كانت المغارتان اللتان يناقشهما المقال في محاجر طُرَهْ والمعصرة. وهما منطقتان كانتا قديماً لاستخراج الحجر الجيري الأبيض، الذي نُقل منهما إلى الضفة الغربية من النيل ليكسو الأهرامات بعد إتمام البناء. فاقت دهشتي ببناء مغارات طُرَه والمعصرة دهشتي ببناء الأهرامات ودقة مقاييسها وضخامتها وصمودها، مما جعلني أبحث وراءها ووراء تاريخها متنقلة ما بين عصر بناة الأهرام والأسرات المختلفة، حتى زمن الاحتلال البريطاني ثم أرتد إلى العصر المسيحي ورهبانه، ثم أعود مرة أخرى إلى القرن التاسع عشر لألتقي مع كاتب المقال، زميل المهنة، الباحث الأثري المغامر في ذلك الزمن البعيد.
كثيراً ما قابلت في الصحف والكتب القديمة أحمد بك نجيب الطالب في مدرسة اللسان المصري القديم، والآثاري الصغير الواعد. اقتفيت أثره ومشيت وراءه في دروب بولاق القديمة، حيث تتصاعد رائحة الحشيش من المقاهي والدكاكين، بينما تقف نسوة على أبواب البيوت يتربصن بالرائح والغادي. رأيته يمر بينهنَّ كالطيف متجهاً إلى البيت العتيق الذي صار مدرسةً لتعليم التاريخ واللغة المصرية القديمان. لمست محبته وتقديره لأستاذه عالم الآثار الألماني هنري بروكش الذي دفعه حديثه ووصفه مغارات طره والمعصرة إلى أن يخوض مغامرة شبيهة في تلك المنطقة الصحراوية البعيد حينها بعد سنوات عدّة من تخرجه. في رحلتي لتتبع سيرته وما سجله ووثّقه من آثار، قابلتُ مارييت وماسبيرو وجريبو ودي مورجان وغيرهم من الوجوه الاستعمارية العتيدة التي سيطرت على علوم الآثار المصرية بينما كان جيل نجيب وزملائه، الرعيل الأول لعلماء الآثار المصريين يتشكل، ويسجل كشوفاً أثرية مصرية بلسان عربي على صفحات المجلات المصرية إلى جانب الأوراق العلمية. كانت كشوف أحمد بك نجيب التي سجلها دليلي إليه وإلى البدايات الأولى لميلاد مدرسة الآثار المصرية، وكان تسجيله لها دليلي إلى آثار اندثرت في قرن واحد من تسجيله لها.
يصف نجيب هذه المغارات، وما فيها من أروقة ومقاصير كانت مُعدَّة لسكن المهندسين ورؤساء العمال، وصهاريج صغيرة للمياه مصنوعة من الحجر لشربهم. نُقشت في بعض السراديب أسماء بعض الملوك المصريين، مما يدل على أنَّ تلك المحاجر لم تكن حجارتها غنيمة زمن واحد. ومنها عاين "طريق عظيم يتجه صوب أهرام الجيزة يمر في سفح الجبل نحو 2 كيلومتر ثم يختفي أثره"، وقف أحمد نجيب أمامه مشدوهاً وبدأ يطرح أسئلة كثيرة ومنطقية عن حجم الأحجار المقطوعة وكميتها وعدد العمال والمباشرين ومدى علم المهندسين، واختتم شرحه عن مغارة الصاغة بهذه الكلمات البليغة "إنهم نقلوا جوف هذا الجبل من الشرق وساروا به إلى الغرب وجعلوه أهراماً وصيروا هذين المكانين أعجوبتين على ممر الدهور وكر العصور. وعندي إن رؤية هذه المغارة لولا صعوبة السير فيها أغرب من كل غريب، بل ومن الأهرام نفسها وافتخر بأني أول من دخلها وجاس خلالها وعرفها وكتب وصفها كما كتبت وصف غيرها. وها هي علاماتي وإشاراتي منبثة في جميع أرجائها وأنحائها. ولو كانت هذه المغارة في بلاد غير بلادنا لتشكلت لها جمعية من أهل اليسار وأصلحت طرقها وسراديبها وأنارتها بالنور الكهربائي وجعلت فيها المركبات تجول بالزائرين ورغبت الناس من كل الأقطار في المجيء إليها والاطلاع عليها".
