ترقّب في العراق.. ماذا ينتظر الحشد الشعبي مع تفكك محور المقاومة؟

أصبح الحشد الشعبي في العراق قوة سياسية وعسكرية مؤثرة. لكن التغييرات المتسارعة في وضع الفصائل والجهات المرتبطة بإيران، ووصول ترامب إلى الرئاسة، أدخلت الحكومة العراقية والحشد في اختبار كبير.

Share
ترقّب في العراق.. ماذا ينتظر الحشد الشعبي مع تفكك محور المقاومة؟
كرست نهاية المعارك مع داعش سنة 2017 مكانة الحشد الشعبي وموقعه | خدمة غيتي للصور

تسارع انفراط عقد الجهات المشمولة تحت مسمّى محور المقاومة بعد الضربة القوية التي تلقاها حزب الله في لبنان بعد السابع من أكتوبر 2023. جاء ذلك بالتزامن مع إنهاك المقاومة الفلسطينية في غزة مع مواصلة الحرب الإسرائيلية، بعد هدنة قصيرة لم يزد مداها عن شهر واحد. أما أكبر الضربات، فكانت سقوط نظام الأسد في سوريا يوم الثامن من ديسمبر 2024.

طوال عقد ونصف قبل سقوط الأسد، انخرطت الفصائل العراقية المسلحة المدعومة من إيران بقوة في دعم نظامه منذ الأعوام الأولى للثورة السورية. ومثَّل انهيار نظامه ضربة كبيرة للفصائل، ولداعمها الأكبر إيران التي خرجت هي وحلفاؤها من سوريا مع سقوط الأسد.

قبل ذلك شاركت الفصائل العراقية المسلحة في ضرب إسرائيل بعد اندلاع الحرب على غزة، لتأخذ نشاطاتها بعداً أكبر يرتبط بالصراع مباشرةً مع إسرائيل. وهو أمر لم تكن ضالعة فيه في الماضي. وقد فتحت الضربات القوية التي وجهتها إسرائيل لحزب الله اللبناني إلى تزايد التساؤلات والحديث عما يمكن أن يأتي من انتقامٍ إسرائيلي من الفصائل المسلحة العراقية.

تنضوي الفصائل العراقية الشيعية في معظمها تحت مظلة منظمة الحشد الشعبي. وهي منظمة رسمية تشكلت سنة 2014 لتوفر الغطاء الرسمي لتلك الفصائل. كبرت الفصائل وقويت واتسع نفوذها في سنوات القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش". وقد دعمتْ الولايات المتحدة الأمريكية هذه الفصائلَ في مواجهة التنظيم دعماً غير مباشر عبر الحكومة العراقية. لتبرز مفارقة تمثلت في أن الفصائل التي تمتعت دائماً بدعم الحرس الثوري الإيراني كانت أيضاً جزءاً من الجهد القتالي العراقي المدعوم أمريكياً. لكن العلاقات بين إيران والفصائل العراقية من جهة وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى توترت بشدة في السنوات الماضية، بعد أن انحسر تنظيم الدولة الإسلامية وتراجع.


يواجه العراق اليوم معضلة تتمثل بتصعيد إسرائيل والولايات المتحدة الضغوط على بغداد من أجل حصر السلاح تماماً بيد الحكومة العراقية. إضافةً إلى تصفية ملف الفصائل العراقية المدعومة من إيران والمنضوية تحت مظلة الحشد الشعبي. ما يعني أن هناك شرطاً أمريكياً ضمنياً بحلّ الحشد الشعبي ونزع سلاحه. لكن قضية حل الحشد صعبة ومعقدة. فقد أصبح قوة عسكرية وسياسية كبيرة، والحكومة العراقية الحالية لا تريد حل الحشد الشعبي. فهي تستند عملياً إلى دعمه، إذ تشارك الأجنحة السياسية للحشد في الحكومة. ويمثل الحشد الشعبي قوة مسلحة كبيرة في المجتمع الشيعي الذي يتبوأ المراكز الأقوى في الحكومة، التي يتمثل فيها الكرد والسنة وبعض الأقليات. لا يقتصر وجود فصائل الحشد الشعبي ونشاطها على العمل داخل الحشد واتباع الأوامر وفقاً لسلسلة المراجع التقليدية في القوات النظامية. بل لها قيادة مستقلة عن الحشد ومرتبطة بالحرس الثوري الإيراني.

