قمع فكري وفرق عسكرية طلابية.. هكذا سيطر الأسد على الجامعات السورية

مرّت الجامعات السورية أثناء حكم الأسد بسياساتٍ وأدواتٍ مختلفةٍ استهدفت ضمان السيطرة على التعليم الجامعي.

Share
قمع فكري وفرق عسكرية طلابية.. هكذا سيطر الأسد على الجامعات السورية
سياسات نظام الأسد ضمنت السيطرة على التعليم الجامعي | تصميم خاص بالفِراتْس

بعد انطلاق الثورة السورية وتحديداً في أبريل من سنة 2011، دعا وزير التعليم العالي السوري عبد الرزاق شيخ عيسى رؤساء الجامعات الخاصة في سوريا إلى اجتماعٍ وُصف بأنه "هامّ وعاجل". وجّه الوزير الدعوة فجأةً بلا أيّ ترتيباتٍ مسبقةٍ أو جدول أعمالٍ واضحٍ، بخلاف الاجتماعات السابقة التي كانت تنظّمها وزارة التعليم العالي. فقد هاتَفَ مدير مكتب الوزير رؤساءَ الجامعات عشيّة الاجتماع، وطلب منهم الحضور إلى مبنى الوزارة غداةً.
أفاد واحدٌ ممّن حضروا الاجتماع للفراتس أن رؤساء الجامعات فوجئوا يومها بحضور رئيس منظمة الاتحاد الوطني لطلبة سوريا وقتئذٍ، عمار ساعاتي، الذي بدا كأنه صاحب الدعوة إلى الاجتماع وليس الوزارة. ومع أن القواعد الإدارية تقضي بأن يدير الاجتماعَ وزير التعليم العالي بنفسه، إلّا أن مَن تصدّر الاجتماع كان عمار ساعاتي، في حين بدا الوزير عبد الرزاق شيخ عيسى متوتّراً وخائفاً.
قبل بدء الاجتماع أخرج عمار ساعاتي، وثيق الصلة بماهر الأسد، جهازَ تسجيلٍ صوتيٍّ صغيرٍ وأبلغ الحضور أنه سيسجّل وقائع الاجتماع، مبرّراً ذلك برغبته في توثيق ما يُقال حتى لا يُساء تأويل كلامه لاحقاً. وما إن بدأ الاجتماع حتى وجّه ساعاتي تحذيراته لرؤساء الجامعات الخاصة، مهدّداً أنّه وأعضاء منظمته "لن يتهاونوا إطلاقاً" إن سمحت الجامعات بخروج مظاهراتٍ طلابيةٍ داخل حرمها. وبيّن أنه وجّه أعضاء الاتحاد الوطني وطلابه المنتسبين في الجامعات بالتدخل الفوري لقمع أيّ مظاهرةٍ "دون تردّدٍ أو هوادة". وختم حديثه بالقول: "سوريا بقيادة الدكتور بشار الأسد ستنتصر على هذه المؤامرة، ولن يستطيع أحدٌ تغيير النظام في سوريا"، ثم غادر الاجتماع. أظهرت رسالة ساعاتي الواضحة السياسةَ التي اعتزم النظام السوري السابق اتّباعها مع الجامعات، في سنوات الثورة وما تبعها.
استخدم النظام السوري سياساتٍ متغيرةً للهيمنة على الجامعات. وقد تكيّفت مع مراحل الصراع المختلفة، بدءاً من الحراك السلمي مروراً بالنزاع المسلح ووصولاً إلى "الصراع المجمّد"، الذي امتدّ بين سنتَيْ 2018 و2024.
في العام الأول من الثورة، حوّل النظام مؤسساتِ التعليم العالي إلى منصّاتٍ تروِّج روايته عن "المؤامرة الكونية" ضدّه. وكان يعتمد على تجنيد أعضاء الاتحاد الوطني للطلبة لمراقبة الطلاب المعارضين والإبلاغ عنهم، إضافةً إلى نشر قوّات الأمن داخل الحرم الجامعي لقمع التظاهرات السلمية واعتقال المشاركين فيها. ومع تصاعد العنف وتحوّل الثورة إلى نزاعٍ مسلّحٍ، صعّد النظام سيطرته على الجامعات بتشكيل "كتائب البعث"، محوّلاً الجامعات إلى مسرحٍ للصراع المسلح. وعندما تراجع العنف العسكري، واستعاد النظام سيطرته على معظم المناطق، دخل الصراع مرحلةً من الركود والاستقرار الهشّ. في هذه المرحلة، بدّل النظام السوري أدواته وتراجع نهجه من العسكرة المباشرة إلى الاحتواء الناعم، سعياً لتحسين صورته داخلياً وخارجياً. وأصبحت الجامعات أدواتٍ رمزيةً تعيد إنتاج خطاب النظام السياسي، وتعزّز سردية "الانتصار" وعودة الاستقرار، في محاولةٍ لإعادة فرض شرعيته.


