كيف شكّلت الصراعات السياسية مجال كرة القدم؟

ليست كرة القدم الحديثة مجالاً ترفيهياً منفصلاً عن السياسة كما يُرَوّج، بل هي جزءٌ رئيسي من الصراعات السياسية التي أنتجت العالم الذي نعرفه اليوم.

Share
كيف شكّلت الصراعات السياسية مجال كرة القدم؟
أمثلة تداخل كرة القدم والسياسة أكثر من أن تُحصى | تصميم خاص بمجلة الفِراتْس

تبدو السياسة وكرة القدم مجالَين متمايزَين. السياسة في الإطار الوطني محلّها المجالس التمثيلية والمؤسسات التنفيذية وأجهزة الدولة والأحزاب السياسية، وأهم فعالياتها الانتخابات العامة والاستفتاءات والتشريعات والقرارات الحكومية. وفي الإطار الدولي أفرادها الدول وبعض المنظمات السياسية ومؤسسات متعددة الأطراف. أما كرة القدم ففاعلياتها المباريات والمسابقات، وأطرافها ومحلّها الأندية والاتحادات المحلية والإقليمية والقارية التي تكتسب شرعيتها من العضوية في الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا". وهذا الاتحاد يُصرّ على أنَّه جهة غير سياسية، فتمنع لوائحُه اللاعبين من رفع أي شعارات سياسية في أثناء المباريات وتمنع تدخّلَ الحكوماتِ في النشاط الكروي. تعضد وسائلُ الإعلام هذا التمايز، فتُخَصِّصُ قنواتٍ وبرامجَ وصفحاتٍ ومحرّرين وكتاباً ومقدّمي برامج للشؤون السياسية، وآخرين للرياضة. ومثل ذلك التخصصاتُ الأكاديمية، التي تخصص العلومَ السياسية لدراسة أنظمة الحكم والانتخابات ومؤسسات الدولة والأحزاب والعلاقات الدولية، بينما تسأل كرةَ القدم سؤالاً ثقافياً أو اجتماعياً، محلّه علم الاجتماع أو علم الإناسة.

لا تعني دعوى التمايزِ افتراضَ عدمِ تداخل المجالين. أمثلة تداخل السياسة وكرة القدم أكثر من أن تُحصى، وتشارك فيها كل أطراف منظومة كرة قدم المحترفين. فالأنظمة السياسية الاستبدادية تستغلّ المسابقاتِ الكرويةَ الكبرى لتبييض سمعتها الدولية، كما حدث في كأس العالم التي نظمتها إيطاليا الفاشية سنة 1934، والتي نظمتها الأرجنتين العسكرية سنة 1978. وتوظِف الفرقَ المحلية والمنتخباتِ الوطنية لخدمة برامجها السياسية الداخلية، كما حدث من توظيف جمال مبارك، ابن الرئيس المصري حسني مبارك، تفوّقَ المنتخب الوطني بين سنتي 2006 و2010 لترويج صعوده السياسي. والمؤسسات الكروية الكبرى أيضاً تُعلن مواقف سياسية، مثل إعلان رابطة الدوري الإنجليزي الممتاز تأييدَها أوكرانيا في العدوان الروسي الذي بدأ سنة 2022. ويستغلّ اللاعبونَ شعبيّتهم الرياضية لتولّي مناصبَ سياسية، كخوضِ الليبيري جورج ويا، أفضلِ لاعبٍ في العالم سنة 1995، انتخاباتِ الرئاسة في بلده سنة 2018 وفوزه بها. وتستغلّ الجماهيرُ المدرجات لإعلان مواقف سياسية، كما يحدث من روابط الجماهير في عددٍ منَ البلدان العربية، التي تعبّر باللافتات والشعارات عن مواقف في قضايا محلية وإقليمية.

بيدَ أنَّ الإصرارَ على تمايزِ المجالين يؤدّي إلى تصويرِ لحظاتِ ظهور "السياسة" في كرة القدم على أنها استثناءات وأخطاء تستوجب التدخّل بالمعاقبة والتصويب. فمثلاً عاقبَ الاتحادُ الإفريقي لكرة القدم اللاعبَ المصري محمد أبو تريكة بدفع غرامةٍ مالية حين ارتدى قميصاً عليه شعار "تعاطفاً مع غزة" في إحدى مباريات كأس الأمم الإفريقية سنة 2008. وأَوقف الاتحادُ الدولي النشاطَ الكروي في مالي وحَرم فِرقها من المشاركة في البطولات القارية والدولية بسبب تدخّل الحكومة المالية في الاتحاد المالي لكرة القدم سنة 2017. وفرض الاتحادُ الأوروبي عقوبةً مالية ضخمة على نادي سيلتك الأسكتلندي بسبب رفع جماهيره أعلام فلسطين في مباراته ضدّ نادي أتليتيكو مدريد الإسباني في دوري أبطال أوروبا بعد حرب غزة في أكتوبر 2023. وينتقد الكتابُ والإعلاميون استغلالَ بعضِ حكّامِ البلدان شعبيةَ كرةِ القدم في تعضيد شرعيتهم، وتحويل جماهير المدرجات منصاتِ تعبيرٍ سياسيٍّ. فتبدو السياسة متجاوزةً حدودَها وفارضةً وجودَها على ملاعب كرة القدم، والتي تبدو ساحاتِ صراعاتٍ سياسية كرةُ القدم ليست طرفاً فيها، فالكرة في ذاتها بريئة من السياسة.

بينما يخدم هذا التصوّر المسيطرين على مجالَي السياسة وكرة القدم، يتضرّر منه الراغبون في لعبةٍ وعالمٍ أكثر عدالة ومساواة وحرية. فهذا التصوّر يقصر تعريف السياسة على الصراع على مقاعد الحكم داخل الدولة أو النزاع بين الدول، ويخرج منه باقي صور الصراع وأهمها التدافع بين الأطر القانونية والتنظيمية الحاكمة لحياة الناس والصراع على توزيع القوة في المجتمع وعلى تشكيل الذوات. بينما تُصَوَّرُ كرةُ القدم لعبةً يتنافس فيها فريقان، ويُغضّ الطرف عن شروط هذا التنافس من وجود قانون للعبة وأنديةٍ واتحادات تدير اللاعبين والمسابقات، وشركات ومؤسسات لها مصالح مادية ومعنوية في هذه اللعبة. وبالتخلي عن التعريفات القاصرة للسياسة وكرة القدم يتضح أنَّ لعبة المحترفين بذاتها مجال سياسي.


كرة القدم لفظ مشترك ينصرف عند إطلاقه إلى ألعابٍ مختلفة. فقد يُقصد به اللعبة التي يلعبها ملايين الناس في أوقات فراغهم بقصد الترويح والتنشيط. وهذه تُلعب في ساحات مختلفة المقاسات وفي الشوارع والطرقات. يكون المرمى فيها أحياناً من قائمين وعارضة يختلف طولهما وعرضهما من ملعبٍ لآخر، وأحياناً أخرى يكون المرمى بقائمين بلا عارضة يشكلهما حجران في الطريق أو حقيبتان مدرسيتان في فناء مدرسة. وحدود الملعب متنوعة بتنوع تضاريس بيئة اللعب، فيتسع باتساع الحارة أو تحدده خطوط من جير أبيض أو أشجار أو سور أو ترعة. ولا يسهل فصل اللعبة واللاعبين عن محيطهم الاجتماعي، فاللعب قد يتوقف في أثناء هجمة خطرة للسماح بمرور سيارة أو لانشغال الفناء المدرسي بنشاطٍ آخر. وقد يشارك بعضُ المارة اللاعبين بركل الكرة. وجُلّ قواعد اللعب تخضع للتفاوض، فلا يُشترط أن يتساوى عددُ اللاعبين في الفريقين المتباريين إن كان هذا سيؤدي إلى تفوّق واضحٍ لأحدهما على الآخر، ولو ظهر هذا التفوّق في أثناء المباراة قد يقرر اللاعبون إيقاف اللعب وإعادة تشكيل الفرق بما يضمن التكافؤ. وغياب الحكم عن جلِّ هذه المباريات يعني أن احتساب الأخطاء، ومنها ضربات الجزاء، واحتساب الأهداف إن لم تكن للمرمى عارضة تحدّد ارتفاعه وكذا مدة المباراة والوقت المتبقي منها كلها تخضع للتفاوض بين اللاعبين.

