هل ألهم ابن خلدون الفيلسوفَ جان جاك روسو؟

تشير الدلائل لاحتمالية أن يكون روسو قد تأثر بمنظور ابن خلدون عن المعمار والرفاه وتطور التاريخ.

Share
هل ألهم ابن خلدون الفيلسوفَ جان جاك روسو؟
النصّ الخلدوني لم يُترجم للفرنسية التي كتب وقرأ بها روسو، إلا في مراحل متأخرة وبعد وفاته / تصميم خاص بمجلة الفِراتس

هل قرأ جان جاك روسو ابن خلدون باللغة اللاتينية؟ ألحّ عليَّ هذا السؤال أثناء ترجمتي لكتاب الفيلسوف جان جاك روسو المُعَنون "رسالة في العلوم والفنون"، والمنشور بالفرنسية سنة 1750.  يبرز توافقٌ كبير بين الكاتبين كلما تقدمتُ في ترجمة النصّ يصل أحياناً حدَّ التطابق في وجهات النظر بين روسو وعبد الرحمن بن خلدون في مسألة تأثير الرفاه ومنتجات عصر الأنوار الفكرية والمادية على القوة والأخلاق. 

هذا التقارب الفكري بين عَلَمين مختلفي المنشأ والمراجع فرض أسئلةً كثيرةً عما بينهما من تناصٍ فكري، رغم تباعد زمنهما وانتمائهما إلى ثقافتين مختلفتين. كتب ابن خلدون في القرن الرابع عشر بينما كتب روسو في القرن الثامن عشر عصر التنوير الأوروبي. في تلك الفترة كان الأوروبيون يقرأون ويفكرون ويكتبون باللاتينية قبل أن تتشكل لغاتهم الحالية. وفي الحقبة ذاتها اطّلع مفكرو أوروبا على التراث العربي والإسلامي الذي سبقهم. ربما تجلى هذا الاطلاع بحوارٍ أو استعارةٍ أو تناصٍ. فقد نعثر بالصدفة على أثر المفكرين العرب، وفي مقدمتهم ابن خلدون، في أعمال بعض الأوروبيين ومنهم روسو تحديداً في كتابه "رسالة في العلوم الفنون". ولكن قد نعثر على آثار النقل بين الثقافتين وقد نتعاطى معها ونبني عليها من دون أن نتبيَّن أصولها دائماً. 

ومن هنا نستكشف في هذه المقالة علاقة نص روسو بشبيهه عند ابن خلدون، ونزعم أن النصَّ الخلدوني لم يُترجم للفرنسية التي كتب وقرأ بها روسو، مع إجادته اللاتينية أيضاً، إلا في مراحل متأخرة وبعد وفاته. فكان السؤال الملح أثناء ترجمتي لكتابات روسو عن كيفية اطلاعه وخاصةً في أول حياته كاتباً ومفكراً على أطروحات ابن خلدون. ومع هذا جاء تساؤلٌ آخر عما إذا كان روسو قد وصل بمفرده إلى القول العلمي نفسه حول المسألة نفسها، وبأن الفرضية التي أناقشها في هذه المقالة هي مجرد توقعٍ قائمٍ على أمنية أن يكون مفكرو العرب قد أثروا على مفكري الغرب. ومع الزعم بتأثير ابن خلدون على منظور روسو، يسوقنا هذا أيضاً إلى النظر لزمن النقل وحيثياته بين الثقافتين العربية والأوروبية. هي مقارباتٌ لا تنتهي بإجاباتٍ مطلقة، نحاول أن نستعرض فيها فرضية علاقة فكر روسو بابن خلدون، فنستحث فضول القارئ والباحثين الجادين للتعمق والتوسع منهجياً بسبر تفاصيل هذه العلاقة. 


