للاحتلال مثل مجموعة ياسر أبو شباب في رفح، تنهب المساعدات إثر دخولها للقطاع ولا يصل منها سوى القليل للمحتاجين. مؤكداً أنه تعامل مع بعض هؤلاء "السفلة" لمّا كان نازحاً في مواصي خانيونس. وتمنى أن تنتهي الحرب "مشان نعلق هدول العملاء من إجريهم [أقدامهم]".
رُبطت قضية المساعدات بحماس وربطت حماس بالأمم المتحدة، وبالذات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا". فالمنظمة وفق الادعاء الإسرائيلي حَوَت ولا تزال موظفين تابعين للحركة، ومنهم من ساهم في عملية طوفان الأقصى. ووفق هذا المنطق فالأمم المتحدة متورطة في تجويع الغزيين أو فشلت بإيصال المساعدات ووجب إقصاؤها وتفكيكها. ولا مصادفة، فتفكيك الأونروا كان حلماً إسرائيلياً منذ النكبة، لأن تلاشي المنظمة يعني تهميش قضايا اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة، ويرفع عن إسرائيل عبء تبرير وجودها أخلاقياً على أنقاض شعب آخر ما زال حاضراً. جاء السابع من أكتوبر فرصةً، فطفقت تل أبيب بدعم أمريكي تحيّد الأونروا بإغلاق مكاتبها في القدس وتشيطنها. بل وفي سابقة تاريخية صوّت الكنيست في أكتوبر 2024 على اعتبار المنظمة الأممية مجموعة إرهابية. وكأنهم يختصرون وجودنا نصاً قانونياً وجب شطبه وننتهي بزواله، في مفارقة لاذعة من أناس كانت الأمم المتحدة بالذات مصدراً لتشريع وجودهم دولةً بعدما كانوا شتاتاً في الأرض. وهي السياسة التي كان جدي لجهة أبي يسميها "ولدنة وقلة حيا"، وهو الذي عايش الأونروا وعمل بها عقوداً من أول أيامها بعد طرده من قريته بعد النكبة لغزة سنة 1948.
تلك هي الفترة التي بدأت استشعر فيها أن مفهوم الإبادة استوفى معناه، إذ سبق أن ظننت أن ما يحدث في غزة "جرائم حرب وفظائع شاملة". في جزء من هذا الظن تماهٍ مع وجهة نظر بعض "خبراء قانونيين". وفي جزء آخر لعلّي كنت مدفوعاً بتصورات متحيزة حصرت صورة الإبادة الجماعية نمطياً في أمثلة المحرقة اليهودية ورواندا والبوسنة التي درستها أعواماً، وصعُب أن أتصور أن يحدث هذا في مسقط رأسي. وافقني في منظوري رفيق سفري الرفحاوي حينئذ، ولكنه فسره عاطفياً، بأن الإقرار بالإبادة يحمل في نفسه تفتيتاً مطلقاً لإنسانيتنا وامتهاناً مطلقاً لوجودنا شعباً وهوية، وبأن قتلنا على هذا النحو فيه من العار والعجز أكثر مما فيه من الصمود ومظاهر البطولة. هذا مع أن محكمة الجنايات الدولية كانت أقرت في ديسمبر 2023 بشبهة ارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية في غزة، وتبعت المحكمة بهذا الإقرار عدة منظمات دولية، مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، في ديسمبر 2024.
كان مدخلي لهذا "الإدراك الإبادي" لقطات مروعة في الأسابيع الأولى لمباشرة مؤسسة غزة عملها مع مشاهد انسياب آلاف الجوعى باتجاه مراكز المساعدات في جنوب غزة. صوّرتهم مسيّرات إسرائيلية من أعلى وبثت الصور قنوات عبرية، وظهروا أفواجاً مدفوعين فقط بغريزة البقاء. وعلى الأرض جاء المشهد، منقولاً أحياناً من هواتف الجوعى أنفسهم ومشارَكاً على وسائل التواصل، تعزيزاً لما رصدته المسيّرات من أعلى: أناسٌ جلّهم ملابسهم رثّة، مغبرّة وجوههم، مسودّة وقد حرقتها أشعة الشمس. كأنه قُصد ظهورهم "جنساً بدائياً أدنى". وكأنه تحقيقٌ لوصف وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت الفلسطينيين بأنهم "خيوت أدام" (حيوانات بشرية)، على إثر هجوم السابع من أكتوبر. وكذلك تذكير بأن نزع الإنسانية واحد من العناصر العشرة في التحضير لأي إبادة وتنفيذها، وفقاً لمقياس غريغوري ستانتون، مؤسس منظمة "جينوسايد واتش".
