ساهمت الطرق الصوفية في السنغال، والطريقة المريدية خصوصاً، في فوز واد في الانتخابات الرئاسية سنة 2000. فقد غضبت الطرق الصوفية في السنغال من سلوك الرئيس عبدو ضيوف، الذي امتد حكمه من سنة 1981 حتى سنة 2000، عندما خسر الانتخابات أمام واد. اعتبرت الطرق الصوفية في السنغال أن ضيوف اتجه نحو علمانية متشددة معاديةٍ الروحانيةَ في سنواته الاخيرة في الحكم، مع أن الطريقة المريدية في السنغال كانت قد دعمت ضيوف قبل ذلك في انتخابات سنة 1988 ما قاده إلى الفوز والبقاء في الرئاسة حينها.
الصراعات في السنغال ليست سهلةً. فهناك ترتيبات النفوذ والسلطة بين جماعات صوفية دينية وقوى سياسية، بعضها علماني وآخر ديني. معظم الأحزاب علمانية، لكن الصوفية المسلمة تساهم في تفاعل المجتمع بانضباط مع العملية السياسية الديمقراطية وفي تطور الاقتصاد المحلي. كان للطرق الصوفية في السنغال مساهمةٌ في صعود أول رئيسٍ للبلاد بعد استقلالها، وهو ليوبولد سيدار سنغور، واستمرار حكمه. مع أنه مسيحي في بلدٍ يشكّل المسلمون فيه أكثر من 90 بالمئة من سكانه. قامت العلاقة منذ بداية الدولة السنغالية المستقلة على معادلة التواصل بين الحاكم وبين زعامات الطرق الصوفية المؤثرة على المجتمع. وشكلت تلك العلاقة ملمحاً أساسياً لعقدٍ اجتماعي ساهم في إقامة النظام الديمقراطي في السنغال واستمراره، وقدّم نموذجاً حياً على أن الدين لم يكن عائقاً أمام التحول الديمقراطي.
في العموم ساهمت الطرق الصوفية في السنغال، والتي يتبعها أغلب أبناء البلاد، في تحقيق الاستقرار المجتمعي ولاسيما في أوقات المحن والأزمات. فقد أضحت العلاقة الخاصة بين السلطة الحاكمة والزعامات الصوفية تجسيداً لصيغة عقد اجتماعي عزز استقرار السنغال. فهناك تناغم بين علاقة مشايخ الصوفية في السنغال وأتباعهم من جهة، وعلاقة الطرق الصوفية نفسها والدولة من جهة أخرى. ويؤكد العقد الاجتماعي بهذا المعنى على التفاعلات السياسية والاجتماعية والثقافية التي أطلق عليها الأكاديمي السنغالي مامادو ضيوف "نموذج إسلام الولوف"، وشعب الولوف هو أكبر مجموعة عرقية في السنغال أغلبهم من أتباع الطريقة المريدية. ويشير مُصطلح نموذج إسلام الولوف إلى الترتيبات السياسية والثقافية والاجتماعية التي دعمت سلطة الدولة في السنغال في مرحلة الاستعمار وما بعد الاستعمار.
انتشرت الطريقة القادرية الشهيرة في العالم الإسلامي مبكراً في السنغال وساهم شيوخها في التطور الاجتماعي والسياسي. لكن الطريقة التيجانية تطورت وفاقت القادرية عدداً وتأثيراً فصارت اليوم الأكبر في السنغال. وعززت تعاليمُها في قيم الهوية المتساوية لأفرادها مسلمين تيجانيين التطورَ الاجتماعيَ، خصوصاً في إعطاء دور أكبر للنساء داخل النظام الاجتماعي.
أما الطريقة المريدية في السنغال فهي، وإن لم تكن الأكثر اتباعاً، إلا أنها الأكثر تنظيماً ونفوذاً وسطوةً. وهي كذلك طريقة سنغالية النشأة ومؤسسها سنغالي هو أحمد بن محمد بن حبيب الله، المعروف باسم أحمد بامبا أو خادم الرسول. ولد أحمد بامبا سنة 1850 وتوفي سنة 1927 بعد أن ترسخت الطريقة المريدية في المجتمع السنغالي وأصبحت جزءاً من الفضاء السياسي والاجتماعي. ثم أصبح أولاد أحمد بامبا يتولون زعامة الطريقة، ويعرف زعيم الطريقة المريدية بلقب الخليفة العام. تستضيف مدينة طوبى، ثاني أكبر مدن السنغال وعاصمة المريديين الروحية، رحلة الحج السنوية الكبرى التي يصل عدد المشاركين فيها إلى مليونين.