كتب ابن خلدون المقدمة والديوان قبل وفاته سنة 1406 في مصر بفترةٍ طويلة، أثناء إقامته بالجزائر سنة 1377، ولا نعلم بدقة كيف سافرت كتبه إلى الشرق والغرب. يجادل بعض الباحثين أن كتابات ابن خلدون عُرفت في إسبانيا في القرن الخامس عشر، ومنهم نثانيل شميت أستاذ اللغات السامية بجامعة كورنيل بالولايات المتحدة. يذكر شميت في كتابه "ابن خلدون، مؤرخ واجتماعي وفيلسوف" المنشور سنة 1930 أن ابن خلدون سافر إلى الأندلس مرتين، مكث في سفرته الأولى عدة سنوات واتصل خلالها بعدد كبير من أدباء إسبانيا ومفكريها وظل على تواصل معهم بعد مغادرته. أهم ما يؤكده شميت أن مؤلفات ابن خلدون لم تنتقل من إسبانيا إلى باقي أوروبا، ويرجح أن هذا كان بسبب إحراق الكتب العربية في سنة 1499 بعد إجلاء العرب عن الأندلس. ويبقى الثابت لدينا أن أعمال ابن خلدون حُققت أول مرة في نهاية القرن التاسع عشر بمصر مع وصول أول وسائل الطباعة الحديثة إلى الشرق العربي. بينما كَتَبَ روسو "رسالة في العلوم والفنون" باكورة أعماله الفكرية سنة 1750، أي بفارقٍ زمنيّ قدره 373 عاماً. 

نزعم بأنّ النصَّ الخلدوني لم يُترجم إلى الفرنسية الكلاسيكية التي كتب بها روسو إلا في زمنٍ متأخر بعد وفاته. وتبيّن لي أن أول ترجمة معروفة لمقدمة ابن خلدون إلى اللغة الفرنسية هي للمستشرق الإيرلندي الفرنسي وليام ماك جوسكين بارون دوسلين بين سنتي 1840 و1863، ونُشرت في طبعاتٍ مختلفةٍ في ثلاثة أجزاء سنة 1934 بعنوان "لو بروليغومين دو ابن خلدون" (مقدمات ابن خلدون). ولم يُترجم التاريخ الكامل لابن خلدون المعروف بعنوان "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العجم والعرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، والذي يتناول تطور الشعوب ونشوء الدول وانهيارها ومفهوم العصبية، بل ترجمه لاحقاً المستشرق الفرنسي فينسينت-مانسور مونتيه سنة 1967 تحت عنوان "ديسكور سير لإيستوار يونيفيرسيل" (خطاب حول التاريخ العالمي). ومونتيه مستشرق فرنسي عاش بين المغرب وموريتانيا حيث أشهر إسلامه وتوفي. ثم ترجمه إلى الفرنسية كذلك المفكر المغربي عبد السلام شدادي سنة 2002 بعنوان "كتاب الأمثلة". أما أول ترجمة انجليزية كاملة للمقدمة، فأنجزها الألماني فرانز روزينثال سنة 1958. وليس لدينا علم بترجماتٍ إلى لغاتٍ أخرى. 

هذه الترجمات إلى الفرنسية والإنجليزية كما هو مبيَّن بالتواريخ حصلت بعد وفاة روسو بمئة سنة تقريباً. فكيف اطلع روسو وخاصةً في أول حياته على علم ابن خلدون، وهل التشابه بالطرح نتاج الصدفة أو حتمية علمية؟

يقتضي تتبعُ أثر ابن خلدون في عمل روسو الإشارةَ إلى مرحلةٍ طويلةٍ من تاريخ الأفكار قد أُغفلت في غالب الدراسات التاريخية، وهي المرحلة الفاصلة بين سقوط الأندلس وتراجع تأثير الحواضر الإسلامية في الشرق من جهة وبين عصر النهضة وعصر الأنوار الأوروبيين من جهة أخرى. يشير عالم الاقتصاد الأمريكي بول سويزي إلى هذا الإغفال ويُسمّيه "تاريخ الحاضر"، ويردّه إلى أن التأريخ الغربي يحابي التطورات التي ساهمت في مفهومنا الحديث لما يصحّ وصفه بالعلمي، بينما يتجاوز أو يتغاضى عن مفاهيم أخرى انزوت إلى جانب الطريق أو أُهملت بسبب عجزها عن تلبية الحاجات والمتطلبات والأساليب الحديثة. اتسمت مرحلة الإغفال هذه بتواصلٍ فكريٍّ كبيرٍ بين أوروبا والعرب. ورغم أن الحروب، ومنها الحروب الصليبية بين عامي 1096 و1291، كانت عنواناً سائداً بين ضفّتَي المتوسط لقرونٍ طويلة، إلا أنها كانت وسيلةً للتواصل بين هاتين الضفّتين أيضاً. وعليه فإن التواصل والتبادل عبر الترجمة والرحلات لم تنعدم بين العرب والأوروبيين.

