هرب بشار الأسد من سوريا صباح 8 ديسمبر 2024، ولكن بقي كثيرٌ من رجاله في سوريا بِاسم المصالحةِ المجتمعية ودَورِ بعضهم في التعاون خلال العملية العسكرية التي أدت إلى إسقاط النظام. وها أنا "الموزينغو" (الأجنبية)، كما يناديني أهل البلد في أوغندا، قد أتيتُ لتعلّم بناء المصالحة المحلية الأوغندية، أغرق بخوفي مرّةً ثانية. خوفٌ مختلفٌ عن المرّات التي وقفتُ فيها على الحاجز الذي كان يدقّق بهويّتي في دمشق طيلة سنوات. ومختلفٌ عن ذاك الرعب الذي أخفيتُه عن أخي حين انخفضت المروحية فوق دارنا في القرية وبدأت تقصف دارَ عمّي في الطرف المقابل من الأرض. كان خوفي وسط استعصاء السير أن نصبح نحن أوغندا، بلد مصالحةٍ بلا عدالةٍ، حيث يحمي المسؤول نفسه من الشعب بكتيبةٍ عسكريةٍ، في ظلّ انعدام كلّ شيءٍ إلا الفقر والقهر.
أصبحت أوغندا بعد المصالحة بلداً عالقاً في مرحلة "لا حرب ولا انتقال سياسي" مع سلامٍ ظاهري. يصف تقرير مؤشر برتلسمان، الخاص بتقييم مسارات التحول السياسي والاقتصادي ورصدها، الفساد البنيويّ المتشابك مع بنية الحكم وأجهزة الدولة، إذ فقدت مؤسسات المساءلة فاعليتها بفعل التدخلات السياسية، واستُخدمت موارد الدولة لتغذية شبكات الولاء بدلاً من دعم العدالة الاقتصادية والتنمية.
في عتمة الطريق المستعصي، لم يعد الحدثُ مشهدَ موكبِ مسؤولٍ يبالغ في مظاهر السلاح، بل كان ضجيجاً في رأسي يطرح أسئلةً عن إمكانية الوصول للأسوأ في سوريا. حال أوغندا اليوم هو نتيجة تفضيلات لحظة ما بعد النزاع، إذ اختار زعماؤها الاستقرار الهشّ والمصالحة الآنية بدلاً من الخطو باتجاه العدالة ممتدّة الأثر.
يطرح هذا نقاشاً راهناً ومحتدماً في سوريا بعد سقوط الأسد. فحين يكون خيار السلطة تَحقُّقَ الاستقرار الذي يضمن الحكم، يبقى دور المجتمع الخارج من الصراع في الدفع نحو المصالحة أو العدالة أو كليهما، وتلعب إعادة الزعامات التقليدية التي كانت جزءاً من الصراع دوراً في رسم مستقبل الدولة نحو المصالحة أو العدالة.
مع استقلال أوغندا سنة 1962، برز ميلتون أوبوتي، المنحدر من "قبيلة الأتشولي" شمال البلاد، زعيماً للدولة. وصعدت معه طبقةٌ سياسيةٌ وعسكريةٌ متسلطة من أبناء قبيلته، تمكنت من التغلغل في الدولة الناشئة، وخاصةً في الجيش. أدّى ذلك إلى انقسامٍ في السياسة والهوية الوطنية بين شمال أوغندا وجنوبها. انقلب الجنرال عيدي أمين على أوبوتي، وتولّى الحكم من سنة 1971 إلى أن أطاحت به جبهة التحرير الوطنية الأوغندية سنة 1979 وعاد أوبوتي للحكم في السنة التالية. بدأ انقسام الشمال والجنوب مطلع الثمانينيات حين قاد "جيش المقاومة الوطنية" بقيادة يوري موسيفيني، القادم من الجنوب والمتحالف مع المناطق الأخرى، تمرداً للإطاحة بأوبوتي وهيمنة الشمال، حتى استولى على العاصمة كامبالا سنة 1986. وتحوّل جيش المقاومة الوطنية إلى حزبٍ سياسيٍ يقود البلاد برئاسة يوري موسيفيني حتى اليوم. يشير برانش إلى أن هذا الانتقال السياسي رافقه قمعٌ واسع النطاق ضدّ الشماليين، تضمّن انتهاكات حقوق الإنسان بوسائل منها القتل والاغتصاب وعمليات التطهير العرقي. أسفر هذا التحوّل عن تراجع النخبة السياسية الشمالية، مع تلاشي دور القادة التقليديين مثل رجال الدين وزعماء القبائل والمناطق. وهذا ما فتح المجال أمام ظهور حركات تمرّدٍ بصبغةٍ دينيةٍ وشعبويةٍ، مثل حركة "الروح القدس" و"جيش الرب للمقاومة"، والتي كانت ضدّ الحكومة وضدّ المجتمع أيضاً.