وقد يُقصد بكرة القدم تلك التي يُشرف على مبارياتها ومسابقاتها الاتحاد الدولي لكرة القدم، وهي لعبة تختلف عن اللعبة الآنفة الذكر. فالمباريات التي يُشرف عليها الاتحاد الدولي لكرة القدم تُلعب في ملاعب مهيأة وفق مواصفاتٍ مشروطة من طولٍ وعرضٍ ومرمى بقائمين وعارضةٍ وتقسيمٍ للملعب ونوعِ أرضيته. يمثل كلٌّ من الفريقين المتباريين مؤسسة رياضية، نادياً أو اتحاداً وطنياً، ويتكوّن من عددٍ كبيرٍ من اللاعبين المقيّدين فيها. والمسابقات إما أن تتبارى فيها فرق كلها من الرجال وإمّا فرق كلها من النساء. ولكلّ فريقٍ جمهورٌ يشجعه ويؤازره ويحضر مبارياته في الملعب، في أماكن مخصصة للجمهور تفصل بينهم وبين اللاعبين، أو يتابعها بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة. ولكل فريق كذلك "رعاة" يدفعون الأموال للمؤسسة التي يمثلها ويروّجون لسلعهم ومشروعاتهم التجارية. والمباراة بين الفريقين لها مدة وقواعد محددة سلفاً، ويديرها حكام متخصصون في قانون اللعبة، وتكون المباراة غالباً جزءاً من مسابقةٍ أكبر يديرها اتحادُ اللعبة ويحفظ سجلاتها.

هاتان لعبتان مختلفتان وإن اتفقتا في الاسم وبعض القواعد الأساسية والأوصاف. يُشار للأولى على تنوع صورها بلعبة الهواة وللثانية برياضة المحترفين أو الكرة النظامية. ليس للعبة الهواة أهمية سياسية كبيرة، فليس لمبارياتها مصالح اقتصادية تحتاج تنظيماً أو رعاية، والاهتمام بها محصورٌ في دائرة اللاعبين ومحيطهم المباشر، ولا تنظمها قواعد وقوانين مستقرة. ولذلك فأثرها في تنظيم حياة المجتمع محدود، واللاعبون فيها من مختلف الأعمار والأجناس. وقد لا يكون للفريق مدرب يُعلمّ اللاعبين ويطوّر أداءهم ويختار بعضهم للعب أو يضع خطة المباراة، ولذلك فأثر اللعبة في حياة اللاعبين أنفسهم محدود، لا يتخطى الوقت الذي يلعبون فيه. أما كرة المحترفين فتقوم عليها مؤسسات تنتقي اللاعبين وتضبط سلوكياتهم وتتحكم في حياتهم. وترتبط بها مصالح اقتصادية كبرى، ويتخطى أثرها اللاعبين ودوائرهم المباشرة إلى الجماهير الواسعة، ولها قوانين ولوائح وأنظمة قضائية مستقرة يحاول كل طرف تعديلها على نحو يخدم مصالحه.

يخفي التمايزَ تصويرُ العلاقة بين اللعبتين أن كرة المحترفين هي التطوّر الطبيعي لكرة الهواة. في هذا التصوير، تبدو الهواية "قاعدة الهرم" والاحتراف "قمته" على نحوٍ يوحي بتداخل اللعبتين وانفتاح القنوات بينهما وعفوية الانتقال وانسيابيته من القاعدة إلى القمة. وليس الأمر كذلك. فاللعبتان تفصلهما حدود واضحة هي أسوار الأندية ومدارس الكرة و"أكاديمياتها". والانتقال من خارج هذه الأسوار إلى داخلها ليس عفوياً، إذ قلّ أن ينتقل نجوم الشوارع والساحات مهما بلغوا من المهارة والكفاءة إلى ملاعب المحترفين. تبدأ رحلة الاحتراف غالباً من الصغر داخل مدارس الكرة بالأندية الرياضية، قاعدة هرم الاحتراف الحقيقية، بينما يبقى لاعبو الساحات في ساحاتهم. بل تمنع الأنديةُ لاعبيها من لعب مباريات كرة الهواة، وتتعقبهم وتعاقبهم إن فعلوا. تفصلُ هذه الأسوارُ بين لعبتين، وتنفتح بالقدر الكافي لتصويرهما لعبة واحدة. فكيف نشأت هذه الأسوار ومتى ظهرت، وما موقعها في المجتمع، وما شروط عبورها في الاتجاهين؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تزيح الستار عن المحتوى السياسي لرياضة المحترفين.


ظهرت هذه الأسوار أوّلَ مرَّةٍ في إنجلترا بدايةَ الثلث الثاني من القرن التاسع عشر لتميز الرياضة الحديثة، التي تُسهم في تشكيل الهويات القومية، عن اللعبة البدائية الترفيهية. كانت كرة القدم إلى ذلك الحين ألعاباً ترفيهية ذات صور متعددة. في مصر المملوكية، مثلاً، كانت الكرة فردية استعراضية. يروي لطفي أحمد نصار في كتابه "وسائل الترفيه في عصر سلاطين المماليك في مصر"، الصادر سنة 2015، أن المماليك والعامة كانوا يتبارون في إظهار قدرتهم على التحكم في الكرة ويتنافسون في "شدة" ضربها. أما في إنجلترا فيروي توني كولينز في كتابه "هاو فوتبول بيغان" (كيف بدأت كرة القدم) الصادر سنة 2018، أنها كانت لعبة الفلاحين وفقراء المدن، يلعبونها في الساحات والشوارع في المناسبات الدينية والاحتفالات الريفية. كان التنافس في هذه الألعاب استعراضياً لا يسمح بقياس مدى تفوّق بعض اللاعبين على بعض بمعايير موضوعية، فلم يكن ينتهي إلى فائزين وخاسرين.

تآكلت مساحات هذا الاستعراض الترفيهي. فالاعتماد المتزايد على مصادر الطاقة المخزونة وعلى رأسها الفحم، الذي حلّ بدايةَ القرن التاسع عشر محلّ مصادر الطاقة المتجددة مثل الشمس والرياح والطاقة المائية، غَيَّر شكل الحياة الاجتماعية. يشير تيموثي ميتشل في كتاب "كاربون ديموكراسي" (ديمقراطية الكربون) الصادر سنة 2011، إلى أنَّ هذا التغيّر سمح بنشأة مجتمعات أكبر لا تحتاج للمراعي التي تمدها بالأخشاب اللازمة للطاقة. فنمت المدن وتوسعت الملكية الخاصة وزادت مساحتها في إنجلترا في الثلث الأول من القرن ستة ملايين فدان. لم يجد الفلاحون والعوام بسبب ذلك ساحاتٍ يلعبون فيها الكرة كما كان الحال من قبل. وأما في المدن فقد سمح قانونٌ صادر سنة 1835 بتأجير حقِّ الانتفاع بالطرق الرئيسة وفرض الرسوم على مستخدميها، فلم تعد هي الأخرى متاحة للعب.

ومع تآكل مساحات اللعب الترفيهي المتاحة للعامة، اتّسعت المساحات المخصصة لرياضة النخب الهادفة لإعادة تشكيل الذوات. فقد فرض تحوّل انجلترا من بلدٍ زراعي إلى إمبراطورية صناعية تربية جيل قادر على قيادة هذه الإمبراطورية. إضافة إلى رواج "المسيحية العضلية" في القرن التاسع عشر التي حلت محل نسخة أسبق من المسيحية الأوروبية تزدري الجسد ولا توليه اهتماماً كبيراً. ركزت تلك المسيحية الجديدة على الألعاب البدنية لمساهمتها في تحسين الصحة وتهذيب الروح والأخلاق، فحولت الألعابَ إلى رياضة تساعد على التحكم في النفس المصحوب بالتفوق الجسدي. كانت كرة القدم، الرياضةُ الجماعيةُ التي تقوم على القوة العضلية والانضباط، أهمّ الرياضات، وكانت المدارسُ العامة الإنجليزية المخصصة لتعليم أبناء الأعيان الساحةَ الأهم للعب الكرة. يذكر ديفيد غولد بلات في كتابه "ذا بول إز راوند" (الكرة مستديرة) الصادر سنة 2006، أنَّ كرة القدم صارت مكوناً رئيساً من تلك المدارس بحلول منتصف القرن. بهذا نشأت رياضة جديدة، قواعدها أشمل من الألعاب السابقة، وهدفها تهذيب الشباب وتنشئتهم على القوة العضلية والعمل الجماعي والانضباط والتنافسية.

سرعان ما انتقلت تلك الوسيلة الانضباطية إلى الجيش الإنجليزي. فقد شهدت العقود الوسطى من القرن التاسع عشر إصلاحات كبيرة في الجيش ترمي إلى رفع كفاءته القتالية وتشجيع المواطنين على التطوع فيه. كان من بين هذه الإصلاحات، التي رصدها آلان سكيلي في كتابه "فيكتوريان آرمي أت هوم" (الجيش الفيكتوري في الوطن) الصادر سنة 1977، إلغاء عقوبة الجلد في أوقات السلم وتقليص مدة التجنيد إلى ست سنوات يمكن قضاؤها في الاحتياط بدلاً من معسكرات الجيش، مع التزام بالاستجابة للاستدعاء متى ظهرت الحاجة. أعلت هذه التحولات من أهمية الرياضات البدنية، وعلى رأسها كرة القدم، في الجيش. إذ ساعد لعبها في فرض الانضباط وتشجيع روح الفريق وإعادة تعريف كل فرد جزءاً من الجسد الكلي لا ذاتاً مستقلة.