منذ سبعينيات القرن الماضي، بدأ نظام حافظ الأسد توسيع نفوذه تدريجياً مُحكِماً قبضته الأمنية على مؤسسات الدولة السورية، ومكرّساً سلطةً مركزيةً تقوم على الولاء السياسي والرقابة الصارمة. ويشير الأكاديمي مروان قبلان، في ورقةٍ بحثيةٍ بعنوان "لماذا انهارت دولة البعث في سوريا؟"، نشرت في مايو 2022، إلى أن النظام اعتمد في ترسيخ سلطته على مقاربةٍ تستند إلى الثلاثية الشهيرة لعالم الاجتماع والمؤرخ الألماني ماكس فيبر. وبموجب هذه المقاربة، تستمد الدولة مشروعيتها من ثلاثة أسسٍ، هي العنف واحتكاره عبر أدوات الأمن وإدارة الاقتصاد والسياسة. يرى فيبر أن الوظيفة الأولى للدولة تتمثل في حفظ الأمن واحتكار مشروعية استخدام العنف. في حين تشمل الوظيفة الاقتصادية توفير الخدمات الأساسية للمجتمع من صحةٍ وتعليمٍ وتوظيفٍ وتحديد سبل توزيع الثروة. وأخيراً، تهدف الوظيفة الثالثة إلى ترسيخ الفكر السياسي والنهج الموجَّه من الحزب الحاكم.
في هذا السياق، لم تكن مؤسسات التعليم العالي السورية بمنأىً عن الهيمنة السياسية والفكرية، بل كانت إحدى الأدوات الأساسية لصبغ البلاد بلونٍ فكريٍّ واحد. ويُعدّ ذلك من السمات الأساسية للأنظمة الشمولية التي تصفها الباحثة الألمانية حنا آرنت، في كتابها "ذي أوريجنز أوف توتاليتاريانيزم" (أصول الشمولية) الصادر في 1951، بأنها أنظمة ذات طبيعة "تصحيرية" تمحو الثراء العام والتنوع البشري وتجرّف المجتمع نحو مستنقع الخضوع التام. تقوم تلك الأنظمة على ركيزتَي الفكر (المنهج السياسي) والرعب، وتستخدمهما في تحويل المؤسسات الأكاديمية والجامعات إلى أدواتٍ لبثّ الفكر الأحادي، وإعادة تشكيل الوعي والسلوك.
انطلاقاً من هذا النهج، أحكم حافظ الأسد سلطته على النظام التعليمي في سوريا باستخدام أدواتٍ عدّةٍ، أبرزها نشر فروع حزب البعث في المؤسسات التعليمية كي تعمل على فرض هيمنةٍ فكريةٍ على الطلبة بدءاً من سنّ السادسة وحتى التخرّج من الجامعة. ففي المرحلة الابتدائية، هناك "منظمة طلائع البعث"، وفي الثانوية "اتحاد شبيبة الثورة"، وفي الجامعة "الاتحاد الوطني لطلبة سوريا". وهكذا يضمن النظام إعادة إنتاج الانتماء السياسي والفكري للسلطة من العملية التعليمية ذاتها.
رسّخ حافظ الأسد هذا النهج دستورياً. فقد نصّت المادة الحادية والعشرون من دستور سنة 1973 على أن هدف النظام التعليمي هو "إنشاء جيلٍ قوميٍّ عربيٍّ اشتراكيّ التفكير، مرتبطٍ بتاريخه وأرضه، مشبعٍ بروح النضال من أجل تحقيق أهداف أمّته في الوحدة والحرية والاشتراكية".
في عهد حافظ الأسد ومن بعده بشار، أشرفت منظمة "اتحاد شبيبة الثورة" على الطلبة الذين تتراوح أعمارهم بين اثنتي عشرة وثماني عشرة سنة. وهي منظمةٌ تأسست سنة 1968 بهدف تجنيد الطلبة سياسياً وفكرياً ضمن صفوف حزب البعث. ويستفيد المنتسبون للاتحاد من امتيازاتٍ متعدّدةٍ، أبرزها الحصول على علاماتٍ إضافيةٍ تساعدهم على تجاوز شرط المعدلات المرتفعة للالتحاق ببعض الكليات. غير أن الحصول على هذه المكاسب مشروطٌ بخضوع الطلاب لمعسكراتٍ تدريبيةٍ تروِّج لفكر الحزب الحاكم. من بينها معسكرات الصاعقة التي تركز على التدريب العسكري للطلاب، ودورات القفز المظلي التي كانت تنظَّم بالتعاون مع القوات الخاصة التابعة لرفعت الأسد، والمعروفة باسم "سرايا الدفاع".
أما في المرحلة الجامعية، فتسيطر منظمة "الاتحاد الوطني لطلبة سوريا" التابعة لحزب البعث على الطلاب فكرياً، وهي وريثة اتحاد الطلبة السوريين الذي أنشئ سنة 1950. ومع صدور المرسوم التشريعي رقم 130 سنة 1966، احتكر "الاتحاد الوطني لطلبة سوريا" تمثيل الطلاب، لأنه الجهة الرسمية الوحيدة الممثلة لهم داخل البلاد وخارجها.
إلى جانب احتكاره تمثيل الطلبة، أُعطيَ الاتحاد سلطة تنظيم الشؤون الإدارية للطلاب. فهو الذي ينسق تسجيل الطلاب ويضع جداول الامتحانات، إضافةً لاحتكاره الإشراف على الأنشطة والفعاليات المختلفة. وكانت الهيكلة التنظيمية للاتحاد ذات نفوذٍ في النظام الإداري لوزارة التعليم العالي. فهناك ممثلٌ واحدٌ، أو اثنان، للمكتب التنفيذي لاتحاد الطلبة ضمن وزارة التعليم العالي ومجلس التعليم العالي. ويحضر رئيس اتحاد الطلبة وعضو المكتب التنفيذي لاتحاد الطلبة الاجتماعات الدورية لمجلس التعليم العالي، وهذا ينطبق على المستويات الإدارية المختلفة داخل الجامعات السورية، مثل مجلس الجامعة ومجلس الكلية ومجالس الأقسام.