وبتجريد الناس من إنسانيتهم، يصبح تجريدهم من حياتهم أقل وطأة ويقل معه إحساس القاتل بالذنب. لم يتورع الجنود الإسرائيليون عن إطلاق النار على الباحثين عن القوت في نقاط توزيع مؤسسة غزة. مع أنهم لم يشكلوا تهديداً أمنياً للقوات الإسرائيلية أو العاملين في هذه النقاط، حسبما يورد مثلاً توني أغيلار، الذي عمل حارساً في مركز لتوزيع المساعدات في جنوب القطاع، في حوار مطول مع الإعلامي الأمريكي تاكر كارلسون في أغسطس 2025. وكانت النتيجة حسب أرقام الأمم المتحدة أنه بحلول الأول من أغسطس 2025 قُتل 1373 فلسطينياً باحثاً عن المساعدات.
لا تتفق معي صديقتي ميساء (اسم مستعار)، وهي محاضرة في علم النفس في إحدى جامعات بريطانيا، بأن ما بعد الهدنة كان نقلة أكبر في تجريد الغزيين من إنسانيتهم ومرحلة جديدة من الحرب. حجتها أن هذا كان دوماً ديدن إسرائيل في تعاملها مع الفلسطينيين، وأن ظروف ما بعد الهدنة والدعم الأمريكي الذي وصفته بغير المتحرج تحت قيادة ترامب، أطلق يد نتنياهو تقريباً بلا قيود لتنفيذ ما كان مرسوماً أصلاً. طرْح ميساء في مجمله دقيق، ولكن آلية التجويع ومأسستها بعد الهدنة، بدت لي نقلةً نوعية تتجاوز النمط السائد، متماهية مع مبدأ "الحل الأخير".
أذكر أنه في بداية العدوان كانت دعوات الانتقام من غزة الصوت الأعلى في إسرائيل، وامتدت تصريحات التحريض على الإبادة من أعضاء الحكومة حتى وسائل الإعلام. من وزير التراث أميخاي إلياهو الذي دعا لقصف غزة بالنووي، إلى الصحفي تسفي يحزكيلي من قناة "آي 24" العبرية الذي قال أنه كان واجباً على الجيش الإسرائيلي توجيه ضربة لغزة في البداية تقتل مئة ألف فلسطيني.
مع الهدنة وبعدها زادت دعوات وقف الحرب بين فئات من المجتمع الإسرائيلي، ولكن عجلة الإبادة لم تتوقف إنما دخلت مرحلة "التنفيذ البارد". وكأن القتل تحول لما يشبه تعامل الرايخ الثالث مع يهود أوروبا من خلال ما يمكن تسميته "ميكنة الإبادة". حينئذ تحول قتل اليهود مجرد عملية تقنية بلا مشاعر أو أسئلة أخلاقية وغرضه إنهاء "المسألة اليهودية"، وصار كثير من هؤلاء اليهود يقادون لأفران الغاز "مثل الخراف للمذبح"، وهو تعبير عن برودة الجلاد وقلة حيلة الضحية.
و"ذبح الخراف" هو التعبير الذي استخدمه والدي في محاولته منع أخي التوجه لنقطة توزيع لمؤسسة غزة أنشئت في منطقة زيكيم أقصى شمال غزة، وهي المنطقة التي جثمت فوقها مستوطنة زيكيم قبل الانسحاب من القطاع في 2005. نهَر والدي أخي قائلاً بأنه سيذبح مثل الخراف من أجل بعض المعلبات، "كل فاصوليا وعدس وخلّيك بينّا، والله بيفرجها". ذلك اليوم اختفت آثار قريب لنا اسمه أحمد في زيكيم، قبل أن يجدوه بعد ساعات وقد أصيب بعيار ناري في رقبته، إلا أنه نجا. أخبرنا أنه ذهب يائساً يبحث عن طرد غذائي بعدما أمضى عدة أيام يطعم أطفاله ماءً وملحاً، وعاد خاوي الوفاض.