وكما كانت الكرة وسيلة فرض الانضباط وصناعة الذوات الجديدة في قلب الإمبراطورية، فإنها كانت وسيلة استعملها الاستعمار لضبط علاقته بالمستعمَرين. تجلى ذلك في أمرين، يشير إليهما بارثو تشاترجي في كتابه "ذا بلاك هول أوف إمباير" (الثقب الأسود للإمبراطورية) الصادر سنة 2012. الأمر الأول تكثيف خطاب "الروح الرياضية" و"أخلاقيات اللعبة" لتحويل الطبقة الوسطى من الهنود المستعمَرين، الذين شاركوا الإنجليز اللعب، إلى "مواطنين متحضرين في الإمبراطورية" بالتركيز على قيم العمل الجاد وروح الفريق وطاعة السلطات والالتزام بالقواعد. وأما الأمر الثاني فالاعتماد على التفوق الإنجليزي في اللعبة مؤشراً على التفوق العرقي الإنجليزي، الذي به يستحقون الحُكم. أي إن الكرة صارت ساحةَ عرضِ فكرة التفوق الأوروبي وترسيخها على نحوٍ يساعد في إخضاع المستعمَرين وقبولهم.

لم يكن غريباً في هذا السياق أن تتحول الكرة إلى وسيلة مقاومة الاحتلال بتأكيد أهلية الوطنيين للحكم. في مصر، يذكر ويلسون جاكوب في كتابه "ووركينغ أوت إيجيبت" (تشكيل مصر) الصادر سنة 2010 أنَّ الخطاب الاستعماري ركّز على افتقار الرجال المصريين للذكورة التي تؤهلهم للخدمة الوطنية. وكان التفوق الإنجليزي في ساحات الرياضة دليلاً على ذلك، فكان تحدي هذا التفوق سبيل المصريين لتأكيد الذات الوطنية. حدث ذلك سنة 1892، حين شَكَّل الموظفُ في أحد معسكرات الجيش الإنجليزي ناشد أفندي فرقةً من الأفندية لمباراة فرقة من الإنجليز. كان انتصار الفريق الإنجليزي متوقعاً، بيدَ أن المباراة انتهت بفوز المصريين بهدفين لصفر وسرعان ما زُفّت البشرى إلى الأفندية في المقاهي. منذ تلك اللحظة، بتعبير ياسر أيوب في كتابه "مصر وكرة القدم: التاريخ الحقيقي" الصادر سنة 2018، لم تعد كرة القدم "مجرد لعبة"، بل بدأ الوطنيون يهتمون بها. فصارت الرياضة البدنية جزءاً من مناهج الدراسة بدءاً من سنة 1895 واشتغل بها كبار رجال التعليم مثل أمين سامي الذي تولى نظارة المدرسة الناصرية نهاية القرن التاسع عشر مدةً تجاوزت ربع قرن، وأسهم بالتوازي مع ذلك في تأسيس النادي الأهلي سنة 1907. في حديث نشرته مجلة الهلال سنة 1937، عن المدرسة التي أرادها سامي أن تحذو حذو مدرستَي هارو وإيتون الإنجليزيتين، يقول إنه كان ينتخب التلاميذ "من أبناء الأسر الكريمة وأقوم على تربيتهم شخصياً". وكانت الرياضة عنده وسيلة للنفاذ إلى أرواح التلاميذ وتنشئتهم على "النهج الذي رسمه الدين الحنيف، فذلك يطهر القلوب، وينمي الخلق الفاضل، ويردع عن المعاصي، ويزجر الغرائز". أي إن الرياضة أشبهت "المسيحية العضلية" في صناعة ذوات جديدة، وكان هدفُها في هذا السياق تأكيدَ مكافأة المستعمر والقدرة على الحكم الذاتي.

أضفى السياق الاستعماري على لاعبي الكرة أهمية وطنية. يظهر هذا في حالة حسين حجازي، الأفندي المصري الذي سافر إلى إنجلترا سنة 1910 ليدرس الهندسة، ولعب في لندن لأندية دلوتش هاملت وفولهام ثم انتقل إلى جامعة كامبردج وانضم إلى فريقها قبل أن يعود إلى مصر سنة 1914. تفوَّقُ حجازي الكروي الذي ظهر في تلك الرحلة، وأخبار تفوقه الكروي على الإنجليز جعله رمزاً وطنياً. في الحديث الذي نشرته مجلة الهلال سنة 1937، تحدَّث سامي عن فخره بدور المدرسة الناصرية في صناعة حسين حجازي الذي كان أيضاً سبب فخر الأديب نجيب محفوظ بمصريته، بعدما شاهده في مباراة أقيمت بين المصريين والإنجليز في القاهرة سنة 1918. في مذكرات نجيب محفوظ "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" التي حرَّرها رجاء النقاش سنة 2017 روى أن حجازي كان صاحب أداء متميز وسجل هدف الفوز. رأى كلٌّ من سامي ومحفوظ في حجازي أكثر من لاعب كرة، إذ كان في أعينهما قدوة للشباب الوطني المصري ومثالاً لما يمكن أن يكون عليه المصريون.

يكشف هذا التاريخ عن أول أوجه الارتباط بين كرة القدم والسياسة. إذ إن الكرةَ النظامية التي تُلعب في المدارس والمؤسسات، حتى وإن لم يحترفها اللاعبون، وسيلةٌ لصناعة الذوات وتشكيلها. فكرة القدم أسهمت في صناعة الجيل البريطاني القادر على قيادة الإمبراطورية، والجندي المنضبط الذي لا يحتاج سوطاً ولا سجناً ليصير جزءاً من آلة عسكرية. وأكدت كرةُ القدم لأهالي المستعمرات شرعيةَ الاستعمار الأوروبي، ثم استخدمها الوطنيون لتأكيد مكافأتهم المحتلَّ واستحقاقهم الحكمَ الذاتي، وصار اللاعبون مثالاً لما ينبغي أن يكون عليه المواطن الصالح. وهذه الأهمية السياسية تتجلى في الاحتفاء بلاعبي الكرة المحترفين من أمثال حجازي الذي سُمي الشارع الذي كان يقطنه باسمه. أما لعبة الهواة فلم تزل الأكثر انتشاراً، فغالب الناس لعب في الشوارع أو الحارات أو الشواطئ أو الساحات بِكُرَةٍ من الجوارب أو الخيوط أو جلود الحيوانات أو الخرق للترفيه. غير أن هذا الانتشار لم يضف للاعبين المتميزين أي نصيب من الذكر والأهمية لأنها ليست لعبة سياسية.


ساعد على علو شأن الكرة النظامية، رغم قلة انتشارها مقارنة بكرة الهواة، وجودُ قواعد موحدة تضبطها. أسهمت تلك القواعد في وصول اللعبة مختلف الأقطار وتحولها إلى "لغة عالمية" أو مجال تنافس بين البلدان والمؤسسات المختلفة. وتشبيه الكرة باللغة، مع بلاغته، يتجاهل فروقاً مؤثرة. أما البلاغة فلأن علاقة الكرة النظامية التي تتبع قواعد الاتحاد الدولي بِكُرة الهواة في سائر البلاد تشبه علاقة اللغة العربية الفصحى باللهجات المحلية. فالأولى – الأقل انتشاراً في الحالتين – هي المهيمنة على ساحات العلم والثقافة والفضاءات الرسمية. وأما الفرق المؤثر بين الكرة واللغة ففي دور المؤسسات الراعية لكل منهما. إذ يقتصر دور مجامع اللغة العربية على الكشف عن قواعد اللغة، ودراسة مدى توافق المفردات والتصريفات الجديدة معها، وليس لها أن تغير شيئاً من القواعد المستقرة، وسلطتها محدودة وليست نهائية تحسم بها الخلاف بين الآراء المختلفة في ذلك.

أما مؤسسات الكرة فيتجاوز دورُها الكشفَ إلى الوضع والتغيير وفرض القواعد الجديدة على مجتمع كرة القدم. في العقود الثلاثة الأخيرة مثلاً، صار إمساك الحارس الكرةَ التي يعيدها إليه زميله بالقدم مخالفة يُعاقَب عليها بركلة حرة غير مباشرة بعد أن كان مباحاً. كذلك قضى قانون الكرة باستخدام وسائل تقنية تحسب التسلل بدقة وترفع احتمالية الشك، وصار عدد التغييرات المسموح بها في المباراة خمسة بعد أن كان اثنين، وأُقرت قاعدة الهدف الذهبي ثم أُلغيت، وأُلزِم الحكام بإعلان قدر الوقت المحتسب بدلاً من الوقت الضائع. وصدرت هذه التغييرات عن جهات مركزية جعلتها قانوناً عاماً لمباريات كرة القدم ومسابقاتها المختلفة لجعل المسابقات والمباريات أكثر إثارة وتشويقاً. ولم يكن فرض قواعد عامة للعب ممكناً من غير وجود هذه المؤسسات ذات القوة والنفوذ الحاسمين.

