من كريت إلى مصوع.. سيرة جندي مصري في زمن الخديوية

ترقّى حسن أفندي سلّم الجندية حتى وصل رتبةَ ملازم أول، في فترةٍ شهدت فيها مصر تحولاتٍ سريعة وحروبٍ على عدة جبهات في النصف الأخير من القرن التاسع عشر.

Share
من كريت إلى مصوع.. سيرة جندي مصري في زمن الخديوية
تحكي مكاتبات حسن أفندي صفحةً من تاريخ مصر | تصميم خاص بالفِراتْس

في إحدى ليالي رمضان سنة 2024 عَرض عليّ بائع كتبٍ قديمةٍ ملفاً يتضمن مكاتبات رسمية لمجند في الجيش المصري تعود إلى سنة 1884. في الوهلة الأولى، لم تلفت أوراق الملف اهتمامي. لكن لمحة عابرة لاسم صاحب الملف أجبرتني على اقتنائه فوراً. هنا أدركت ما نقوله عن "محاسن الصدف". فقد كان صاحب الملف جدّ جدّي، أي جدّي الثالث، حسن أفندي بن حسين أبو شنب بن عبد الرحمن نزيل قرية القطا شمال الجيزة. هكذا بعد مئة وأربعين عاماً نلتقي، الجدّ والحفيد، وإن كان اللقاء على ورق.

يحمل الملف اسم "أوراق ربط معاش حسن أفندي عبد الرحمن ملازم أول المرفوت من أورطة مصوع"، وهو مكوّن من اثنتي عشرة مكاتبة، ومؤرَخ بشهر ديسمبر 1884 "معاشات عسكرية". تنطلق المكاتبات بدايةً من طلب حسن أفندي حسين عبد الرحمن (اختصر اسمه في المكاتبات الرسمية إلى حسن أفندي عبد الرحمن) الخروج من العسكرية بسبب "جملة أمراض" تمنعه من تأدية الخدمة. ثم مكاتبات نظارة المالية (وزارة المالية فيما بعد) لحساب إجمالي فترة خدمة حسن أفندي لتحديد قيمة المعاش المستحق.

تحكي المكاتبات، بعيداً عن ما تمثله لي من إرثٍ عائليّ مستعاد، صفحةً من تاريخ مصر. وتملأ مساحاتٍ لم يدوّنها التاريخ الرسمي، وتكشف أيضاً عمل المخيال الجمعي لسدِّ فراغات التاريخ المجهول بسبب غياب الأرشيفات العائلية. صعد حسن أفندي سلّم الجندية من أدنى درجة حتى وصل إلى رتبة ملازم أول. فشهد فترةَ تحولاتٍ سريعةٍ وكثيرةٍ وحروباً عاشتها مصر في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، بدءاً من حكم سعيد باشا، الابن الرابع لمحمد علي باشا، مروراً بحكم الخديوي إسماعيل ثم حكم ابنه الخديوي توفيق وانتهاءً بالاحتلال البريطاني مصر. ومع أن الوثائق لا تصرّح بإنجازات حسن أفندي، إلا أن ما بين السطور وما يمكن ربطه من وقائع في تاريخ مصر يخبرنا الكثير عن مسيرة حسن أفندي وعشرات الآلاف من الجنود المصريين في فترةٍ تميّزت بنشاط مصر العسكري. وفيها نلقي الضوء على حياة أحد الفلاحين المصريين في إطلالةٍ على استخدام الفلاح المصري آلياتٍ وفّرتها الدولة لتحقيق ارتقاءٍ طبقي اجتماعي.


مع أن أوراق خروج حسن أفندي من الجيش وتسوية معاشه تنتمي إلى فترةٍ تميّزت بالحداثة والتحديث، إلا أن رواية دخوله الجيش دائماً ما يصاحبها استدعاء أساطير ومرويات شعبية. وُلد حسن أفندي في قرية القطا، التابعة حالياً لمركز منشأة القناطر في محافظة الجيزة. ويتداول الأهالي قصة حسين أبو شنب، والد حسن أفندي. فقد كان حسين أبو شنب بطلاً شعبياً أنقذ أهالي القرية من المجاعة بالاستيلاء على المراكب المحمّلة بالغلّة لدى مرورها في فرع رشيد الذي تطلّ عليه القطا.