يتفق إسلام من غزة، وهو باحث في مركز التخطيط الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير، بأن ما بعد الهدنة ليس كما قبله في مسار الحرب، وإن تشابهت المرحلتان من أوجه كثيرة. ويقول إن هدف مؤسسة غزة كان إعادة تشكيل البنية الاجتماعية بتفكيك إنسانية أفرادها وحصرهم في قفص الغريزة، وبهذا يدفعون للصراع فيما بينهم. ونقل إسلام لي مشاهدات عينية عن اشتباكات بين جيران وأقارب على الطرود الغذائية. وسرد أمثلة عن التفكك الاجتماعي، في مجتمع متماسك تقليدياً. من الأمثلة ترك أطفال جوعى ساعات طويلة بعد أن قُتل معيلوهم عند نقاط التوزيع. وفي حالات أخرى تخلى البعض عن كبار السن أو المصابين أثناء التدافع للوصول للمساعدات. وهو ما يراه إسلام ترسيخاً لنمط تعمق في شهور الجوع بأن النجاة مرهونة بالتخلي عن القيم الجمعية لمصلحة البقاء الفردي.
حكى لي إسلام قصة نسيبه محمود، الذي كاد يفقد حياته محاولاً الحصول على طرد غذائي. انتظر محمود فجراً بالقرب من نقطة توزيع في منطقة الشاكوش، جنوب غرب رفح في يونيو 2025، واحداً بين آلاف جميعهم جوعى، وجوههم مصفرة وعيونهم غائرة. كان خوفه الأكبر نظرة أطفاله إذا ما عاد للخيمة خالي اليدين. وكلما اقترب من نقطة التوزيع زاد الخوف، وتعمق مع نظرات الجنود الإسرائيليين لهم من فوق "تبة" (مكان مرتفع). تجمع الناس على مدخل نقطة التوزيع بانتظار الإشارة لهم بالتقدم، ثم بدؤوا الجري تجاه الصناديق المكدسة، في سباق بقاء أشبه بالمسلسل الكوري "لعبة الحبار". وقبل بلوغ محمود الصناديق اخترق أزيز الرصاص الفضاء. يقول إن الناس حوله تهاووا واحداً تلو آخر، ثم انتهى كل شيء. صحا في مستشفى الصليب الميداني في مواصي خانيونس وقد فقد الشعور بقدمه، ليكتشف أن عياراً نارياً فتّت ثلاث فقرات في ظهره.
كان شعور الإهانة ألماً من نوع آخر عند محمود. "الجوع سرق مني كرامتي قبل ما يسرق قوتي. صرت أحس إني أقل من إنسان". وعن الشعور ذاته حدثني الكاتب الغزي محمود عساف، وهو الذي كاد أن يبيع مكتبته ورقاً يُشعل للطبخ مقابل بعض المال ليطعم أطفاله. قال إن الجوع يجعل الفرد يشعر بأنه "أقل من حيوان، في عالم يتغنى بالرفق بالحيوان".
أعادتني تلك الكلمات إلى تقرير بثته قناة "كان" العبرية في يونيو 2025، وتحدث عن إنقاذ الجيش الإسرائيلي عشرات الحمير من غزة، التي قالوا "عذبها الفلسطينيون". نقل الجيش الحمير – واتهمه بسرقتها الفلسطينيون الذين اعتمدوا عليها في نزوحهم – إلى قرية زراعية وسط إسرائيل لإعادة تأهيلها. عرض التقرير صاحبة المزرعة وهي تعانق الحمير وتذرف الدموع على ما ألمّ بهذه المخلوقات. فيما تلوّى مليوني غزي جوعاً ولم يجدوا في الإعلام الإسرائيلي الذي "حن قلبه على الحمير" سوى النكران أو التجاهل.
لذا تعتقد ميساء، والتي شاركتُ معها التقرير وكادت أن تتقيأ على إثره، أن كثيراً من الإسرائيليين لن يقتنعوا بامتلاك الفلسطيني إنسانية مثلهم. والمفارقة أن التجريد من الإنسانية الذي تصاعد تطرفاً بعد الهدنة قد يستمر بتعزيز نزعة إسرائيل للنظر للفلسطينيين بفوقية ويشجعها أن تصبح أكثر فجاجةً مع دخول الحرب عامها الثالث. وتردف ميساء "الله يستر من يللي جاي". فكلما جُوع الفلسطينيون، كلما زاد يأسهم واختُزلت حاجتهم مأكلاً ومشرباً. وكلما زاد هذا، ظهروا أقل تحضراً، ومن ثم أقل قيمةً بشرية، وسَهُلَ تبرير التنكيل بهم.