كانت قواعد كرة القدم الحديثة في أول ظهورها تختلف من مدرسة لأخرى، فقد فرضت بيئة اللعب بعض هذه القواعد. في الحقول الطينية المفتوحة لمدرستي "رغبي وتشلتنام" كان التخوف من الإصابات محدوداً، فكانت القواعد تسمح بالتحامات بدنية عنيفة تُظهر القوة الجسدية للمتنافسين. بينما لو سمحت قواعدُ "تشارترهاوس ووستمنِستر" بهذا العنف لتكسرت عظام اللاعبين، لأن الكرة هناك تُلعب في الأديرة. ولعب طلبةُ "إيتون" الكرةَ بطريقتين، كرة الحائط وكرة الحقول، وكانت لكل منهما قواعد مختلفة. وتميزت إيتون عن أغلب المدارس بوجود الحكام في مبارياتها، في حين اعتمدت باقي المدارس على تقدير قائدي الفريقين المتباريين في احتساب الأهداف والأخطاء. واختلفت الكرةُ نفسُها، فقد كانت كرة إيتون مستديرة صغيرة وكرة "هارو" تشبه الوسادة الكبيرة وكرة رغبي بيضاوية. وكانت المحاولة على المرمى تحتسب ببعض هدف وفق قواعد إيتون، ولا تحسب المدارسُ الأخرى إلا محاولاتِ التسجيل الناجحةَ. واختلفت المدارسُ كذلك في عدد اللاعبين في كل فريق وقواعد الإمساك بالكرة باليد ومدة اللعب وطول الملعب وعرضه واتساع المرمى وارتفاعه وتحديده من أعلى بالعارضة.

باءت محاولات توحيد هذه القواعد بالفشل، ولم تكن ثمة حاجة لتوحيدها طالما كان اللعب في كل مدرسة مقتصراً على طلبتها. بيد أن تخرج الطلبة من المدارس والتحاقهم بسوق العمل أو الجامعات، منتصف القرن التاسع عشر، مع حرصهم على الاستمرار في اللعب لأسباب رياضية واجتماعية، أوجد الحاجة إلى توحيد القواعد. كانت المحاولةُ الأولى لذلك في جامعة كامبردج سنة 1846 حين حاول طلبة الجامعة من خريجي إيتون وهارو ورغبي وشروزبري تنظيم مباريات في كرة القدم، إلا أن تباين قواعدهم وفخر كلٍ بقواعد مدرسته وإصراره على الحفاظ عليها حال دون ذلك. واستغرق الأمر عقداً كاملاً حتى طبع "نادي جامعة كامبردج لكرة القدم" الذي أسسه هؤلاء الطلبة منشوراً فيه إحدى عشرة قاعدة، قامت على "انتقاء الأفضل من قواعد المدارس المختلفة". لم تحظ هذه المحاولة بالقبول حتى داخل الجامعة نفسها، إذ سرعان ما أسس طلبة كامبردج "أندية" مختلفة للعب الكرة على قواعد مدارسهم.

كانت تجربة اللعب بين المدارس المختلفة أنجح بين الملتحقين بسوق العمل من الملتحقين بالجامعات، وإن ظل توحيد قواعد اللعبة مطلباً بعيد المنال. ذلك أن خريجي المدارس حين التحقوا بسوق العمل بدأوا في تأسيس الأندية سعياً إلى بناء شبكات اجتماعية وتجارية. ومن تلك الأندية استمروا في لعب الكرة التي عرفوها في المدارس ولم يكونوا – كحال طلبة الجامعات – متمسكين بقواعد بذاتها قدر تمسكهم بالاستمرار في اللعب. فلم يكن غريباً أن تتغير قواعد لعبهم من أسبوع لآخر، كما يشير كولينز في كتابه "كيف بدأت كرة القدم،" بناء على رغبة الأغلبية من اللاعبين، وحرصاً على الاستمرار والمواظبة في اللعب الذي يحافظون به على صحتهم البدنية وينمّون شبكاتهم التجارية. غير أن هذا التباين في القواعد قصرَ اللعب على المباريات الودية التي تحتاج لترتيب وتفاوض واتفاق مسبق على القواعد، ومنعَ تنظيمَ المسابقات الدورية. ومع الرغبة في اللعب المنتظم بدأت محاولات توحيد قواعد اللعب سنة 1857، حين أرسل مؤسسو نادي شيفيلد إلى المدارس المختلفة طالبين قواعدها لكرة القدم ليصهروها في لعبة واحدة. كان مصير المحاولة كمصير نادي جامعة كامبردج، إذ ظهرت قواعد جديدة أضيفت إلى قواعد المدارس الموجودة ولم تحل محلها.

لم تؤت هذه المحاولاتُ ثمارَها إلا مع تأسيس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم سنة 1863. في ديسمبر 1861 نشرت جريدة "ذا فيلد" المهتمة بالرياضة دعوة لتوحيد قواعد اللعب، فردّ عليها جون تشارلز ثرنج، خريج مدرسة شروزبري وجامعة كامبردج وعضو نادي كامبردج لكرة القدم والشقيق الأصغر لتشارلز ثرنج، ناظر مدرسة أبنجهام الذي وضع قواعد اللعب فيها سنة 1857، بمقال عنوانه "كرة القدم: بسيطة وعالمية". خلص فيه إلى أن محاولة إدماج قواعد مدرسة رغبي، التي وصفها بالبربرية، مع غيرها تحول دون الوصول إلى قواعد عامة لممارسة الكرة، واقترح أن تكون القواعد الأساسية للعب إبقاء الكرة على الأرض لأطول وقت ممكن، وإبقاء اللاعبين خلف الكرة. فتح المقال باب النقاش عن قواعد الكرة، واستمر حتى انتقل في أكتوبر 1863 إلى جريدة التايمز التي نشرت مقالاً لأحد خريجي إيتون يدعو فيه للفصل بين اللعب المدرسي المستند إلى قواعد كل مدرسة، والقواعد العامة المنظمة للعب بين المدارس والجامعات المختلفة. لاقت الدعوة قبولاً واسعاً، ونشرت الصحيفة في الأيام التالية خطابات من طلبة مدارس أخرى يثمنون الاقتراح ويكررون الدعوة لعقد اجتماع لوضع القواعد العامة لكرة القدم. عُقد الاجتماع يوم 26 أكتوبر 1863 بقصد تأسيس اتحاد يضع القواعد وينظم المسابقات.

كان لتأسيس الاتحاد الدور الرئيس في توحيد قواعد كرة القدم ونشر مسابقاتها على نحو سمح بجعلها "لغة عالمية." أما القواعد، فشهد العقد اللاحق لتأسيس الاتحاد، تمييزَ كرة القدم عن الرغبي، بعدما صارتا لعبتين لكل واحدة منهما اتحاداً مستقلاً عن الآخر. فقلّص اتحاد كرة القدم التسامح مع لمس الكرة باليد تدريجياً حتى قصره على حارس المرمى ثم قصره على منطقة الجزاء. وطوّر قواعد التسلل حتى وازنت بين تشجيع القوة البدنية التي تقتضي أن يكون التقدم للأمام بالسير بالكرة لا تمريرها واللعب الجماعي الذي يقتضي التمرير. وحدد أدوات اللعب وساحاته من مواصفات الملعب والكرة وشروط المباراة وقواعدها ودور الحكام في تنفيذ القانون وغير ذلك. وأما المسابقات فأعقب تأسيسَ الاتحاد إطلاقُ كأس الاتحاد الإنجليزي سنة 1871، وهي المسابقة التي شاركت فيها أندية تمثل أحياء ومناطق مختلفة، فاكتسبت مبارياتها أهمية شعبية.


ينبغي النظر إلى الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم وكذا الاتحادات الوطنية والإقليمية والدولية التي تأسست في السنوات والعقود اللاحقة مؤسساتٍ سياسيةً. شملَ الدورُ السياسي للاتحاد الإنجليزي انشغالَه منذ لحظة تأسيسه بوظيفة سياسية هي وضع القواعد المنظمة للعبة، وهي قواعد انتقاها القائمون على الاتحاد من بين قواعد المدارس المختلفة بترجيح أنتج فائزين وخاسرين، وجعل بعض المدارس أقرب إلى الفوز وأكثر دراية بالقواعد ودفع بعض الأندية والمدارس، منها بلاكهيث ورغبي، للانسحاب منه بعد أقل من خمسة أسابيع من تأسيسه بسبب انحيازه لغير قواعدها في اللعب. تجلت السياسة كذلك في دور الاتحاد بتوزيع القوة بين أطراف اللعبة، فالاتحادات كانت ساحة المعركة في الصراع بين أنصار الهواية والاحتراف، وقواعدها هي الحاكمة لصراع النفوذ بين اللاعبين والأندية، وهي تقوم بالوظيفة السيادية بقبول العضوية في جماعة كرة القدم.