ومع الظروف الإقليمية والدولية التي تدفع باتجاه حل الحشد الشعبي، إلا أن إنهاء وجوده سياسياً وعسكرياً قد لا يتأتى بلا تغيير في المعادلة التي سمحت بتأسيسه وصعوده. تلك المعادلة هي استمرار الدعم الأمريكي الثابت للحكومة العراقية، حتى مع علاقة تلك الحكومة الوثيقة بإيران. لكن تسويات أخرى قد تحدث، مثل قبول الحكومة العراقية والفصائل بتغييرات من نوع ما في درجة الاستقلال الظاهرة لفصائل الحشد.


تأسس الحشد الشعبي مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على أراضٍ واسعة في العراق سنة 2014. مثّل تنظيم الدولة خطراً وجودياً على الشيعة. ليس فقط بسبب عقيدة التنظيم السلفية الجهادية التي تكفرهم. ولكن أيضاً بوعيده المباشر باجتياح المناطق ذات الغالبية الشيعية بعد أن سيطر بسرعة على كل المناطق ذات الغالبية السنية تقريباً. ومع انهيار جزء من القوات المسلحة العراقية صيف 2014، نزل مسلحو الفصائل العراقية الشيعية يرافقهم مستشارون إيرانيون إلى نقاط التماس بين المناطق التي يسيطر عليها التنظيم والمناطق ذات الغالبية الشيعية. لتبدأ الحرب. انتقل الحشد في الأشهر والسنوات التي تلت إلى الهجوم واستعادة الأراضي والسيطرة عليها. عاملاً مع القوات الحكومية، لكن محتفظاً بتمايزه واستقلاليته.

وقد شكل الحشد إطاراً حكومياً رسمياً للفصائل المسلحة الشيعية التي كانت موجودة أصلاً بدعم من إيران. وكذلك للمجموعات الجديدة التي بدأت بالتشكل والتوسع مع ظهور الحشد. تزامن تأسيس الحشد الشعبي مع الفتوى التي أصدرها المرجع الديني الشيعي علي السيستاني في يونيو 2014. تنصّ الفتوى على الجهاد دفاعاً عن العراق بالتطوع في الأجهزة الأمنية العراقية والقوات المسلحة، وعرفت "بفتوى الجهاد الكفائي".

منذ ذلك الوقت يستدعي أعضاء الحشد الشعبي والمنتمون له تلك الفتوى مرتكزاً للرواية التي بنوها، والمتمثلة في أنهم استجابوا للفتوى وحموا العراق. وبأن لمهمتهم بعداً دينياً، بل ومقدساً.

دعمت فتوى "الجهاد الكفائي" الجهد العسكري العراقي دعماً هائلاً. وذلك بعد أن ترنح الجيش العراقي وانهارت قطاعات منه أمام مسلحي تنظيم الدولة. وقدمت الفصائل الشيعية تدفقاً بشرياً من المتطوعين المعبئين بالتزامٍ عقائدي بالدفاع عن مجتمعهم أمام أي تهديد مسلح يهدد وجوده. ولما كانت القوات الأمنية العراقية تعاني إدارياً وميدانياً من خللٍ كبير، فقد كانت الجماعات المسلحة هي الجهة المستعدة لاستقبال المتطوعين وضمهم إليها وتنظيمهم وتحويلهم إلى عماد لقوتها القتالية.

منذ صدور فتوى السيستاني نشأت مفارقة مفادها أن الفصائل التي تتبع إيران سياسياً وتعمل تحت ظل الحرس الثوري الإيراني، الذي يتبع من الناحية الدينية المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، صارت تنتظم وتكتسب شرعية بسبب فتوى من السيستاني. بينما لم يُعرف عن قادة الفصائل أنهم "يقلّدون" السيستاني، أي يتبعونه مرجعية دينية ويلتزمون بفتاويه حكماً. والتقليد عند الشيعة هو التزام الفرد باختيار أحد رجال الدين الكبار أو "مرجع التقليد" واتباعه وتقليده حصراً دون غيره. يشمل ذلك السير على فتاويه وإرشاداته في كل المسائل ذات الصلة بالتعبد، وكذلك  ذات الصلة بالعلاقات والعمل. وقد يمس ذلك الخيارات السياسية أحياناً والشأن العام، بحسب درجة تدخل المرجع في تلك الأمور.