ويحضر ممثلو الاتحاد الوطني لطلبة سوريا اجتماعات الجهات الموازية لهم إدارياً. فعلى مستوى وزارة التعليم العالي، يحضر رئيس الاتحاد مجلسَ التعليم العالي. وعلى مستوى الجامعة، يحضر رئيس فرع الاتحاد. فيما يحضر رئيس الهيئة الإدارية على مستوى الكلية، وتتكرر البنية نفسها في سائر الكليات واللجان.


مع توريث بشار الأسد الحكم سنة 2000، شهدت المنطقة سلسلةً من المتغيرات الخارجية المهمة. كان أبرزها الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، وما أعقبه من انهيار حزب البعث الحاكم هناك، ثم صدور ما سمّي حينها "قانون اجتثاث البعث" في العراق. انعكست تداعيات تلك الأحداث على سوريا، الجارة التي يحكمها حزب البعث أيضاً.
ووفقاً لدراسة مروان قبلان عن انهيار نظام البعث في سوريا، ألقت تلك المتغيرات بظلالها على السياسة الداخلية لبشار الأسد، الذي تراجع اهتمامه بحزب البعث والمنظمات التابعة له، بما فيها المنظمات الطلابية. مما أدى إلى انحسار دور هذه الكيانات تدريجياً. وترافق ذلك مع فقدانها الامتيازات التي كانت توفّرها للطلبة، مثل العلامات الإضافية والنفوذ داخل الجامعات.
وكان لسياسات التحوّل نحو تحرير الاقتصاد دورٌ في إعادة تشكيل النهج المتبع في مؤسسات التعليم العالي. فقد أتاحت هذه السياسات، للمرة الأولى، الترخيص بإنشاء الجامعات الخاصة في سوريا.
وبالتمعّن في مناخ هذه الجامعات الخاصة، يتّضح أن نظام بشار الأسد لم يستخدم أدواته التقليدية في السيطرة عليها، وإنما لجأ لأدواتٍ جديدةٍ صمّمها خصيصاً لترسيخ الهيمنة على تلك المؤسسات الجامعية الجديدة.
أبرز تلك الأدوات كان التدخل في تشكيل مجالس الأمناء، وهي الجهات المالكة والمسؤولة عن رسم السياسات في كلّ جامعةٍ خاصة. تتكوّن هذه المجالس من ثلاث فئاتٍ رئيسة. تشمل الفئة الأولى رجال الأعمال المقرّبين من النظام، ويطلَق عليهم "رجال الأعمال الجدد" الذين ظهروا مع بداية حكم بشار الأسد. والفئة الثانية تشمل شخصياتٌ من الحرس القديم للنظام، مثل أبو سليم دعبول، مالك "جامعة القلمون"، وهي أول جامعةٍ خاصةٍ في سوريا. إضافةً إلى مصطفى طلاس، عضو مجلس أمناء "الجامعة العربية الخاصة للعلوم والتكنولوجيا" في حماة. في حين تشمل الفئة الثالثة شخصياتٍ تدور في فلك السلطة، مثل عبود السراج، رئيس مجلس أمناء جامعة الجزيرة الخاصة.
الأداة الأخرى للسيطرة على الجامعات الخاصة كانت الشركات الأمنية الخاصة التي شكّلها عسكريون ورجال أعمال من داخل بنية النظام. كانت هذه الهيمنة البديلة التي اعتمدها بشار الأسد للتعامل مع الجامعات الخاصة. وتتكون هذه الشركات في أغلب الأحيان من الضباط والعسكريين المسرّحين من الخدمة، أو من عناصر "جمعية البستان" التي كان يديرها رامي مخلوف، رجل الأعمال وابن خال بشار الأسد.
بالإضافة إلى مجلس الأمناء والشركات الأمنية، اعتمد النظام أيضاً على الاتحاد الوطني لطلبة سوريا لتعزيز قبضته على الجامعات، ولغرس توجهاته الفكرية والسياسية في صفوف طلابها. مع ذلك، كان نفوذ الاتحاد في الجامعات الخاصة أضعف بكثيرٍ مما كان عليه في الجامعات الحكومية. يعود ذلك إلى سببين رئيسين، أولهما الخلفية الاجتماعية والثقافية لطلبة الجامعات الخاصة. إذ ينحدر معظمهم من الطبقتين الوسطى والثرية في المجتمع السوري، مع وجود عددٍ كبيرٍ من أبناء المسؤولين والضباط ورجال الأعمال. أما السبب الثاني، فيتمثل بالعدد المحدود من الطلبة في هذه الجامعات، ما يُتيح لهم التواصل المباشر مع مستويات الإدارة الجامعية المختلفة مثل عمادة الكلية ورئاسة الجامعة، دون الحاجة إلى وساطةٍ تنظيمية.


مع بداية الاحتجاجات ضد حكم بشار الأسد في مارس 2011، برزت الجامعات السورية الحكومية والخاصة ساحاتٍ رئيسةً للمظاهرات السلمية المطالبة بإسقاط النظام. وكانت جامعة حلب أبرز مثالٍ على ذلك، إذ أُطلق عليها اسم "جامعة الثورة"، نظراً لحجم الحراك الطلابي الذي شهدته.