اتفقنا أنه ربما من سوء حظ الفلسطيني أنه من جهة يتعامل معه الإسرائيلي باستعلاء المستعمر تجاه الشعب الأصلي. ومن جهة أخرى ينظر هذا المستعمر لنفسه ضحية، ومن ورائه تاريخ وصفه المؤرخ اليهودي سالو بارون في مقالته سنة 1928 "غيتو آند إيمانسيبيشن" (الغيتو والتحرر) بأنه "بُكائي". فاليهودي هنا ضحية الشتات ومعاداة السامية طيلة ألفي عام. وأن يعيش المرء دوماً دور الضحية يعني أن تتهاوى قدرته على التعاطف مع الآخرين، ويتعمق لديه شعور نرجسي بالاستحقاق. فلا ضحية غيره بنظره وكل أفعاله مبررة، والاعتراض على أي من هذه الأفعال يراه اعتداءً ظالماً. لذا ينظر كثير من الإسرائيليين لنفسهم بأنهم ضحية الفلسطيني الذي يحتلوه. ويرون أن عشرين أسيراً في غزة أهم من عشرات الآلاف من البشر قتلهم جيشهم هناك. ووقف الحرب بالنسبة لهم "صفقة رهائن" يستعيدون بها أبناءهم، والمأساة في غزة شيء ثانوي.
تردف ميساء: "يعني ما نستغرب إنو الحمير عندهم [عند الإسرائيليين] بني آدمين أكثر منا"، وقد أغلقت فيديو قناة "كان" وتبعته بتنهيدة.
"نعم، كثير من الناس ما بيهمها غير نفسها صارت… كأننا يوم الحشر"، هكذا قال أيمن. وأضاف "في ناس كمان مبسوطة ومستفيدة من الوضع"، وعنى بالأخص اللصوص الذين امتهنوا سرقة الممتلكات من بيوت نزح أهلها. وذكّرني كيف وجد في الأسابيع الأولى للمجاعة جزءاً من أثاث بيته معروضاً للبيع في جباليا النزلة شمال غزة. تعرّف عليه من بعض ملصقات وضعتها إحدى بناته على قطعة منه قبل سنوات. يعتقد أيمن أن "الحرامي" انتشل ما نجا من أثاث بيته وقت نزوحه في المواصي، ولكن في تقليبه المعروض لم يجادل، لم يسأل ولم يطلب استرداد حقه، "ما عادت تفرق… أنا أصلاً حاسس حالي ميت".
"والله بجدّ ما عادت تفرق"، هذه العبارة ألقاها والدي علي عندما سألته عن وضعه الصحي ونقصان وزنه. وكان حينئذ يحزم الحقائب على وقع تهديدات إسرائيلية في أغسطس 2025 باجتياح مدينة غزة ضمن ما أسمته حكومة نتنياهو عملية "جدعون 2". علّق والدي: "لو يضربونا نووي ويريحونا من هالعيشة بيكونوا عملوا فينا معروف… إحنا موتى بس ما اندفنّا". في الخلفية أسمع والدتي، وقد اختلط صوتها بطنين المسيّرات التي لا تنقطع عن سماء غزة، تطلب منه أن يخبرني بأن "أمير استشهد من يومين". أسأل: "أي أمير فيهم؟". فيردّ: "الشاب إللي كان يجي عليك في البيت. مات هو وأولاده… ضربتهم مُسيّرة وهم نايمين في الخيمة".
ساد الصمت للحظة وغاب عني أن أسأل أين قُتل أمير وإذا ما نجا أحد من عائلته. ثم تغير الموضوع للحديث عن قريب لنا في مخيم الشاطئ قضى نحبه هو الآخر في قصف، قبل أمير ببضع أيام. لم يجدوا جسده، قالوا تفتت وقالوا أيضاً ما زال تحت الركام ولا وصول له مع شبه غياب لمعدات الحفر والتنقيب في القطاع. سرعان ما انتقل الحديث لموضوع ثالث عن فرص وقف إطلاق النار، ورابع عن المساعدات والجوع، وكأن أمير وقريبنا خبران عابران لم يعنيا شيئاً.