لم يكن صاحب هذه المراكب إلا الخديوي إسماعيل. وقد أثار غضب "أفندينا" تجرّؤ أحد الفلاحين على ما يملك، فأمر بالبحث عن "المجرم". بدأ حسين أبو شنب على الأثر تغريبة بين قرى الدلتا حتى وصل إلى قرية أبو الغيط بالقليوبية، وهناك تزوج من امرأة عُرفت باسم آمنة الغيطية. بعد فترةٍ غير معلومة، قرّر حسين إنهاء التغريبة وحياة الهرب وذهب إلى القاهرة ليسلّم نفسه لأفندينا. لكنه تعمَّد أن يتلثمَّ ثم طلب الأمان الشخصي، مقابل أن يدلّ الحاكم على مكان طريده حسين أبو شنب. وبالفعل، كشف هويته بعدما حصل على أمان الخديوي. وهنا أُعجب الأخير بجرأة الفلاح حسين وشجاعته والحيلة التي حصل بها على أمانه، فأمر بمنحه قطعة أرضٍ في قرية القطا، واستجاب لطلب الفلاح المصري بإلحاق ابنه بالجهادية.

وهكذا دخل حسن أفندي الجيش من باب الأسْطَرَة التي حاولت سدّ بعض ثغرات التاريخ بعدما غابت الوقائع في بحر النسيان وسقطت من الذاكرة. فانضمام حسن أفندي إلى العسكرية وترقّيه إلى رتبٍ أعلى حقيقة، وزواج والده امرأة من قرية أبو الغيط واقعٌ تثبته علاقات نسبٍ ممتدة بين القطا وأبو الغيط حتى اليوم. لكن أين ينتهي التاريخ وأين تبدأ الأسطورة في هذه القصة التي مازال أحفاد حسين أبو شنب يتداولونها؟


التاريخ يحتفظ بواقعة شبيهة لتغريبة عائلة حسن أفندي عن قرية القطا ودخوله الجيش، وتعود القصة تحديداً إلى فترة الاحتلال الفرنسي من 1798 إلى 1801. ففي أثناء ثورة المصريين ضد الاحتلال الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت، دأب رجال المقاومة بقرية القطا على مهاجمة السفن الفرنسية في فرع رشيد في النيل، وهددوا الملاحة مع غيرهم من أبناء القرى بين القاهرة وشمال الدلتا. ويروي المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم" الصادر سنة 1929، اعتماداً على أرشيف الحملة الفرنسية، كيف انتقم نابليون من القطا أشدَّ انتقام.

يروي الرافعي أنه في أكتوبر 1798، وبينما تكافح قوات الفرنسيين لإخماد ثورة القاهرة الأولى التي قادها الأزهر وشيوخه ضدهم، أمر نابليون الجنرال "لان" التقدّم على رأس كتيبةٍ إلى قرية القطا واعتقال عدد من زعمائها والاحتفاظ بهم رهائن. توجَّه لان بعدها إلى قريتَي النجيلة وكفر غرين (على فرع رشيد في محافظة البحيرة) وفعل بهما الأمر نفسه. وذلك بعد اتهام عناصر من القرى الثلاث بإطلاق النار على السفن الفرنسية الجارية في النيل، وتهديد الملاحة بين القاهرة وشمال الدلتا. وفي الثالث من نوفمبر من السنة ذاتها، هاجم الجنرال لان بقوةٍ قوامها أربعمئة جندي قرية القطا التي تصدّت للمحتل إلى حين، ثم أحرق القرية وأَجبر أهلها على مغادرتها.