من أبرز عناوين ذلك التواصل اتخاذُ حاكم صقلية المسيحي روجر الثاني العالمَ الجغرافي المسلمَ الشريف الإدريسي مستشاراً علمياً له. وبمساعدة الإدريسي رُسمت في بلاطه أولُ خريطةٍ للعالم تثبت كروية الأرض سنة 1138. وبرز التبادل بين الجامعات العربية في تلك الحقبة وبين الكنائس والجامعات الغربية، حيث عبر تراثٌ علمي وثقافي إلى اللغات الأوروبية الحديثة من العربية مروراً باللاتينية أولاً عبر حركة ترجمةٍ دامت قروناً. فهنا نلمس على سبيل المثال أثر "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري المكتوبة سنة 1033 في "الكوميديا الإلهية" للشاعر والفيلسوف الإيطالي دانتي أليغييري والتي كُتبت بالايطالية ونُشرت سنة 1321. ولكن لا نجد أثراً عن اطلاع دانتي على اللغة العربية، بما يرجح وجود ترجمة رسالة الغفران إلى اللاتينية أولاً، وقد ذكر الفيلسوف الفرنسي ذو الأصول الروسية الكسندر كويري ذلك في كتابه "تاريخ التفكير العلمي"، المنشور بالفرنسية في 1934. هذه الإشارات، وإن أخذنا منها أمثلةً قليلةً للاستدلال العام، تجعلنا نطرح استفهاماً عما إذا قرأ جون جاك روسو ابن خلدون مترجماً إلى اللاتينية أولاً. سنعمل على استكشاف هذه الفرضية في السطور اللاحقة، فنقارن منهجياً بين أثرَي ابن خلدون وروسو بالتركيز على أحوال المعمار والترف على الأخلاق والقوة.


نعتمد في نص ابن خلدون على الطبعة التونسية للمقدمة والصادرة سنة 1993 عن الدار التونسية للنشر. 

عقد ابن خلدون في الباب الثاني من المقدمة جملةً من الفصول المتتابعة شرح فيها رأيه في أنواع العمران، مثبتاً أن العمران البدوي والعمران الحضري من طبيعة الوجود الاجتماعي المتعدد. واختلاف نِحلة المعاش أو نمط الإنتاج هو سبب استمرار العمران البشري عبر الصراع بين النحلتين أو النمطين.

فإذا كان العمران البدوي يحقق الكفاية للبقاء ثم الاستعداد للغزو، فإن العمران الحضري يتجه إلى الدعة والانحلال الأخلاقي كلما اتسعت أحوال المعاش. ويقول: "فإذا حصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه دعاهم ذلك إلى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنق… وتوسعة البيوت واختطاط المدن". ويعرض ابن خلدون هنا مساراً للتطور البشري من البدوي إلى الحضري، وفي هذه المسيرة الطويلة يمرُّ الإنسان من مرحلة الضروري أو الأصل إلى الكمالي أو الفرع. وهنا فإن البداوة أصل للتمدن والحضر سابقة عليهم، وكذلك فالتمدن غاية البدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إليها، ومن حصل على الترف وعوائده اتجه إلى الراحة والخمول.

وفي شرحه هذا المسار التطوري، يحاج ابن خلدون أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر لأنهم أقرب إلى الفطرة الأولى، وبالتالي فإن نفوسهم "إذا كانت على الفطرة الأولى، كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها… من خير أو شر. ولأهل الحضر، لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا، العكوف على شهواتهم منها ومذمومات الخلق والشر وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك، حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم". وأهل البدو و"إن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم [الحضر]، إلا أنه في المقدار الضروري في الترف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها". وبالتالي إن أصابهم - أي البدو - سوء الخلق ومذموماته والذي يأتي مع التمدن، يكون أقلَّ وطأةٍ من نظيره عند  الحضر. وعليه بما أن البدو أقرب إلى الفطرة الأولى من الحضر "يسهل علاجهم عن علاج الحضر".

في الفصل الخامس من الباب الثاني والمعنون "في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر"، يوسع ابن خلدون المقارنة بين البدو والحضر إلى قيمة الشجاعة في مقابل الجبن، ناسباً قيمة الشجاعة للبدو لأن أهل الحضر برأيه "ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم… قد ألقوا السلاح وتوالت على ذلك منهم الأجيال وتنزلوا منزلة النساء والولدان". في المقابل فإن أهل البداوة حافظوا على ما لديهم من أنفة وإقدام لأسبابٍ متعلّق كثيرٌ منها ببُعدهم عن المدنية وموبقاتها من ترفٍ وخمول. والبدو بمنظوره "قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم… دائماً يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق ويتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس… ويتفردون في القفر والبيداء… قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجيةً يرجعون إليه متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ… وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون منهم شيئاً".