لم تؤد تلك المفارقة إلى إضعاف الحشد الشعبي في البداية. فقد كان شعور التضامن الديني كبيراً في المجتمع الشيعي إزاء مواجهة خطر وجودي متمثل في تنظيم الدولة. لكن السنوات التي تلت وانحسر فيها تنظيم الدولة، واتسعت سيطرة الحشد على الكثير من الموارد والمناصب الحكومية، أفقدت الحشد الشعبي جزئياً منزلة القوة الحامية للمجتمع الشيعي. ومع تحول الحشد الشعبي إلى جزء من المنظومة الحاكمة المتهمة دوماً بالفساد والفشل، تصاعدت نقمة جزء من الشيعة العراقيين ضده.

اندلعت بعد ذلك الانتفاضة الشعبية التي تصدرها الشباب الشيعة، وأيّدتها إلى حد ما المرجعية الشيعية في نهاية سنة 2019. بدأت تلك المظاهرات جنوب العراق في مناطق غالبية سكانها من الشيعة حيث ارتفعت الأصوات الناقمة على الطبقة السياسية العراقية. ومنها الحشد الشعبي. فكانت علامة مهمة على تأزم العلاقة بين الحشد وجزء كبير من الشيعة. مازالت توابع تلك الانتفاضة مستمرة  وتعبر عن انقسام شيعي حول الحشد الشعبي وفكرة بقائه.


يتكون الحشد الشعبي من عشرات الفصائل العراقية المسلحة. ويبلغ تعداد منتميه اليوم أكثر من مئتي ألف شخص، فيما تتجاوز ميزانيته مليارين ونصف مليار دولار سنوياً. تسمى وحدات الحشد الرئيسة الألوية، ولكل لواء رقم محدد، ويتكون من إحدى الفصائل المعروفة. فاللواء فصيل مسلح أو جزء من فصيل مسلح. منظمة عصائب أهل الحق مثلاً، التي يتزعمها قيس الخزعلي، لها ثلاثة ألوية هي 41 و42 و43. أما منظمة بدر، فهي المنظمة الأكبر في الحشد الشعبي ولها العدد الأكبر من الألوية. وهي التنظيم الشيعي المسلح الأقدم، إذ تشكلت في إيران أثناء الحرب العراقية الإيرانية وعادت إلى العراق بعد سنة 2003.

أما تنظيم كتائب حزب الله في العراق، فهو الأكثر حضوراً في قيادة الحشد الشعبي منذ فترة قيادة أبو مهدي المهندس (جمال جعفر الإبراهيم) للكتائب. قتل  المهندس مع قائد العمليات الخارجية في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في بغداد يوم 3 يناير 2020. وقد كان شخصية مؤثرة في أوساط الفصائل. امتدت علاقة المهندس بالحرس الثوري الإيراني إلى ثمانينيات القرن الماضي. وقبل مقتله كان يلعب دور القائد الفعلي للحشد الشعبي، مستخدماً قدرته على التنسيق والتأثير على الفصائل دون أن يضطر للجوء إلى القسر وتوجيه الأوامر. ثم صعد أبو فدك (عبد العزيز المحمداوي) وخلفَ المهندس على رأس كتائب حزب الله، وصار في نفس الموقع القيادي في الحشد الشعبي. فهو اليوم رئيس أركان الحشد.

وهناك فصائل أخرى متعددة لها أساليب مختلفة. مثل النجباء وكتائب الإمام علي وكتائب سيد الشهداء وغيرها. قاتلت معظم هذه الفصائل في سوريا ثم عادت للتركيز على العراق بعد 2014، مع استمرار الحضور في سوريا حتى سقوط نظام الأسد.

أما زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، فقد حاول في بداية تشكيل الحشد الشعبي اتخاذ موقف حذر من فكرة اعتماد الحكومة على الفصائل المسلحة. وقد كان هناك سببان رئيسيان لذلك: الأول هو حالة العداء والتنافس بينه وبين الفصائل الأخرى التي يسميها "الميليشيات الوقحة". وهي التي تتشكل من فصائل انشقت عن جيش المهدي التابع للصدر، وشكلت تنظيماتها الخاصة بدعم من إيران في معظم الأحيان.

