الصراع على اللعبة.. كيف أعاد النظام المصري هندسة مجال كرة القدم؟

أعاد النظام المصري هندسة مجال كرة القدم بالتدخل في ثلاثة محاور، هي: الجماهير والإعلام والأندية.

Share
الصراع على اللعبة.. كيف أعاد النظام المصري هندسة مجال كرة القدم؟
الصراع على اللعبة بين النظام والجماهير بدأ بعد أحداث دموية زامنت ثورة يناير | تصميم خاص بالفِراتْس

كان الأربعاء، الأوّل من فبراير 2012، يوماً فاصلاً في تاريخ كرة القدم المصرية. في ذلك المساء شهدت محافظة بورسعيد، شمال شرقي مصر، حادثاً راح ضحيّته اثنان وسبعون من مشجعي النادي الأهلي. معظمهم ينتمي لرابطة مشجعي الأهلي "ألتراس أهلاوي"، كانوا سافروا لحضور مباراة فريقهم في الدوري المصري مع فريق النادي المصري البورسعيدي. توقفت المباراة أكثر من مرّةٍ بسبب الشغب الجماهيري ثم انتهت بفوز النادي المصري بثلاثة أهدافٍ مقابل هدفٍ واحد. ومع صافرة النهاية، انطفأت أنوار الملعب وانطلقت جماهير من مدرجات النادي المصري تجاه مدرجات الضيوف تعتدي عليهم. حوصر مشجعو الأهلي الذين وجدوا أبواب الخروج موصدةً، فسقط العشرات بسبب الاعتداءات والاختناقات والتدافع بين قتيلٍ وجريح.

وقع الحادث الذي زلزل الشارع المصري في خضم أحداث ثورة يناير 2011. أثناء الحكم الانتقالي للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة المشير حسين طنطاوي، وبعد أيامٍ من انتخاب برلمانٍ جديدٍ حصلت القوى الإسلامية على أغلب مقاعده. بعد الحادثة بأيامٍ، صوّت البرلمان بالإجماع على اتهام وزير الداخلية محمد إبراهيم يوسف بالتقصير والإهمال. كما استقال محافظ بورسعيد اللواء أحمد عبدالله، وأُوقف مديرا الأمن والمباحث في المحافظة عن العمل. فتح النائب العام تحقيقاً في الأحداث، انتهى لحكم محكمة النقض بمعاقبة عشرة متهمين بالإعدام وثلاثين آخَرين بالسجن. منهم قياديان في وزارة الداخلية حُكم عليهما بالسجن خمس سنواتٍ ثم أفرج عنهما لاحقاً بعفوٍ رئاسي. كذلك توقفت مسابقة الدوري العام لأجلٍ غير مسمّىً ثمّ ألغيت، وأقيل الاتحاد المصري لكرة القدم.

عاد النشاط الكروي في موسم 2013 بعد سنتين من التوقف، إلا أن كرة القدم المصرية لم تعد لما كانت عليه قبل حادث بورسعيد. فقبل أسابيع من انطلاق مسابقة الدوري، أنهى التدخل العسكري في يوليو 2013 حكم الرئيس محمد مرسي بعد سنةٍ من انتخابه. وبعد أسابيع من انطلاق البطولة، انتُخِب وزير دفاعه عبد الفتاح السيسي رئيساً للجمهورية بعد فترةٍ انتقاليةٍ تولّى فيها رئيس المحكمة الدستورية عدلي منصور رئاسة الجمهورية.

وفي الأسابيع والأشهر التالية، وقعت حادثةٌ أخرى لجمهور الكرة. راح ضحيتها عشرون مشجعاً لنادي الزمالك قُتلوا أثناء دخولهم استاد الدفاع الجوي في القاهرة، لحضور مباراة فريقهم ضدّ فريق نادي إنبي في فبراير 2015. كانت إدارة الزمالك قد باعت تذاكر لحضور المباراة أكثر من التي سمحت بها وزارة الداخلية، فازدحمت الجماهير عند قفصٍ حديديٍ للتفتيش عند مدخل الملعب. تَبِعَ ذلك مشاحناتٌ مع قوى الأمن تطورت لإطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، ثم تدافعٍ واختناق. مُنعت الجماهير إثر ذلك من حضور المباريات في المدرجات، وأُعلنت روابط المشجعين كياناتٍ إرهابيةً بأحكامٍ قضائيةٍ، واعتُقل العشرات من قادتها وأفرادها.

فتحت حادثتا بورسعيد والدفاع الجوي الباب أمام النظام السياسي الجديد في مصر ليعيد هندسة مجال كرة القدم. وسهَّل غياب المشجعين القسري عن المدرجات بعد الحادثين نقل الجدل والصراع من ملاعب كرة القدم إلى الفضاء الافتراضي. كما خلقت الحادثتان حالةَ طوارئ واستثناء أضفت شرعيةً على تدخلات النظام غير المسبوقة في مجال كرة القدم. 

قصد النظام، بتدخله، خلقَ خيالٍ سياسيٍ جديدٍ يتحوّل فيه المواطنون مشاهدين لا قدرة لهم على الفعل. فيصرفون طاقتهم في صراعات كرة القدم التي تحوّلت مجالاً سياسياً افتراضياً. وقد أعيدت هندسة مجال كرة القدم في مصر بعد 3 يوليو 2013 عبر ثلاثة محاور: إدارة النظام لملفات الجماهير وروابط المشجعين، والإعلام الرياضي، ورجال الأعمال والأندية. إلا أن هذا النجاح لم يكن كاملاً. وما زال أطراف لعبة كرة القدم في مصر، من غير المحسوبين على السلطة، قادرين على المناورة للحصول على هامشٍ من الحرية وتحدي إطار السيطرة التي تحاول السلطات ترسيخه.


لم تكن حادثتا بورسعيد والدفاع الجوي استثناءً في فتحهما المجال أمام إعادة هندسة المجال الكروي. فقد عايشَ تاريخ كرة القدم عالمياً كوارث ساهمت في تهيئة الأجواء أمام التغييرات الكبرى في إدارة اللعبة. كان أبرز هذه الكوارث ما سمّاه الأرجنتينيون "مأساة البوابة 12" في 23 يونيو 1968.

في تلك الليلة استضاف ملعب "المونيمونتال" في العاصمة بيونس آيرس مباراةً بين الندَّين، فريقَي ريفر بليت وبوكا جونيورز في الدوري الأرجنتيني. تحوّل الكرنفال الكروي لأحداثِ عنفٍ راح ضحيتها ما لا يقلّ عن سبعين قتيلاً ومئةٍ وخمسين جريحاً من جماهير بوكا جونيورز. اتهمت الجماهير سلطاتَ الجنرال الرئيس خوان كارلوس أنغانيا بتدبير الحادث، فيما أكدت السلطة أنه نتج عن تقصيرٍ غير مقصودٍ وإهمالٍ تجلّى في عدم إضاءة ممرّات المدرجات المؤدية إلى البوابات، وترْك الحراس البوابات موصدةً. ما أدّى إلى التكدس والاختناق بعد اندفاع الجماهير إليها للخروج بعد المباراة.
فتحت مأساة البوابة 12 الباب أمام إعادة ترتيب مجال كرة القدم في الأرجنتين. فقد أعقبها تعديل بنية الملاعب واعتماد سياسة الفصل بين جماهير الفرق المتنافسة ووضع آليات لدخول الجماهير وخروجها من المدرجات. الأمر الذي لم يكن مأخوذاً في الحسبان في حقبة الستينيات. واستغل النظام العسكري المأساة لفرض سيطرته على الملاعب التي حوّلها مجالاتٍ أمنيةً تضبَط وتراقَب بأعدادٍ كبيرةٍ من رجال الشرطة.

بعد ذلك بنحو عقدين، وعلى بعد آلاف الكيلومترات من الأرجنتين، ساهم حادثان متلاحقان سنتَيْ 1985 و1989 في تغيير مجال الكرة الإنجليزية وإعادة مَوْضَعَة الجماهير فيه. سيطرت مجموعات "الهوليغانز" (الجماهير الموسومة بالعنف وسلوكها التخريبي) على ملاعب الكرة في عقدَي السبعينيات والثمانينيات، حتى أُطلِق عليهم "المرض الإنجليزي". جاء الحادث الأول في 29 مايو 1985، وقبل مباراة فريقي يوفنتوس الإيطالي وليفربول الإنجليزي في نهائي الكأس الأوروبية للأندية على ملعب هيسل في العاصمة البلجيكية بروكسل.