تمثّل الهدف الرئيس للنظام في هذه المرحلة في قمع التظاهرات بكلّ ما أوتي من قوّةٍ، مستخدماً مختلف أنواع العنف والترهيب، بما في ذلك الملاحقات الأمنية والاعتقالات التعسفية. وفي الوقت ذاته، حرص النظام على استغلال الجامعات وتحويلها إلى منصاتٍ لترويج رؤيته عن الثورة، التي وصفها إعلامه "مؤامرة كونية". وركّز على تصوير المظاهرات التي اندلعت في مختلف أنحاء البلاد على أنها تهديدٌ للوحدة الوطنية وسيادة الدولة، وأنها امتدادٌ لمخططٍ دوليٍّ يستهدف سوريا.
ومن اللافت أن بشار الأسد في يونيو 2011، أي بعد ثلاثة أشهرٍ من انطلاق الثورة، اختار جامعة دمشق منصةً لإلقاء خطابٍ أشاد فيه بالطلبة السوريين لأنهم داعمون أوفياء له. وأعرب في الخطاب عن امتنانه "لدورهم الفاعل في مواجهة المؤامرة"، متجاهلاً الاحتجاجات الطلابية المناهضة للنظام التي كانت تعمّ الجامعات في وقت الخطاب نفسه.
حمل اختيار الأسدِ جامعةَ دمشق موقعاً لإلقاء خطابه الثالث، منذ بداية الثورة، دلالةً رمزيةً تعكس مكانتها البارزة في الوعي الجمعي للسوريين. فجامعة دمشق أعرق الجامعات السورية الحديثة، إذ ترجع نشأتها الأولى إلى مستهل القرن العشرين. أثار هذا الاختيار تفاؤلاً حذراً داخل الأوساط الجامعية، لاسيما في أوساط الذين لم يحدّدوا بعد موقفَهم من النظام. وقد علّق بعض الطلبة آمالهم على أن يحمل الخطاب طابعاً إصلاحياً يتضمن خارطة طريقٍ حقيقيةً تجنّب البلاد الانزلاق إلى نفقٍ مظلم. غير أن الأسد خيّب تلك التوقعات ورفض تقديم أيّ تنازلاتٍ، مؤكداً استعداد النظام للقتال حتى النهاية حفاظاً على بقائه.
ردّ نظام الأسد على المظاهرات بمنح منظمة الاتحاد الوطني لطلبة سوريا صلاحياتٍ واسعةً لقمع المظاهرات الطلابية. فخدمت المنظمة روايةَ النظام، وأخرجت الطلبة في مسيراتٍ مواليةٍ له.
في الأشهر الأولى للثورة، وبعد انتشار الدعوات للتظاهر داخل جامعة حلب، أوفد الاتحاد عمر العاروب عضو المكتب التنفيذي المنحدر من مدينة حلب، إلى الجامعة ومعاهدها وسكنها الجامعي. عقد العاروب اجتماعاً مع مسؤولي الاتحاد وبعض إداريي جامعة حلب، وأبلغهم أن "طلبة سوريا سيقفون سداً منيعاً" في وجه "محاولات التخريب". وأشار إلى أن لأعضاء الاتحاد الصلاحيات الكاملة لقمع المظاهرات المعارضة داخل الجامعات.
وبحسب التقرير الصادر عن المجلس السوري البريطاني سنة 2024، بعنوان "ميليشيا في الحرم الجامعي: جرائم الاتحاد الوطني لطلبة سوريا في جامعة دمشق"، فقد اضطلع أعضاء الاتحاد بمهام تنظيم دوريات مراقبةٍ داخل الحرم الجامعي والمدينة الجامعية، وتوقيف الطلاب للتدقيق بهوياتهم. وارتكبوا انتهاكاتٍ عديدةً، منها اعتقال الطلاب وإخضاعهم للتحقيق والتعذيب داخل مكاتب الاتحاد، قبل تسليمهم للأجهزة الأمنية.
وأبرز مثال على ذلك ما حدث مع الطالبة يمان القادري من جامعة دمشق، التي عُرفت بمواقفها المؤيدة للثورة. فقد اعتقلها أعضاء اتحاد الطلبة داخل الحرم الجامعي بعد التعرف عليها من كاميرات المراقبة. لتخضع بعد ذلك للتحقيق والتعنيف داخل مكتب الاتحاد، قبل تحويلها إلى فرع المخابرات الجوية في حرستا، ريف دمشق.
إلى جانب الاعتماد على أعضاء اتحاد الطلبة، لم يتردد النظام في إرسال قوات الأمن مباشرةً إلى الجامعات لقمع المظاهرات واعتقال المشاركين فيها. وقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان اعتقال أكثر من خمسة وثلاثين ألف طالبٍ وطالبةٍ بين عامَي 2011 و2013، ما يعكس حجم القمع الذي ووجِه به الحراك الجامعي.


مع إصرار النظام السوري على تبنّي الخياريَن الأمني والعسكري، تحوّلت الثورة السورية إلى مقاومةٍ مسلّحة. ثم زاد من تعقيدها تصاعد التدخلات الخارجية من دولٍ عديدةٍ، مثل إيران وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا. إضافةً إلى تحوّل الصراع السوري ساحةَ تنافسٍ بين بعض دول الخليج، التي رصدها الباحث ويل تودمان في دراسته "غَلف ستيتس بوليسيز إن سيريا" (سياسات دول الخليج في سوريا) الصادرة سنة 2016.