أما السبب الثاني فهو التغيير الاستراتيجي الذي أقدم عليه مقتدى الصدر بعد انتهاء سنوات العنف الطائفي المباشر في العراق، وتعرّض ذراعه المسلح لضربات قوية من الحكومة. فقد انتهج الصدر بعد ذلك نهجاً أكثر قرباً للمكونات العراقية الأخرى، وتحديداً السنة والأكراد. وقد أدى توتر علاقة السنة والأكراد مع نوري المالكي، الذي شغل منصب رئيس مجلس الوزراء ثم نائب رئيس الجمهورية في العراق حتى سنة 2018، إلى اقترابهم من الصدر وتياره وتفضيلهم إياه.

لم يدم تردد مقتدى الصدر طويلاً. فقد كان صوت تشكيل الفصائل وتحريكها في القتال عالياً وقوياً في المجتمع الشيعي القلق على مصيره ووجوده. غيّر الصدر اسم الجناح العسكري لحركته إلى سرايا السلام، في رسالة تشير إلى أن نيّته الأساسية لا تتجه نحو القتال إلا وسيلة. وحدد الصدر نطاق وجود فصيله وتحركه في مدينة سامراء ذات الغالبية السنية، والتي تضم مقاماً شيعياً مقدساً هو مقام العسكريين للتركيز على الدفاع عن المدينة والمقام. وتبعد سامراء حوالي 125 كيلومتراً شمال بغداد. لم تشارك سرايا السلام في العمليات الهجومية التي انخرطت فيها الجماعات الأخرى، لكنها بالتأكيد ظلت رقماً قوياً في معادلات القوة والصراع. وتعد سرايا السلام اليوم جزءاً من الحشد الشعبي وأرقام ألويتها 313 و314 و315.


مثّل الحشد الشعبي قوة حاضرة في القوات البرية العراقية. ومع أن القوات العراقية النظامية استعادت جزءاً من توازنها إلا أن دور جماعات الحشد، المدعومة من الحرس الثوري الإيراني ومن قائد فيلق القدس فيه قاسم سليماني، ظل دوراً كبيراً ومهيمناً. لكن الحشد الشعبي حرص أيضاً على القول إنه جزء من القوات المسلحة العراقية، وبأنه يعمل تحت قيادة القائد العام لتلك القوات وهو رئيس الوزراء. ومع أن المظهر العام للحشد الشعبي وموقعه ضمن التركيبة الحكومية ظل نظرياً تحت قيادة رئيس الوزراء، إلا أن الفصائل كانت لها قيادتها المستقلة ومازالت إلى اليوم.

ولحل قضية الإطار القانوني لقوات الحشد الشعبي، فقد تمكنت الأحزاب العراقية الشيعية –التي تمتلك الغالبية في البرلمان– من إقرار قانون الحشد الشعبي سنة 2016. القانون الذي أكسب الوجود السياسي للحشد الشعبي صيغةً رسمية.

كرست نهاية المعارك مع تنظيم الدولة، واستعادة العراق السيطرة الكاملة على أراضيه سنة 2017، مكانة الحشد الشعبي وموقعه قوةً مؤثرة على الأرض وفي الحياة السياسية. فقد انتشرت قوات الحشد في عموم العراق، بما في ذلك المناطق ذات الغالبية السنية. وضمّت تحت جناحها متطوعين سنة عرفوا بالحشد العشائري. إلا أن القيادة والتأثير بقيا دائماً بيد الشخصيات والجماعات الشيعية. أما سياسياً فقد صعد تحالف يسمى تحالف الفتح يضم الأجنحة السياسية للحشد الشعبي. فاز التحالف بجزء كبير من أصوات الشيعة في انتخابات 2018، ثم حقق فوزاً أوسع بالأصوات الشيعية في انتخابات 2021، معززاً مواقعه في المناصب الحكومية وفي اختيار رئيس الوزراء.


واجه الحشد الشعبي اختباراً مهماً سنة 2018 عندما أصبح واضحاً أنه لن يتنازل عن القوة والنفوذ اللذين تكرّسا له في سنوات الحرب ضد تنظيم الدولة. ففي ذلك العام حاولت الفصائل التابعة لممثلي السيستاني، وهي الفصائل التي انبثقت من قوة حراسة المقامات الشيعية المقدسة في كربلاء، السعي للانعتاق من سيطرة قيادة الحشد ذات العلاقة المباشرة مع إيران. وبدلاً من أن تؤدي الأزمة إلى تغيير قيادة الحشد بعناصر تتصل بالسيستاني وممثليه، انتهى الأمر بالفصائل التابعة لممثلي السيستاني إلى الانسحاب من الحشد والانضمام لصفوف القوات المسلحة الحكومية. بينما بقيت قيادة الحشد كما هي.