تجاوزت مجموعةٌ من جماهير ليفربول السياج الفاصل بين جماهير الناديَين واعتدت على جماهير يوفنتوس التي حاولت الفرار حتى وصلت إلى جدارٍ قديمٍ انهار فوق رؤوسهم. فقُتل تسعة وثلاثون شخصاً وأصيب العشرات. بعدها بأقلّ من أربع سنواتٍ، وفي 15 أبريل 1989 وقعت حادثةٌ أخرى، كانت جماهير ليفربول ضحيّتها هذه المرّة. فمع انطلاق مباراة فريقهم أمام نوتنغهام فوريست في نصف نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي على ملعب هيلزبره شمال إنجلترا، أدّى التدافع في المدرجات إلى وفاة سبعةٍ وتسعين مشجعاً بالدهس والاختناق وإصابة مئاتٍ آخرين.

بعد حادثة هيسل، اتخذت الحكومة البريطانية عدّة إجراءاتٍ قانونيةٍ وأمنيةٍ ضدّ الهوليغانز للتضييق عليهم. فارتفعت أعداد ضباط الشرطة المسؤولة عن تأمين المباريات وتنظيمها. ووضعت الحكومة آلات تصويرٍ للمراقبة في محيط الملاعب وداخلها، كما خصصت وحدة أمنية لمكافحة الهوليغانز. ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحدّ. فقد أنشأت الحكومة البريطانية قاعدة بياناتٍ لتتبّع أعضاء تلك الروابط ومراقبتها. كذلك أصدر البرلمان البريطاني قانون النظام العام لسنة 1986 الذي منحَ الشرطةَ صلاحية منع أعضاء الهوليغانز من السفر لحضور مباريات فريقهم. إضافةً إلى منح المحاكمَ الحقّ في منع بعض المشجعين المدانين من حضور مباريات كرة القدم في الملاعب.

وفي أعقاب حادث هيلزبره، شنّت الحكومة البريطانية برئاسة مارغريت ثاتشر ووسائل الإعلام حرباً على الهوليغانز وحمّلتهم مسؤولية القتل. فبرّأت ساحةَ الشرطة –التي عادت واعتذرت بعد عشرين سنةً من الحادثة عن مسؤوليتها فيها، وعن تحميلها المسؤولية للجماهير– ثم اتخذت من هذه الحادثة منطلقاً لتعاملٍ مختلفٍ معهم لا يقتصر على القمع الأمني.

وحسب بحثٍ نُشر سنة 2014 لجون ويليامز، خبير سلوك المشجعين في جامعة ليستر الإنجليزية، شملت الإجراءات تحديث بنى معظم استادات الأندية الإنجليزية لمنع احتكاك الجماهير ومنع المشروبات الكحولية في المدرجات واحتواء الجماهير الشغوفة بفرقها في روابط رسميةٍ للمشجعين. فتحت هذه التحولات الباب أمام تأسيس مجالٍ كرويٍ جديد. في سنواتٍ قليلةٍ هُمّشت روابط الهوليغانز أو تلاشت على نحوٍ سمح بتأسيس الدوري الإنجليزي الممتاز في صورته الحالية.


في مصر، وقعت حادثتا بورسعيد والدفاع الجوي في ظلّ ظرفٍ سياسيٍّ متقلبٍ أفرزته ثورة 25 يناير 2011. وتزامنت عودة النشاط الرياضي بعد توقفه المؤقت في الحالتين مع تشكّل نظامٍ سياسيٍ جديدٍ وجد في مجال كرة القدم فرصةً لتشكيل خيالٍ سياسيٍ يواجه به الخيال الذي صنعته الثورة.

فتحت الثورة البابَ أمام مشاركة المواطنين في التنافس على الحكم. وبعد أشهرٍ قليلةٍ من اندلاعها، وصل عدد الأحزاب المسجّلة رسمياً في مصر مئةً وأربعة أحزاب. بينما كان عدد الأحزاب المسجّلة رسمياً منذ 1977، سنة إقرار قانون التعددية الحزبية وحتى سقوط نظام مبارك، أربعةً وعشرين. وشاركت أعدادٌ غير مسبوقةٍ من المواطنين في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة. سواءً الاستفتاء على تعديل الدستور في مارس 2011 والانتخابات البرلمانية في نوفمبر وديسمبر من العام نفسه، أو الاستفتاء على الدستور الجديد للدولة في ديسمبر 2012، أو انتخابات الرئاسة في مايو ويونيو 2012. وبالتوازي مع ذلك، شارك المواطنون من فئاتٍ مختلفةٍ في المظاهرات والإضرابات والاعتصامات التي لم تتوقف طيلة هذه المدّة.

وصلت هذه المشاركة الشعبية ذروتها في صيف 2013، حين بلغ الاستقطاب السياسي بين الفرقاء السياسيين مداه، قبل أن يبدأ في التراجع بعد التدخل العسكري الذي أنهى حكم الرئيس محمد مرسي عضو جماعة الإخوان المسلمين. في ربيع 2013 وصيفها، اتخذ أنصار الرئيس مرسي ومعارضوه المظاهرات سبيلاً للتعبير عن مطالبهم السياسية. فخرج مئات الألوف في مظاهرات التأييد والمعارضة، على نحوٍ تجلّى في مظاهرات 30 يونيو، وفي اعتصامات مؤيدي الرئيس بعد إعلان وزير الدفاع عزله في الثالث من يوليو.

في الأسابيع التالية، تكررت الصدامات بين قوات الأمن وأنصار الرئيس المعزول حتى وصلت ذروتها في فضّ قوات الأمن اعتصامات مؤيدي الرئيس المعزول في ميدانَيْ رابعة العدوية والنهضة في القاهرة يوم 14 أغسطس 2013 على نحوٍ أدّى لمقتل المئات. استمر التضييق على التعبير الشعبي في الأشهر التالية، فأُعلنت حالة الطوارئ وحُظر التجوال في أيام الجمعة، ثم صدر قانون تنظيم التظاهر في نوفمبر 2013 بقيودٍ صارمةٍ تحدّ منه.

لم يكن الإغلاق العنيف للمجال السياسي كافياً لإعادة الجماهير إلى مقاعد المشاهدين في الحياة السياسية. ولم يكن وارداً أن يتحمل النظام كلفة الاقتصار على العنف، في إطار حيويةٍ وحركةٍ واسعةٍ في الشارع يحتاج احتواؤها وسائل أخرى. إذ هدّد الاقتصار على العنف بتحويل الطاقات المتفجرة –خاصةً عند الشباب– إلى العمل السياسي العنيف الذي ظهرت بوادره في أعقاب فضّ اعتصامَيْ رابعة والنهضة، أو بدفعهم للعمل السرّي الذي تصعب ملاحقته.

ومن هنا اعتمد النظام استراتيجيةً تقوم على فتح عدّة مجالات لتنفيس الغضب وتفريغ الطاقات ورصد المزاج الشعبي، مع إعادة تشكيلها وفق علاقات القوة الجديدة بما يخدم مصالحه. كان مجال كرة القدم من أهم هذه المجالات.

وقد اجتمعت عدّة عوامل على ترشيح مجال كرة القدم لهذا الدور. أولها شعبية اللعبة التي تمكِّن لأجهزة أمن النظام اعتمادها وسيطاً لقياس نبض الشارع. وثانيها وجود سابق تجربةٍ في الاستغلال السياسي لمجال كرة القدم، وإن كان بصورةٍ مغايرةٍ، في عهد الرئيس مبارك. وثالثها التشابه بين اللعبة، التي يقتصر دور الجمهور فيها على المشاهدة والتشجيع، والخيال السياسي الذي سعى النظام لتعميمه بديلاً عن خيال دولة المواطنة الذي صنعته الثورة. ورابعها حالة الطوارئ التي عاشتها كرة القدم في مصر منذ حادثة بورسعيد، والتي أضعفت أطرافها المختلفة، وأضفت شرعيةً على تدخل السلطة السياسية فيها وإعادة تنظيمها. في السنوات التالية، استغلت السلطة هذا الظرف وأعادت هندسة مجال كرة القدم في مصر بإدارتها ثلاثة محاور. هي الجماهير وروابط المشجعين، والإعلام الرياضي، والأندية.


لم تكن جماهير مجال كرة القدم معزولةً عن التطورات السياسية في مصر في سنوات الثورة. بل كانت روابط مشجعي الأندية، منذ تأسيسها سنة 2007، طرفاً رئيساً في الصراع السياسي. بدءاً من صداماتها المتكررة مع قوات الأمن قبل الثورة، مروراً بدورها المحوري أثناء المواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن في ثورة يناير، وليس انتهاءً بمظاهرات أعضاء الروابط للمطالبة بالقصاص لزملائهم الذين قضوا في حادثتي بورسعيد والدفاع الجوي. هذه المواقع كلها عززت دوافع السلطة الجديدة لرؤية جماهير الكرة تهديداً ينبغي التعامل معه.