انعكس هذا التحوّل في طبيعة النزاع جليّاً على سياسات النظام السوري تجاه الجامعات، إذ انتقل النظام في مطلع 2012 من تسييس الجامعة إلى عسكرتها. فطوّر أدواته التقليدية، ومنها اتحاد الطلبة وفروع حزب البعث، إلى أذرعٍ أصلب عبر تأسيس كتائب مسلّحةٍ أُطلِق عليها اسم "كتائب البعث"، بتنسيقٍ مباشرٍ بين الاتحاد الوطني لطلبة سوريا وحزب البعث.
أُسندت قيادة هذه الكتائب إلى كلٍّ من باسم سودان وعمر العاروب. وهما شخصيتان بارزتان في الاتحاد الوطني لطلبة سوريا، عُرفا بمواقفهما المتشدّدة إزاء الحراك الطلابي. ينحدر باسم سودان، من قرية "زنيو" التابعة لمدينة القرداحة مسقط رأس بشار الأسد، وشغل قبل اندلاع الثورة منصب نائب رئيس اتحاد الطلبة. ترأس سودان لاحقاً كتائب البعث وانتُخب نائباً في مجلس الشعب عن محافظة اللاذقية لدورتين متتاليتين 2012 و2020، قبل أن يصبح عضواً في اللجنة المركزية لحزب البعث، التي أعادت انتخاب بشار الأسد أميناً عاماً للحزب سنة 2024.
أما عمر العاروب المنحدر من محافظة حلب، فقد شغل مناصب قياديةً في اتحاد طلبة سوريا منذ سنة 2000. وانتقل مع اندلاع الثورة إلى العمل العسكري نائباً لقائد كتائب البعث، ثم أصبح نائباً في مجلس الشعب بين 2016 و2020.
باقتراحٍ منسوبٍ إلى عمر العاروب، أعاد النظام إحياء كتائب البعث التي يعود تاريخ إنشائها للستينيات. وأسندت قيادتها إلى أمين فرع حزب البعث في محافظة حلب، هلال الهلال، الذي أصبح لاحقاً الأمين القطري المساعد للحزب سنة 2013 وحتى سقوط النظام أواخر 2024. وتحت إشرافٍ مباشرٍ منه، بدأ كلٌّ من باسم سودان وعمر العاروب العمل على تأسيس هذه الكتائب ابتداءً من سنة 2012. ومع تصاعد حدّة العمليات العسكرية سنة 2013، بدأت تتخذ طابعاً أكثر تطرفاً. وكان الهدف الأساسي من تسليح كوادر حزب البعث من طلبة الجامعات هو تعويض النقص البشري، الذي بدأ يعاني منه الجيش النظامي في ظلّ تصاعد المعارك. لذلك، شاركت كتائب البعث إلى جانب جيش النظام السوري في بعض العمليات العسكرية.
ترى الأكاديمية سلوى إسماعيل، في كتابها "ذا رول أوف فايولنس" (حكم العنف) الصادر سنة 2018، أن الحوافز المادية كانت من العوامل الرئيسة التي دفعت الأفراد للانخراط في مؤسسات حزب البعث والمشاركة الفاعلة فيها. فقد ارتبط الانتساب إلى الحزب بالحصول على امتيازاتٍ ماديةٍ وفرص عملٍ أفضل. وينعكس ذلك جلياً في السياسات التي اتبعها كلٌّ من سودان والعاروب لتحشيد الطلبة في كتائب البعث. فقد قدّما حوافز عديدةً، من بينها تأجيل الخدمة العسكرية الإلزامية، ومنح ترفيعاتٍ دراسيةٍ (زيادة في الدرجات)، وبطاقاتٍ أمنيةٍ ورواتب شهرية. الأمر الذي ساهم في تضخّم الكتائب، إذ تراوح عدد عناصرها ما بين سبعة آلافٍ وعشرة آلاف عنصرٍ مسلّح.
يشير الباحث علي الجاسم في دراسته "في ظل الدولة: صعود كتائب البعث في جامعة حلب بعد عام 2011"، الصادرة سنة 2022، كيف استفاد كلٌّ من سودان والعاروب من شبكات الولاء والتحالفات التي أسّساها في سنوات عملهما الطويلة في الاتحاد الوطني لطلبة سوريا. فقد أُعيد تفعيل هذه الشبكات بعد انطلاق الثورة، ما سهّل عمليات التجنيد وساهم في تمويه طابعها العسكري.
في دراسته، يفصّل الباحث على الجاسم دور تلك الكتائب في الجامعة. ويبيّن أنها لم تكن تشكيلاتٍ رمزيةً، بل كانت لها صلاحياتٌ شبه أمنيةٍ داخل الحرم الجامعي شملت رصد الطلبة الناشطين وتحديد هوياتهم وتسليمهم للأجهزة الأمنية. وقد كانت جزءاً من شبكةٍ أوسع من المجموعات المدنية، التي اعتمد عليها النظام في فرض السيطرة، خصوصاً مع تآكل قدرات الجيش النظامي بسبب الانشقاقات والضغوط القتالية المتعددة.
وتشرح دراسة "الاتحاد الوطني لطلبة سوريا.. سيرة من الانتهاكات" التي سبق الإشارة إليها، أن المؤشر الأبرز على عسكرة الجامعات في تلك المرحلة هو ظاهرة تجنيد الطلبة من داخل الجامعات، ما أسهم في تكريس ثقافة عسكرة التعليم. بات النشاط الطلابي مراقباً أمنياً وصودرت الحريات الأكاديمية، بل تحوّلت بعض قاعات الجامعات إلى مراكز استجوابٍ أو احتجازٍ مؤقت. هذا الواقع دفع بالعديد من الطلبة والأكاديميين المعارضين إلى الخروج القسري من الحقل الأكاديمي، وهو ما انعكس سلباً على جودة البيئة الجامعية ومستوى التعليم.