ما ظهر لامبالاة هو وسيلة للانفصال عن الواقع. وأخبرني إسلام ومنير أنهما رصداها أكثر منذ اشتد الجوع بعد دخول الحرب مرحلة جديدة. تشبه هذه الحالة ما يعرف في أدبيات المحرقة باسم متلازمة "موزِلمان". شاع المصطلح بين مساجين معسكرات الاعتقالات النازية الذين عانوا من ثلاثية الجوع والإرهاق والتسليم بأنهم سيموتون قريباً. تجلى ذلك لامبالاة مفرطة في نظرة المعتقل لذاته ولجسده ومصيره وعلاقته بالآخرين. وفي أدبيات علم النفس التحليلي تُفسر الظاهرة في إطار ما يسمى "اللامبالاة بالجسد"، وهي حيلة دفاعية لمن يعايش الصدمة الشديدة أو التعذيب، تساعده على الانفصال نفسياً عن جسده المعذب وكأنه ليس ملكاً له. محاولة للتأقلم مع الشعور الغامر بالعجز والألم. وهو ما يفسر عبارة "يضربونا نووي ونرتاح"، وكأن في الموت نجاة من عذاب الجسد المجوع والمرهق.
يصاحب ذلك استنزاف عاطفي لعلاقة المرء بالآخرين، فيصبح موت بعضهم مجرد عرض أو حادث عابر. لا مساحة ذهنية كافية وسط هذا الاستنزاف وكمية القتل المهولة للتعاطي مع كل ضحية. وما فتئ والدي يقول كلما جاء خبر مقتل أحد عرفناه، وهم كثر، " الله يرحمهم، الواحد ما عاد يعدّ… بكرا بس تخلص الحرب بنعمل جرد وبنشوف مين ضايل عايش". ومثل كلّ مرة تقريباً، ينتقل الحديث بعد الترحم والرثاء المستعجل لموضوع آخر. وفي كل مرة كان يعود السؤال لي فيما إذا كنت متواطئاً في اللامبالاة، أم متهرباً من شعور أكثر حدة وهو العجز. ثم يأتي الاستدراك ولربما المواساة، "إللي يقرّه وبحسّه أهل غزة بيمشي، وما في مرجع غيره… ومن أكون أنا لأقرر ما يشعر به من هم في قلب الإبادة؟".
وعن هذه اللامبالاة يعطيني أخي مثالاً، وعنده من الأمثلة الكثير. إذ ذهب لتكية بعد أن منعه والدي من التوجه لنقطة توزيع مؤسسة غزة في زيكيم، وكان بجانبه رجل خمسيني. ووسط التدافع والتشاحن، كلٌ يحاول ملء إناءه ببعض أرز وصفه أخي بأنه "معمول للحيوانات"، التقط هذا الرجل الهاتف: "هلا، كيفكم؟ لا حول ولا قوة إلا بالله… يا عمي هذا شهيد بيندفن بأواعيه [ملابسه]". أغلق الهاتف ووضعه في جيبه. سأله أخي "في شي؟". ردّ: "هذا بس جارنا استشهد قبل شوية وبيسألوني إذا في عنا حرامات [بطانيات] زيادة يكفنوه فيها". ثم أكمل التدافع وكأن ما كان لم يكن.
تشابهت نظرة عساف، وهو الذي قال لي عبر تطبيق "مسنجر" في الوقت الذي بدأت فيه إسرائيل تحرك دباباتها تجاه مدينة غزة في بداية سبتمبر 2025، إن الحرب مع استكمال عامها الثاني شوشت مستوى انتماء كثير من الناس ونظرتهم للقضية، وأنها كوت الوعي بالمقاومة. وصل الأمر حد قبول الناس أي حلول، طالما يعيد لهم هذا جزءاً من إنسانيتهم. وهو ربما ما يفسر عدم تحرج البعض من مطالبة حماس بتسليم الأسرى الإسرائيليين لديها.
هي الدعوة التي أسمعني إياها يانس بعدما صار نازحاً مرة أخرى، إذ هرب من الدبابات الإسرائيلية التي دخلت منطقة العطاطرة شمال غرب مدينة غزة منتصف سبتمبر. قال حينئذ: "أعطوهم أسراهم… اسحبوا من نتنياهو كل الذرائع قبل ما يدمروا كل غزة مثل رفح وبيت حانون". ثم أرسل لي صورة عبر واتساب لما استطاع حمله من بطانيات وفرش توسطت الشارع واعتلاها التراب، بينما جلس بالقرب منه طفليه وأطفال أخيه يوسف الثلاثة. تلا ذلك رسالة "دخيل الله حد يساعدنا…"، ولا مجيب سوى شعور غائر بالعجز، بل ربما شعور أغور بالخيانة كما كان يقول مرافق سفري الرفحاوي.