ظهرت روابط المشجعين "الألتراس" للمرة الأولى سنة 2007، بعد أشهرٍ قليلةٍ من استضافة مصر بطولة كأس الأمم الإفريقية 2006. أدى ارتفاع أسعار تذاكر المباريات أثناء البطولة ووصولها عشرة أضعاف قيمتها إلى استبعاد شرائح اجتماعيةٍ واسعةٍ من المدرجات. استفز هذا الاستبعاد الجماهير التقليدية لمجال كرة القدم في مصر. فتأسست رابطة "ألتراس وايت نايتس" المؤازرة لنادي الزمالك، ثم "ألتراس أهلاوي" المشجعة للنادي الأهلي. ومع تأسيسها، أظهرت الروابط قدراتٍ تنظيميةً متميزةً، ظهرت في التشجيع والغناء في المدرجات. وظهرت أيضاً في القدرة على المناورة والكرّ والفرّ، في صداماتها المتكررة مع قوات الأمن.

بدأ الصدام بين الألتراس والأمن مبكراً بسبب توجس الأمن من الروابط. مثلاً، منعت قوات الأمن في أبريل 2007 ألتراس أهلاوي من تعليق شعار المجموعة في المدرجات بسبب عدم التنسيق معها مسبقاً. ثم عادت ووافقت على تعليقه بعد بعض المناوشات مع أعضاء الرابطة. في السنوات التالية، تكررت المواجهات بين الروابط والأمن، خاصةً قبل المباريات الكبرى، على نحوٍ دفع ألتراس لتركيز خطاباتهم على معاداة الشرطة. وفي المقابل، شنَّ الإعلاميون القريبون من السلطة حملات تشويهٍ ضدّ الروابط. مثل الحملة التي شنّها الإعلامي الرياضي أحمد شوبير، حارس مرمى النادي الأهلي في التسعينيات، قبل مباراة الأهلي والزمالك سنة 2009. اتهم شوبير أعضاءَ الروابط بتعاطي المخدرات والكفر والانحراف السلوكي. فتكررت حملات اعتقالات قادة الروابط قبل المباريات المهمّة، وتخييرهم بين الحبس الاحتياطي أو توقيع إقراراتٍ بعدم حضور المباراة.

دفعت هذه الصدامات المتكررة أعضاء الروابط للمشاركة في ثورة يناير. ففي يوم "جمعة الغضب" الموافق 28 يناير 2011، شارك أعضاء الروابط الثوارَ في المسيرات المتجهة إلى ميدان التحرير. اشتبكوا مع قوات الأمن، مستفيدين من خبراتهم السابقة في الكرّ والفرّ، وساهموا في ترجيح كفّة المتظاهرين على قوات الأمن. وشارك أعضاء الروابط في المواجهات التي تلت سقوط حكم الرئيس مبارك، مثل أحداث شارع محمد محمود في نوفمبر 2011، وشملت اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة. وكذلك أحداث مجلس الوزراء في ديسمبر 2011 بين قواتٍ عسكريةٍ مصريةٍ ومعتصمين أمام مجلس الوزراء المصري. وحملت الروابط أغاني ملاعب الكرة إلى ميادين الثورة، وحملت هتافات الثورة إلى ملاعب الكرة. فهتف أعضاؤها في المدرجات ضدّ "حكم العسكر" والداخلية، قبل أن يتوقف النشاط الكروي بسبب حادثة بورسعيد في فبراير 2012.

لم يؤدّ إيقاف النشاط الرياضي إلى تراجع دور روابط المشجعين. فبعد حادثة بورسعيد انخرطت جماهير الكرة، لا سيما رابطتا الأهلي والزمالك، مع الثوار في الميادين. فنظّمت مظاهراتٍ ووقفاتٍ احتجاجيةً تحمِّل المجلس العسكري مسؤوليةَ قتل رفاقهم وتطالب بالقصاص. واعتصم أعضاء الروابط وعطّلوا عدداً من المنشآت الحيوية مثل البورصة، وضغطوا على إدارات الأندية لمنع عودة النشاط الرياضي قبل القصاص. مثلاً، رفعت رابطة مشجعي الأهلي في مباراة فريقها أمام نادي توسكر الكيني في أبريل 2013 لافتةً كُتب عليها "لا للمجلس العسكري" مع رسمة لأفراد الشرطة والجيش في هيئة كلابٍ مفترسةٍ باستاد القاهرة. وهتفوا "الشعب يريد إعدام المشير"، في إشارةٍ إلى المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري السابق، الذي تحمّله الرابطة مسؤوليةَ حادث بورسعيد.


ناصب النظام الجديد الروابطَ العداء. أولاً بسبب دورها في ثورة يناير، ثم بسبب تأثيرها في المدرجات وعلى إدارات الأندية الذي هدّد قدرته في الهيمنة على المجال الكروي. وعليه سعى لإنهائها خطوةً أولى لإعادة تشكيل المجال الرياضي. بيد أن قدرة النظام على قمع هذه الروابط، والمسار الذي سلكه لتحقيق ذلك، توقف على استجابة إدارات الأندية المختلفة لخطته وعلاقتها بالجماهير.

بدأت فصول الصراع بين الروابط والسلطة السياسية الجديدة عقب فوز مرتضى منصور برئاسة نادي الزمالك في مارس 2014. وصف مرتضى منصور أعضاء الروابط بالكلاب، وتوعّدهم بالضرب إذا اقتربوا من النادي، وتعهد "بتربيتهم". ردّت رابطة مشجعي الزمالك برمي رئيس النادي بكيسٍ فيه مادة سائلة، قالوا إنها بَوْلٌ، وقيل إنها ماء نار. ثم اتهمهم بمحاولة اغتياله، وأعلن تلقّيه اتصالاً هاتفياً من الرئيس السيسي أكّد فيه تأييده ملاحقة الروابط.

ساهمت حادثة استاد الدفاع الجوي في تقويض نشاط الألتراس. حمَّلت رابطة "وايت نايتس" (ألتراس نادي الزمالك) مرتصى منصور مسؤولية الحادث، ومن بعده قوات الأمن. إلّا أن منصور ومعه وزارة الداخلية حمَّلوا أعضاءَ الرابطةِ المسؤولية. تزامن ذلك مع شنّ إعلاميين موالين للنظام حملةً على الروابط. ولم تمضِ أيام حتى شنّت قوات الأمن حملةَ اعتقالاتٍ ضدّ قادة الروابط. على رأسهم قائد "وايت نايتس" المعروف بسيد مشاغب، الذي اعتُقل يوم 16 مارس 2015، قبل أن تصدر محكمة الأمور المستعجلة في مايو حكماً بحظر روابط المشجعين واعتبارها جماعات إرهابية.

شرعنت حادثة الدفاع الجوي إفراغَ المدرجات من الجماهير. ومع عودة النشاط الكروي بعد حادثة بورسعيد، كان الحضور الجماهيري محدوداً. بيد أن قلّة العدد ساهمت في زيادة تأثير الروابط، التي حرص أعضاؤها على الحضور واستغلال المدرجات في التعبير عن مواقفهم السياسية. فطالبوا بالقصاص من المتورطين في حادثة بورسعيد، وطالبوا بالإفراج عن زملائهم، وعبّروا عن رفضهم "حكم العسكر"، وانتقدوا إدارات أنديتهم بسبب تماهيها مع السلطة الجديدة. وبعد حادثة الدفاع الجوي وحظر الروابط، عزف أعضاؤها المطارَدون عن حضور المباريات. فاستخدمت إدارات الأندية سياساتٍ مختلفةً في بيع التذاكر، وقصرتها على أعضاء جمعياتها العمومية. في الوقت نفسه تشددت السلطات الأمنية في منع دخول اللافتات والأعلام وأدوات التشجيع، وقبضت على أيّ جماهيرٍ تهتف شعاراتٍ سياسيةً أو تردّد أغاني الروابط المحظورة.

تفاوتَ أثر هذه التحولات على روابط الأندية. ففي الزمالك، ناصب رئيس النادي الروابطَ العداء ومنع أعضاءها من حضور تدريبات الفريق واستصدر أحكاماً قضائيةً بحبسهم، فهُمّش دور الروابط. أما في الأهلي، فكانت علاقة الإدارة بالروابط متوطدةً نسبياً بسبب تضامن الإدارة مع الجمهور بعد حادثة بورسعيد. ومع تغير النظام السياسي، تغيرت إدارة النادي بانتخاب محمود طاهر رئيساً. حاولت الإدارة الوساطة بين الروابط والأمن. فلم تحرّض على الروابط، لكنها أعلنت رفضها أيّ ممارساتٍ عنيفةً أو أيّ تسييسٍ للمدرجات أو تطاولٍ على "القيادات السياسية". ومع انتخاب محمود الخطيب رئيساً للنادي في 2017، قال إنه يعدّ أعضاء الروابط "أبناءه"، وأنه يتمنى عودتهم للمدرجات. على أن احتماء الرابطة بإدارة النادي لم يَحل دون اعتقال أعضائها كلّما عبّروا عن موقفٍ سياسيٍ. وهو ما اضطرّهم في سنة 2018 لحلّ الرابطة، آملين أن يؤدّي ذلك للإفراج عن زملائهم المسجونين.