كان البعد الديني والروحي مؤثّراً في ترتيب القوى والواقع السياسي والأخلاقي والاجتماعي في أوغندا. يقول الباحث البلجيكي في الدراسات الإفريقية فرانك فان أكتر في دراسته "أوغندا آند ذا لوردز ريزيستَنس آرمي" (أوغندا وجيش الرب للمقاومة) المنشورة سنة 2004 إن "حركة روح القدس" التي قادتها أليس لاكويينا وظفت الدينَ لتبرير العنف والاختطاف ضد حاضنتها المجتمعية الشمالية. وعند تراجع حركتها صعدت حركة أكثر راديكالية منها هي "جيش الرب للمقاومة" بقيادة جوزيف كوني، الذي أعاد بناء التمرد على أساس قومي وديني. برّر كوني العنف والفظائع بحق أبناء الشمال بذريعة الانتقام من "الفاسدين المتعاملين مع الحكومة"، ومن أشكال العنف كان اختطاف الأطفال الذين تم تجنيدهم قسراً واستعبادهم جنسياً وتشغيلهم في تأمين المؤن وجرائم القتل والاغتصاب وتشويه الأجساد بجدع الأنوف والشفاه. تحوّل التمرد بذلك إلى حرب مزدوجة ضد الدولة المركزية وضد المجتمع المحلي نفسه، وخاصة قبيلة الأتشولي التي انطلق منها التمرد. بلغ عدد مقاتلي "جيش الرب" سنة 1997 نحو خمسة آلاف مقاتل، نحو ثلثيهم من الأطفال الذين اختُطفوا وجُنّدوا قبل سنّ الخمس عشرة سنة، حسب الكتاب المشترك "بروتراكتيد كونفليكت، إليوسيف بيس" (صراع مستمر، سلام مراوغ) الذي حرّره الباحث الأوغندي أوكيلو لوسيمه ونشر سنة 2002. وقدّرت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عدد الأطفال المختطفين بين سنتَيْ 1986 و2001 بنحو عشرة آلاف طفل. وبعد عملياتٍ عسكريةٍ بدأت مطلع التسعينيات، وعدّة اتفاقياتٍ وتدخلٍ دوليٍ، تراجع زخم "جيش الربّ" لكنه لم ينْتهِ تماماً.
حضرَت هذه الأزمة في الحوارات التي خضتُها في أوغندا حول مستقبل المجتمعات الخارجة من الحرب. بعيداً عن جدلية الظالم والمظلوم، كان النقاش حول صعود الزعامات الدينية والمحلية المهمّشة بعد قمعٍ سابقٍ دمّر مكانتها الدينية وإمكانية وجود قيادةٍ مدنيةٍ وسياسيةٍ تمثّل المجتمع في أزمنة الحرب أو السلم.
في إحدى الجلسات الحوارية قاربت ناشطةُ بناء السلام الأوغندية زليكا نانفوكا ما يحدث في سوريا بما عاشته أوغندا إبّان سنوات الحرب الأهلية، مستشهدةً بأحداث الساحل والسويداء التي شهدت صراعاً بين مقاتلين علويين ودروز من جهة، ومقاتلي حكومة الرئيس أحمد الشرع وقوات غير نظامية متحالفة معها. اعتبرت نانفوكا أن المجتمعات في مرحلة الانتقال وتغيّر موازين القوى قد ينشأ لديها شعورٌ بالغبن في التمثيل السياسي، ما يدفعها إلى استخدام العنف المفرط لتأكيد وجودها والحصول على مكاسب، وهو عنفٌ غالباً ما ينقلب على المجتمع المحلّي نفسه قبل أن يصل أثره إلى السلطة المركزية.