أما الطريقة اللاهينية فقد نشأت في بيئة مختلفة عن الجماعات الأخرى. إذ نشأت الطريقة وتطورت في قلب مستعمرة السنغال الفرنسية، وليس في محيطٍ ريفي داخلي، فتداخلت عندهم المعتقدات. ومع بقائهم متمسكين بالإسلام، إلا أنهم جمعوا بين عقائده وأفكار أخرى، مثل عقيدة تبجيل الأرواح.
يظل الخطاب الصوفي الإصلاحي، كما أظهره أحمد بامبا، قوة ثقافية هائلة في المجتمع السنغالي. ولذلك يكشف تحليل خطاب الطريقة المريدية في سياق تطور الإسلام في السنغال أن أحمد بامبا كان نشطاً وملتزماً بتغيير مجتمعه. ومن ثم فمن المهم النظر إلى أفكاره وأفعاله في ضوء الجدل الدائر حول الإصلاح الإسلامي في غرب إفريقيا منذ القرن الثامن عشر. فقد اعتمد أحمد بامبا الصوفية أسلوب حياة لتغيير مجتمعه، وكان ردُه على الاستعمار الفرنسي البحثَ عن الاستقلال الثقافي. وفي هذا السياق قدّم طريقاً ثالثةً بين ثنائية دار الإسلام ودار الكفر. فقد أصبحت السنغال "دار المريد" وهي مفهوم جديد لمجال يقع داخل "دار الكفر". فلم تكن هذه المساحة المريدية في نزاع مع الاستعمار الفرنسي، بل سعت إلى تحقيق الاستقلال الرمزي والثقافي عن العالم الاستعماري.
وباختلاف عن كثير من الإصلاحيين الصوفيين، ركزت دار المريد لأحمد بامبا على الفضائل الإسلامية المتمثلة في رفض العنف والحياد السياسي. فسهّل هذا الإرثُ الرافض العنفَ والراغب في الحفاظ على مسافة آمنة من السلطة السياسية الانتقالَ السلمي إلى الاستقلال الوطني والاستقرار الديمقراطي في السنغال، مقارنة بالدول الأخرى التي تضم عدداً كبيراً من السكان المسلمين والمسيحيين. يقول رحماني إدريسا في كتابه "بولتيكس اوف إسلام إن ذا ساحل: بتويين بيروجن اند فايلانس" (سياسات الإسلام في الساحل: بين الإقناع والعنف) المنشور في لندن ونيويورك سنة 2019 إن "الدولة السنغالية المستقلة قبلت المؤسسة الصوفية وسلطتها في المجتمع، لكن الأمة الجديدة لم تشهد وجود هيمنة ثقافية". فالسنغال في دستورها دولةٌ علمانية مع وجود أغلبية مسلمة تعتمد نظاماً ديمقراطياً يسمح بمشاركة مجتمع مدني قوي وفاعل. ربما استخدمت النخبةُ السياسية العلمانيةَ أداةً سياسيةً للسيطرة الاجتماعية على الدين، ولكن الطريقة المريدية في السنغال حافظت على استقلالها عن الدولة ولم تعتبر نفسها مؤسسة سياسية. فتعايشت السلطات الدينية والسياسية، بدلاً من التنافس على الفضاء العام.
وبهذا المبدأ تكون الطرق الصوفية في السنغال وسيطاً بين الدولة والمجتمع كما حدث في فترات حكم سنغور وضيوف وواد. وقد أسهم التعاون السياسي بين هذه الطرق والأحزاب السياسية في ضمان كتلة انتخابية مستقرة نسبياً. استطاعت الطرق الصوفية تفعيل مبدأ السمع والطاعة، لا سيما في مواسم الانتخابات، فأثبتتْ قدرتها على القيام بدور ما يمكن أن نسمّيه المقاول السياسي، على حد تعبير بلواضح ساعد وملاح السعيد، في دراستهما "دور الطرق الصوفية في إرساء الديمقراطية في السنغال" المنشورة في المجلة الجزائرية للأمن الإنساني سنة 2020. ومع أن المؤسسات الصوفية في السنغال تشكل محوراً سياسياً قادراً في بعض الأحيان على حشد الدعم لتشكيل القرارات السياسية وفقاً لتفضيلاتها الدينية، إلا أنها كانت تحافظ على توافقها مع الدولة العلمانية الصريحة.
في مرحلة ما بعد الاستعمار تبنى الرئيس المؤسس ليوبولد سيدار سنغور مفهوماً روحياً لعلمانية الدولة. فقد رأى ضرورة تحرير السياسة من هيمنة الدين وفي نفس الوقت حماية الدين من التحجر والجمود المؤسسي. لقد آمن سنغور ورئيس وزرائه مامادو ضيا أن الوازع الديني يمثل قوة وطاقة إيجابية لا غنى عنها من أجل تحقيق التنمية والتقدم. وعليه بات تأثير الحركات الصوفية على النخب السياسية واضحاً منذ سنغور وعبدو ضيوف مروراً بعبدالله واد وماكي سال وانتهاء بالرئيس الحالي باصيرو فاي.