لم تتطور تلك الأزمة إلى شرخ بين قيادة السيستاني الدينية والقيادة العسكرية ذات الذراع السياسي للحشد. وأصدر السيستاني في نوفمبر 2024، بعد استقباله ممثلَ الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، بياناً دعا فيه إلى حصر السلاح بيد الدولة. وذلك ضمن دعوته لإصلاحات أخرى حكومية، من بينها مكافحة الفساد ومنع التدخلات الخارجية. لكنه لم يتوغل في التفاصيل، وأقرّ بأن تطبيق الإصلاحات قد يستغرق وقتاً طويلاً.

ولم يلغِ السيستاني الفتوى التي تأسس الحشد على أساسها، ولم يصدر فتوى تلغي مفعولها أو تعدله. قد يعود ذلك إلى أن السيستاني يرى أن حل الحشد قد يضعف الشيعة المعتزين بقوة التنظيم، والشاعرين بالحاجة إلى حماية منفصلة عن حماية الدولة أو الحكومة التي يسيطرون عليها. لكنها تعاني من مشاكل عديدة، أهمها الشك في تماسك قواتها المسلحة.

من المهم ملاحظة أن الرواية التي تتبناها كثير من القوى الشيعية في العراق تقوم على ادعاء أن أمريكا هي التي تحرك جماعات المتشددين السنة المسلحين. وقد أدى سقوط نظام الأسد، حليف إيران، وصعود نظام الرئيس السوري أحمد الشرع الذي كان عضواً في تنظيم القاعدة في العراق إلى شحذ الخطاب الذي يحذر من الخطر الوجودي على الشيعة. يحدث ذلك مع الرسائل السياسية المطمئنة من دمشق ومع الاتصالات السياسية بين الحكومة العراقية والحكومة السورية الجديدة.


تأزمت علاقة الحشد الشعبي بالولايات المتحدة مع انحسار تنظيم الدولة ومع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للرئاسة للمرة الأولى في 2016، واتّباعه سياسةً متشددة مع إيران وحلفائها. بدأت واشنطن باستهداف الفصائل الرئيسية وقادتها بالعقوبات وتصنيفها على قوائم الإرهاب. وبدأت بعد ذلك مرحلة تبادل القصف بين الفصائل العراقية –سواء في مواقعها في سوريا أو العراق– والقوات الأمريكية في البلدين.

أصبحت حكومة العراق في تلك المرحلة في وضع صعب. انقسمت بين رغبتها في الحفاظ على الدعم الأمريكي الذي لا غنى عنه، وبين موقف الفصائل وإيران في مواجهة ترامب. وقد بلغت المواجهة بين الطرفين ذروتها في واقعة اغتيال قاسم سليماني في يناير 2020.

كان اغتيال قاسم سليماني حدثاً هائل التأثير للفصائل الشيعية. خاصة أن الضربة الأمريكية، التي قتلت سليماني بأمر مباشر من دونالد ترامب قبل أيام من مغادرته البيت الأبيض في فترته الرئاسية الاولى، قتل فيها أيضاً أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي. كان المهندس القائد الأكثر تأثيراً في الوسط الداخلي العراقي، وكان سليماني الأكثر تأثيراً إقليمياً.

تصاعد غضب الأحزاب الشيعية العراقية إثر مقتل سليماني والمهندس. وفي جلسة عاصفة لمجلس النواب العراقي صدر قرار يدعو لإخراج القوات الأمريكية من البلاد. صدر القرار بفضل الغالبية الشيعية في العراق. لكن الأحزاب الكردية ومعظم القوى السياسية السنية، ومع إبدائها التعاطف مع الشيعة، لم تحضر الجلسة رافضة طلب إخراج القوات الأمريكية. يعبّر الكرد والسنة منذ ذلك الوقت عن خشيتهم أن الانسحاب الأمريكي سيعني انضمام العراق للمحور الذي تقوده إيران وخسارة العراق الدعمَ الأمريكي.