وفي سياق المعادلة ذاتها القائمة على الفرق بين البدو والحضر، يرى ابن خلدون في الفصل السادس المُعَنون "معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم" أن الخضوع مفسدة للبأس. السبب برأيه أن في البيئة الحضرية من يملك أمره فعلياً هم المالكون لأمر الناس من الرؤساء والأمراء، فيقول: "كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتى صار لهم الإذلال جبلة لا يعرفون سواها وأما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة". ثم يضيف: "وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة… وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عند الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه على المخافة والانقياد فلا يكون مدلاً ببأسه… ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشدَّ بأساً ممن تأخذه الأحكام ونجد أيضاً الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيراً".

يحولُ ابن خلدون معادلاتِه إلى قانونٍ تاريخي فيذكر في الفصل السادس عشر أن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها "لما كانت البداوة سبباً في الشجاعة… وإذا كان الغلب للأمم إنما يكون بالإقدام والبسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة وأكثر توحشاً كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في العدد وتكافآ في القوة العصبية".

هكذا تتضح المعادلة التي ستحكم بقية التنظيرات الخلدونية في أحوال العمران والتي سيقرأ بها التاريخ الكوني حتى زمن كتابة الديوان، طامحاً لبناء نظرية كونية في التاريخ. فالبداوة عند ابن خلدون موطن القوة والشدة والشجاعة ورفض الانقياد، لبُعدها عن عوائد الترف والدعة والخضوع لكل سلطانٍ قاهر. لكنها تتجه بطبيعة قوتها وتوقها إلى أخذ ما في أيدي غيرها إلى التمدن، وكلما تمدنت أو سلكت طريق الحضر بدأ تداعيها وانحدار قوتها وبأسها، ورغبت في الخضوع إلى حاكم أو متولٍ يرعاها. وكلما استطاب البدو الدعة، غرقوا في النعيم ثم تردت أخلاقهم وفسدت عاداتهم بمقدار ما يتمتعون بالرفاه، فيتجهون بذلك إلى نهايتهم، وهذا التطور هو جوهر "قانون الاستبدال الخلدوني" أو دورة العصبية.

ويبقى السؤال، هل كان لهذا القانون التاريخي الخلدوني أثرٌ أو وجودٌ عند جان جاك روسو - اللاحق لابن خلدون بقرونٍ عدة - في نظريته في دور العلوم والفنون على السلوك العام في التاريخ لا سيما في جانب التناقض بين حالة التوحش أو القوة وبين حالة النعيم، ونسب خصال الانحلال الأخلاقي للنعيم؟ 


في زيارةٍ لصديقه دينيس ديدرو في سجنه، عثر جان جاك روسو على مناظرةٍ علميةٍ نظّمتها جمعية علمية تُسمّى "لو ميركيور دو فرانس" (الزئبق الفرنسي) في 1750، وطُلب من المهتمين الإجابة عن السؤال التالي: "هل ساهم تقدُّم العلوم والفنون في تلويث الأخلاق أم في تطهيرها؟". يقول روسو في كتاب سيرته الذاتية "الاعترافات"، المنشور بالفرنسية سنة 1782، إنه في لحظة قراءة ذلك السؤال انفتحت أمامه عوالمَ أخرى وصار إنساناً آخر. شارك في المناظرة وفاز بها، وبإجابته خالف السائد وقدّم أطروحةً مناقضة لزهو الغرب بثقافته التنويرية المادية، وإيمانه بأنه يتقدّم بالمعرفة على كلّ الصعد.

انحاز روسو إلى الفكرة القائلة بأن التطور العلمي والفني قد أفسد القيم، مجادلاً أن المجتمع مبنيٌّ على التفاوت وأن الثقافة تخدم الارستقراطية الفاسدة التي تقوم رفاهيتها على بؤس الشعب. وهنا نلتقط الأثر الأول للنظرية الخلدونية، أي التلازم بين الرقي المادي والانحطاط الخلقي، وهو التلازم الكاشف للتناقض بين أخلاق الفقر وأخلاق الرفاه القائم على الفوارق المادية. 