فتح حلّ الروابط وإفراغ المدرجات من الجماهير البابَ أمام إعادة موضعة الجماهير في مجال كرة القدم. في السنوات التالية، أعادت السلطات الجماهيرَ إلى المدرجات بأعدادٍ محدودةٍ وشروطٍ مختلفة. ضمان دخولهم أفراداً لا تربطهم رابطةٌ، واقتصار دورهم في المدرجات على مشاهدة المباريات وتشجيع فرقهم. من دون أن يكون لهم دورٌ في صراع الحكم أو في قرارات أنديتهم في مجال كرة القدم. ومع نجاح هذه السياسات في تحجيم دور روابط مشجعي الأندية، فإنها لم تقضِ عليه، بل ظلّوا يتحيّنون الفرصة للظهور والتعبير عن مواقفهم.

بدأ فرض الشروط الجديدة لدخول الجماهير أثناء استضافة مصر كأس الأمم الأفريقية سنة 2019. في السنة نفسها أسّست الشركة المتحدة، التي يملكها جهاز المخابرات العامة، نظاماً رقمياً لبيع التذاكر أسمته "تذكرتي". فرض النظام الجديد على راغبي شراء التذاكر تسجيل بياناتهم الشخصية، وعلى رأسها الرقم القومي ورقم الهاتف والعنوان على التطبيق، وانتظار الحصول على الموافقة الأمنية لإصدار "بطاقة المشجع" التي يمكن بها شراء تذاكر المباريات. 

أتاح النظام الجديد لأجهزة الأمن منع دخول "العناصر المشاغبة" و"المخربة" إلى المدرجات. تزامن ذلك مع إصلاح الملاعب الرئيسية استعداداً لاستقبال البطولة. الإصلاحات لم تقتصر على أرضيات الملاعب، بل امتدت للمدرجات التي رُقِّمت كراسيها وأضيفت إليها آلات تصويرٍ للمراقبة. وبذلك أصبح لكل تذكرةٍ رقم يطابق رقم كرسيٍّ في المدرج، تراقبه آلة تصوير. فصار سهلاً القبض على "مثيري الشغب" ومخالفي قواعد حضور المباريات، التي عاقب قانون الرياضة الصادر سنة 2017 كل من يخالفها بالحبس.

أظهرت البطولة نجاح الإجراءات الجديدة. فأثناء المباريات، لم تكتفِ أجهزة الأمن بالإجراءات السابقة. فقد منعت قواعد تنظيم البطولة والرغبة في إنجاحها من تقييد أعداد الجماهير في المدرجات. وشكّل الحضور الجماهيري الكثيف، لاسيّما في مباريات المنتخب المصري، تهديداً لقدرة الأمن على فرض السيطرة على المدرجات. فنشرت السلطات الأمنية في المدرجات أفراد أمن وشرطة بالزيّ المدنيّ، لتسهيل التدخل السريع والقبض على كل مخالفٍ للنظام. تدخلت هذه القوات للقبض على مجموعاتٍ من الجماهير حاولت إحياء ذكرى "شهداء الأهلي والزمالك"، أو هتفت للاعب الدولي المصري السابق محمد أبو تريكة الذي وضعته السلطة في مصر على قوائم دعم الإرهاب.

على أن نجاح إجراءات الأمن أثناء البطولة لم يعنِ نجاحها فيما بعد. فقد أدى ارتفاع أسعار تذاكر مباريات البطولة لاستبعاد شرائح اجتماعيةٍ من الحضور، منهم أعضاء الروابط المنحلّة. ولم يكن ممكناً استمرار الحضور الأمني المكثف في مباريات البطولة محدودة العدد، والتي حضرتها شخصيات سياسية محلية ودولية. ولم يكن الجمهور المصري الذي حضر مباريات البطولة منقسماً بين تشجيع فرقٍ مختلفةٍ، كما هو الحال في مباريات الدوري. ولم تكن ثمّة صراعات بين الجمهور وأطراف المنظومة الرياضية، مثل الصراع بين ألتراس وايت نايتس وإدارة النادي الزمالك.

مع عودة المسابقات المحلّية والقارية للأندية بعد البطولة، عادت الجماهير للصدام مع السلطات مستغلةً تغير الظروف. مثلاً، الخلاف بين إدارة النادي الأهلي وتركي آل الشيخ، رئيس هيئة الترفيه السعودية، بعد تعيينه رئيساً شرفياً للنادي ثم رفع اسمه من قائمة الرؤساء الشرفيين. فتح هذا الباب أمام هجوم الجماهير على آل الشيخ، وسبّها إياه أثناء مباراة فريقهم ضد فريق "حوريا الغيني" في بطولة دوري أبطال إفريقيا. وصارت إضاءة الجماهير أنوار الهواتف في الدقيقتين العشرين والثانية والسبعين، إحياءً لذكرى ضحايا حادثتي بورسعيد والدفاع الجوي، تقليداً في سائر المباريات. وأخيراً، أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة في أكتوبر 2023، تكرر هتاف المشجعين لفلسطين ورفعهم العلم الفلسطيني في المدرجات، على نحوٍ أدى لاعتقال أعدادٍ منهم.

لا يزال الصراع على المدرجات بين أجهزة الأمن والجماهير دائراً. وإذا كانت للأجهزة الأمنية سلطة منع الجماهير من دخول المدرجات، فإن هذه السلطة تصطدم بعدّة عقباتٍ. أهمّها أن إبقاء المدرجات خاويةً يؤدّي لانصراف الجماهير إلى مشاهدة الكرة الأوروبية. ما يعني أنه لا يمكن للنظام توظيف الكرة المحلية –التي ترتبط بها مصالح اقتصاديةٌ إعلاميةٌ– سياسياً كما يريد، إن قلّ الاهتمام بها. بسبب ذلك، تسامحت السلطات الأمنية مع "عودة الجماهير" إلى المدرجات بأعدادٍ متزايدةٍ. أولاً في المباريات القارية ثم في المسابقات المحلية، حتى صدر قرارٌ في مايو 2024 بالسماح بتشغيل الملاعب بكامل طاقتها الجماهيرية. وإذا كان النظام يأمل أن تفرض تدابيره على الجماهير الاكتفاء بالتشجيع، فثمّة مقاومةٌ لهذا التوجه تظهر في المدرجات وعبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تعبّر بها الجماهير عن موقفها.


قصدَ إخلاء المدرجات وتفكيك روابط المشجعين فتحَ المجال أمام الإعلام الرياضي، التابع للسلطة السياسية والقريب منها، ليهيمن على مجال كرة القدم. احتاج فرض هذه الهيمنة أكثرَ من إخلاء المدرجات. إذ كانت ثورة يناير قلصت القيود المفروضة على وسائل الإعلام، فصارت أكثر تنوعاً ونقداً للسلطة في تناولها الموضوعات المختلفة. فانصرفت الجماهير إليها وتركت الإعلام الرياضي الذي عانى تراجعاً كبيراً بسبب توقف النشاط الكروي بعد حادثة بورسعيد.

تطور الإعلام الرياضي في العقد الأول من الألفية الجديدة، مع بقائه تحت سيطرة رجال أعمالٍ مقربين من السلطة السياسية. في هذا العقد تأسست بعض القنوات الخاصة، على رأسها قناة دريم المملوكة لرجل الأعمال أحمد بهجت. بعد أشهرٍ من إطلاقها سنة 2001 بدأت القناة تبثّ برنامجاً رياضياً أسبوعياً قدمه أحمد شوبير. وفي سنة 2006، قدم شوبير برنامجاً يومياً على شاشة القناة قبل أن ينتقل عنها في العام التالي للتلفزيون الحكومي ويقدم فقرةً يوميةً في برنامج "البيت بيتك" الذي بثته القناة الثانية والقناة الفضائية المصرية.

حلّ خالد الغندور، لاعب نادي الزمالك ومنتخب مصر السابق، محل أحمد شوبير في قناة دريم. وفي السنة نفسها أسّس رجل الأعمال نبيل دعبس مجموعة قنوات "مودرن"، وخصّص منها قناة "مودرن سبورت" للرياضة. فانضم إليها عددٌ من أشهر مقدمي البرامج الرياضية في مصر، منهم مدحت شلبي وعلاء صادق، قبل أن ينضم إليهم أحمد شوبير في مرحلةٍ لاحقة. وفي سنة 2008 أعلن النادي الأهلي بالتنسيق مع شبكة راديو وتلفزيون العرب، المملوكة لرجل الأعمال السعودي الراحل صالح كامل، إطلاق قناته التلفزيونية التي انطلقت رسمياً سنة 2010.