أولى المعارك السياسية الكبرى في مجال كرة القدم كانت المعركة بين أنصار الهواية ودعاة الاحتراف. لم يكن عامة المشتغلين بالكرة حينئذ ينظرون إلى الهواية والاحتراف قاعدة الهرم ورأسه، بل كانا نقيضين. فالهواية تقصر لعب الكرة على السادة المحترمين الذين يلعبون من أجل الترقي الروحي والصحة الجسدية، ويتسامون عن التكسب من اللعبة. والاحتراف أو تلقي الأموال مقابل اللعب يمثل انحرافاً عن رسالة الرياضة المتفرعة عن "المسيحية العضلية" ويفتح الباب أمام اشتراك العامة في اللعب، لأن التكسب من اللعب يسمح بقضاء ساعات طويلة في التدريب والمباريات بعيداً عن العمل. كانت الكرة في الأساس لعبة السادة، فلم يكن الاحتراف مقبولاً. لكنّ انتظام مسابقات الاتحاد وتحولها إلى منافسات بين أندية يمثل كل منها مدينة أو جهة لها جمهور وأنصار أعلى من قيمة الفوز، فسعى القائمون على الأندية إلى تحقيقه بشتى السبل. كان من بين هذه السبل اجتذاب الموهوبين للعب في فرق أنديتهم وإن لم يكونوا من السادة.

المعركة ضد الاحتراف كانت معركة ضد لعب العمال. اشتعلت هذه المعركة بعد مباراة ربع نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي سنة 1878 التي تبارى فيها فريق أولد إيتونيانز المكون من خريجي مدرسة إلتون شمال غرب إنجلترا مع فريق داروين المكون من العمال القادمين من الشمال الإنجليزي الصناعي. لم تكن المشكلة الوحيدة التقاء أبناء طبقتين اجتماعيتين مختلفتين على أساس التكافؤ، بل كاد النظام الاجتماعي يتهدد بفوز الأدنى على الأعلى. إذ تعادل الفريقان بخمسة أهداف لكل فريق، فلعبا جولة ثانية تعادلا فيها بهدفين لهدفين، قبل أن يتمكّن أبناء الأعيان من الفوز في الجولة الثالثة.

اشتدَّ الجدل عقِبَ المباراة في كيفية الحفاظ على نقاء اللعبة من العمال، قبل أن يقرِّر الاتحاد الإنجليزي سنة 1881 التضييقَ على العمال بقصر الأموال المسموح للاعبين بتلقيها على المصروفات التي تكبدوها مباشرة، من مواصلات وإقامة ونحوها. وعيَّنَ لجنةً لمراجعة حسابات الأندية المشتركة في مسابقاته والتأكد من التزامها بلوائحه، ومعاقبة النادي المخالف بطرده من الاتحاد. لم تردع هذه الإجراءاتُ الأنديةَ الراغبة في استقطاب المواهب، والتي تخطت هذه العقبة بتعيين اللاعبين في وظائف إدارية صورية بالنادي. انتقدت جريدة "ذي أثليت" التحايل من أجل "توظيف الحثالة من القرى الأسكتلندية" في مجال كرة القدم، وعدّته أحد أسباب تحوّل الكرة إلى لعبة "بربرية" بعد أن كانت "حضارية".

انتهت المعركة بنصر سياسي لدعاة الاحتراف. يروي ستيفن تيشلر في كتابه "فوتبولرز آند بيزنيسمِن: ذا أورجينز أوف بروفشنال سوكير إن إنغلاند" (الكرويون ورجال الأعمال: جذور كرة المحترفين في إنجلترا)، الصادر في 1982، أن الاتحاد الإنجليزي رفض في خضم المناقشات سنة 1881 اقتراحاً تقدّم به سكرتير الاتحاد تشارلز ألكوك لتقنين الاحتراف. علَّق ألكوك أن الاتحاد يخوض معركة خاسرة وأن الاحتراف آت لا محالة والأفضل السعي لضبط العلاقة معه، كما يشير أدريان هارفي في كتابه "كرة القدم: الأعوام المئة الأولى".

كان ألكوك محقاً، فتضييق الخناق على المحترفين في السنوات التالية قصر عن تقويض الاحتراف الذي كانت الأسباب الموضوعية لوجوده قائمة وعلى رأسها مسابقات الكأس، التي وصفها أحد أعضاء الاتحاد بأنها "أصل الشر" وأنه لا يمكن التخلص من الاحتراف في وجودها. حدث هذا في 1884 وهي السنة التي أرسل فيها الاتحاد الأسكتلندي للاعبين يلعبون في أندية إنجليزية مشهورة ببذلها المال للاعبيها يخطرهم أنه يعدهم من المحترفين، وأنهم مستبعدون من المنتخب الأسكتلندي، الذي كان مثلَ سائر المنتخبات القائمة في ذلك الوقت يقتصر في تشكيله على الهواة المستحقين بأخلاقهم الرياضية تمثيل الوطن. في السنة نفسها قَبِل الاتحادُ مقترحاً تقدم به ألكوك يسمح للأندية أن تدفع للاعبين المنقطعين عن أعمالهم من أجل حضور تدريب أو مباراة تعويضاً مالياً عن الساعات التي انقطعوا فيها عن العمل، على أن يفصل النادي من الاتحاد إذا دفع أي مبالغ إضافية للاعبين. وبعد عدة محاولات فاشلة، صوت الاتحاد أخيراً في اجتماعه المنعقد في 20 يوليو 1885 على الاعتراف بالاحتراف والسماح به مع بعض القيود، منها ضرورة تسجيل اللاعبين المحترفين في الاتحاد وعدم السماح لهم بالانتقال بين الأندية من غير موافقته وقصر مشاركتهم على الأندية القريبة من محال سكنهم ومنعهم من المشاركة في لجان الاتحاد، لتبقى إدارة الكرة في يد الأعيان المحترمين.

أثار القبول بالاحتراف ردود فعل قوية من أنصار الهواية. كانت النتيجةُ المباشرة للتوسع في الاحتراف عَجْزَ أندية الهواة، التي تقتصر فرقها على أعضاء النادي، عن المنافسة. تجلى ذلك في فشل كل أندية الهواة في الوصول إلى نهائي كأس الاتحاد بعد سنة 1885. ومع تأسيس دوري المحترفين سنة 1888، أدركت أندية الهواة أنَّ "عصر الهواية" بمعنى هيمنة أندية الهواة قد انتهى. إذ صار مجال الكرة يتكون من مسابقات يشترك فيها الهواة مع المحترفين وهي مسابقات الكأس، وأخرى اقتصرت عضويتها على المحترفين وهي روابط المسابقات الدورية. وزاد من شعور الهواة بالتهديد زحفُ الاحتراف من الشمال الصناعي إلى لندن نفسها، إذ كان دوري المحترفين في سنواته الأولى مقتصراً على أندية الشمال، قبل أن يعلن نادي وولويتش أرسنال – الذي صار بعد ذلك "أرسنال" – التحاقه بصفوف المحترفين سنة 1891 وسعيه إلى تأسيس مسابقة دورية للمحترفين في الجنوب. دفع ذلك الهواةُ لتأسيس مجال مستقل لكرة القدم، بقصد إعادة بناء الشبكات الاجتماعية والأفكار التي قامت عليها الكرة حتى منتصف السبعينيات من القرن التاسع عشر. كان التجلي الأول لهذا السعي هو تنظيم كأس الاتحاد الإنجليزي للهواة سنة 1893، ثم تنظيم مسابقة كأس أرثر دن، التي اقتصرت المشاركة فيها على خريجي المدارس العامة. ثم إطلاق "مؤسسة الدفاع عن كرة الهواة" سنة 1907، وهي المؤسسة التي تحولت سريعاً إلى اتحاد كرة الهواة الذي نظم مسابقات عدة للهواة بعضها مستمر إلى اليوم.

في العقود الأولى من القرن العشرين، كان التنافس بين الهواية والاحتراف محتدماً في إنجلترا، وكانت الصحف تنشر صبيحة كل أحد مواعيد مباريات مسابقات المحترفين والهواة وأماكنها جنباً إلى جنب. ولم يكن الاحتراف خياراً لكل اللاعبين، بل رفضه بعضهم على أُسسٍ سياسيةٍ، مثل حسين حجازي الذي لعب في دوري الهواة والجامعات ولعب مباراة واحدة مع فولهام في دوري المحترفين في نوفمبر 1911، رفض بعدها الاستمرار معه واختار العودة إلى لعبة الهواة. انحيازاً لطبقته الاجتماعية في مصر، ربّما، إذ كان والده من الأعيان، وقد تلقّى هو تعليمه في مدارس الأفندية التي تميزهم عن باقي الشعب.