ربما من هنا نمتْ البذرة الأولى للحكاية الشعبية التي أصبحت مروية عائلة الحساينة، نسبة إلى حسين أبو شنب، بكلّ فروعها. ففي أثناء تغريبة أهالي القرية، تزوج حسين أبو شنب في قرية أبو الغيط وترك ابنه حسن ليتعلم هناك، إذ لم يكن في قرية القطا مدرسة. وبعد أن أتقن الطفل حسن الكتابة والقراءة، انفتحت أمامه أبواب الوظائف في لحظةِ تحوّلٍ مهمة في تاريخ مصر.


من مكاتبات حسن أفندي نعرف أنه التحق بالخدمة العسكرية في ديوان الجهادية سنة 1859، لذا نفترض أنه ولد حوالي سنة 1840. في هذا الوقت كانت مصر تشهد تطوراً في الجيش، إذ دخلت البلاد طرفاً في حرب القرم بين روسيا والدولة العثمانية من 1853 إلى 1856. وكانت الحرب قد اندلعت بسبب أطماع روسيا في جزيرة القرم التي خضعت حينها لسلطة الباب العالي العثماني. أرسل سعيد باشا قواته إلى ساحة الحرب لأن مصر جزء من الإمبراطورية العثمانية، ودخلت بريطانيا وفرنسا الحرب ضد روسيا القيصرية.

كذلك أرسل سعيد باشا فرقة من الجيش المصري سودانية العناصر إلى المكسيك رسالةَ دعمٍ لإمبراطور فرنسا، نابليون الثالث، الذي دعم إمبراطور المكسيك أمام الثورة الشعبية ضده. وقد شاركت "الأورطة" (الكتيبة) المصرية في الحرب بين سنتَي 1863 و1867. كذلك تميّز عصر سعيد باشا بالعمل على تأكيد الإدارة المصرية في السودان. وحسب ما جاء في كتاب الرافعي "عصر إسماعيل" الصادر سنة 1948، فقد زار السودان في يناير 1857 وسبقه أخوه الأمير عبد الحليم باشا للتفتيش على إدارة السودان.

هذا التطور الذي أحدثه سعيد باشا في الجيش والإدارة المصرية للسودان زاد الحاجة للعناصر البشرية، خصوصاً من الفلاحين المصريين، مثلما اعتمد محمد علي باشا عليهم في بناء الجيش الحديث. عمّم سعيد باشا العمل بالخدمة العسكرية وجعَلها سنةً واحدةً، وأمر بتوفير حياة وملبس ومأكل جيّد للمجندين الشباب وحرص على ترقية الضباط المصريين لرتبٍ كانت في السابق حكراً على الأتراك والشركس. لذا لم يجد حسن أفندي صعوبةً في الالتحاق بالجيش من أدنى الدرجات الوظيفية والترقي سريعاً حتى الوصول إلى رتبة ملازم أول. وتقول الوثائق التي بين أيدينا إنه التحق بالعسكرية المصرية "بدرجة نفر [أي جندي] باسم حسن حسين عبد الرحمن"، وظلّ في هذه الدرجة حتى ترقى إلى درجة "أونباشي" أي عريف. وترقى سريعاً فحصل على رتبة "جاويش" أي رقيب، ثم "باش جاويش" أي رقيب أول، و"صول قول أغاسي" وتعني قائد الجناح الأيمن وبلغة العسكرية الحديثة رائد، وصولاً إلى رتبة ملازم أول في يونيو 1875.