اجتذبت الصراعات المتكررة بين الرموز والهيئات الرياضية على شاشات القنوات الرياضية الجماهير. مثلاً، استمر الخلاف بين أحمد شوبير ومرتضى منصور على القنوات الفضائية سنواتٍ، استصدر خلالها مرتضى منصور عدّة أحكامٍ قضائيةٍ بإيقاف بث البرامج التي يقدمها شوبير. ولم يكن الخلاف بين أحمد شوبير ومرتضى منصور الوحيد. فقد شهدت الساحة الرياضية في السنوات السابقة للثورة صراعاتٍ مماثلةً بين مدحت شلبي وعلاء صادق، والأخير ولاعب الأهلي السابق مصطفى يونس، وشوبير والغندور، وشوبير وشلبي. وهي كلّها صراعات اجتذبت الجماهير وتحولت لموضوعاتٍ تغطيها وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة.

صرفت ثورة يناير 2011 الجماهيرَ عن متابعة القنوات الرياضية. وصل تأثير الإعلام الرياضي لذروته قبيل الثورة، حين صنع أزمةً سياسيةً بين مصر والجزائر على خلفية المباراة الفاصلة بين المنتخبين للتأهل لكأس العالم 2010. ومع اندلاع الثورة انفتح الباب أمام القوى السياسية والاجتماعية المختلفة لتعبّر عن نفسها في وسائل الإعلام. فأُطلِقت أكثر من خمسين صحيفةً جديدةً ما بين حزبيةٍ وخاصةٍ ومعها عشرات القنوات التليفزيونية، مثل "مصر 25" و"النهار" و"سي بي سي" وغيرها. وأعادت بعض الفضائيات التي تأسست قبل الثورة هيكلة برامجها لتركز على التطورات والصراعات السياسية، مثل قناة دريم وقناة أون المملوكة حينئذٍ لرجل الأعمال نجيب ساويرس. تحوّلت هذه القنوات أدواتٍ سياسيةً تستخدم في الترويج لمواقف القوى السياسية المتصارعة. فاتجهت إليها الجماهير باختلاف توجهاتها وشاركت في صناعة الأحداث بالتظاهر والاعتصام والانتخاب. وتراجعت أهمية الخلافات الرياضية التي اقتصر دور الجمهور فيها على المشاهدة.

سدّد إيقاف النشاط الرياضي بعد حادثة بورسعيد الضربةَ القاضية للإعلام الرياضي. مع تحول الاهتمام بالخلافات إلى القنوات العامة، اقتصرت قدرة القنوات الرياضية على اجتذاب الجمهور على المحتوى الرياضي الذي تقدمه وتضاءلت مساحة متابعة الخلاف بين رموز المجال الرياضي. وبعد حادثة بورسعيد، ركزت البرامج الرياضية على المطالبة بالتحقيق في الحادثة واستضافة أعضاء الروابط وذوي الضحايا. بعد أشهر ركزت البرامج الرياضية على المطالبة بعودة الدوري. مثلاً، قدّم أحمد شوبير حلقةً ساخرةً في برنامجه على قناة "مودرن سبورت" في أكتوبر 2012، انتقد فيها إلغاء الدوري بعمل طبق سلطةٍ على الهواء، ليعبر عن أزمة الإعلام الرياضي في ظل غياب المحتوى. وفي 2013، أعلن مُلاك قناة "مودرن سبورت" إغلاقها "بسبب الخسائر الفادحة التي تعاني منها" في ظل توقف النشاط الكروي.


انشغلت السلطة السياسية منذ يوليو 2013 بإعادة تنظيم المجال الإعلامي. وفي القلب منع الإعلام الرياضي على النحو الذي يحقق أهدافها، وعلى رأسها ضمان استقرار النظام وإعادة الجماهير إلى مقاعد المشاهدين غير المؤثرين في الأحداث. واستندت استراتيجية السلطة إلى مسارَين متوازيين. أولهما فرض القيود على وسائل الإعلام السياسية وضبط خطابها، وثانيهما الاستثمار في وسائل الإعلام الرياضية لتستعيد جمهورها، فتنصرف إليها الطاقات وتساهم في تشكيل الخيال السياسي الملائم لطبيعة السلطة الحاكمة.

افتتح النظام المتشكل بعد التدخل العسكري حكمه بالإغلاق العنيف للمجال الإعلامي. فور انتهاء وزير الدفاع حينئذٍ عبد الفتاح السيسي من خطابه في مساء 3 يوليو 2013، والذي أعلن فيه عزل الرئيس محمد مرسي، أغلقت السلطات الأمنية عدداً من القنوات المؤيدة للرئيس المعزول. على رأسها قنوات "مصر 25" و"الناس" و"الحافظ" و"الرحمة"، بعد اتهامها بالتحريض على العنف وبث الفتنة. أما القنوات المملوكة لرجال أعمالٍ فتوقفت عن استضافة المعارضين المحسوبين على التيار الإسلامي، وفرضت قيوداً صارمةً على غيرهم من معارضي النظام. مثلاً، شكا حسام بدراوي، العضو البارز في الحزب الوطني الحاكم أثناء حكم مبارك، قسوة الرقابة وحذف أجزاءٍ من مقالاته. كذلك مُنع عرض مسلسل "أهل إسكندرية" بعد الانتهاء من تصوير نصف حلقاته على الأقل، بسبب موقف مؤلفه بلال فضل الناقد السلطةَ.

تزامن هذا الإغلاق مع ترميم الإعلام الرياضي ودعمه ليستعيد موقعه، وفق شروطٍ جديدةٍ تحددها السلطة السياسية. مكَّن التوقف الطويل للنشاط الكروي، والذي استمر قرابة سنتين، السلطةَ من فرض الشروط التي تريدها لعودته. وقد أضعفت الأزمة الاقتصادية الناتجة عن توقف النشاط سائر أطراف المنظومة، وأصبحت حاجتهم للنظام ليستعيدوا النشاط أكبر من حاجته إليهم ليصرف طاقة الجماهير بعيداً عن الصراع على الحكم. في ديسمبر 2013، انطلقت مسابقة الدوري وفق شروطٍ. منها منع الجماهير من حضور مباريات الدور الأول، "على أن يُنظر في الأمر مع انطلاق مباريات الدور الثاني". قصر هذا إمكان متابعة الجمهور المسابقة على وسائل الإعلام، التي ارتبطت قدرتها على العودة بقدرة النظام على حفظ الأمن واستكمال المسابقة.

كانت أولى خطوات هذا الترميم وضع إطارٍ جامعٍ لمكونات الإعلام الرياضي يحدّد توجهاتها ويضع سقفاً لخلافاتها. في أبريل 2014 رعى المرشح الرئاسي حينئذٍ عبد الفتاح السيسي صلحاً بين اثنين من أقطاب المجال الرياضي، مرتضى منصور وأحمد شوبير، أثناء لقاءٍ جمعه بالإعلاميين الرياضيين. تزامن ذلك مع تأكيد السيسي المتكرر على ضرورة توحد الإعلام خلف الدولة وتبني خطابها ونشره.

في الأشهر اللاحقة، ظهرت في الساحة الرياضية وجوهٌ إعلاميةٌ جديدة. ومنها إبراهيم فايق والذي أطل مذيعاً عبر قناة "سي بي سي"، المقرّبة من النظام آنذاك. كما ظهر هاني حتحوت مذيعاً في قناة "صدى البلد"، المملوكة لرجل الأعمال ونائب رئيس حزب مستقبل وطن محمد أبو العينين. وعُيّن سيف زاهر، ابن شقيق رئيس اتحاد الكرة المصري سمير زاهر، مذيعاً على قناة "الحياة". وظهرت معهم وجوهٌ جديدةٌ أخرى في قنواتٍ مختلفةٍ لتزاحم الوجوه التقليدية في الإعلام الرياضي.

ويختلف المذيعون الجدد عن القدامى في كونهم أحوج لدعم النظام. قبل 2013، كانت الغالبية العظمى من مقدّمي البرامج الرياضية من لاعبي الكرة المعتزلين. فهؤلاء يحظون بقدرٍ من الشعبية بسبب سنواتهم في الملاعب، ويتمتعون بتأييدٍ ومتابعةٍ من جماهير النادي الذي لعبوا له، والتي ترى فيهم تعبيراً عن مصالح ناديها. لا يتمتع المذيعون الجدد بهذه المزايا. إذ ليس لديهم خلفية رياضية، ولا علاقة بجماهير أحد الناديين الكبيرين في مصر (الأهلي والزمالك) يمكن أن يستندوا إليها لضمان بقائهم في موقفهم. وبالتالي، فلم يكن ثمّة سبيل لاستمرارهم إلا بخضوعهم التامّ للقواعد والنهج الإعلامي الذي تفرضه السلطة السياسية.