لم تكن كتائب البعث مجرّد ردّ فعلٍ أمنيٍّ، بل مثّلت ركناً أساساً في استراتيجية النظام الهادفة إلى تفريغ الجامعات من طابعها المدني، وتحويلها إلى خطوط دعمٍ خلفيةٍ للمجهود العسكري والأمني، وإخضاعها التامّ للولاء السياسي والرقابة الأمنية.


يقول ياسين الحاج صالح في كتابه "الثورة المستحيلة" الصادر سنة 2017 إنّ نظام الأسد، منذ تسلّمه السلطة، ابتدع ما سُمّي "التشبيح الأيديولوجي"، وهو نمطٌ من المزايدة والتخوين وإطلاق التهم جزافاً. ويرى الحاج صالح أن هذا المفهوم أسهم إلى حدٍّ كبيرٍ في إضعاف التفكير النقدي وفرض لغةٍ واحدةٍ، هي خطاب النظام الحاكم. الأمر الذي سلب العاملين في الوسط الأكاديمي القدرة على التفكير الحرّ والتعبير المستقل.
وفي سياق التعليم العالي في سوريا، كانت أبرز الظواهر المرافقة لعسكرة التعليم فترة النزاع المسلّح في صعود "الأكاديميين الموالين"، من أساتذةٍ وعمداء كلّياتٍ ورؤساء جامعاتٍ ارتبطوا بالنظام السوري. لم يكن هؤلاء مجرّد موظفين مدنيين، بل مارسوا أدواراً قمعيةً شملت كتابة تقارير أمنيةٍ عن الطلاب، أو فصل الأكاديميين المعارضين، بل وصل الأمر إلى التبليغ عن زملائهم. ومن ناحيةٍ أخرى، أدّوا دوراً سلطوياً في إقصاء التعددية الفكرية وقمع الحريات الأكاديمية، وتوجيه السياسات التعليمية بما يخدم الخطاب الرسمي للدولة.
ومع أن نظام الأسد تبنّى منذ سبعينيات القرن الماضي سياسة التعيين القائم على الولاء، إلّا أن هذا النهج بلغ ذروته مع تفاقم النزاع. فأصبحت المناصب الأكاديمية بمثابة مكافآتٍ سياسيةٍ تُمنح لرؤساء الأقسام وعمداء الكليات بناءً على انتمائهم للحزب أو ولائهم المطلق للسلطة أو علاقاتهم مع الأفرع الأمنية، حتى وإن افتقر بعضهم للمؤهلات الأكاديمية المطلوبة.
يعيِّن بشار الأسد رؤساء الجامعات ونوابهم بموجب مرسومٍ رئاسي. أما عمداء الكليات ونوابهم/ فتعيّنهم رئاسة الجامعة بالتشاور مع أفرع الحزب داخل الجامعات. أمّا الشرط الأهمّ للتعيين، فهو موافقة شعبة الأمن السياسي (جهة استخبارات سورية تتبع وزارة الداخلية) على قائمة المتقدمين لشغل الوظائف، والتي ترسلها إليها وزارة التعليم العالي. وظلّت الموافقة الأمنية من شعبة الأمن السياسي شرطاً أساسياً لمباشرة العمل الأكاديمي حتى نهاية حكم الأسد.
وقد تجلّت هيمنة حزب البعث على مؤسسات التعليم العالي في سوريا في المثال الأبرز في شهر أغسطس سنة 2013، حين أصدر بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم 310 القاضي بتعيين الدكتور مالك علي وزيراً للتعليم العالي. قبل تعيينه في هذا الموقع شغل علي مناصب حزبيةً وإداريةً بارزةً، منها أمين فرع حزب البعث في جامعة البعث بحمص بين سنتي 2004 و2009، ومحافظاً للسويداء ثم القنيطرة بين سنتي 2009 و2012. وعند تعيينه وزيراً، كان عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث ورئيساً لمكتب التعليم العالي، المسؤول عن رسم السياسات التعليمية للجامعات والمعاهد الرسمية. ويجسِّد هذا التعيين نموذجاً صريحاً على اندماج حزب البعث بمؤسسات الدولة ضمن بنيةٍ تعليميةٍ يُفترض أن تكون مستقلةً أكاديمياً، ما يعكس تفكك الحدود بين الأكاديمي والسياسي في مختلف مفاصل قطاع التعليم العالي السوري.


لم تقتصر مظاهر عسكرة الجامعات على تجنيد الطلبة ضمن تشكيلاتٍ ومجموعاتٍ مسلّحةٍ، بل وصلت إلى استخدام القوة العسكرية المباشرة ضدّ المرافق الجامعية. والأمثلة على ذلك كثيرةٌ، منها استهداف كلية الهندسة المعمارية في جامعة دمشق بقذائف الهاون سنة 2013، ما أسفر عن مقتل خمسة عشر طالباً. كذلك استهداف كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية سنة 2015، والذي أودى بحياة عددٍ من الطلاب وإصابة آخرين.