في المقالة الثانية المنشورة بالمقتطف في ديسمبر من العام نفسه، وصف نجيب بك مغارة الرماد التي تقع في منطقة طُرَه، وذكر أنها وجهة أثرية تأتي في المرتبة الأولى سابقةً مغارة الصاغة، لوجود بقايا من آثار عجل العربات على الأرض، مع بقايا من نبات الحلفا والفول وحشائش بالية و"قش قمح صار كالهباء"، وفي السقف تظهر الخطوط الحمراء والزرقاء نفسها التي رسمها المهندسون للعمال لتحديد مسارهم، وبها بعض من حروف هيروغليفية وضعها المهندسون. وفيها أيضا لوحة حجرية للإسكندر يقف متعبداً للإله جحوتي والإلهة حتحور مرتفعة ثلاثة أمتار ونصف المتر. هناك أيضاً ختم ملكي (خرطوش) بين السرداب العظيم وسرداب آخر بجانبه للملك هاكور من الأسرة التاسعة والعشرين، من العصر الفرعوني المتأخر 398-380 قبل الميلاد. وفي نهاية بعض السراديب سلالم منقورة، أي نُحتت في أصل الحجر. يقول نجيب بك إن تفاصيل هذه المغارة مع البقايا الأثرية نقلتنا إلى العصور الغابرة وكشفت الستار عن مشاهد حية لجحافل العمال بأدواتهم وقد أحال الكلس والعرق وجوههم وأجسامهم إلى اللون الأبيض. وبينما تصدح حناجر العمال بالغناء على أصوات المعاول، تسقط كتلة من الحجارة فينقض عليها الرجال لرفعها وحملها على العربات وجرها خارج المغارة وسط تهليل العمال وتشجيع المهندسين.
ولم يغب عن نجيب ملاحظة دلائل على غلظة المُلاحظين، أي مديري الموقع، كاسري البهجة في نفوس العمال. وفي أحد الأركان صهريج مياه قاسه أحمد نجيب فوجد سعته 1230 لتراً من الماء يمكن أن تسقي 1200 شخص إذا مُلئ مرة واحدة في اليوم. وقد نُحتت هذه المغارة في الصخر على شكل شجرة جميز، وهي من الأشجار المقدسة عند المصري القديم. ويختتم نجيب مقاله عن مغارة الرماد بقوله: "أما أنا فقضيت في اكتشافها كلها سبعة أيام. ومن تأمل في شكلها العجيب وتفرع جذورها وأغصانها وأوراقها عجِب من مهارة مهندسها وادماجه الشعائر الدينية بالحقائق النباتية العلمية مع براعته في فن الهندسة فإنه استخرج الحجارة للبناء وجعل مكانها معبداً في شكل مقدس عند أهل زمانه".
بعد قراءة المقالتين بدأت رحلة بحث أخرى عن مغارات المعصرة وطره. سألت فيها بعض زملائي الباحثين في الآثار عن إمكانية زيارة تلك المغارات والكتب المتوفرة عنها وأخبرني زميل لي أستاذ في المصريات بعدما أرسلت له المقالين، أنه انبهر بهما وأنها المرة الأولى التي يقرأ فيها عن تلك المغارات بهذا الوضوح، وأن المعلومات المتداولة عنها أنها فقط محاجر سحيقة القدم ومنها جاءت الأحجار البيضاء التي كانت تكسو الأهرام.