مع هذا النشاط العسكري الواسع الذي اتسعت معه الأدوار المسنَدة للعسكري الوطني، فإن جهود المجند المصري القتالية غابت عن جُلّ التاريخ الرسمي. وتظل إحدى المحاولات النادرة لبيان الدور "المجهول" للجندي المصري كتاب خالد فهمي "كل رجال الباشا"، الصادرة طبعته الأولى سنة 1997. يقول فهمي في مقدمة الكتاب في معرض انتقاده لتجاهل قصص أفراد الجيش المصري في القرن التاسع عشر: "إذا انتقلنا إلى تاريخ الجيش الذي أسسه محمد علي [. . .] فسنلاحظ بسهولة غياب الدراسات الجادة التي تتناول التاريخ الاجتماعي -لا الحربي أو السياسي- لهذا الجيش. وبالتحديد وقع إقامة هذا الجيش على الآلاف من الرجال الذين سيقوا للخدمة في صفوفه، وعلى أقاربهم وأسرهم التي تأثرت حياتهم حتماً بتجنيدهم، نظراً لفقدانهم لعائلهم الأساسي".


من تتبُع حصر المعاشات بقسم الإدارة في نظارة المالية لمدة خدمة حسن أفندي، يمكن أن نتتبع خط سيره الوظيفي بالتوازي مع خط تاريخ مصر العام. ذهب حسن أفندي إلى جزيرة كريت في يوليو 1866، فما الذي استدعى ذهاب هذا الفلاح المصري إلى الجزيرة اليونانية الواقعة في قلب المتوسط؟ حسب إلياس الأيوبي في كتابه "تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا" الصادر سنة 1922، بدأت "الثورة الكريتية العظمى" ضد الدولة العثمانية سنة 1866 واستمرت حتى 1869. وكانت اليونان قد استقلت عن الدولة العثمانية في عشرينيات القرن التاسع عشر، لكن الجزيرة ظلّت بحوزة العثمانيين.

أعلن أهالي الجزيرة الثورة أملاً في الاستقلال والانضمام إلى اليونان. وهنا استنجد السلطان العثماني بحاكم مصر الذي أنعم عليه بلقب الخديوي رسمياً قبلها بأشهر قليلة، فلبّى إسماعيل باشا النداء وأرسل جيشاً قوامه خمسة آلاف جندي شارك في قمع ثوار كريت. كان من بين هؤلاء الجنود حسن أفندي، وقد أبلى الجيش بلاءً حسناً في الحرب، حسب شهادة الأيوبي. وكان من ضمن قادة هذا الجيش الشاعر محمود سامي البارودي، المُلقب "رب السيف والقلم"، وأحد قادة ثورة عرابي بين عامَي 1879 و1882 ضد الخديوي توفيق والتدخل الأجنبي في مصر.

عاد حسن أفندي من كريت إلى مصر بعد سنة وشهر وستة وعشرين يوماً، ويبدو أنه ترقى سريعاً في الفترة التي تَلَت عودته حتى وصل إلى رتبة ملازم أول في سنة 1875، وحصل معها على لقب الأفندي. فبحسب أحمد تيمور باشا في كتيبه "رسالة لغوية عن الرتب والألقاب المصرية" الصادر سنة 1950، يحصل على لقب الأفندي في العسكرية الحائز على رتبة ملازم فما فوقها إلى "البيك باشي".

بعد سنةٍ توجه حسن برتبته ولقبه الجديدَين في مهمة مختلفة صوب الجنوب، حيث اندلعت الحرب المصرية الحبشية سنة 1875، وهي الحرب "الكارثية" التي يتهم المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "عصر إسماعيل" الخديوي نفسه بالنزق وغياب حسن التقدير للموقف الدولي، مما أدَّى إلى التورط فيها من غير ضرورة.

زُج بفرق الجيش المصري في الحبشة سنة 1875 ولم تكن على جاهزية قتالية جيدة، فتوالت الهزائم. وإزاء الوضع الحرج قرر الخديوي إسماعيل تجهيز حملةٍ جديدةٍ تتألف من نحو خمسة عشر ألف مقاتل بقيادة راتب باشا، الذي يصفه المؤرخ الرافعي أنه "ضابط خلو من الكفاءة وحسن التدبير". كان أحد جنود هذه الحملة الملازم أول حسن أفندي. لكن الجيش الحبشي هزمَ الجيش المصري الذي تقدم داخل الأراضي الحبشية هزيمةً قاسيةً في معركة قورع في مارس 1876، بالقرب من مدينة جورا التي تقع اليوم في إريتريا.