وفي سياق هذه المقاربة، عرضت نانفوكا تجربة أوغندا في المصالحة، قائلةً: "نجحنا في المصالحة وفشلنا في العدالة. ولكن يمكن دائماً التعلم من فشل الآخرين". فعندما حوصرت القبائل والمناطق الشمالية في أوغندا، وبعد أن أعلنت حكومة يوري موسيفيني سنة 2000 عفواً عاماً يشمل كلّ مقاتلٍ يلقي سلاحه، وجدت مجتمعات الشمال نفسها أمام خيارين، إما طريق الثأر من المقاتلين المحلّيين الذين أجرموا بحقّها، أو التوجّه للمصالحة. وهنا بادر ورثةُ زعماء القبائل الذين نحّاهم الاستعمار، ورجال الدين الذين عادوا، لإحياء آليات المصالحة الإفريقية. وهو ما ساعد في تقبّل المجتمع أبناءَه العائدين والعفو عنهم، بحسب نانفوكا.
ترافق العفو العامّ مع غياب توجّهٍ جدّيٍ للدفع بمسار العدالة، ومع عدم التزام الحكومة بدعم عمل لجنة التحقيق، بحسب أستاذة العلوم السياسية الكندية جوانا كوين في كتابها عن لجان الحقيقة في أوغندا وهاييتي "ذا بوليتيكس أُوف أكنولِدجمِنت" (سياسات الاعتراف) المنشور سنة 2011. فقد اعتقدت الحكومة، بحسب كوين، أن ثمّة إثباتاتٍ على تورطها بالانتهاكات، وخشيت من عملية عدالةٍ شاملةٍ قد تفضي إلى المحكمة الجنائية الدولية. ولذلك حصرت الملاحقة الجنائية في قادة "جيش الربّ" المعروفين فقط. واعتبرت كوين أن فقدان مجتمع الأشولي ثقته بالحكومة ومحاكمها، المبنية على تجاربه العنيفة السابقة، دفعه إلى تبنّي مسارات المصالحة، فظهرت مبادراتٌ صغيرةٌ على مستوى القرى والجماعات المحلية، كان جوهرها إعادة استيعاب الأبناء الذين فقدهم المجتمع بسبب التمرد.
قالت لي إليزابيث نيكولوفا، التي تكتب عن إعادة إدماج المقاتلين في المجتمع، إن أيّ آليّةٍ للصلح تشترط أولاً اعترافَ المقاتل بذنبه، وموافقةَ زعامات القرية أو المنطقة على مسامحته. عندها تبدأ آليّة الصلح التي تصحبُها طقوسٌ رمزيةٌ هدفُها نزعُ الشرّ الذي يُعتقد أنه سكن فيه وتطهيرُه منه. وفي بعض المناطق الشمالية يتجه زعيم القرية إلى شجرةٍ تعادل عمر المقاتل العائد، فيقطعها ويدفنها كنايةً عن موت المقاتل المعنوي وبداية حياةٍ جديدة. في مجتمعاتٍ أخرى، يقف المقاتل على حدود القرية، حتى تحمله والدته على ظهرها وتعيده إلى بيتها كأنها ولدته من جديد.
تُعدّ هذه الطقوس الرمزية أوّل خطوةٍ في مسار مصالحةٍ أوسع يقوده الزعماء المحليون والدينيون وزعماء القبائل التقليديون الذين فقدوا مكانتهم سابقاً، ويهدف للتسوية بين المجتمعات التي تضرّرت من أفعال العائدين من القتال. ينتقل الصلح من مستوى القرية إلى المنطقة والقبائل المتجاورة، حيث تتطلّب إعادة بناء النسيج الاجتماعي أدواتٍ أشمل.