مع البحث وقعت على موقع "ميليتاري سرفاي" وهو موقع إلكتروني بريطاني حكومي يوثِّقُ صورَ المستعمرات البريطانية القديمة ومنها مصر، وعلمت منه أنه في أثناء الحرب العالمية الثانية، تحديداً سنةَ 1940، أن القوات البريطانية مسحت مغارات طره ورقّمتها ونظفتها من أوساخ الخفافيش والرديم والحجارة المتبقية من الأعمال السابقة بالمحاجر على مدار القرون الماضية. وعندَ العمل في المغارة رقم 35 وجد العمال المصريون بين المخلفات مجموعات كبيرة من أوراق البردي تربو على ألفي مخطوط عليها كتابات يونانية لآباء كنيسة الإسكندرية ترجع تقريباً للقرنين السادس والسابع الميلاديين، وهي فترة مفصلية في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، إذ استقلَّت فيها عن الكنيسة البيزنطية بعد رفض الكنيسة المصرية الاعترافَ بالمجمع المسكوني المنعقد في خلقدونية، والذي رعته وتبنت مخرجاته كنائس الإمبراطورية الرومانية، وبدأ عصر جديد من اضطهاد الأقباط المصريين ورهبانهم وآبائهم امتد مئة وتسعين عاماً انتهت بمجيء الجيوش العربية منهية الحكم الروماني، مما يجعل لهذه المخطوطات أهمية كبيرة. تفرَّقت تلك المجموعات التي عرفت باسم برديات طره بين تجار الآثار وانتشرت في أنحاء العالم في عدد من المتاحف والمكتبات. وما زال بعضها مفقوداً وتظهر في أسواق الآثار كلَّ حين. يرى بعض العلماء أنَّ مَن وضع الكتب رهبان دير أرسينيوس القريب، وربما استخدمت هذه المغارات أيضاً ملاذاً للمسيحيين المصريين في عصر الاضطهاد الأول، أي القرون الميلادية الثلاثة الأولى.
أما في عام 1942 وفي نقطة عميقة في تلك المغارات تظهر الصور كتلة حجر وحيدة وضعت على بكرات خشبية، تنتظر نقلها إلى الضفة الأخرى من النهر ربما منذ أكثر من خمسة آلاف عام.
أول ظهور له كان بعد أن أصدر الخديوي إسماعيل أمراً عالياً بتأسيس مدرسة اللسان المصري في 13 رجب 1285 هجرية الموافق ليوم 30 أكتوبر 1868 ميلادية، وهي مدرسة تجهيزية "لتعليم لسان الحبش، وتعليم خط هورغليف" كما يذكر كتاب "آثار مصر المستباحة" للدكتور أشرف حسن علي الصادر عن دار الكتب والوثائق المصرية في 2016. ينص الأمر العالي على أن يكون التلامذة الذين يتعلمون في تلك المدرسة "من الغلمان السمر الذين يشبهون غلمان أقصى الصعيد". وأوصى بتعيين مدرّسين من بطريركية الأقباط الأرثوذكس "لتدريس الحبشية في المدرسة". وأن "الخُوجَات (المعلمين) التي تلزم لتعليم لسان الحبش (اللغة الأمهرية) ضرورة يوجدوا ببطرخانة (بطرياركيّة) الأقباط، فيجري تعيينهم منها حسب ما يلزم". وبعد نحو عام من صدور هذا الأمر العالي، تعاقد ديوان المدارس مع عالم الآثار الألماني "هنري بروكش" ليتولى الإشراف والتدريس بمدرسة اللسان المصري القديم بعقد عمل مدته خمس سنوات براتب قدره خمسمئة فرنك شهرياً. مع تخصيص ألفٍ وتسعة جنيهات مصرية لثلاثة مدرسين آخرين، و112 جنيهاً مصرياً منحاً دراسية موزعة على الطلاب.