انتهت الحرب لصالح الأحباش، ولاقى أفراد الجيش المصري الأهوال، من بينهم حسن أفندي الذي نال ما ناله غيره من هزيمةٍ ومشاهدةِ آلاف رجال الحملة يُقتلون في معركة حامية الوطيس. حتى إن قادة الجيش المصري لم يتمكنوا من "النجاة إلا بعد أن عاينوا الموت"، كما يدوّن الرافعي.

حسب الأوراق لدينا، أمضى حسن أفندي في حرب الحبشة عشرة أشهر وخمسة عشر يوماً، وربما يكون الألم عرف طريقه إلى جسده منذ هذه الحملة القاسية. فالشاب الذي لم يبلغ الأربعين من عمره حينئذٍ حارب في أجواء كريت الباردة ثم في أحراش الحبشة الحارة، في حروبٍ عنوانها الأبرز رغبات الحاكم. فابن قرية القطا، مثله مثل آلاف غيره من الجنود، الذين دُفع بهم في حروبٍ خارجية ربما لم يعرفوا لها سبباً ولا جدوى، في مواجهة أناسٍ لا يعرفون لغتهم ولا سبب العداء معهم.

لم تكن تجربة الحبشة المؤلمة هي الأخيرة في سجلّ حسن أفندي العسكري. فقد عاد مجدداً إلى الجنوب، إلى مصوع المطلة على البحر الأحمر، مقرّ محافظة مصوع التي كانت تتبع الدولة المصرية وقتذاك ثم ضُمت لإريتريا لاحقاً. مكث حسن أفندي في مصوع من العاشر من أكتوبر 1881 إلى 24 يوليو 1882. وأصابته حمّى شديدة هناك وألمّ به ضعفٌ عام استوجب خروجه من الخدمة وإعادته إلى مصر في العاشر من ديسمبر 1882.

بعد أن وصل الأفندي إلى "مصر المحروسة" (القاهرة)، تواصل مع الإدارة المصرية المركزية للحصول على حقوقه في المعاش. فقد أوصى الكشف الطبي عليه في مصوع ثم في القاهرة بعدم صلاحيته للخدمة العسكرية أو الملكية (المدنية)، وأنه يجب إنهاء خدمته.


خرج حسن أفندي من الخدمة في الجيش المصري لسببٍ صحي، وهو ما قد يكون سبب نجاته من تبعات الثورة العرابية والاحتلال البريطاني وما تبعه من حلّ الجيش المصري. بدأت المراسلات بطلبٍ من حسن أفندي الذي خطّه على ما يبدو بيده، إذ يقول: "مقدمه ينهي لسعادتكم إنه بالنسبة لمكوثي بجهات السودان تخلف معي جملة أمراض يمنعوني من تأديت [بالتاء المفتوحة] الخدمات حيث أنه حال الكشف عليّ بمعرفة حضرة حكم باشا الجيش وأوضح بني [بأني] لا أليق بخدمات العسكرية والملكية"، طالباً إحالته إلى المعاشات.

انتهاء خدمة الأفندي حدثت في عهد الخديوي توفيق الذي تولى الحكم بعدما تدخلت الدول الأوروبية بقيادة بريطانيا وفرنسا لخلع والده الخديوي إسماعيل بعد سقوطه في دوامة الديون التي لم يستطع سدادها، لذا أصبح ابنه تحت سيطرة ممثلي الاستعمار الأوروبي. قاده هذا الأمر إلى أزماتٍ توالت حتى تفجرت ثورة أحمد عرابي سنة 1881. أغاظ عرابي بدايةً الهيمنة الشركسية على رتب الجيش العليا، ثم تطورت أهدافه إلى أهدافٍ أكثر ثورية تهمّ المصريين جميعاً. وظلت الأجواء مشتعلة بعد ارتماء الخديوي توفيق في أحضان الإنجليز، حتى حانت وقائع الاحتلال الإنجليزي مصرَ وهزيمة الثوار بقيادة عرابي في موقعة التل الكبير في سبتمبر 1882.