تزامن ظهور الوجوه الإعلامية الجديدة مع إطلاق عددٍ من القنوات والبرامج والمنصات الرياضية التي يسيطر عليها النظام الجديد. لم تكتفِ السلطة الجديدة كسابقتها بإدارة الإعلام الرياضي من خارجه عن طريق القوانين المقيدة وممارسة الضغط. بل تدخلت فيه بتأسيس الشركات وشراء القنوات.

في سنة 2016، أسّس رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة، القريب من أجهزة الأمن، شركة إعلام المصريين التي اشترت عدداً من القنوات التلفزيونية والمواقع الإخبارية. على رأسها شبكات تلفزيون "الحياة" و"سي بي سي" و"أون"، وموقع وجريدة "اليوم السابع" (صوت الأمة). وفي العام التالي، باع أبو هشيمة أسهمه في الشركة لشركة "إيغل كابيتال" للاستثمارات المالية، المملوكة لجهاز المخابرات العامة، قبل أن تنتقل ملكية القنوات للشركة المتحدة التي أعادت تنظيم القنوات بإلغاء بعضها ودمج بعضها مع بعض. انتهت الشركة للتركيز على قنوات "أون تايم سبورت"، التي تأسست سنة 2020 بدمج قناتي "أون سبورت" (التابعة لمجموعة قنوات أون) و"تايم سبورتس" (التي أطلقتها الهيئة الوطنية للإعلام بالتعاون مع إعلام المصريين أثناء تنظيم مصر كأس الأمم الإفريقية سنة 2019)، قبل أن يتغير اسمها في فبراير 2025 إلى "أون سبورت".   

استثمرت الشركات المملوكة للدولة في الإعلام الرياضي بدرجةٍ كبيرة. في أشهرٍ قليلةٍ من تأسيسها، اجتذبت قنوات "أون تايم سبورت" أهم المذيعين الرياضيين. مثل شوبير وشلبي وفايق وزاهر، ومعهم مجموعة من أشهر المحللين الكرويين الذين حصلت القناة على خدماتهم حصرياً. وحصلت الشبكة على حقوق البث الحصري لمسابقات الدوري والكأس المصريين، وحصلت على حقوق بث عددٍ من المسابقات الأخرى. مثل مسابقات الكأس في ألمانيا وهولندا، ومباريات المنتخب المصري المقامة على أرضه، إضافةً لعددٍ من مسابقات الرياضات الأخرى. مثل كأس العالم ودوري أبطال أوروبا لكرة اليد، وعددٍ من مسابقات كرة السلة والكرة الطائرة والاسكواش حول العالم.

كان استثمار أجهزة الدولة في الإعلام الرياضي سياسياً لا اقتصادياً. وبحسب تقرير نشرته الصحفية عايدة سالم بعنوان "عن الرئيس وإعلامه" في موقع "مدى مصر" سنة 2023، حاولت السلطة بهذا الاستثمار منافسة قنوات "بي إن سبورتس" القطرية، المالكة حقوقَ البث الحصري لعددٍ من المسابقات الدولية والدوريات الأوروبية الكبرى، في إطار الخلافات السياسية بين القاهرة والدوحة.

نجحت القناة بسبب هذه الاستثمارات وحقوق البث الحصرية التي حصلت عليها في زيادة مشاهديها. بل تصدرت قائمة القنوات المصرية الأكثر مشاهدةً، بحسب تصريح الرئيس التنفيذي للشركة المتحدة أثناء مهرجان العلمين في صيف 2024. وفي سبيل تحقيق هذا النجاح، تحملت الشركة المتحدة الكثير من الخسائر المالية. بعض تلك الخسائر أعلن عنه رسمياً على لسان مسؤولين بالشركة. مثل اعتراف المدير التنفيذي السابق للشركة حسن صالح تكبّد الشركة خسائر وصلت نصف مليار جنيهٍ سنة 2016 (كان الدولار الأمريكي يساوي ستة عشر جنيهاً حينها). البعض الآخر كشفت عنه تقارير صحفية تقدّر حجم خسائر الشركة المتحدة بعشرين مليار جنيهٍ خلال السنوات الماضية.

رغم الخسائر الاقتصادية، وظفت السلطة نجاح القنوات الرياضية في الترويج لمشروعها السياسي بوسائل عدّة. أولاً، استغلت السلطة إقبال المصريين على مشاهدة القناة ببث المواد الإعلانية التي تروّج للقيادة السياسية وتشيد بمشروعات البنية التحتية التي نفذتها، وكذلك مشروعات التكافل الاجتماعي مثل مبادرة حياة كريمة. كذلك التسويق لوجهاتٍ سياحيةٍ شهدت طفرةً عمرانيةً مثل العلمين الجديدة، والدعوة للتبرع للجهات الخيرية والتنموية التي ترعاها السلطة وعلى رأسها صندوق تحيا مصر الذي يشرف عليه رئيس الجمهورية.

ثانياً، وظّفت السلطة الإقبال على المواد الرياضية التي تمتلك القنوات حقوقها الحصرية في صرف الطاقات إلى صراعاتٍ كرويةٍ بعيدةٍ عن مجال التنافس على الحكم. مثلاً، استثمرت القناة في الصراع الكروي بين ناديَي الأهلي والزمالك عن طريق جمع الأضداد. إذ وظّفت أحمد شوبير القريب من إدارة الأهلي، ومعه شلبي الذي تولّى تقديم صوت الزمالك في القناة. وأكثرت من تقديم برامج تستضيف صحفيين أو لاعبين سابقين يمثل كلٌّ منهما أحد الناديين. وحرصت القناة ومعها سائر القنوات الرياضية على إذكاء السجال خارج الملعب بين إدارتي الأهلي والزمالك، بمتابعة الأزمات والقضايا والاتهامات المتبادلة التي كالها كلّ طرفٍ للآخَر.

ولم تقتصر ملكية الشركة المتحدة على قنوات "أون تايم سبورتس". بل حصلت الشركة كذلك على حق تشغيل قناتَي الأهلي والزمالك، بعد أن أُطلقت الأخيرة مطلع سنة 2020. عبر إدارات القناتَين، سمحت الشركة برفع حدّة الاستقطاب بين الناديَين ونشر موادّ يتبادل فيها نجوم كلّ نادٍ الهجوم وتثير قضايا خلافيةً مثل المستحق لجائزة نادي القرن الأفريقي أو ترتيب المباريات المحلية وتأجيلها. مثلاً، ظهر مرتضى منصور على قناة الزمالك بصورةٍ شبه يوميةٍ للهجوم على رموز النادي الأهلي. فردّت قناته عبر برامج، مثل "ملك وكتابة" الذي قدّمه عدلي القيعي وإبراهيم المنيسي.

ثالثاً، روّجت السلطة في القناة خطاباً يساعد في هيمنة الخيال السياسي للنظام، مستبعداً الجماهير من دائرة الفعل السياسي. وذلك من خلال نزع صفة المواطنة عنهم وما يترتب عليها من حقوقٍ في المشاركة في القرار. فحوّلهم إلى مشاهدين يقتصر دورهم على الثناء على بعض الأطراف والقرارات، ونقد بعضها دون الحق في التدخل. فالمجال الكروي غير ديمقراطي بطبيعته، وفيه تمييز واضح بين أصحاب الأموال والإدارات المتحكمين في اللعبة من جهةٍ، والجمهور المستهلك لها من جهةٍ أخرى. وتطبيع هذا الفرق في الحياة العامة يساعد على تقويض أفكار المواطنة.

مثلاً، أصبح السماح بحضور الجماهير في المباراة قراراً سيادياً لوزارة الداخلية، لا يخضع لأيّ معايير موضوعيةٍ وليس للجماهير فيه حق. وعند سماح الوزارة بدخول الجماهير، يوجّه لها الإعلاميون الشكر ويحتفون بقرارها. وكذلك قد تبدي الجماهير في المدرجات اعتراضها على استقدام إدارة ناديها لاعباً جديداً. كما حدث عندما تعاقد النادي الأهلي مع إمام عاشور، لاعب الزمالك السابق، الذي سبق له سبّ رموز الأهلي. ولكن القرار يبقى في يد الإدارة، التي تؤكد –على لسان بعض رموزها الإعلامية مثل عدلي القيعي– أن الإدارة تعمل لصالح الجماهير ولكن هذه الجماهير لا تملك محاسبتها ولا التدخل في قرارها.