تحدد مكان المدرسة في منطقة بولاق قرب مسجد القللي وسط القاهرة، في دار كبيرة مهجورة تعرف بدار الشيخ الشرقاوي. بعد الإصلاحات والترميمات بدت الدار مقرَّاً معقولاً لمدرسة اللسان المصري القديم، وبيتاً للمسيو هنري بروكش. واختير عشرة من المتفوقين والنابهين من طلبة المدارس الحكومية ليكونوا نواة هذه المدرسة، وفي قائمة أسماء تلك المجموعة المصرية الأولى نلمح أحمد نجيب، الطالب في مدرسة الإدارة، وكذلك الاسم الأشهر بين الرعيل الأول من علماء الآثار المصريين، أحمد كمال الشهير لاحقاً باسم أحمد باشا كمال رائد علوم الآثار المصرية.
يتكفَّل ديوانُ المدارِس، وهي هيئة مصرية تعادل وزارة التعليم لاحقاً، بصرف كل ما يلزم المدرسة والطلاب من أدوات التعليم والكساوي، أي الملابس، ومرتب شهري قدره خمسون قرشاً لكلٍ منهم، و4 قروش يومياً بدل وجبة. كانت اللغة الألمانية هي لغة الدراسة بمدرسة اللسان المصري، وإلى جانب دراسة علم المصريات واللغة المصرية القديمة والحبشية درس الطلاب اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية. كان المسيو هنري بروكش يأمل أن يجعل من هؤلاء الطلاب العشرة علماء مصريات حقيقيين. بدا ذلك واضحاً من قائمة الطلبات لديوان المدارس، ومنها خريطة كبيرة للقطر المصري، وعدد من القواميس اللغوية، فرنسي ألماني والعكس، ومراجع متخصصة في التاريخ المصري القديم، طلب استقدامها من الخارج، واستغرق تخليصها من جمرك الإسكندرية ستة أشهر كاملة. لم تُقصِّر الإدارة المصرية وخصصت للمدرسة "ذهبيتين"، والذهبية بيت عائم في سفينة صغيرة خفيفة يمكنها الإبحار والرسو لفترات طويلة في النيل، للسفر إلى الصعيد في النيل، واحدة لهيئة التدريس والأخرى للتلاميذ بغرض دراسة الآثار المصرية القديمة على أرض الواقع.
لكن أثار مكان المدرسة قلق المسيو بروكش، إذ نعثر في سجلات ديوان المدارس، التي ينقلها كتاب "إدارة الآثار المصرية في القرن التاسع عشر" المنشور سنة 2016، على شكوى مسجلة برقم وثيقة (586) قدمها المسيو بروكش في 20 أبريل 1870: "بخصوص الدكاكين المجاورين للمدرسة الجاري فيهم مبيع الحشيش وما هو موجود فيهم من النساء الفاحشات واللصوص، وحيث إن ذلك مما لا ينبغي حصوله خصوصاً المواد المحكي عنها، فلزم شرحه لأجري ما يقتضي لذلك منعاً للضرر وحصول مواد غير مرضية". وشكى وكيل ديوان المدارس نفسه من سرقة منزله الموجود في المنطقة نفسها.
وسط هذه "الأجواء المشينة"، كما يصفها المسيو بروكش، كان أحمد نجيب يتلقى دروسَه هو وزملاؤه من مستكشفي وأثاريي المستقبل. ومن بينهم من تكشف الوثائق عن انخراطه في تلك الأجواء، ففي ديوان المدارس ترد وثيقة تفيد بـ"رفت" أحدهم أي فصله من المدرسة وهو الطالب علي حيدر الذي كان يخرج من المدرسة في غياب الناظر ويعود سكراناً ويفعل أموراً مستهجنة، ما استدعى أيضا فصل بوَّاب المدرسة والغفير، وهو عنصر من الشرطة النظامية مكلف بالتأمين. بينما تؤكد وثائق ديوان المدارس تفوق كل من صديقنا أحمد نجيب وزميله النابه محمد توفيق. ولأن التعليم وقتها كان ذا صبغة عسكرية، فقد رُقِّي الاثنان إلى رتبة باش جاويش وأصبحت لهما الريادة على زملائهما، وزيدت مخصصاتهما المالية.