ولعلّ الحادثة الأكثر دمويةً كانت استهداف كلية الهندسة المعمارية في جامعة حلب بغارتين جوّيتين، سنة 2013. أودى هذا الهجوم بحياة أكثر من ثمانين طالباً، وأسفر عن دمارٍ واسعٍ في الحرم الجامعي. جاء هذا التصعيد العسكري في سياق ردٍّ مباشرٍ على الحراك الطلابي المتصاعد، والتظاهرات اليومية التي شهدتها جامعة حلب آنذاك. وأعقبه تغيّرٌ جذريٌّ في النشاط السياسي للطلاب. فتوقّف معظمهم عن تنظيم الحراك داخل الجامعة، وقرّروا مواصلة نشاطهم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
تسببت الاستهدافات العسكرية والأعمال القتالية في محيط عددٍ من الجامعات السورية في تدمير البنية التحتية الجامعية وإغلاق بعض الكليات، كما في حالة جامعة الفرات في دير الزور. ونقلت المقرات الدائمة لعددٍ من الجامعات الخاصة الواقعة على طريق درعا إلى وسط دمشق، مثل الجامعة الأوروبية الخاصة والجامعة الدولية الخاصة والجامعة السورية الخاصة وجامعة اليرموك. أدّى القصف أيضاً إلى تهجير آلاف الطلاب والأساتذة، وتراجعٍ حادٍّ في أعداد المسجّلين في الجامعات، ناهيك عن تعطيل الأبحاث والانقطاعات المتكررة في العملية التعليمية.
لم يكن استخدام القوة العسكرية في الحرم الجامعي خطأً عارضاً، بحسب ما أورده التقرير الصادر عن منظمة "كارا"، الذي حمل عنوان: "التعليم العالي في سوريا بعد عام 2011". إنما شكّل سياسةً ممنهجةً للدولة السورية تهدف إلى إخماد الأصوات الطلابية الثائرة وعسكرة التعليم الجامعي.
مثّلت الهجمات على الجامعات السورية انتهاكاً صارخاً لمبدأ حياد المؤسسات التعليمية أثناء النزاعات المسلحة، وهو ما يُعدّ خرقاً للقانون الدولي الإنساني. لكنها من منظورٍ سياسيٍّ كانت انعكاساً صريحاً لاستراتيجية النظام القائمة على مبدأ "لا منطقة آمنة للحراك المعارض السلمي، حتى وإن كانت منشأة تعليمية".


شهدت البلاد منذ سنة 2018 انخفاضاً نسبياً في حدّة العمليات العسكرية وانتهاء معظم العمليات الكبرى، والتي استعاد فيها النظام السيطرة على مناطق كثيرةٍ بدعمٍ من حلفائه الروس والإيرانيين. لتدخل سوريا بعدها ما بات يُعرف اصطلاحاً "الصراع المجمّد"، إذ لم يستطع لا النظام السوري ولا الثوّار حسم المعركة عسكرياً.
في هذه المرحلة، حرص النظام على ألا تشكّل الجامعات السورية مصدراً للتوتر أو التهديد مجدداً. فتبنّى نهجاً جديداً حاول فيه كسب ودّ الطلبة، مع الإبقاء على هيمنته على التعليم الجامعي، وتحويله إلى أداةٍ لإعادة إنتاج الولاء وترسيخ التوازن السياسي.
اتخذ هذا التحوّل طابعاً عملياً بإصدار رئيس النظام السوري عدّة مراسيم رئاسيةٍ تقدِّم تسهيلاتٍ أكاديميةً للطلاب، بهدف تقليص مستويات الاحتقان داخل الحرم الجامعي. وقد كان أبرزها المرسوم رقم 69 لسنة 2019 الذي منحهم فرصاً إضافيةً للتقدم للامتحانات، والمرسوم رقم 225 لسنة 2023 الذي سمح للمفصولين والمستنفذين بإعادة الالتحاق بالتعليم العالي.
من ناحيةٍ أخرى، حرص النظام على تسييس الجامعات واستخدامها منبراً لترويج رواياته عن "الانتصار" و"القضاء على الإرهاب" ودخول البلاد في مرحلة "التعافي". واستخدم النظام الأنشطة الجامعية والمؤتمرات الطلابية للترويج لدعايته عن نهاية الصراع وضرورة بدء إعادة الإعمار و"صمود الطلبة السوريين"، بل وأدمجت تلك المفاهيم في المقررات الدراسية أحياناً.
كذلك تبنّى النظام خطاباً يوحي بأن استمرار العقوبات يعيق التطور الأكاديمي، ويحرم الطلاب من حقّهم في التعليم والتنمية. ولتكريس هذا الخطاب، استُحدثت ورشات عملٍ ومؤتمراتٌ عديدةٌ لمناقشة آثار العقوبات الاقتصادية وسبل تجاوزها. وأشرك النظام عدداً من المؤسسات الدولية والوكالات الأممية في أنشطة داخل الجامعات، في محاولةٍ لخلق انطباعٍ بانتهاء الحرب لصالح النظام وأهمية البدء في مرحلة إعادة البناء. بعبارةٍ أخرى، استغلّ النظام الجامعات أداةً للضغط السياسي وحوّلها إلى أدواتٍ لفرض رؤيته عن الواقع، بدلاً من تحليل الواقع نفسه.