دعوة تُفسر إحباطاً، وفيها رغبة يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد تدمير حوالي 80 بالمئة من الفضاء المدني والبنية التحتية في غزة وتشريد 90 بالمئة من السكان، وبعدما طال الموت مباشرةً أو بشكل غير مباشر كل عائلة في القطاع بعدد قتلى تجاوز خمسة وستين ألفاً. ولكنها تبدو واقعية في نظرتها لنهج نتنياهو منذ بداية الحرب. فانتهاء ملف الأسرى كان ليزيل عن كاهل رئيس الوزراء عبئاً طالما قاومه قد يدفعه تجاه "صفقة رهائن" على حساب منصبه. ولعائلات الأسرى الإسرائيليين الذين تظاهروا طيلة شهور في تل أبيب ونتانيا والقدس الغربية مطالبين الحكومة بعقد "صفقة" مع حماس، ترسخت قناعة أن نتنياهو هو العقبة أمام تحرير أبنائهم. وقراره احتلال مدينة غزة بنظرهم كان حُكم إعدام على هؤلاء.
تدرك حماس أن نتنياهو كان "يريد التخلص من ملف الأسرى"، حسب ما صرح مثلاً القيادي في الحركة أسامة حمدان في نهاية سبتمبر 2025، إلا أن الغزيين الذين تحدثت معهم نظروا بشك لترجمة هذا الفهم على الأرض. يقول يانس إن قيادة حماس في الخارج منفصلة عن الواقع. ويعتقد منير أن "إيديها في المية الباردة، وإحنا في المحرقة". ويرى إسلام أن التمسك بالأسرى ما كان ليغير الكثير على الأرض، "مراهنة من مراهنات سيئة".
تحدثت مع إسلام مطولاً عن هذه "المراهنات" التي ارتكزت عليها قيادة حماس منذ "الطوفان" في السابع من أكتوبر ، بالإضافة لملف الأسرى. ومنها تعويل الحركة على حساسية الشارع الإسرائيلي تجاه خسائر الجيش البشرية للضغط على الحكومة لإنهاء الحرب. مثلما حدث مع حركة أمهات الجنود في لبنان التي تشكلت في سنة 1997 وساهمت بدفع رئيس الوزراء إيهود باراك للانسحاب من جنوب لبنان في مايو سنة 2000. إنما اليوم حتى مع تصاعد ضغط الشارع الإسرائيلي لإيقاف الحرب ووصول نسبة المطالبين بصفقة و"إعادة المختطفين" ثلثي السكان، لم يتزحزح نتنياهو عن موقفه من "استكمال أهداف الحرب".
اعتقدنا كذلك أن الحركة عولت على عدم قدرة إسرائيل على خوض حرب طويلة، من واقع تجارب حروب إسرائيل السابقة مع الدول العربية وحملاتها العسكرية في غزة منذ 2008. ولكن انتهى الأمر بأن صار السابع من أكتوبر أطول حروب إسرائيل. بل أنها توسعت في عملياتها على عدة جبهات، من لبنان لسوريا لليمن، وأخيراً إيران.
لهذا يشجب صديقي جهاد "رهانات حماس غير الواقعية"، وقد بات الآن في خيمة بالية في دير البلح بعد بدء اجتياح مدينة غزة، وهو الذي عمل قبل الحرب باحثاً في دائرة الأمن القومي لدى مركز التخطيط الفلسطيني. يرى أن "الحركة منذ تأسيسها سنة 1987 لم تكن يوماً وطنيةً خالصة، بل بديلاً لمنظمة التحرير بدعم من الاحتلال". ويجادل أن عملية "طوفان الأقصى" كانت أكثر من سوء تقدير، لأنها مدت لنتنياهو حبل أمان في وقت كان فيه المجتمع الإسرائيلي على وشك الانقلاب على نفسه بسبب التعديلات القضائية التي كان رئيس الوزراء بدأ يطبقها مطلع 2023. وهي التي احتج ضدها كثير من الإسرائيليين إذ يعدّونها إنقلاباً على الديمقراطية وتركيزاً للسلطات في يد نتنياهو وحكومته اليمينية.