حاول بروكش حل مشكلة الطلاب مع علم المصريات بتبسيط الديانة المصرية القديمة وعمل مقارنة بين صفات الآلهة المصرية وأسماء الله الحسنى، ليزيل ما علق بذهن الطلاب ونفسيتهم من أفكار دينية تفصل المصريين عن حضارتهم القديمة.
كان علم المصريات وقتئذ غريباً على المصريين، وكان الأزهر ما يزال يمثل عصب التعليم. بل كانت تلك المدرسة ذاتها جسماً غريباً وغير مفهوم لموظفي ديوان المدارس.
تعب بروكش بعد أشهرٍ من العمل في المدرسة، فقدم طلباً للحصول على إجازة مدة شهرين ونصف للعلاج بألمانيا وأرفق بالطلب شهادة طبية تؤكد إصابته بمرض في الكبد، وحرصاً منه على سير الدراسة بالمدرسة في أثناء غيابه للعلاج حدد للطلاب عدداً من الموضوعات المقررة للقراءة والاستذكار مدة إجازته. وتقدم بطلب آخر إلى الخديو إسماعيل يرجوه فيه صرف مرتبه كاملاً في الإجازة، إذ كانت اللوائح تقضي بصرف نصف راتب في حال الإجازة، مع السماح له باصطحاب تلميذيه النجيبين أحمد نجيب ومحمد توفيق حتى "يزدادوا علماً في المعارف والفنون". وافق اسماعيل على طلبات بروكش، وأمر بصرف مبلغ ثلاثة آلاف فرنك مصروفاً للتلميذين مدة السفر، وكان الفرنك يساوي أربعة قروش مصرية.
مع اقتراب نهاية العام الدراسي الأول لمدرسة اللسان المصري القديم، كان بروكش قد عاد من إجازته واستأنف العمل. وأرسل إليه ديوان المدارس إشعاراً بموعد امتحان تلامذة المدرسة في 11 شعبان 1287 هجرية:ـ "ومن اللزوم حضور جنابكم وصحبتكم التلامذة في صباح يوم السبت الساعة الواحدة من النهار لابسين الكساوي البيض لأجل امتحان التلامذة الأنجاب، ومعرفة ما تحصلوا عليه من العلوم والفنون في ظل الساحة الخديوية". ولم أعثر في بحثي على وثائق تتيح معرفة نتيجة هذا الامتحان. في العام الثالث من عمر مدرسة اللسان المصري القديم انتقل مقر المدرسة إلى سراي درب الجماميز بحي السيدة زينب، بعد أن تكررت شكوى هنري بروكش من أن "المكان [في بولاق] قد صار رطباً ويخشى على صحة من فيه".
كان هذا الكتاب هو أول كتاب دراسي في علم المصريات يترجم للغة العربية. ومن هذه الوثائق المتفرقة، يمكننا رسم صورة موثقة للمرحلة الأولى من حياة أحمد نجيب، فقد كان طالباً نابهاً في مدرسة الإدارة واختير للدراسة في أول دفعة من مدرسة اللسان المصري القديم، فتفوق فيها وأظهر انضباطاً دراسياً وأخلاقياً منذ السنة الأولى، فاختير ثانيةً للسفر إلى أوروبا صحبة أستاذه ثم عاد ليكون تلميذاً مقرباً فيختاره أستاذه ليترجم كتابه ويصبح أول من نقل حروف اللغة المصرية القديمة إلى العربية. تخرج أحمد نجيب وتوظف مترجماً في ديوان المكاتب الأهلية سنة 1872. ما يؤكد تخرجه أن العدد التالي من مجلة ديوان المدارس نشر خبر مفاده أن أحمد نجيب ومحمد توفيق قد تخرجا من مدرسة اللسان المصري بعد سنتين من الدراسة.