تميّزت هذه المرحلة أيضاً باستغلال التعليم العالي لإعادة ترتيب الولاءات، وتوزيع المنافع بين الشبكات المؤيدة للنظام، بما في ذلك التعيينات الجامعية والمناقصات داخل المؤسسات التعليمية. على سبيل المثال، احتكر المقرّبون من النظام جميع أنواع الاستثمارات المدرّة للأرباح داخل الجامعات، بما في ذلك مراكز الخدمات الطلابية والمكتبات وخدمات التصوير والطباعة، وكذلك المقاهي داخل الكليات والمدن الجامعية. وبذلك أصبحت الجامعات ساحة اندماجٍ بين قطاع الأعمال ورجاله المقرّبين من النظام أو ممّن يشكلون جزءاً من بنيته، ومؤسسات التعليم العالي. ظهر هذا التعاون خاصةً مع الشركات والمنظمات التي تتبع أسماء الأسد زوجة الرئيس بشار. وهو ما يشير إلى تشكّل نمطٍ جديدٍ لتحويل التعليم العالي إلى مصدرٍ للنفوذ الاقتصادي والسياسي.


بالإضافة إلى تقديم التسهيلات الشكلية للطلبة، عمد النظام في مرحلة جمود الصراع تلك إلى إعادة تشكيل البنية القيادية في المؤسسات الطلابية، خاصةً منظمة "الاتحاد الوطني لطلبة سوريا".
ففي منتصف 2020، اتخذت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي القرار رقم 227 الذي نصّ على تشكيل المكتب التنفيذي للاتحاد الوطني لطلبة سوريا. فنُحِّيَ رئيس الاتحاد السابق عمار ساعاتي، المحسوب على الخطّ الأمني والعسكري للنظام، لتحلّ محلّه دارين سليمان التي لم تكن وجهاً غريباً أو جديداً على الاتحاد ودوره القمعي الممتد.
شغلت دارين سليمان مناصب قياديةً في الاتحاد الوطني لطلبة سوريا بين عامي 2001 2020، ومثّلت النظام في مفاوضات اللجنة الدستورية بجنيف سنة 2019. وكانت تربطها علاقةٌ قويةٌ بأسماء الأسد، ما منحها صلاحياتٍ واسعةً ونفوذاً كبيراً داخل مؤسسات الدولة.
انتهجت دارين سليمان منحىً معاكساً لنهج عمار ساعاتي في خطابها، فراحت تروّج لفكرة تمثيل "جميع الطلبة" دون تمييزٍ سياسي. يُعَدّ هذا التحوّل تغييراً استراتيجياً مقصوداً لتحسين صورة النظام داخلياً وخارجياً، خاصةً مع مشاركتها في قمة الأمم المتحدة حول "تحويل التعليم" في نيويورك أواخر 2022.
تحليل هذا التغيير يُظهر أن النظام لم يتخلّ عن السيطرة، بل غيّر أدواتها. فقد اعتمد في هذه المرحلة على أسلوب التهدئة لإقناع المجتمع الدولي بأنه قد تغيّر، دون أن يغيّر جذوره السلطوية. ويُعَدّ القطاع التعليمي من أبرز القطاعات التي استُخدمت لهذا الغرض.
المرحلة الثالثة من النزاع في سوريا لم تحمل إنهاءً فعلياً للحرب، بل إعادة صياغةٍ للحضور السلطوي في المؤسسات، وعلى رأسها الجامعات. فمن عسكرةٍ مباشرةٍ إلى احتواءٍ ناعمٍ، ومن اعتقال الأساتذة إلى تعيين الموالين، ومن قصف الحرم الجامعي إلى هندسة خطابه. وهكذا باتت الجامعات تُدار أدواتٍ رمزيةً ومؤسساتيةً لتعزيز "رواية النصر" الرسمية، لا مراكزَ علميةً مستقلة.


يشكل سقوط الأسد في الثامن من ديسمبر 2025، فرصةً تاريخيةً لإعادة هيكلة المؤسسات التعليمية وتحريرها من الإرث الثقيل الذي حملته على مدار ما يزيد عن نصف قرنٍ من الزمن. فقد أدّت عمليات التسييس الممنهج للجامعات وقمع الحريات الفكرية إلى تدهور جودة التعليم والافتقار إلى الأسماء الأكاديمية المؤهلة، فضلاً عن تحول مؤسسات التعليم العالي إلى منصّاتٍ لإعادة إنتاج الخطاب السلطوي وترسيخ الولاء السياسي لنظام الأسد وفكرة حزب البعث.
اتخذت الحكومة السورية الجديدة عدّة خطواتٍ لمواجهة التحديات الموروثة في قطاعاتٍ عدّةٍ، ومنها قطاع التعليم العالي. بدأت أولى خطواتها بالإعلان عن حلّ حزب البعث العربي الاشتراكي واللجان المنبثقة عنه، بما في ذلك الاتحاد الوطني لطلبة سوريا، وذلك في يناير 2025.
مع ذلك لايزال الطريق طويلاً لترجمة كلّ هذه الوعود إلى واقعٍ، لاسيما مع وجود بنية نظامٍ إداريٍّ مترهلٍ ومتجذرٍ في المؤسسات التعليمية، وأسماء أكاديميةٍ عُيّنت بناءً على ولائها السياسي للنظام السابق لا بناءً على كفاءتها. يضاف لذلك جملةٌ من التحديات المادية ونقص الموارد في بلدٍ منهكٍ دمّرته حربٌ امتدّت أربعة عشر عاماً. يتطلب الأمر إرادةً سياسيةً وعملاً جادّاً على مدار سنواتٍ قادمةٍ لتستعيد الجامعات السورية مكانتها، وتستطيع مجدداً إنتاج نخبٍ مجتمعيةٍ وصنّاع قرارٍ حقيقيين قادرين على دعم جهود التعافي والمساهمة في رسم السياسات العامة للبلاد.

اشترك في نشرتنا البريدية