لم تخرج القوات الأمريكية من العراق، ولكن اتصالات رؤساء الحكومات العراقية منذ ذلك الوقت تركزت على طلب وضع آلية ما للانسحاب. بقيت تلك الصيغة مفتوحة للتفسيرات في عهد رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني. فقد توصل السوداني إلى اتفاق مع الأمريكيين يقضي بإنهاء مهمة التحالف الدولي، وتحول العلاقة بين واشنطن وبغداد إلى علاقة عسكرية ثنائية، مع التوافق على انسحاب تدريجي للقوات الأمريكية من العراق.

جاء مقتل سليماني بعد فترة من التوتر والقصف المتبادل بين فصائل الحشد الشعبي والقوات الأمريكية. وقد ازدادت حدة استهداف الفصائل للقوات الأمريكية بعد ذلك. ولكن بظهور صيغة جديدة تمثلت بأسماء جديدة مختلفة لفصائل تدعي أنها جديدة. فلقد كان من الصعب سياسياً على الفصائل الموجودة بأسمائها المعروفة، ومع الادعاء بأنها قوات رسمية حكومية، أن تستمر بمهاجمة القوات الأمريكية. كان ذلك سيؤدي إلى إحراج كبير، وربما تغيير كبير لصيغة العلاقة بين واشنطن وبغداد. لذلك وازن رؤساء الوزراء العراقيون بين علاقتهم بإيران والحشد الشعبي وبين علاقتهم بأمريكا التي يعتمد العراق على دعمها العسكري والاقتصادي والسياسي.


جاءت الحرب الإسرائيلية على غزة وما لحقها من تداعيات لتضع الجماعات المتحالفة مع إيران في المنطقة أمام تحدّ كبير. تمثل التحدي في قرار المشاركة في الحرب، إعمالاً بمبدأ وحدة ساحات محور المقاومة. وقد عوّل المحور، الذي تقوده إيران، على أن تستهدف الفصائل العراقية إسرائيل. إذ توجهت  الأنظار منذ البداية إلى حزب الله اللبناني، الأكثر قوة وخبرة في مواجهة إسرائيل، والذي أشار أمينه العام السابق حسن نصر الله إلى أن هناك دوراً من المنتظر أن تلعبه الفصائل العراقية. وبسبب الأهمية الكبيرة والاهتمام الإقليمي والعالمي بحرب غزة، غادرت بعض الفصائل الرئيسية حذرها وعملها المتخفي تحت أسماء شبه وهمية إلى الانخراط بأسمائها الصريحة فيما سمّيَ بجبهة المقاومة.

مع ذلك اكتفت الفصائل الكبيرة والأساسية، مثل بدر والعصائب، بالتضامن مع غزة والفلسطينيين من غير إعلان أي مشاركة في أي عمليات عسكرية ضد إسرائيل. لكن فصائل أخرى لم تتمسك بنفس الحذر، بل مضت قدماً في استهداف إسرائيل ليضاف ذلك لعدائها واستهدافها أمريكا. فتداخل استهداف الفصائل إسرائيلَ مع استهداف أمريكا. ومثّل قصف القاعدة الأمريكية في منطقة البرج 22 في الأردن قرب الحدود مع العراق وسوريا، في 28 يناير 2024، نقطة مهمة على مسار المواجهات. إذ قتل في الهجوم ثلاثة عسكريين أمريكيين. لتردّ أمريكا وتضرب في قلب بغداد وتقتل قادة بارزين في الحشد الشعبي، وتحديداً في فصيل كتائب حزب الله.

وجهت الفصائل العراقية ضربات متعددة لأهداف في إسرائيل بنسب نجاح متفاوتة. لكن الضربات التي وجهتها إسرائيل لحزب الله اللبناني، ومقتل حسن نصر الله ثم سقوط النظام السوري وعودة ترامب إلى الرئاسة الأمريكية، أعلنت بدء مرحلة جديدة. إذ تراجعت عمليات الفصائل العراقية ضد إسرائيل، وبات هناك ترقب لما يمكن أن تتخذه إسرائيل والولايات المتحدة من جانب. وما يمكن أن تدفع به إيران وأمريكا. وما يمكن أن تفعله إيران وحكومة العراق والحشد الشعبي إثر ذلك.