لا يمكن فصل هذا الصراع بين الهواية والاحتراف في إنجلترا عن التحولات المجتمعية المزامنة له. فقد شهدت الفترة ذاتها تآكل التراتبية الاجتماعية، وترسيخ حقوق العمال مع إضرابات عمال الفحم والنقل. وهذه تحولات لم تكن سلسة لثمنها الاقتصادي فحسب ولتغييرها بنية المجتمع كذلك، فلم تتغير بنية المجتمع إلا بمعركة سياسية ممتدة. كانت مؤسسات كرة القدم إحدى ساحات هذه المعركة، لا لأن الساسة استغلوها لترويج أفكارهم، ولكن لأن أطراف اللعبة كانوا هم أطراف المعركة نفسهم وكانت مصالحهم المباشرة مرتبطة بنتائجها. وإذا كان الوضع تغير نهايةَ القرن حين صار الاحتراف هو الصورة المهيمنة للكرة النظامية، فإن العلاقة بين عالمَي الهواية والاحتراف لم تزل موضوع صراع سياسي آخر يظهر في قضايا مثل السن الذي يسمح للاعب فيه بالاحتراف، وحقوق الأندية والمدارس والأكاديميات التي يلعب لها اللاعب قبل احترافه، وحق اللاعب في الهواية، أي اللعب في دورات ودية مثلاً، حال احترافه.

يرتبط ذلك بثاني القضايا السياسية المركزية في مؤسسات كرة القدم، وهي علاقة اللاعبين بالأندية التي يلعبون لفرقها. يكتسب ضبط هذه العلاقة أهمية كبيرة في عصر الاحتراف الذي تشتري فيه الأندية عقود اللاعبين مُدداً وصلت أخيراً لعشر سنوات، ويحدّد الاتحاد الدولي لكرة القدم والاتحادات الوطنية الشروط المسموح بها في هذه العقود. على أن الاشتغال بتنظيم هذه العلاقة كان مهمة مؤسسات كرة القدم قبلَ هيمنة الاحتراف.

أول أوجه الصراع بين اللاعبين والاتحادات كان على المساحة المتاحة للاعبين في تنظيم اللعبة. في إنجلترا، مهد الكرة الحديثة، اقتضت "الأخلاق الرياضية" إبعاد المحترفين عن إدارة اللعبة ومنعتهم من المشاركة في لجان الاتحاد التي اقتصرت عضويتها على السادة المحترمين. أمَّا الاتحاد الدولي لكرة القدم الذي تأسس سنة 1904 فلم يكن من بين رؤسائه الخمسة الأُوَل إلا رياضيٌ واحد، ولم تكن رياضته كرة القدم. وكان ستانلي روس الرئيس السادس للاتحاد الذي بدأت ولايته سنة 1961 حَكَماً لا لاعباً. وكان رؤساء الأندية في مصر، والتي تأسس بعضها شركاتٍ مساهمةً هادفة للربح، من الباشاوات والقضاة وقيادات الحركة الوطنية. ولم يظهر دور اللاعبين في إدارة اللعبة إلا في الجيل الثاني، واقتصر ذلك على الأفندية من اللاعبين أمثال حسين حجازي.

امتدَّ الصراعُ كذلك إلى توزيع أرباح اللعبة. كان الهواةُ الذين يحقُّ لهم المشاركة في لجان الاتحاد بإنجلترا ملزمين قبل اللعب بتوقيع ورقة "نموذج إل" التي تعني التزامهم بمبادئ الهواية، وأخصها عدم تلقّي الأجر على اللعب. ولم يكن نصيبُ المحترفين من عوائد الكرة كبيراً. إذ تُشير سجلات نادي وست بروميتش ألبيون الذي شارك في أوّلِ بطولة للمحترفين سنة 1888 إلى أنّه كان يدفع لكلّ من لاعبيه المحترفين وقتئذٍ حوالي عشرة "شلنات" أسبوعياً. زادت الرواتب في السنوات القليلة اللاحقة حتى وصلت رواتب بعض اللاعبين إلى أكثر من أربعة جنيهات أسبوعياً، وكان الجنيه الإسترليني يساوي عشرين شيلناً. في كتابه "ويستهام يونايتد: ذا ميكينغ أوف أ فوتبول كلوب "(ويستهام يونايتد: صناعة ناد لكرة القدم) الصادر سنة 1986، يحلل تشارلز كور حساباتِ النادي بدايةَ القرن، ويخلص إلى أن متوسط رواتب لاعبي الفريق الأسبوعية سنة 1906 كان أكثر بقروش قليلة من جنيهين، بينما كان نجوم الفريق يحصلون على نحو أربعة جنيهات أسبوعياً.

أدَّت هذه الزيادةُ السريعةُ في المرتبات إلى مواجهةٍ بينَ اللاعبين والإدارات. وفي سنة 1893 اقترحَ نادي ديربي كاونتي فرضَ حدٍّ أقصى لأجور اللاعبين، ممَّا دفعَ اللّاعبين لتأسيس نقابةٍ لمقاومة هذا الاقتراح. وبعد عقدٍ ونصفٍ من الضغوط قرَّرَ الاتحادُ الإنجليزي في اجتماع جمعيته العمومية سنةَ 1908 فرضَ الحدِّ الأقصى، مع السماح بنظام حوافز يسمح للاعبين بالحصول على نسبة من أرباح النادي نهايةَ كلِّ عام. لم تُرضِ هذه النتيجة نقابة اللاعبين فاستمرَّت في الضغط والتفاوض حتى ربيع 1909، ومع فشل المفاوضات قرَّر الاتحادُ إلغاءَ تسجيل كلِّ لاعب محترف لا يستقيل من النقابة. فاستقال الجميع إلا لاعبي مانشستر يونايتد وسبعة عشر لاعباً من سندرلاند، أوقفتهم أنديتهم عن اللعب، وظلَّ الحدّ الأقصى للأجور يتأرجح بين ستة جنيهات وعشرة أسبوعياً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

وفي مصر تأسّس النادي الأهلي سنة 1907 شركةً مساهمةً هادفة للربح، إلا أنّ المصدر الرئيس للأرباح كان الاشتراكاتِ في النادي لا تذاكر مباريات الكرة. سرعان ما صارت "حفلات الكرة"، كما تسميها السجلات، مصدراً رئيساً للدخل. إلا أنَّ أرباحها كانت تذهب للإدارة لا اللاعبين، لدعوى الإدارة أنه لا يليق بهم – وهم أفندية – أن يتربّحوا من اللعب. لم يكن اللاعبون زاهدين في هذه الأرباح. في فبراير 1916، عرض حسين حجازي، اللاعب في فريق النادي وقتئذ، تنظيم مباراة بين فريق النادي وأحد فرق الجيش الإنجليزي يكون ثلث عائدها للصليب الأحمر وثلثه للنادي وثلثه للاعبين. رفض النادي الشروط وأصر طلعت حرب وأمين سامي وإسماعيل حسنين، أعضاء مجلس الإدارة، أن يكون نصف العائد للهلال والصليب الأحمر مجتمعين ونصفه للنادي، ولم تبق للاعبين منه شيئاً. ويبدو أنَّ استبعاد اللاعبين من إدارة اللعبة وأرباحها كان سبب ما يرويه السيد فرج في كتابه "أبطال بلدنا" الصادر سنة 1978 من معارضة حسين حجازي تأسيسَ الاتحاد المصري لكرة القدم، إلا أن وضع اللاعبين في مصر كان أفضل منه في إنجلترا، إذ كان حجازي مع تربحه من اللعب في السنوات السابقة، عضواً في مجلس إدارة الاتحاد عند تأسيسه سنة 1921.

ثالث أوجه الصراع كانت حق اللاعبين في الانتقال بين الأندية. كان الهواة في إنجلترا بموجب توقيعهم "نموذج إل" ملزمين باللعب لنادٍ واحدٍ في الموسم. أمَّا المحترفون فلم يكن يحقّ لهم اللعب إلا للأندية التي تقع في محيط ستة أميال من مكان ميلادهم، أو من محل إقامتهم الذي استقروا فيه سنتين. وفي مصر، كان الانتقال بين الأندية قبل تأسيس الاتحاد ميسوراً. تشير سجلات أرشيف النادي الأهلي إلى تنظيم هذه المسألة من إدارة النادي التي قبلت مشاركة أعضائه ضمن فرق أندية أخرى إن لم تكن تباري فريق النادي. تقيد هذا الحق مع انطلاق المسابقات الموسمية بين فرق الأندية، ففرض النادي على أعضائه الراغبين في اللعب لفرق أندية أخرى الاستقالة من النادي. على أن هذا لم يحد من انتقال اللاعبين. في الفترة من سنة 1915 حتى 1924 لعب حجازي للأهلي ثم انتقل منه للقاهرة ثم للمخلتط ثم لسكة الحديد، قبل أن يعود إلى الأهلي. وكان في بعض هذه السنوات يرأس فريقاً يحمل اسمه بالتوازي مع عضويته في فريق النادي الأهلي. وحين تأسس الاتحاد المصري لكرة القدم في 1921، صارت لكل لاعب بطاقة عضوية تُسلَّم بدايةَ الموسم الرياضي لناديه فلا يحقّ له اللعب لغيره، ثم صارت هذه البطاقة تُجدَّد كلَّ عامين. ومع انتشار الاحتراف وتحوله للصورة الرئيسة للكرة النظامية، تعقَّد انتقال اللاعبين بين الأندية. فلم ينتقل حجازي في الأعوام الثمانية الأخيرة من مسيرته إلا مرَّة واحدة، من الأهلي للمختلط سنة 1928.