أبرز هذه الأدوات طقسُ "ماتو أبوت"، وهو طقسٌ خاصٌ بشمال أوغندا يمارَس بعد وقوع جريمة قتلٍ معروفة الأطراف بين قبيلتين. إذ يجتمع ممثلو قبيلتَي القاتل والضحية، بعد اعتراف الجاني وإعلان ندمه، وقبول قبيلة الضحية الاعتراف. ويُقدّم فيه دمُ خروفٍ ممزوجاً بشرابٍ مُرّ الطعم اسمه "أبوت"، يتشاركه زعيما القبيلتين أو ممثّلاهما، تعبيراً عن تجرّعهما مرارةَ الموت والقبول بتجاوز العنف، ليُعلن في نهاية المراسم عن نبذ الثأر واستقبال السلام.
ولكن هذه الآليّة لا تُطبّق دائماً. فعندما تكون الانتهاكات جماعيةً ويصعب تحديد شخص مرتكبها من القبيلة الثانية، تلجأ القبائل إلى آليّة "غومو تونغ"، إذ تجتمع القبيلتان المتخاصمتان على مائدةٍ مشتركةٍ ويُثنَى رمحُ الحرب أمام الحاضرين. وهو فعلٌ يرمز إلى كسر دائرة الحرب وإرادتها، ويعلن بذلك انتهاء الثأر وسقوط المطالبة به.
رغم شيوع هذه الطقوس المحلية ودلالاتها عن المصالحة ونسيان الماضي، إلّا أنها لم تكن كافيةً للنسيان حقاً.
لم تتحقق هذه العدالة في أوغندا، مع أن آليات المجتمعات المحلية الخاصة بعلاج تبعات الحرب ذاتياً تبدو مبهرةً بادي الرأي. فقد أوقفت الدماءَ وأرست ثقافة العفو، حتى عن المعروفين بارتكاب الفظائع وجرائم الحرب. غير أن الانبهار يتلاشى كلّما تعمّقنا أكثر في شهادات الضحايا. يتحدث يحيى أرواه للفِراتْس عن قريته بشمال أوغندا إبّان التمرد حين سيطر "جيش الرب" على مدرسةٍ ثانويةٍ واختطف منها نحو أربعين طالبةً، عاد بعضهنّ في حين بقي مصير الأخريات مجهولاً حتى اليوم. عادت بعضهنّ وهنّ حوامل، ثمّ أنجبْنَ أطفالاً نبذهم المجتمع نفسه الذي صالَحَ المغتصِب. يقول يحيى إن المصالحة كانت عظيمةً، ولكن ليس للنساء المختطفات، إذ "لم يسألهنّ أحدٌ إن كنّ يرِدنَ المسامحة أو التعويض. ولم يسأل أحدٌ عن حياة أبنائهنّ. ببساطةٍ لم يكترث بهنّ أحد".
فُضّل خيار المصالحة المجتمعية على السعي لتحقيق العدالة. فقد تجاوز مسار ما بعد الصراع والمصالحة النساءَ والضحايا والشرائحَ الأفقر التي تضرّرت من الحرب. وهذا من أجل استعادة القادة والمقاتلين العائدين، وكذلك الزعماء التقليديين الذين لم تطاردهم الدولة. تشير جوانا كوين في كتابها إلى أن تمكين الزعماء التقليديين وزعماء الحرب من استعادة مكانتهم داخل مجتمعاتهم أعاق الدفع إلى العدالة. إذ يخشى هؤلاء خسارة مكاسبهم ومواقعهم الجديدة، ما يوقف فاعليتهم عند حدود المصالحة ويدفعهم إلى رفض لجان الحقيقة.
منحت هذه المعادلة السلطةَ فرصةً للتخلي عن مسار العدالة، لأجل تعزيز موقعها وسلطتها، وإقناعِ المجتمع أن العدالة والمصالحة قطاران متعارضان، لا يمكن أن يسيرا معاً. وهو ما تتحدث عنه الباحثة في الدراسات الاجتماعية القانونية، جانيت ماكنايت، في بحثها المعنون "أكاونتابيليتي إن نورذِرن يوغاندا" (المساءلة في شمال أوغندا) المنشور سنة 2015. وتقول إن بلاد ما بعد الصراع أو التحول السياسي غالباً ما تقع في فخّ "الثنائيات الكاذبة" التي تُقدّم فيها العدالة والسلام خيارَيْن متعارضَيْن، في حين يمكن تحقيق توازن بينهما إذا استندت العملية الانتقالية إلى فهم جذر الصراع وتحولاته السياسية والثقافية بعمق. فالدفْعُ المُفْرطُ باتجاه السلام على حساب العدالة أَعاق الحلّ السياسي الحقيقي، وأَوْقف أوغندا عند لحظة انتقالٍ لم تكتمل. تصف جوانا كوين هذه اللحظة أنها بين اللا حرب واللا انتقال، في دراستها "وِيذر ذا تزانزِشين أُف ترانزِشينال جَسْتِس" (إلى أين يتجه "الانتقال" في العدالة الانتقالية) المنشورة سنة 2014. وهي لحظةٌ ممتدةٌ تشهد فشلَ مسار العدالة الانتقالية في التقدم، وافتقارَ الانتخابات الحكومية إلى النزاهة، واستمرارَ العنف حتى بعد إعلان العفو.