في المقابل، تساءلت مثل غزيين كثر عن البديل. ماذا لو كانت حماس سلمت الأسرى مع تصاعد التجويع، هل كانت لتتوقف إسرائيل؟ هل كانت رهانات الحركة كما يقول جهاد غير واقعية؟
فمن وجه، هناك حجة نزع الذرائع من إسرائيل بالتخلص من ملف الأسرى، على ما يحمله هذا تعزيز أخلاقية الموقف الفلسطيني. ومن وجه آخر، تجربتنا مع إسرائيل طيلة عقود تلقي بالشك على هذه الحجة. وفي محاولة اغتيال وفد حماس المفاوض في الدوحة في التاسع من سبتمبر 2025 مثال صارخ. لذا اعتقد منير، وإن أبدى امتعاضاً متكرراً من قيادة حماس، أن الإجابة لم تكن يوماً مطلقة، أبيض أو أسود. ولكنه كان حاسماً بقوله "ما بنقدر نمنع الميركافا تدخل، بس من غير السلاح لكانوا ذبحونا بالسكاكين مثل صبرا وشاتيلا". في إشارة لخروج فدائيي منظمة التحرير من لبنان سنة 1982 ومن ثم استفراد حزب الكتائب اللبناني، بغطاء إسرائيلي، بسكان مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين بعد أن أضحوا بلا حماية. قتلت الكتائب من العُزل حينئذ الآلاف بالرصاص والسلاح الأبيض.
في قلب غبار الإبادة وصيحات الجوع واليأس والتطرف في نزع الإنسانية، يظل صعباً رسم صورة دقيقة للمشهد المقاوم. خصوصاً وأن هناك نقطة عمياء في تغطية الإبادة، وأن جزءاً لا يستهان به من أهل القطاع يفتقدون الوسائل اللازمة للتواصل مع العالم الخارجي، ويشق استقصاء آرائهم موضوعياً. هذا ما أحاله لي زميلي عبد الهادي، الباحث في العلوم السياسية، وهو كما أنا غزّي يعيش جسداً في أوروبا وعائلةً وقلباً وسط الإبادة. وكلانا على هوى أغلب الغزيين، ننظر للمستقبل بتوجس ونحذر أن نأمل، في وقت يبدو لنا كل جهد للخلاص بعد عامين من المقتلة همساً لا يؤمن جانبه.
ولا عجب، فأغلب ما كان قائماً قبل السابع من أكتوبر من مسلّمات أو تصورات عن غزة وفلسطين وإسرائيل والعالم تساقط تباعاً بعده، محدثاً ما يشبه الإرباك الجمعي. وما نتج خلال عامين في مسار الحرب، لاسيما بعد انهيار هدنة يناير، من تسارع في الأحداث وتداخل في المسارات جعل من المستقبل أكثر ضبابية، وبالتالي استشرافه مغامرة غير مضمونة.
ومع ذلك، مع استيفاء الحرب عامها الثاني، يبدو لي أن هناك مسارين متوازيين تشكلا قد يحكمان مستقبل غزة. وإن لم يكن ثمة ضمان لمآلاتهما، لكن هناك على الأقل حركة، وفي "الحركة بركة"، مثلما اعتاد والدي أن يقول كلما صار حديث عن تهدئة. المسار الأول دخول إسرائيل ما أراه متلازمة "الدولة المجنونة". والثاني تنامي الدعم العالمي للفلسطينيين. يتقاطع المساران ويجمعهما علاقة سببية.
في المسار الأول، حدث انزلاق جذري في البنية العقدية والأمنية في إسرائيل بعد أكتوبر 2023، نتج عنه تصرفات إسرائيلية منفلتة العقال. وتعمق هذا الانفلات مرحلةً جديدة في الحرب بعد انهيار الهدنة في مارس 2025. ومن هنا عاد الحديث عن نظرية "الدولة المجنونة"، التي صاغها أستاذ العلوم السياسية الإسرائيلي يحسكيل دور في كتاب يحمل عنوانه نفس العبارة "كريزي ستيت" سنة 1980. وللمفارقة، في صياغته للمصطلح كان في عين الكاتب الدول العربية والجماعات المعادية لإسرائيل في المنطقة، موحياً أنها غير عقلانية بعدائها للدولة العبرية.