ومع إعادة السلطات هندسة الإعلام الرياضي ترسيخاً لدعائم الحكم، إلّا أن نجاحها لم يكن كاملاً. من جهةٍ، سمحت وسائل التواصل الاجتماعي بكسر احتكار السلطة للإعلام الرياضي. فظهر عددٌ من مقدمي البرامج الرياضية وانتقدوا سيطرة الدولة على الإعلام الرياضي. كما روّج بعضهم خطاباً مؤامراتياً معادياً للسلطة، برّر فيه تراجع نتائج ناديه بانحياز السلطة إلى النادي المنافس. وانتقد بعض هؤلاء سعي السلطات لإسكات المدرجات، وانحازوا إلى الجماهير في تعبيرها عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة. ومن جهةٍ أخرى، هدّدت تغذية السجال بين قطبي الكرة المصرية، الأهلي والزمالك، بخروج المجال عن السيطرة. وذلك بعد أن وصلت الصراعات بين قيادات الناديين ساحات القضاء، الذي أصدر سنة 2023 حكماً بحبس رئيس نادي الزمالك مرتضى منصور بعد إدانته في جريمة سبٍّ وقذفٍ، صدر بعدها قرارٌ بإقالته من رئاسة النادي.


لم يكن توظيف مجال كرة القدم لخدمة الأهداف السياسية للنظام ممكناً من دون إخضاع أطرافه الرئيسة: الأندية المتنافسة في المسابقات. قبل الثورة، حاولت إدارات الأندية الموازنة بين حرصها على إرضاء الجماهير –سبب قوتها في مواجهة السلطة– وحاجتها إلى إرضاء السلطة السياسية التي تعمل في إطارها. ثم ظهرت في العقد الأخير أندية تابعة لمؤسساتٍ غير جماهيريةٍ، كانت أقرب للسلطة.

بدأ ظهور الأندية التابعة لمؤسسات الدولة في مسابقات الكرة المحلية والقارية قبل توقف النشاط. مثلاً، فاز فريق "غزل المحلة"، التابع لشركة مصر للغزل والنسيج، ببطولة الدوري في موسم 1972. وفاز نادي "المقاولون العرب"، التابع لشركة المقاولون العرب، بالبطولة ذاتها موسم 1982. وفاز في العقد ذاته بكأس الكؤوس الإفريقية ثلاث مرّات. وعلى تبعيتها لمؤسساتٍ وكياناتٍ صناعيةٍ واقتصاديةٍ، تمتعت هذه الأندية بدعمٍ جماهيري. مثلاً، عُدّ نادي "غزل المحلة" ممثلاً لجماهير محافظة الغربية في مسابقة الدوري، وامتلأت المدرجات في مبارياته بالجماهير. أما نادي "المقاولون" فحاز شعبيةً كبيرةً بمشاركته في البطولات الإفريقية، التي حضر مبارياته فيها جمهور كبير.

ومع مطلع الألفية، ظهرت عدّة أنديةٍ تابعةٍ لشركات القطاع العام في مسابقة الدوري وحققت نجاحاً ملحوظاً. لم تكن هذه الأندية تستند إلى ظهيرٍ جماهيريٍ مثل سابقتها. بل استثمرت إدارات الشركات فيها بقصد الترويج للشركات بوجود اسمها في مسابقة الدوري، واستثمرت في قطاعات الناشئين لتطويرها وبيع عقودهم بعد ذلك للأندية. كان نادي "إنبي"، الذي تملكه الشركة الهندسية للصناعات البترولية والبتروكيماوية (إنبي) وهي إحدى شركات البترول المصرية، أنجح هذه الأندية. إذ فاز ببطولة كأس مصر مرتين في 2004 و2011. وحقق مكاسب ماديةً من بيع عقود لاعبيه، بحسب تصريحات أدلى بها رئيس النادي الحالي أيمن الشريعي لقناة "أون سبورتس".

وظهرت أندية تابعة للمؤسسة العسكرية، وحققت نجاحاتٍ مستفيدةً من علاقتها بالمؤسسة. في العقد الأول من الألفية، ظهرت ثلاثة أنديةٍ تابعةٍ للمؤسسة العسكرية في مسابقة الدوري الممتاز. "حرس الحدود" و"طلائع الجيش" و"الإنتاج الحربي". كان نادي "حرس الحدود" الأنجح بين هذه الأندية، بفوزه ببطولة الكأس موسمي 2008 و2009 وبطولة كأس السوبر المصري سنة 2009. واستفادت هذه الأندية من ارتباطها بالمؤسسة العسكرية في ضم اللاعبين لصفوفها أثناء أدائهم التجنيد الإلزامي. مثلاً، اضطر لاعب المنتخب المصري عبد الستار صبري عند انتهاء رحلته الاحترافية في أوروبا في 2005 إلى تغيير وجهته من النادي الأهلي –الذي كان يفاوضه– إلى نادي "طلائع الجيش"، إذ لم يكن قد أدّى الخدمة العسكرية.

وظهرت في الفترة ذاتها أندية القطاع الخاص، التي سعت للترويج لعددٍ من المشروعات. في 2003، أسّس رجل الأعمال سميح ساويرس نادي "الجونة"، أول نادٍ خاصٍ متخصصٍ في كرة القدم. وصل النادي للدوري الممتاز أوّل مرّةٍ في موسم 2009. فلفت الأنظار للمدينة الساحلية التي ضخّ فيها مؤسّسه مليارات الجنيهات ليحولها وجهةً سياحيةً على ساحل البحر الأحمر.

وعلى كثرتها، كانت هذه الأندية هامشيةً في المجال الكروي المصري. إذ ظلّت المنافسة الأساسية على الألقاب بين الفرق الجماهيرية، وعلى رأسها الأهلي والزمالك وفرق المحافظات: "الإسماعيلي" في الإسماعيلية و"المصري" في بورسعيد و"الاتحاد" في الإسكندرية و"المنصورة" في الدقهلية و"غزل المحلة" في الغربية، وبعض الأندية التي تناوبت على تمثيل محافظات الصعيد. ومن هذه الأندية، ظلت الجماهير حاضرةً في المشهد الكروي مؤثرةً في قراراته.


أعاد توقف النشاط الرياضي تنظيمَ العلاقة بين السلطة السياسية والأندية الرياضية، التي اضطرتها الأزمة الاقتصادية الناتجة عن توقف النشاط للالتجاء للنظام والقبول بشروطه لعودة مسابقة الدوري. ومن موقع القوة، غيّر النظام شروط المعادلة. فلم يكتفِ بفرض قواعد صارمةٍ تُخضع الإدارات إليه وتقلّص هامش استقلالها ومناورتها. بل شارك في مجال الكرة واحتلّ قلبه مباشرة.

مع عودة مسابقة الدوري سنة 2013، تواطأت إدارات الأندية الرياضية والسلطة السياسية على استبعاد الجماهير من المشهد الرياضي. أما السلطة السياسية فقام مشروعها على استبعاد الجماهير من المشاركة في القرار. لتستقر الأوضاع بعد سنتين من الاضطراب، حاولت الجماهير فيها المشاركة في إدارة أمورها بالتظاهر والاعتصام والاقتراع. وأما الأندية الرياضية، فأرادت التخلص من الضغط الجماهيري الحائل دون عودة النشاط بعد حادثة بورسعيد. وكان أعضاء رابطة مشجعي الأهلي اعتصموا عدّة مرّاتٍ بين سنتَيْ 2012 و2013. حاصروا مقر النادي، ومنعوا اللاعبين من التدريب والفريق من تنظيم المباريات الودية، وأصروا أن تساعدهم إدارة النادي في القصاص لزملائهم قبل استئناف النشاط الرياضي. في حين عانت الأندية اقتصادياً بسبب إلغاء مسابقة الدوري، وبسبب الضغط الجماهيري من روابط الأندية المختلفة الذي أدّى لإلغاء المسابقات الودية المقترحة. ومنها المسابقة على "كأس الشهيد" التي اقترحها اتحاد الكرة بديلاً عن مسابقة الدوري في 2012.

استفادت السلطات أكثر من إدارات الأندية من عودة النشاط مع استبعاد الجماهير. إذ أدّت هذه العودة لفقدان إدارات الأندية الجماهيرية ظهيرها، فخضعت للضغط الحكومي. في الأشهر التالية، أسفر الضغط والتدخل الحكومي في انتخابات الأندية عن صعود إداراتٍ جديدةٍ، أقرب وأخضع للسلطة السياسية من سابقتها.