يقول روسو في "رسالة في الفنون والعلوم" إن العلوم تنتج الفنون التي تصنع الحياة المرفهة، فتدفع الناس إلى التمتع بلذائذَ ماديةٍ تُنتجها العلوم والفنون، ثم يستخلص: "لقد رأينا الفضيلة تأفل بقدر ما كانت العلوم تعلو في أفقنا، وقد تواصلت نفس الظاهرة في كل الأزمنة وفي كل الأماكن". وهو بذلك يحول الملاحظة عن زمنه إلى قانونٍ تاريخي كما فكر ابن خلدون من قبله، وهذا توافقٌ آخَر في المنهج التاريخي يُضاف إلى الاتفاق بينهما. وكلا العقلين تبعا المنهج الاستقرائي، وهو منهج يعتمد على جمع الأدلة وبناء قاعدة عامة وإن عابه تعميم النتائج، والمحصلة إغفال الاستثناءات في القضايا موضع البحث.

يستعرض روسو بعض الأمثلة التاريخية لثبيت أطروحته عن انهيار الازدهار مع غلبة الترف، فيقول: "انظروا إلى مصر هذه المدرسة الأولى في الكون… ذلك البلد المجيد الذي كان ملوكه ينطلقون منه لغزو العالم، لقد صارت أم الفلسفة والفنون الجميلة وسرعان ما خضعت لقمبيز بن قورش [ملك فارسي تولى الحكم 580 قبل الميلاد]، ثم للإغريق والرومان والعرب وأخيراً للأتراك". ثم يتوسع بالأمثلة تفصيلاً فيدعو القارئ للنظر إلى اليونان وما صار لهم من تردٍّ بعد بأسهم بسبب رفاههم، فيقول: "لم تكن الآداب الوليدة قد حملت الفساد إلى سكانها [اليونان وأثينا]، لكن تقدم الفنون وتفكك القيم تتالت عليهم. واليونان التي كانت مزدهرة مرفهة دائماً، لم تعد تفعل بثوراتها إلا أن تغيّر الحكام".

ثم ينتقل لروما نموذجاً حضارياً أكل من عظمته الرفاه والترف وقاده للانحلال والرذيلة، ومن ثم التفكك، "صارت روما التي كانت معبداً للفضيلة في السابق، مسرحاً للجريمة والعار ولعبة بيد البرابرة [وهو لقب أطلق على من يعيشون خارج الإمبراطورية الرومانية]، فسقطت عاصمة العالم أخيراً تحت النير الذي أخضعت له شعوباً كثيرة". يطبق روسو الرواية نفسها على عاصمة الشرق القسطنطينية والتي كانت عاصمة للعالم قاطبة في يوم من الأيام وموئلاً للعلوم والفنون، فباتت برأيه موئلاً لكلّ ما يُمكن أن يفرزه الفساد من عار الخيانات والاغتيالات والسموم السوداء والجرائم.

وبعد القسطنطينية يتوغل شرقاً في آسيا فيأخذ الصين موضعاً للتفكر، ويقول: "يوجد في آسيا بلدٌ واسع الأرجاء، تدفع الآداب المجيدة فيه [أهلها] إلى صدارة الدولة. وإذا كانت العلوم تطهّر الأخلاق… وإذا كانت تحفز فيهم الشجاعة، فإنه كان يجب أن تكون الشعوب الصينية عاقلة وحرة ولا تقهر. ولكن ليس هناك من رذيلة إلا وهي متفشية فيهم ومسيطرة عليهم. لم تصلح معارف الوزراء ولا حكمة القوانين ولا كثرة السكان ولا هذه المساحة الشاسعة للإمبراطورية في حماية البلاد من نير التتار الجاهل الجلف؟".

يستشهد أيضاً بأمة الفرس وبشعوب الجرمان المنعوتة بالوحشية، ويكتب متغنياً بإسبارطة "الحاملة الأبدية للفكر العظيم"، والتي كانت ترد عن أسوارها الفن والفنانين والعلماء، في وقتٍ كانت أثينا تجل الفنون الجميلة والبذخ القادم معها فنخر هذا في أساسها وقوتها.