لم تتغير النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية جوهرياً على نحوٍ يعيد الحقوق لأصحابها. وهو ما يترك البلاد عالقةً بين الحرب والفترة الانتقالية. وربما تكون سوريا مهدَّدةً بلحظةٍ ممتدّةٍ مشابهة.
ومع ذلك، برزَتْ في مرحلة ما بعد الأسد فكرة العفو والمصالحة. بدءاً من شعار "الفتح الذي لا ثأر فيه" الذي رفعه قائد غرفة إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع بعد وصول الفصائل المسلحة إلى حماة، ثم العفو العامّ الذي أصدرته "إدارة العمليات العسكرية" عن مجنّدي جيش النظام السوري السابق غداة هروب بشار الأسد.
ولكن هذا العفو، وإن بدأ تصالحياً، فإنه يواجه عدد الضحايا الكبير الذي انتظر طويلاً سقوطَ الأسد لتحقيق العدالة. ففي صباح 8 ديسمبر 2024، عاد السجانون والضباط وقادة الميليشيات إلى منازلهم آمنين، ولم يعلَن عن آليّة مساءلةٍ واضحة. لينقسم السوريون إلى عدّة مجتمعاتٍ، بعضها يخشى الثأر والانتقام الأعمى، والآخَر يخشى ضياع حقّه مقابل السلم المجتمعي.
وقعت أولى حوادث العنف الواسع عقب سقوط الأسد عند أحداث الساحل السوري في مارس 2025. حصل ذلك عند هجوم مسلّحين تابعين للنظام السابق على القوات الحكومية الجديدة ومدنيّين سنة، تبعه هجومٌ واسعٌ من قوات الحكومة ومؤيديها رافقه عمليات قتلٍ واسعة طالت مسلحين ومدنيين علويين. كان هذا عنفاً متعدّد الأطراف بين مرتكبي الانتهاكات في العهد السابق الذين رتّبوا صفوفهم رفضاً للسلطة الجديدة وخوفاً من استهدافهم، وبين فئةٍ من ضحايا هؤلاء الذين وجدوها فرصةً لانتقامٍ ربما كان يمكن للعدالة أن تَحُول دونه. بعد هذه الأحداث التي أظهرت خطر التأخر في آليّاتٍ مؤسسيةٍ للعدالة والسلم الأهلي، صدر مرسومان في التاسع من مارس 2025 بتشكيل لجنتين للسلم الأهلي وللتحقيق في أحداث الساحل. وبعد نحو شهرين، في 17 مايو، شُكّلت هيئتان للعدالة الانتقالية والمفقودين.
ولكن اللجنة العليا للسلم الأهلي انحرفت عن مهمتها الأصلية في إدارة المصالحة المجتمعية. فالمؤتمر الذي عقده عضو اللجنة الشيخ حسن صوفان في يونيو 2025 تكلّم فيه عن ملفاتٍ تتقاطع مع العدالة الانتقالية. وعندما سُئل عن قادة النظام السابق الذين منحوا الأمان، وخاصةً فادي صقر، أحد زعماء ميليشيات "قوات الدفاع الوطني"، أجاب صوفان بأن "القيادة" منحت الأمان لصقر لتعاونه معها في مرحلة انتقال السلطة، ولأن منح الأمان يَحُلّ العُقَدَ المجتمعية ويسهم في حقن الدماء "سواءً لدى جنود الدولة أو في المناطق الساخنة والحواضن المجتمعية". وقال إن السلم الأهلي له الأسبقية على العدالة الانتقالية في هذه المرحلة، وإن العدالة لن تستهدف الجميع وإنما "كبار المجرمين الذين نفذوا جرائم وانتهاكاتٍ جسيمة".