ومع انتصاف القرن العشرين، فرضت الأندية هيمنتها على مجال كرة المحترفين. أسهمت عدَّة عوامل في صعود هذه الهيمنة، كان أوّلها تمثيل الأندية لمدن مختلفة منذ إطلاق مسابقة الكأس في إنجلترا في القرن التاسع عشر. أما ثاني العوامل فكان طول بقاء الأندية مقارنة باللاعبين. يحكي نجيب محفوظ في مذكراته أنه منذ شاهد حجازي يلعب للمرة الأولى مع انتهاء الحرب العالمية الأولى صار يشجع أي فريق يلعب له. وفي سنة 1925، كتب فكري أباظة في مجلة المصور أن الساحة الكروية منقسمة "انقساماً حزبياً، كالسياسة تماماً" بين أنصار حجازي وأنصار علي رياض، أي أن الولاء للاعبين، على كثرة تنقّلهم بين الأندية، كان الأساس. على أن هذه الأندية المختلفة كلها استمرت في المسابقات بعد اعتزال حجازي ورياض، وصارت بسبب ذلك موضوعاً للذكريات المشتركة بين الأجيال المختلفة للعائلة، فتحوّل ولاء الجماهير من اللاعبين إليها. أسهم اكتمال البناء المؤسسي لكرة القدم وتقليل انتقالات اللاعبين في ارتباط الجماهير بالأندية. وفي مصر وغيرها من المستعمرات الأوروبية، قدَّمت الأنديةُ نفسُها مؤسسات مقاومة للاستعمار تستحق التضحية من خلالها، فأنتجت أنديةُ الأهلي والمختلطُ والاتحاد والمصري وغيرها من الأندية سردياتٍ وطنيةً تدفع الجماهير للالتفاف حولها، وتقوّي الإدارات في مواجهة اللاعبين. حين حاول لاعبو الأهلي مشاركة الإدارة أرباح المباريات سنة 1916، انتقدهم رئيس النادي وطالبهم في اجتماع الجمعية العمومية أن "يضعوا أمام أعينهم أن مصلحة النادي قبل كل شيء".


ليس من الصدفة أن تتزامن سيطرة أندية الكرة ومؤسساتها على اللاعبين مع سيطرة الدولة القومية على أفرادها. كانت نفس العقود اللاحقة للحرب العالمية الأولى شهدت صعود حركات قومية، على رأسها الفاشية والنازية، تتخذ من مصلحة الجماعة مدخلاً للإخضاع الكامل للأفراد والإهدار التام لحقوقهم. إذ كان هذا عصر الكيانات الاعتبارية التي تستحق التضحية، والتي ترتبط بها مفاهيم مثل الولاء والخيانة، والتي تسبق في الأولوية جميع أعضائها. وبعيداً عن الأسباب السياسية والقانونية لهيمنة هذه الكيانات في تلك الحقبة، فإن المعركة كانت واحدة، والأسباب التي ساهمت في تراجع قوة اللاعبين لصالح المؤسسات هي ذاتها التي ساهمت في تراجع المواطن لصالح الدولة. وظلَّ الأمرُ كذلك حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين فرضت فظائع المحرقة وغيرها من الجرائم إعادة التفكير في العلاقة بين الفرد والجماعة، وعاد للناس بعض صوتهم في مواجهة السلطة.

مالت الكفة لصالح اللاعبين في النصف الثاني للقرن. في إنجلترا، شهدت السنوات اللاحقة لانتهاء الحرب العالمية الثانية نشاطاً واسعاً للاعبين ضمن حركة العمال في أوروبا أثمر زيادة مطّردة في الحدّ الأقصى للأجور، الذي ارتفع من أربعة عشر جنيهاً سنة 1951 إلى عشرين جنيهاً سنة 1958. وفي سنة 1961، هدَّدَ اللاعبون بالإضراب إن لم يستجب الاتحاد لطلبهم بإلغاء الحد الأقصى للأجور. ولم يمنع إلغاءُ الاتحاد الحد الأقصى في السنة نفسها الأنديةَ المختلفة من محاولة فرض حدٍّ أقصى للأجور على لاعبيها، وهي محاولات مكنت منها اللوائح التي صعّبت انتقال اللاعبين بين الأندية، فلم تُبق لهم خياراً إلا الانصياع لأنديتهم. وفي السبعينيات، ساعد بث المباريات على الهواء مباشرة وظهور التلفاز الملون على انتشار اللعبة انتشاراً لا مثيلَ له. وبالتوازي مع ذلك، تولى رجل الأعمال البرازيلي جواو هافيلانج رئاسة الاتحاد الدولي لكرة القدم وتحولت الكرة ونجومها سلعاً لها رعاة، فتضاعفت أرباحها وزادت نسبة اللاعبين من هذه الإيرادات. تخلص حسابات نيك هاريس في دراسة له نشرتها سبورتنج إنتليجنس سنة 2011 إلى أنّ متوسط الأجر الأسبوعي للاعبين ارتفع من عشرين جنيها سنة 1961 إلى ألف وستمائة جنيه سنة 1991.

على أنَّ نقطة التحول الأهم في علاقة اللاعبين بالأندية كانت تأكيد حقّ اللاعبين في الانتقال إلى أندية أخرى بعد انتهاء عقودهم مع أنديتهم. جاء هذا التأكيد من محكمة العدل الأوروبية، التي فصَّلت سنة 1995 في الدعوى التي أقامها اللاعب البلجيكي جان مارك بوزمان ضد ناديه الذي طلب مقابلاً ضخماً نظير انتقاله إلى ناد فرنسي، فحكمت المحكمة بحقه في الانتقال دون موافقة ناديه طالما أن عقده انتهى. بَنَتْ المحكمةُ حكمها على القوانين المنظمة للعمل في الاتحاد الأوروبي، وفتح الحكمُ البابَ لزيادة كبيرة في أجور اللاعبين، التي ارتفعت في العقدين اللاحقين بنسبة 1500 بالمئة، بحسب تقرير نشرته صحيفة الغارديان سنة 2012.

هذا التاريخ يُظهر ارتباط الصراعات التي شكَّلت مجال كرة القدم المعاصر بالصراعات السياسية التي شكَّلت العالم الذي نعرفه. فهيمنةُ الكيانات الاعتبارية، من أندية واتحادات وغيرها، على كرة القدم وتعريفه بها والصراع على توزيع الأموال وعلى اللوائح التي تعطي بعض الأطراف قوة على بعض، كلها أسئلة لا يمكن فهم تطوراتها بمعزل عن الصراعات السياسية الكبرى. وهي مع ذلك أسئلة مركزية في مجال كرة القدم، بحيث لا يمكن تصوّره من غيرها على نحو ينفي عرضية العلاقة بين كرة المحترفين والسياسة.


إذا كان موضوع السياسة هو إدارة الحياة الجمعية، فإن جوهرها، كما يشير كارل شميت في كتابه "ذا كونسيبت أوف ذه بوليتيكال" (مفهوم السياسي) الصادر سنة 1932، هو السيادة التي تُمكِّن البعض من اتخاذ قرارات تُلزم الجماعة كلها وتؤثر فيها. هذا الإلزام هو الذي يحوّل الأفراد إلى كتلة أو جماعة بشرية تحيا حياةً جمعية، وهو الذي يؤطّر هذه الجماعة ويميز أفرادها عن غيرهم. ترتبط هذه السيادة في العالم الحديث بالدولة القومية التي هي الإطار النهائي لتنظيم الحياة الجمعية. فالناس ينتمون لعائلات وقبائل وأحزاب ومؤسسات، كلها يلزمهم ببعض القرارات، بيد أن الدولة هي الإطار النهائي الذي ينتمون إليه، والأقدر على الإلزام بسن القوانين وإجبار الناس على التزامها. ولعل هذا الارتباط بين السيادة والدولة هو ما يدفع كثيرينَ لقصرِ تعريف السياسة على الصراع على الحكم في إطار تلك الدولة. فالحاكمُ فيها، فرداً كان أو حزباً أو أغلبية برلمانية، ديمقراطياً كان البلد أو استبدادياً، صاحبُ سيادة يستطيع بها فرض قراره على سائر الجماعة. ومن هذا المنظور تبدو كرة المحترفين بعيدة عن صراع السيادة، فيسهل تصويرها على أنها غير سياسية. على أن النظر الدقيق يكشف علاقة أكثر تعقيداً بين مؤسسات كرة المحترفين والسيادة.