اليوم تبين جنون الدولة الإسرائيلية، حسب أستاذ العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا إيان لسَتيك، في عدة مظاهر. أهمها سلوك عدائي في تحقيق الأهداف والتزام متطرف تجاهها. واستخدام التهديد والوعيد والابتزاز سياسة دولة. والشعور بالتفوق الأخلاقي والنظر لمعارضة أفعال إسرائيل انحطاطاً أخلاقياً، كموقفها المعادي للأمم المتحدة. كذلك إضفاء المنطقية على العدوان تحت مسميات تكتيكية وإستراتيجية. مثل ذلك الهجوم على إيران لإجهاض مشروعها النووي على ما كان في الخطوة من مخاطرة اشتعال إقليمي. وهناك مظهر آخر أراه تبلور تطرفاً بعد نهاية الهدنة في مارس 2025، وأسميه "غياب التبرير". لم يتورع نتنياهو مثلاً عن الحديث عن تماهيه مع فكرة إسرائيل الكبرى، على اختلاف التفسيرات عن ماهيتها، رغم عقود من إنكار دوائر القرار الرسمية هذا الطرح بوصفه نظرية مؤامرة.
وأمام هذا الجنوح للجنون، تبلور مسار موازٍ من ردات فعل إقليمية ودولية معارضة. وتكثفت مع تعمق التجويع بعد الهدنة الثانية مقاطعات اقتصادية وأكاديمية وفنية، وسلسلة اعترافات بالدولة الفلسطينية مع اقتراب الحرب من إكمال عامها الثاني. لكن عزلة إسرائيل وضعت حكومتها في موقف دفاعي وتُرجمت ردود أفعال ممعنة أكثر بانتهاك حقوق الفلسطينيين، مثل التهديد بضم الضفة، والوعيد باتخاذ إجراءات مضادة تجاه الدول التي لا تتبنى الرواية الإسرائيلية. منها دول حليفة تاريخياً لإسرائيل، مثل بريطانيا. وهو ما أدخل تل أبيب في حلقة من ردات الفعل التي قد توصف بالانفعالية، عززت عزلتها.
لهذا كتب المحلل السياسي في موقع والا العبري، نير كيفنس، في سبتمبر 2025 مثلاً أن أخطاء نتنياهو وفشل حكومته أقاموا دولة فلسطينية بالخطأ، في إشارة إلى "تسونامي" الاعترافات بفلسطين. وكأن الأمر تمثيل لما قاله فريدريك ويليم دي كليرك، آخر رئيس أبيض لجنوب إفريقيا في كتاب سيرته الذاتية، وبعض فحواه أن ليس الضغط الدولي هو الذي أسقط نظام الفصل العنصري، بل الأخطاء التي ارتكبتها حكومته في تعاطيها مع هذا الضغط.
من هنا فإن مستقبل غزة بعد عامين من الإبادة قد يكون نتاج تفاعل هذين المسارين ومن منهما سيطغى في النهاية، وهذا يحتمل اتجاهين. استمرار البطش الإسرائيلي ومغالاة أكثر في حالة "الدولة المجنونة". ويعني ذلك تصعيد مسار التجويع والتجريد من الإنسانية، والأهم دفع السكان بعد تدمير مدينة غزة جنوباً بنيّة التهجير. وهو ما قد يضع إسرائيل في مواجهة مع مصر. أما الاتجاه الثاني، هو أن تأخذ إسرائيل خطوة للخلف درءاً لعزلة دولية أشد ترهقها داخلياً. وهو الأمر الذي قد تكون إدارة ترامب فهمته وحاولت تفاديه برسم خطة الواحد وعشرين نقطة في 29 سبتمبر 2025 لإنهاء حرب غزة، ربما ضمن جهود أمريكية لإنقاذ إسرائيل من نفسها، كما يرى أرييل كهانا مراسل صحيفة "يسرائيل هيوم" في البيت الأبيض. ليس هذا فحسب، بل فرض "الحل" على حماس وتحميلها مسؤولية استمرار المعاناة في غزة إن رفضت الخطة.
وما زلت أتساءل عن ثمن نهاية الإبادة، عن استرداد الغزيين شعورهم بإنسانيتهم، وأن يعود إحساسهم بالحياة أقوى من اللامبالاة تجاه الموت. سألت ولم أجد من يملك الإجابة. ولكن قد يتفق الغالبية منا، كما كان حال هدنة يناير، وهو أن يأتي الحل من "الجن الأزرق" لهو خير وأبقى. ولليوم التالي بعد وقف الدم حديث آخر.
"يحلونا… أو يضربونا نووي"، أعاد عليّ والدي العبارة أياماً قلائل قبل الذكرى الثانية للطوفان.