كانت نهاية مدرسة اللسان المصري سريعة كالشّهب، كما يوثّق كتاب "حركة الترجمة بمصر خلال القرن التاسع عشر" لجاك تاجر الصادر عام 1945. إذ انهار المشروع لأسباب عدة، منها أزمة الخديو اسماعيل المالية، وتخلي بروكش نفسه عن المدرسة وتكليفه من قبل الحكومة المصرية بأعمال أخرى، والتنافس الأوروبي على الآثار المصرية، واحتكار فرنسا إدارةَ الآثار في مصر وخوفها من أن يظهر جيل من علماء الآثار المصريين يدير مصلحة الآثار ويسيطر عليها، فيتوقف نزيف الآثار المصرية الذي أحيا متاحف الغرب.
وقد وجه رفض مارييت، مأمور الأنتيكات أي الآثار، توظيفَ خريجي المدرسة في مصلحة الآثار ضربةً قاصمة لمشروع مدرسة اللسان المصري القديم، وأوضح للعيان مدى هيمنة الأوروبيين على الآثار. وقد يقول بروكش ملخّصاً حجم هيمنة مارييت الفرنسي على مصلحة الآثار وقلقه من دخول المصريين الحلبة في جمل قليلة معبرة وموجعة ينقلها دونالد مالكوم ريد في كتابه "فراعنة من"- المنشور عام 2005: "كان الخديو راضياً عن عملي، وكذلك كان وزير التعليم [علي باشا مبارك] سعيداً بما أفعل، حتى صرت موضع حسد نظار المدارس… وشعر صديقي القديم مارييت بالقلق من أن يفاجئه الخديو بتعيين الخريجين في متحفه.. حاولت تبديد مخاوفه، لكنه ظل أسيراً لهواجسه حتى أنه أمر الموظفين بمنع أي مصري من نسخ النقوش الهيروغليفية، لقد كان مثل هؤلاء يطردون من المعبد ببساطة".
بعد رفض مارييت تعيين خريجي المدرسة تفرقت بهم السبل، وتنقلوا بين الوظائف بعيداً عن حقل المصريات، فنعرف أن نجيب نُقل من ديوان المكاتب الأهلية إلى مدرسة المبتديان حيث عمل مدرساً للغة الفرنسية والألمانية، ثم معيداً للغة الألمانية بمدرسة المهندسخانة. ثم يظهر خبر في عدد التاسع والعشرين من نوفمبر لسنة 1892 من مجلة الأستاذ، يعلن فيه الشاعر والمناضل عبد الله النديم أن أحمد نجيب عزم على إصدار مجلة "المنظوم" لنشر الشعر، يقول النديم: "عزم حضرة الفاضل أحمد أفندي نجيب على إصدار جريدة سماها المنظوم، تنشر مدائح الملوك والأمراء والأعيان وما قيل من فنون الشعر مع انتقاد بعض الأبيات التي يجوز انتقادها. وسيصدرها مرتين كل شهر وجعل الاشتراك أربعين قرشاً عن كل سنة في مصر، وخمسين في الخارج. فنحث حلفاء الأدب ونصراء البديع على مشاركة هذا الفاضل في هذا المشروع الجليل بالاشتراك معه بالطول والقول أحياء لصناعة الشعر الجميلة".
وفي عدد لاحق بالدورية نفسها نجد خبراً آخر عن مجلة المنظوم: "جريدة شعرية أدبية صدر العدد الأول منها مملوءاً بالرقائق والبدائع، بإدارة وتحرير الفاضل أحمد أفندي نجيب وهذا الطريق ما سلكه أحد قبله، فعلى أهل الأدب أن يمدوا الجريدة بمبتكراتهم وبدائعهم ويساعدوا هذا الفاضل بالاشتراك معه ليقوى على خدمة الأفكار بما تحلو به المسامرة ويحسن به الاستشهاد، والله تعالى يقرن عمله بالقبول".
في العام 1892، وبسبب التنافس الإنجليزي الفرنسي في حقل الآثار، حصل نجيب أخيراً وبشق الأنفس بعد عشرين عاماً من تخرجه على وظيفة مفتش عام في مصلحة الآثار، وافق جريبو، مدير مصلحة الأنتيكات، مضطراً إلى تعيينه خوفاً من أن يتربع في الوظيفة الشاغرة آثاري إنجليزي. وكان أحمد باشا كمال زميل نجيب في مدرسة اللسان المصري قد سبقه إلى اختراق مصلحة الآثار سنة 1881 بوساطة من رياض باشا رئيس النُظَّار، أي الوزراء، بعد وفاة مارييت، وفي أثناء إدارة ماسبيرو للمصلحة.