تذكّر هذه الأفكار بمنطق موسيفيني عندما حصر ملف الملاحقات القضائية في قادة "جيش الربّ" وعبر المحاكم الدولية، في حين منح آلاف المقاتلين الآخرين عفواً عاماً. وبذلك أَسقطَت الدولة المسؤوليةَ الفرديةَ لمرتكبي الانتهاكات من الصفوف الدنيا عن أفعالهم وسمحت لهم بالعودة إلى المجتمع.
والنتيجة هي عودة الجلّاد إلى جوار ضحيّته في سوريا، بلا أن يكون للمجتمع دور في قبول هذه العودة أو رفضها، وبلا أن يحصل الضحايا على اعترافٍ أو إنصافٍ معنويٍ أو حتى مساءلةٍ رمزية. لتتحول المصالحة من أداةٍ للتعافي الجماعي إلى آليّةٍ لإعادة تدوير الإفلات من العقاب بِاسم حقن الدم وحفظ الاستقرار.
في تفاصيل الحياة اليومية في أوغندا، ترى ملامحَ التعب على مجتمعٍ يحاول مواصلة حياته بعد الحرب الطويلة. وفي ظلّ الفساد والسلطوية المستمرَّيْن بعدها، يبدو كأن الحرب لم تغادر بعد تلك الوجوهَ والأرصفة. فعلى غنى هذه البلاد بالموارد الطبيعية لم أجد فيها رصيفاً خارج مركز المدينة. وكثيراً ما تساءلتُ وأنا أسير في الطرقات البلدية الترابية كيف يمكن لشعب أن يعيش في مدينةٍ بلا أرصفة. وتغصّ أطراف الشوارع الترابية ببائعات الذرة والفستق والقات، مع عشرات المبشّرين بالمسيحية الذين لم يترددوا عن توقيفي عدّة مرّاتٍ، وسَيْل دراجات الأجرة النارية الصغيرة التي يقودها خريجو الجامعات العاطلون عن العمل والحالمون بطريقٍ للهجرة. كان مشهداً يذكّرني بسوريا بعد هروب الأسد، مع مفارقةٍ أن أوغندا أنهت حربها العلنية قبل عقدين دون أن تنجو من تبعاتها الاجتماعية والاقتصادية.
تثبت تجربة أوغندا أن المصالحة وحدها لا تكفي في مجتمعات ما بعد النزاعات لاستعادة العافية والاستقرار وإحساس الأمان، فالخوف في أوغندا يحيط بالجميع. تحدّثَت إليّ دينا، صاحبةُ المنزل الذي أقمت فيه، عن خوفها من اندلاع ثورةٍ ضد السلطة، التي لا توظّف إلّا أبناء قبيلتها. وأما محمد، الشابّ المسلم المتدين، فهو يخاف تزايد استهداف السلطة المسلمين الأوغنديين الرافضين التهميشَ والتفاوتَ الاجتماعيّ الذي تتسع هوّته كلّ يوم. وشاركتني باتريس، السيدة الخمسينية اللطيفة، خوفَها أن يترك لها ابنُها العاطل عن العمل أحفادَها لتنفق عليهم وحدها، ويغادرَ البلاد مثل رفاقه دون عودة. ويخشى المسؤولون أنفسهم أن يستهدفهم أحد اليائسين، كما برّر سائق الدراجة النارية حين سألته عن الموكب العسكري.
في هذا الخوف المنتشر، يبدو أن المجتمع لا يعيش سلاماً حقيقياً، بل هدنةً هشّةً وتسويةً مؤقتةً يمكن أن تتحول إلى حربٍ في أيّ لحظة. فحين لا تقترن المصالحة بالمساءلة والعدالة، يتحوّل السلم الأهلي إلى غطاءٍ لتأجيل الصراع، وإلى آليّةٍ تعيد إنتاج البنى نفسها التي غذّت جذور الحرب.