لم يشهد حسن أفندي هذه الوقائع، فقد كان في مصوع. ولا يرد في الأوراق التي بين يدينا السبب الذي دفع به هو ورفاقه إلى السودان في ظلّ هذه الأجواء المشتعلة. ما لدينا هو تخمينات يحكمها تلميحات في الأوراق وسياق ذلك العصر. هل كانت رغبة السلطة ممثلة في قادة الجيش من الشركس إبعادَ عدد من الرتب الوسطى من المصريين لإضعاف شوكة عرابي بفضّ أنصاره من حوله؟ ولا نعرف شعور حسن أفندي بعدما أُبعد عن مركز الثورة وقائدها المصري، وإذا ما كان المرض الذي حلّ به نتيجة أزمةٍ صحيةٍ أم صراعٍ نفسيٍّ بسبب إبعاده عن المشاركة في أحداث الثورة.

خروج حسن أفندي من الخدمة في الجيش تزامن أيضاً مع بداية الاحتلال البريطاني مصرَ الذي عمد إلى حلّ الجيش المصري. فقد أصدر الخديوي توفيق قراراً بإلغاء الجيش المصري في 19 سبتمبر 1882، ثم أصدر مرسوماً في 24 أكتوبر من السنة نفسها بتجريد جميع الضباط الذين اشتركوا في الثورة العرابية ممن كانوا برتبة ملازم ثان وأول ويوزباشي من رتبهم، وحرمانهم من أي حق في المعاش أو مرتب الاستيداع، بينما حوكم كبار قادة الجيش بجريمة العصيان.

مع هذا الانهيار الشامل للجيش المصري، لم يكن أمام حسن أفندي إلا البحث عن نجاته الشخصية من أهوالٍ أحاطت بجميع من يعرفهم على مدار ربع قرن تقريباً. ومع أنه كان في مصوع، وهو ما مثّل طوق نجاةٍ حَماه من مصير ضباط في رتبته، فإنه وجد حقّه ضائعاً بين ليلة وضحاها بعدما فكَّكَ الاحتلال الجيشَ المصري وهضم حقوق أفراده. فسلك حسن أفندي طريقه الخاص للحصول على معاشه، كما نرى في أوراقه ومكاتبات نظارة المالية.

كان بحث المصريين عن حقوقهم المهدرة ظاهرةً في تلك الفترة، كما يثبت خالد فهمي في كتابه "السعي للعدالة" الصادر سنة 2022، إذ يقدم مادة أرشيفية ضخمة لقصص واقعية لمصريين عاشوا في القرن التاسع عشر. تصلح المادة لإعادة بناءِ بعض وقائع ما جرى في برّ مصر حينئذ، ويمكن في سياقها وضع قصة حسن أفندي جزءاً من سياقٍ أشمل لسعي المصريين إلى تحقيق العدالة.

كان طلب حسن أفندي المعاشَ بعد التقاعد استفادةً عملية من عمليات التحديث في مصر. فلائحة المعاشات للموظفين المتقاعدين من نتاج فترة حكم سعيد باشا. وهو الذي أصدر في السنة الأولى من توليه السلطة سنة 1854 لائحة عُرفت باسم "قانون نامة المعاشات" وضع فيها قواعد منظمة لإعطاء المعاش لمن استخدم في الخدمات العسكرية أو الملكية منذ عهد محمد علي باشا. وعدّل سعيد باشا سنة 1860 النظامَ ليسمح بمنح الأطيان، أي الأراضي، الزراعية بدلاً من المعاش. فخُصصت مساحة 1280 فداناً (يساوي الفدان 4200 متراً مربعاً) لمن حصل على درجة البكباشي واليوزباشي والملازم أول وثان. كان غرض الحكومة من هذا القرار أن يعمل من "رُفِد"، أي خرج من الخدمة، وقتذاك في زراعة الأطيان التي تُركت بوراً في ظاهرة عرفت باسم "أطيان المتروك". هذا بعدما منح سعيد باشا التصريح لمن يشاء من حائزي الأطيان من الفلاحين، بترك الأطيان التي يعجزون عن زراعتها وأداء ما عليها من أموال للدولة. فترك الأهالي مساحات واسعة من الأراضي للحكومة. كان حسن أفندي من المستفيدين من التعويض عن المعاش بالأطيان.