مقارنات روسو مكثفة ويطولُ سردها، ولكنه بالمحصلة يشير إلى أنه كلما تقدّمت العلوم والفنون، تراجعت قيمة الوجود الاجتماعي والقدرة على الاستمرار الحضاري. مثلما امتلأت روما بالفلاسفة والخطباء واستهان الرومان بالتربية العسكرية وازدروا الفلاحة وانخرطوا في طوائف وتناسوا الوطن، تفكك البنيان الاجتماعي الذي ضمن في وقتٍ ما الأنفة والبأس، كما هو الحال مع البداوة بالمنظور الخلدوني. وفي ظلِّ الترف، على حدّ زعم روسو، حلَّ مكان الحرية المقدّسة والعفة والخضوع للقانون فلاسفة على غرار أبيقور المشهور بفيلسوف اللذة والحرية الأخلاقية والمولود في أثينا وزينون مؤسس المدرسة الرواقية (فلسفة الأخلاق الشخصية)، وغيرهم. 

وهنا يذكرنا روسو أن بعض فلاسفة روما أنفسهم يقولون إنه منذ بدأ العلماء يظهرون بين الناس، بدأ الخيّرون يختفون. وبغضّ النظر عن صحة القول من عدمه علمياً، يبقى الإطار العام لأطروحة روسو أن انحلال الأخلاق أتى نتيجةً طبيعيةً للرفاه، ويجرُّ هذا بدوره فساد الذوق، وحينها فلا رفعة وما يبقى سوى الانهيار. وينهي روسو، وإن بدا متشائماً بالمنحنى التاريخي وتطوره، بالقول إنه لو وُجد بالصدفة رجلٌ من الرجال الخارقين للمألوف بمواهبهم، ويكون له من الحزم ما يجعله يتصدى لأمجاد عصره فيحطّ من قدر تلك الأعمال السخيفة، فالويل له إذ سيموت مجهولاً منسياً.


تمثلت صعوبة النص في عسر اختصار الشواهد من مقدمة ابن خلدون ورسالة روسو في الفنون والعلوم، فهي طويلة ومتعددة. اكتفينا من الكاتبين بالأثر الأبرز في المسألة المطروحة واجتنبنا مثلاً الكثير من أفكار روسو الواردة في كتابه "أصل التفاوت بين الناس"، المنشور بالفرنسية سنة 1754، والذي ترجمناه ونشرناه في طبعةٍ تونسية سنة 2009. خاصةً فيما يتعلق بمسألة نشأة ملكية الأرض ودورها في صناعة الفوارق الاجتماعية، ومن ثم صناعة الرفاه الممهدة للانحلال الخلقي. وهو أثر لاحق لرسالته في العلوم والفنون. ولم نتوسع إلى الفصول المتعلقة بالمسألة السياسية ونشأة الملك والدولة عند ابن خلدون والتي نعرف فيها اتفاقات أخرى بين فلسفة المُلك الضرورة أو الوازع وفلسفة العقد الاجتماعي عند روسو. فجوهر تفكير الاثنين وضعي مادي يستبعد إقامة الوازع والسلطة على الشريعة أو النبوءة. كلاهما يرفض حكم رجال الدين، لكن ابن خلدون أسبق وهذا باب مقارنة أوسع وجب أن يمتدَّ إلى مقارنةٍ بين المقدمة والعقد الاجتماعي لروسو.

ورغم الاختصارات والاكتفاء بأثرٍ واحد لروسو، فإننا نجد أثر ابن خلدون جلياً في فكر روسو، وهو ما يعيدنا إلى سؤال البداية: متى قرأ روسو ابن خلدون؟ ثم السؤال عن مرحلة الترجمة من العربية إلى اللاتينية التي كانت لغة العلوم والفلسفة والتاريخ في عصرَي النهضة والأنوار الأوروبيين. وإذا كان ابن خلدون يضع لفظ الحضارة فيقابله روسو بلفظ الأنوار أو المعارف أو العلوم، فإن مضمون المصطلحين ودورهما واحد ونتيجة فعلها في التاريخ متفقٌ عليه بينهما. أما النهايات فواحدة، وهي الانهيار الأخلاقي ونهاية الحضارة.

وبخوضنا هذه المقارنة، نعتقد إن إثبات الندية الفكرية وإثبات السّابقة تعمل دليلاً على القدرة الكفيلة بالخروج من موقع المفعول به ثقافياً وحضارياً. أي الخروج من موقع التابع المتفَضَل عليه بالمعرفة إلى موقع المشارك في صنعها بحكم القدرة الذاتية على الإسهام الفعال.

اشترك في نشرتنا البريدية