الحياد السياسي المعلن ومنع الشعارات السياسية في مسابقات الكرة لا يغيّران من حقيقة ضلوع الاتحاد الدولي، المؤسسة الأهم في إدارة كرة المحترفين، في صراع السيادة. تتكون الجمعية العمومية للاتحاد من أعضاءٍ يمثّل كلٌّ منهم واحداً من الاتحادات الوطنية، على نحوٍ يعزز تقسيم العالم سياسياً إلى وحدات، هي الدول. يبدو هذا التقسيم طبيعياً في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي تَشكّل بعد سقوط كلِّ الأطر الأخرى لتنظيم الحياة الجمعية. بيدَ أن الوضع لم يكن كذلك حين تأسَّس الاتحاد الدولي لكرة القدم سنة 1904، إذ كانت ثمة صور مختلفة لتنظيم الحياة الجمعية تتنافس، منها الإمبراطوريات والوحدات الدينية والطبقية، وحتى الشركات كما يوضح فيليب ستيرن في كتاب "الدولة الشركة" الصادر سنة 2011 الذي يبحث فيه التاريخ السياسي لشركة الهند الشرقية. وهذا الاختيار للاتحاد الدولي، ومعه مؤسسات دولية أخرى ساهم في تشكيل العالم الذي نعيش فيه.

اكتسبت عضوية الاتحاد الدولي لكرة القدم أهمية سياسية كبيرة في الفترة ما بين الحربين العالميتين. كانت العضوية في البداية مقتصرة على الدول الأوروبية، التي لم تكن سيادتها محلّ مساءلة. حتى جنوب إفريقيا، حين كانت أول دولة غير أوروبية تنضم إلى عضوية الاتحاد سنة 1909، كانت خاضعة للحكم الأوروبي. مع انتهاء الحرب العالمية الأولى تغيّر الخطاب عن سؤال السيادة، إذ فرضت الدولة نفسها إطاراً نهائياً لتنظيم الحياة الجمعية، وكانت حركات مقاومة الاستعمار اتخذت منحى وطنياً وصار مقصدُها من النضال تحقيقَ الاستقلال الوطني.

وبالتوازي مع ذلك، أعلن الرئيسُ الأمريكي وودرو ويلسون عن رؤيته لعالم ما بعد الحرب، فجاء فيها تأكيد حق الشعوب في تقرير مصيرها، وصدر ميثاق عصبة الأمم فرتبت مادته الثانية والعشرون الدول من حيث وضعها "الحضاري" إلى بلدان ذات سيادة وأخرى لم تتأهل لها بعد وينبغي أن تبقى تحت "وصاية" الدول الأوروبية. في هذا السياق، تأسست الاتحادات الوطنية في المستعمرات، وسعى السكان الأصليون إلى تنظيم شؤونهم باستقلال عن المستعمرين فتأسس الاتحاد المصري سنة 1921، وكان أول الاتحادات الإفريقية والعربية تبعه اللبناني سنة 1933 والسوري سنة 1936، ضمن جهود الاستقلال الوطني. وشكلت هذه الاتحادات منتخباتٍ وطنية خاضت بها المسابقات الدولية التي عدّها معياراً للحضارة سعت بها إلى تأكيد وقوفها على قدم المساواة مع الأوروبيين، كما تؤكد التغطيات الصحفية المزامنة لتلك المسابقات. وفي خضم السعي إلى تأكيد الاستقلال سعت هذه الاتحادات إلى عضوية الاتحاد الدولي لكرة القدم التي عدّها اعترافاً دولياً بوجود الجماعة السياسية الوطنية وقطعها شوطاً "حضارياً" كبيراً يؤهلها للاستقلال. في سنة 1923، قبل الاتحادُ الدولي عضويةَ الاتحادِ المصري، بسبب الاستقلال الرمزي لمصر آنذاك، وتعطلت مساعي المستعمرات الأخرى إلى الحصول على هذا الاعتراف إلى فترة الحرب العالمية الثانية التي أعقبها نموٌ كبيرٌ في عدد أعضاء الاتحاد الدولي لكرة القدم.

هذه الأهمية السياسية لعضوية الاتحاد الدولي ليست تاريخية فحسب. إذ لا يزال اعتراف الجماعة الكروية بدولة معينة وقبوله عضوية اتحادها الوطني في الاتحاد الدولي موضوعاً للصراع، كما هو في حالة فلسطين. يواجه الاعترافُ بحق الشعوبِ المحتلَّةِ وحقِّها في تقرير مصيرها وتأسيسِ دولة ذات سيادة مقاومةً من المحتل وحلفائه، وهي المقاومة التي نجحت في تأخير اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين دولةً ذات عضوية كاملة، أي ذات سيادة، إلى مايو 2024، أي بعد ست وعشرين سنة من قبول الاتحاد الدولي لكرة القدم عضوية فلسطين في جمعيته العمومية سنة 1998. وليست فلسطينُ الحالةَ الوحيدة، فلا تزال كوسوفو التي قبل الاتحاد الدولي عضويتَها سنة 2016، تسعى إلى الحصول على اعتراف من الأمم المتحدة. في هاتين الحالتين، كما في حالات أخرى، تبدو عضوية الاتحاد الدولي خطوةً على طريق الاعتراف الدولي بوجود الجماعة البشرية وأحقيتها في تقرير المصير، أي أن منح هذا الاعتراف أو حجبه هو موقفٌ سياسي للجماعة الكروية الدولية تختلف فيه أحياناً عن الأمم المتحدة.

لا يتوقف دور الاتحاد الدولي لكرة القدم عندَ تعزيز سيادة بعض الدول بالاعتراف بها. بل تسهم مسابقاته وسياساته في تعميق روابط الجماعات السياسية لهذه الدول. في كأس العالم، المسابقة الأكثر مشاهدة وأرباحاً لكرة المحترفين، تتبارى فرق يمثل كل منها بلداً. والاتحاد الدولي الذي يمنع رفع شعارات سياسية يشجع على رفع أعلام البلاد المختلفة في المدرجات، وتبدأ مبارياته الدولية بعزف الأناشيد الوطنية للفرق المتبارية، وكلها رموز وشعارات سياسية يقبل بها الاتحاد وتعمق الشعور الوطني لدى اللاعبين وكذا المشاهدين الذين يتابعون مباريات فريق بلدهم. وتعمق سياساتُ الاتحاد هذا الشعور بفرضها الانتماء الوطني، فتضيق قواعدُها على اللاعبين الراغبين في تغيير البلد الذي يمثلونه في المسابقات الدولية. تمنع الفقرة الثانية من المادة الخامسة من لوائح الاتحاد أي لاعب سبق له تمثيل بلد ما أن يمثّل بلداً آخر إلا في حالات استثنائية. وهذه الاستثناءات لا تزال محلَّ صراع بين الاتحادات الأهلية المختلفة، في ظلِّ سعي الاتحادات الوطنية للبلدان الإفريقية، وعلى رأسها الاتحاد المغربي، إلى الحصول على خدمات لاعبين تعود أصولهم إليها سبق لهم تمثيل منتخبات أوروبية.


الدور الذي تؤدّيه مؤسسات الكرة في ترسيخ سلطة الدولة الوطنية يقابله امتيازات تحصل عليها، تسمح بظهور كرة القدم مجالاً مستقلاً. في كتابه "كوربوريت سوفرينتي" (سيادة الشركات) الصادر سنة 2013 يعتبر جوشوا باركان تأسيس الهيئات والشركات والمؤسسات الكبرى "هدايا سيادية،" تقدّمها الدولة للقائمين على تلك الهيئات، مقابل امتيازات تحصل عليها. فكما تقوم المؤسسة عن الدولة بوظيفة إدارة الجماهير، وهي الوظيفة التي لا يمكن للدولة الليبرالية القيام بها مباشرةً وإلا صارت شمولية، فإن المؤسسة تستفيد من "الاحتكارات" و"الاستثناءات" القانونية التي تمنحها الدولة إياها. في حالة كرة القدم يظهر ذلك في احتكار الاتحادات الوطنية إدارة شؤون الكرة في الأقطار المختلفة.

أما الاستثناءات فأهمها إخضاع مباريات كرة القدم لقوانين مختلفة عن السارية في المجتمع. فالنزاعات الرياضية لا تخضع للمحاكم العادية، بل لها سبيل للتقاضي لا يتوقف عند حدود الدولة. وبينما تعاقب القوانين على الضرب بالسجن أو الغرامة ونحوهما، تقتصر عقوبة هذا الضرب إذا كان جزءاً من المباراة على احتساب خطأ أو ضربة جزاء على المعتدي، وربما إنذاره وطرده من المباراة أو إيقافه عن اللعب مدة بعدها. والقواعد الحاكمة للعقود في كرة القدم تختلف عنها في سائر القطاعات. وبهذا تؤسس هذه الاستثناءات لوجود كرة القدم مجالاً للتفاعلات الاجتماعية قائماً بذاته. وهذا المجال وإن بدا مستقلاً عن السياسة، فإنه لا يقوم إلا عليها. فالقدرة على تقرير الاستثناء هي أهم خصائص صاحب السيادة، كما يؤكد كارل شميت في كتاب "بوليتيكال ثيولوجي" (اللاهوت السياسي) الصادر سنة 1934.  وفي هذا كله يظهر الأساس السياسي لمجال كرة القدم، الذي لا يُبقي مجالاً للزعم باستثناء الوجود السياسي فيه.

اشترك في نشرتنا البريدية