استمر الضغط الأمريكي على العراق لتغيير صيغة وجود الفصائل العراقية المدعومة من إيران. وظلّ التهديد الإسرائيلي أيضاً حاضراً. فالفصائل العراقية التي هاجمت إسرائيل بعد حرب غزة أصبحت على قائمة "الأعداء" الذين تريد إسرائيل إنهاء التهديد القادم منهم. بالتالي، فإنّ الإحساس العام في العراق بأن هناك تغييرات مقبلة في الحشد الشعبي وصيغة وجوده وعلاقته بالحكومة العراقية. ولا ينكر المسؤولون العراقيون، وعلى رأسهم رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، فكرة الحاجة لإصلاح التنظيم. لكن لا يتقبلون فكرة حل الحشد أو نزع سلاحه.

إنَّ غياب صيغة مطالب واضحة من أمريكا للحكومة العراقية يفتح الباب أمام احتمال أن تغير الحكومة العراقية تغييراتٍ شكلية في تنظيم الحشد الشعبي. مثل تغيير أسماء الأقسام أو تركيبتها، ونقل بعض القادة وإعادة توزيعهم لإعطاء الانطباع بأن الحكومة ورئيس الوزراء قد فرضا سلطة أكبر على الحشد. وقد استجابت الحكومات العراقية جزئياً، أو حتى شكلياً، للضغوط الأمريكية في الماضي. 

ففي سنة 2020 استبدل الحشد الشعبي أرقام الألوية بأسماء الفصائل الصريحة، وتغيرت عناوين مناصب قادة رئيسيين وأسماؤهم في الحشد. فبقيَ رئيس هيئة الحشد فالح الفياض في منصب الرئيس، مع إخراجه من منصبَي مستشار الأمن الوطني ومدير الأمن الوطني. وكذلك ألغى الحشد الشعبي منصب نائب رئيس الهيئة الذي كان يشغله أبو مهدي المهندس. وحلّ محله منصب رئيس أركان الهيئة الذي شغله أبو فدك المحمداوي، خلفاً للمهندس في قيادة كتائب حزب الله.

لكن إذا كانت الضغوط الأمريكية أكبر ومطالبها أكثر تحديداً، فقد تتخذ الحكومة إجراءات أكثر صرامة لفرض سلطتها على الفصائل. ما يعني إلغاء تمايز الفصائل ضمن الحشد الشعبي وتحويلها إلى وحدات عسكرية عادية. وهذا يعني أنها ستخضع للتراتبية العسكرية التقليدية وتصبح تحت قيادة القائد العام للقوات المسلحة، وهو رئيس الوزراء. بالتالي تكون أمريكا على معرفة واطلاع بأي نشاط مسلح وأي استخدام للقوة في العراق، بحكم العلاقة القوية بين البلدين.

قد يتضمن هذا التوجه أيضاً حل الفصائل العراقية أو التزامها الواضح بالتحول إلى منظمات مدنية. وبالتالي سيكون أي وجود مسلح مستقل للفصائل خارج غطاء الحكومة كاشفاً لها على إجراءات نزع السلاح بالقوة. بل وحتى التعرض للاستهداف المحتمل من أمريكا أو إسرائيل. سيضعف هذا الاحتمال الحشد الشعبي لكنه يقوي الحكومة التي تقودها الأحزاب الشيعية. وقد يمثل صيغةً لتجاوز تلك القوى مرحلةً صعبة في العلاقة مع أمريكا والمتغيرات الإقليمية، إذا ما تحولت إسرائيل إلى طريقة أكثر هجومية.

أما إذا تصاعدت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية وثبتت على مطلب قاطع، متمثل بحل الحشد الشعبي، فسوف تجد الحكومة العراقية نفسها في موقفٍ بالغ الصعوبة. بل قد يُسترجع في تلك الحالة رأي المرجع الشيعي علي السيستاني الذي أصدر الفتوى التي يرفعها الحشد سنداً لشرعيته، والذي دعا أيضاً إلى حصر السلاح بيد الدولة. إلا أن هذا الاحتمال مستبعد. إذ لم يسبق أن عمدت أمريكا إلى تسليط ضغط بهذه الدرجة والمستوى. لكنه إن حصل، فسيفتح الباب أمام تغيير في صيغ العلاقات الأساسية التي بنيَ عليها النظام السياسي في العراق بدعم أمريكا.

اشترك في نشرتنا البريدية