تقول الأوراق التي لدينا إنّ حسن أفندي حصل على ثلث المعاش فقط بعد مكاتبات متعددة بين نظارة المالية ونظارة الحربية، بقيمة شهرية قدرها 181 قرشاً وخمسةً وعشرين نصف فضة. والقرش يقابل أربعين نصف فضة أي أربعة آلاف لكل جنيه، أي نحو ثمانية دولارات آنذاك. هذا مع تعويضه عن الفترة التي صُرف له فيها ربع المرتب، منذ مرضه حتى خروجه من الخدمة، فضلاً عن خصم مبلغ 146 قرشاً وثلاثين فضة، "قيمة ثمن السيف الذي ظهر طرفه". ويبدو أن حسن أفندي فضَّل الاحتفاظ بالسيف الذي حصل عليه من الجهادية، فقرَّر أن يدفعَ ثمَنه.

استفاد جدّي الثالث على ما يبدو من الأزمة الاقتصادية التي دفعت الخديوي والحكومة إلى بيع الأراضي الزراعية. وحسب الباحث وائل بيومي في دراسته "المعاشات وتطورها بين محمد علي وسعيد باشا" المنشورة سنة 2015، قررت الحكومة في عهد إسماعيل إلغاء العمل بنظام إعطاء الأراضي الزراعية بديلاً للمعاش النقدي. ولكنها عادت وسمحت ببيع الأراضي الزراعية بأسعارٍ أقلّ بسبب رغبتها في سداد الديون. اغتنم حسن أفندي الفرصة للحصول على قطعةٍ زراعيةٍ متميزةٍ في قريته. وكما يتضح من تاريخ العائلة، فإنه حصل على قطعة أرضٍ زراعيٍة لا تقلّ عن ستة وعشرين فداناً في القرية شكلت الميراث المتداول بين ذريته حتى يومنا هذا، وتعرف باسم "تكليف حسن أفندي".


بانتهاء المكاتبات الرسمية بين حسن أفندي ونظارة المالية، تنتهي قصته التي ولدت من رحم القصص الشعبية لتستقر في قلب التاريخ. فقصة حسن أفندي، بوثائقها الرسمية ومزجها بالتاريخ العائلي، فتحت نافذة استثنائية للإطلالة على التاريخ الاجتماعي والسياسي والعسكري لمصر في عصر الخديوية. فالسيرة الشخصية لمجند مصري تتداخل مع التحولات الكبرى للدولة المصرية الحديثة. ما يمكّن الباحث من استخلاص رؤى مختلفة عن الرواية السائدة وشبه الرسمية عن تلك الفترة، التي تركز عادة على التاريخ من أعلى، أي تاريخ الحكام والمؤسسات وكبار رجال الدولة.

ومما يدهش فيها أنها تضفي ألواناً جديدة على المروية التي تتناولها العائلة عن حسن أفندي ووالده حسين أبو شنب. فجميع أحفاد حسن أفندي اليوم لا يعرفون عنه أكثر من ذهابه إلى السودان ومشاركته في حرب ما، بلا تفاصيل. كذلك لا يعرفون أنه شارك في حربَي كريت والحبشة. ولذلك فتاريخه المتناوَل أسطورةً بين الجيل الثالث والرابع والخامس من ذريته، يمكن أن يُعاد تأسيسه بناءً على وقائع تاريخية ثابتة.

اشترك في نشرتنا البريدية