عند عمله بمصلحة الآثار، أنجز أحمد نجيب كتاب الأثر الجليل لقدماء وادي النيل، نشرت الطبعة الأولى منه سنة (1893- 1894). ويُعدُّ من أبرز أعماله. أراد نجيب بهذا العمل أن يقدم دليلاً جغرافياً مصرياً للسفر لزيارة الآثار مع تحديد المسافات بالكيلومتر، وهو عمل رائدٌ في عصره. جاء في مقدمته: "لما كان أبناء وطننا لا يهتمون برؤية شيء من آثار بلادهم ولا فرق في ذلك بين غنيهم وفقيرهم، وأن من رأى شيئاً منها ما كان إلا من باب الصدفة التي تنوعت أسبابها، وجب علينا خدمتهم بذكر رحلة من مصر إلى جزيرة أنس الوجود في جنوب أسوان، نبين لهم فيها أهم ما وجد في بلادهم من مآثر أسلافهم نجعلها فصولا في آخر أبواب هذا الكتاب تسهيلا لمن أراد الوقوف عليها من الطلاب".
امتزج شرح الآثار في الكتاب بسرد بعض الوقائع والقصص والمغامرات التي خاضها الكاتب في أثناء عمله ودراسته الآثار مع محاولة ربط بعض الأعياد والعادات القديمة بأخرى ما زالت موجودة. ومع صدور الطبعة الثانية من الكتاب، تذكر لنا جريدة الأهالي في عددها الصادر في 21 مايو 1895، أن جلالة السلطان العثماني المعظم أنعم بـ "النشان المجيدي الرابع" على حضرة أحمد بك نجيب المفتش في مصلحة الآثار المصرية، وذلك مكافأة له على تأليف كتاب "الأثر الجليل".
في 1903 لاحظ شخص يدعى أحمد عبد النبي وجود تمثال ملقى على الأرض ومحاط برجُلين على بعد حوالي اثنين كيلومتر من قرية الزيدية قرب من أوسيم غرب الجيزة. شك عبد النبي في هؤلاء الرجال وتلصص عليهم وسمعهم يتفاوضون في ثمن التمثال. سرعان ما أبلغ عمدة الزيدية الذي تمكن من الاستيلاء على التمثال ثم أبلغ مصلحة الآثار التي أرسلت على الفور أحمد نجيب للحصول على التمثال. فحص أحمد نجيب التمثال وكتب تقريراً عنه وهو تمثال من الجرانيت ارتفاعه 41 سم، يمثل لبؤة رابضة (جاثية توجه رأسها نحو طفلها الصغير، طول الصغير 30 سم وارتفاعه 11 سم، ويتجه فمه نحو فخذ أمه. يوجد تلف في فم اللبؤة والمخلب الأيسر أيضًا. لا يحتوي التمثال على أية نقوش وأسلوب نحته رديء يشير إلى فترة من فترات الاضمحلال في مصر. تلك القطعة أيضاً معروضة بالمتحف المصري بالتحرير.
بعد هذه الرحلة الثريّة في عالم الآثار المصري، تقاعد أحمد نجيب عن العمل في عام 1905 وترك مصلحة الآثار المصرية بعدَ إصابته بمرضٍ لم تسجله الوثائق. وبعد اكتشافات أثرية عدة لم يبقَ لنا من بعضها سوى ما سجلته يداه، مثل مغارتي الصاغة والرماد، اللتان استكشفهما وسجلهما في منطقتي طره والمعصرة، توفي أحمد بك نجيب عام 1910. ولم أعثر على أي نعي أو خبر عن وفاته ولم أجد مقبرته في القرافة، وما زال البحث عنه جارياً.