وعلى سبيل المثال تعاونت الطرق الصوفية مع الدولة في مكافحة عادة ختان الإناث. وقد أسهمت الطريقة التيجانية الصوفية، أكبر الطرق الصوفية في السنغال، بدور كبير في هذا الجهد. كتب عبدالعزيز كيبي، أحد الشخصيات البارزة في الطريقة التيجانية، تقريراً شاملاً يدين ختان الإناث لأنه لا يتفق مع صحيح الدين، فضلاً عن ضرره. نُشر التقرير الذي أقرّته شبكات التيجانية والسلطات الصحية الحكومية على نطاق واسع، وبُثّ في الإذاعة والتلفزيون. ثم استخدمت الحكومة والرابطة الوطنية للأئمة في السنغال هذا التأييد الديني لدعم تنفيذ قانون سنة 1999 الذي يحظر ختان الإناث، ودمج الرسائل المناهضة لختان الإناث في الخطاب الديني لتعزيز قبول القانون وإنفاذه.
علاوة على ذلك، هيّأتْ مشاركة القادة الصوفيين البارزين وأتباعهم في السياسة إطاراً أخلاقياً يوجه التصرفات والقرارات السياسية. وقد ساعدت هذه المشاركة في التوسط في النزاعات وتعزيز ثقافة المسؤولية المدنية والخدمة العامة. إن الاحترام والتأثير الذي يحظى به هؤلاء الزعماء الدينيون بين السكان يضمن بقاء العمليات السياسية شاملة وتعكس قيم المجتمع.
أسهمت عائلاتٌ مؤثرة في تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي للبلاد بمشاركتها الدينية والسياسية. فقد شاركت عائلة سي في تيفاوان بقيادة شخصيات مثل مالك سي وأحفاده، وعائلة مباكي في طوبى منذ عهد أحمد بامبا مباكي، بأدوار كبرى في الطرق الصوفية والسياسة الوطنية. وكانت عائلة نياس من كاولاك، ولا سيما عبدالله نياس وإبراهيم نياس، مؤثرة أيضاً. علاوة على ذلك ساهمت عائلة ديينغ، مع مور ماسامبا دييري ديينغ، وعائلة سيسي بما في ذلك بيران سيسي وأحفاده، في تشابك السلطة الدينية والاستقرار السياسي في السنغال. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى أنه أثناء الأزمة السياسية في سنة 2012، عندما سعى الرئيس عبدالله واد إلى الترشح لولاية ثالثة، اندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد.
وفي حين لم تتحالف عائلات معينة مثل عائلتي دييه وسيسي علناً مع أي فصيل سياسي، فقد أسهمت بأدوار حاسمة غير مباشرة في تشجيع الاحتجاجات السلمية وحث القادة السياسيين على احترام القيم الديمقراطية. وكان تأثيرهم على كل من النخبة السياسية والجماهير مهماً في ضمان انتقال سلمي للسلطة بعد فوز ماكي سال في الانتخابات. وشاركت عائلة سيسي، وخاصة في المناطق الريفية، تاريخياً في التوسط في النزاعات حول الأراضي والموارد والحكم المحلي. ولقد ساعدوا بذلك في تسوية النزاعات سلمياً ومنع التصعيد والحفاظ على التماسك الاجتماعي في ريف السنغال.
لقد ساعدت الطرق الصوفية في السنغال، بفضل نفوذ قادتها الروحيين وتعزيز قيم السلام والحوار واحترام المؤسسات الديمقراطية، على توجيه البلاد أثناء فترة سياسية مضطربة. فكانت مقارباتُ مشايخ الصوفية وتحالفاتهم مع الدولة مفضيةً إلى دمج المبادئ الدينية في نسيج الديمقراطية السنغالية، وبالتالي ضمان التعايش السلمي.
وبالنظر إلى مسارات المستقبل، فمن المرجح استمرار تأثير الطرق الصوفية في السنغال على الاستقرار السياسي والاجتماعي، لاسيما التوسط في النزاعات والحفاظ على التماسك الاجتماعي. لكن التحديات الكبرى، مثل صعود الإسلام السياسي والضغوط الاقتصادية والحاجة إلى قدر أكبر من المشاركة للأقليات الدينية، قد تشكل مسار الطرق الصوفية في السنغال. ففي أواخر الثمانينيات كان النظام السياسي تحت ضغط شديد.
فقد أدى التدهور الاقتصادي المستمر والإحباط السياسي إلى اندلاع الاحتجاجات والاستياء الواسع النطاق، كما حدث في أماكن أخرى في إفريقيا. ارتبط بذلك تآكل ظاهرة "نديغل" وتراجع أساس العلاقة بين الشيخ والمريد بسبب التحديث والأزمات الاقتصادية التي عانت منها السنغال. وعلى سبيل المثال ظهر جيل جديد من المرابطين أو مشايخ الطرق الصوفية، منذ فترة الرئيس عبدو ضيوف، وقد انغمس كثير منهم في عالم السياسة والتجارة. أضعف ذلك الأساسَ الأخلاقي الذي يقوم عليه مبدأ السمع والطاعة وساهم في إحداث شيء من تصدع العلاقات بين الأتباع والقادة في الجماعات الصوفية.
وكما هو الحال في أماكن أخرى من العالم الإسلامي، كان المركز الرئيسي لحركات الإسلام السياسي في السنغال داخل الجامعات. إذ تأسست جماعة عباد الرحمن سنة 1978 وحققت نصراً رمزياً ببناء مسجد في حرم جامعة داكار. وكان تبني الفتيات الجامعيات لارتداء الحجاب على نطاقٍ واسعٍ مظهراُ واضحاً لحيوية هذه الحركة في تسعينيات القرن العشرين. وفي سنة 2002 تأسست منظمة رسمية، هي حركة الطلاب والطالبات لجماعة عباد الرحمن. ومع أهمية هذه الحركات، إلا أن شعبيتها كانت محدودة للغاية خارج فئة المثقفين الشباب. بيد أن الحركات الأهم هي الحركات التي نشأت من رحم النظام الصوفي. ولعل أبرز هذه الحركات كانت حركة "المسترشدين والمسترشدات" بقيادة مصطفى سي، وهو مرابط شاب من عائلة تيجانية عريقة.
بُنيت حركة المسترشدين وفقاً لنموذج الدائرة الصوفية بصيغته التراتبية، ولكن بصورة أكثر عقلانية وحداثة. ومع اتهام الحركة بالأصولية والمشاركة في أعمال العنف في أعقاب الهجوم العلني على الرئيس عبدو ضيوف أثناء الحملة الرئاسية لسنة 1993، إلا أن تاريخها اللاحق أظهر أن هذا لم يكن الحال على الإطلاق. ولعل محورية الحركة تكمن في أنها أشارت إلى انحراف كبير عن العلاقات الراسخة بين شيوخ الطرق والنخبة السياسية، وخاصة لأنها عبرت عن حركية سياسية مباشرة بلا وسيط. وبالمثل كانت الحركة الموازية داخل الطريقة المريدية هي حزب الترقية، الذي بدأ جمعيةَ طلاب مريدية في جامعة داكار. وقد وصفت الحركة نفسها أنها تسعى إلى تحديث نظام الدائرة الصوفية وترشيده. ومع ادعائها الولاء القوي للطريقة المريدية، إلا أنها تحدت التسلسل الهرمي للطريقة بانتقاد فكرة الزعامة الوراثية. ولقد أدى الجدل والصراع الناتج عن ذلك إلى انقسام الطريقة وانحدارها.
قد تطرح التحديات السابقة الجدل عن موقف الصوفية من الدولة بحيث يمكن التمييز بين ثلاثة جوانب رئيسة. الجانب الأول يتمثل في الحوار والتفاعل وهو نمط ارتبط بمؤسس الطريقة التيجانية المرابطية في تيفان مالك سي. أما الجانب الثاني فيمثله مؤسس الطريقة المريدية أحمد بامبا الذي حافظ على مساحة آمنة من السلطة، فيما أطلق عليه اسم دار المريد. ويمكن تصور جانب ثالث مثّله تاريخياً عمر تال الذي قاد حركة الجهاد المسلح ضد الغزو الفرنسي.
إن مشاركة الزعماء الصوفيين المستمرة في الخطاب السياسي، وقدرتهم على التكيف مع أطر الحكم الحديثة، سوف تكون حاسمة في تحديد دورهم في الحفاظ على الاستقرار الديمقراطي والاجتماعي في السنغال. ومع بعض المخاوف التي أثارتها أحداث مثل الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل سنة 2012، وتأخير انتخابات سنة 2024 حين انطلقت احتجاجات الشباب ضد الحكومة، إلا أن السنغال حافظت على نظامها الديمقراطي المدعوم من قادة الطرق الصوفية مقدمة نفسها استثناءً إفريقياً يحمل طابعاً إسلامياً صوفياً.