في انتخابات الأهلي، نجحت قائمة محمود طاهر، المدعوم من النائب العامّ السابق عبد المجيد محمود وعددٍ من رموز النظام السياسي، في مقابل قائمة إبراهيم المعلم التي حظيت بدعم رئيس النادي حينئذ حسن حمدي ونائبه محمود الخطيب. وذلك في انتخاباتٍ شارك فيها أقلّ من ثمانية عشر ألف عضوٍ، من أصل نحو مئةٍ وثلاثين ألف عضوٍ يحقّ لهم الاقتراع. وفي الزمالك فاز مرتضى منصور، القريب من السلطة، برئاسة مجلس الإدارة. وذلك في انتخاباتٍ صوّت فيها أقلّ من أربعة عشر ألف عضوٍ، من أصل نحو سبعين ألف عضوٍ يحقّ لهم الاقتراع. في الأشهر اللاحقة أبدت إدارات الناديين ومعهما اتحاد الكرة بدرجاتٍ متفاوتةٍ مرونةً واستجابةً لطلبات السلطة السياسية، سواءً المتعلقة بروابط المشجعين أو وظيفة النظام السياسي. مثلاً، أعلن جمال علام رئيس الاتحاد المصري لكرة القدم حينئذٍ، دعمه المرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي في انتخابات الرئاسة. كما دعا الجماهير لانتخابه، وهو الموقف الذي شاركه فيه عدد من رؤساء الأندية الرياضية على رأسهم مرتضى منصور.

لم يقتصر أثر استبعاد الجماهير على تعيين إداراتٍ جديدةٍ للأندية، بل أدّى لتراجع موقع الأندية الجماهيرية. في السنوات اللاحقة، تراجع ترتيب الأندية الشعبية عدا الأهلي والزمالك في ترتيب جدول الدوري، وهُدد بعضها بالهبوط للدرجات الأدنى من المسابقة. مثل النادي "الإسماعيلي"، الذي احتل المركز الثاني في موسم 2017 ثم بدأ سقوطه إلى قاع جدول الدوري لينجو من الهبوط بصعوبةٍ في ثلاثة مواسم متتالية. وابتعد ناديا "الاتحاد السكندري" و"المصري" البورسعيدي عن المنافسة، وتأرجح ناديا "أسوان" و"غزل المحلة" بين الدوري الممتاز ودوري المحترفين (الدرجة الأدنى من التنافس)، وفشل نادي "المنصورة" في العودة للدوري الممتاز منذ هبوطه منه موسم 2009.


مع اكتمال مشروع استبعاد الجماهير، تغيّرت صورة الاستثمار في الأندية الرياضية. صاحب تراجع الأندية الشعبية هيمنة أندية المؤسسات، ومعها الأهلي والزمالك، على مجال كرة القدم. وظهرت أندية جديدة لرجال أعمالٍ وثيقي الصلة بالسلطة السياسية. وبهؤلاء اللاعبين الجدد، بنت السلطة شبكاتٍ جديدةً للحكم والنفوذ في المجال الكروي.
فتح النظام السياسي المجال أمام استثمار رجال الأعمال القريبين منه في مجال كرة القدم.

في سنة 2017، أقرّ البرلمان قانون الرياضة، الذي سمح بتأسيس الأندية الرياضية شركاتٍ وسمح ببيعها. في السنوات التالية، اشترى رجال الأعمال القريبون من النظام أنديةً وفرقاً لكرة القدم. فاشترى السعودي تركي آل الشيخ النادي الأسيوطي، وأعاد تسميته "بيراميدز" (الأهرامات)، سنة 2018. وفي سنة 2021 صعد نادي "سيراميكا كليوباترا"، المملوك لرجل الأعمال محمد أبو العينين، للدوري الممتاز. في السنة نفسها صعد نادي "كوكاكولا"، للدوري الممتاز. فاشترته مجموعة من رجال الأعمال المقربين من السلطة، على رأسهم وليد دعبس وأحمد دياب، عضوي حزب "مستقبل وطن" صاحب الأغلبية البرلمانية. أعادوا تسميته نادي "فيوتشر" (المستقبل). وفي موسم 2023 صعد نادي "زد إف سي"، المملوك لرجل الأعمال أنسي ساويرس، نجل نجيب ساويرس، إلى الدوري الممتاز.

لم يقصد المستثمرون في مجال كرة القدم الربح الاقتصادي، فمعظم الأندية لا تحقق هذا الربح.  بحسب موقع "ترانسفير ماركت"، استثمر نادي "سيراميكا كليوباترا" –أكثر الأندية الجديدة حصداً للألقاب– ما يزيد عن ثلاثة ملايين دولارٍ أمريكيٍ في شراء عقود لاعبين منذ صعوده للدوري الممتاز. فيما لم تزد مكافآت البطولات التي حققها عن عشرات الآلاف من الدولات. وبحسب الموقع نفسه، لم يحقق أي نادٍ من أندية كرة القدم في مصر أرباحاً من البطولات ولا من بيع عقود اللاعبين. وليس لهذه الأندية ظهير جماهيرٍ تستغله في تحقيق الأرباح، سواءً ببيع التذاكر أو بعقود الرعاية.

وبحسب تقريرٍ لمركز الدراسات الرياضية السويسري نقلته صحيفة "اليوم السابع" المصرية سنة 2022، بلغ إجمالي مصروفات الدوري المصري في الأعوام الخمسة السابقة تسعةً وخمسين مليون يورو. فيما لم تتخطّ إيراداته ثلاثة وثلاثين مليون يورو. ولم تتخط عوائد بيع اللاعبين المصريين للخارج في الفترة من 2011 إلى 2021، بحسب تقرير دوري الشرق المالي للأندية العربية، 116 مليون دولار، مقابل 107 مليون دولار أنفقتها الأندية المصرية على شراء عقود لاعبين أجانب في الفترة ذاتها. وأمام هذه المؤشرات الاقتصادية، ينبغي البحث عن أسبابٍ أخرى لاستثمار رجال الأعمال في كرة القدم.

تحوّل مجال كرة القدم وسيلةً لبناء شبكات علاقاتٍ بين النظام ورجال الأعمال المرتبطين به. شراء أحمد دياب حصةً في نادي "فيوتشر" وتولّيه رئاسة شركة الكرة فيه تزامن مع انتخابه في مجلس الشيوخ على قائمة حزب مستقبل وطن، وتولّيه رئاسة رابطة الأندية المصرية المحترفة المشرفة على تنظيم مسابقة الدوري. وشاركه في مجلس إدارة الشركة أحمد شوبير، المذيع حينئذٍ في قناة "أون تايم سبورتس". أما سيف زاهر، زميل شوبير في القناة، فتولى الرئاسة التنفيذية لنادي "زد إف سي".


سمح تجميد النشاط الرياضي في سنوات الثورة بإعادة هندسته بعد هزيمتها على أسسٍ مختلفةٍ، تخدم مصالح النظام وتروج خياله السياسي. واستند ذلك بالأساس إلى تحييد الروابط الجماهيرية لإعادة الجماهير إلى مقاعد المشاهدين، وإبعادهم عن دوائر القرار. إضافةً إلى بناء شبكةٍ إعلاميةٍ رياضيةٍ تساهم في صرف الاهتمام بعيداً عن صراعات الحكم. وتساهم أيضاً في صناعة خيالٍ سياسيٍ مهيمنٍ مناقضٍ لفكرة المواطنة. وتتدخل هذه الشبكة في مؤسسات المجال الرياضي بهدف إخضاعها لإرادة السلطة السياسية وتقليل أثر الجماهير عليها، واستغلالها في تحقيق الأرباح المادية وبناء شبكاتٍ حكمٍ جديدة.

نجحت هذه التحولات في تغيير موازين القوى في المجال الرياضي على نحوٍ يسمح بتوظيفه لخدمة مصالح النظام. ويُعزى سبب نجاح الخطة بالأغلب للقبضة الأمنية الصارمة التي سمح بها الظرف السياسي والرياضي الاستثنائي. مكّنت هذه الظروف السلطة السياسية من استدعاء حالة الطوارئ والضرورة للتنكيل بالجماهير واستبعادها. ومن ثمّ إعادة ترتيب المجال في ظلّ مقاومةٍ محدودةٍ وموازين قوىً مختلّة.

ليس هذا النجاح مع ذلك حاسماً. إذ تحول أسباب دون اكتماله، وتضطرّ النظام للتفاوض الدائم والمتجدّد على موضع كرة القدم في المجال العام المصري. فمع كلّ استبعادٍ للجماهير، تقلّ أهمية المجال الذي يريد النظام استغلاله. فتضيع استثماراته فيه وتتهدد هيمنته الإعلامية بانصراف الجماهير إلى قنواتٍ لا يملك سيطرةً عليها، لمتابعة مسابقاتٍ لا يملك حقوق بث مبارياتها. ومع فرض الرقابة الإعلامية ينصرف المشاهدون عن القنوات التي يحاول النظام بها ترويج روايته وخياله السياسي إلى فضاءاتٍ إلكترونيةٍ لا يستطيع النظام بالضرورة السيطرة عليها. ومع توغل النظام في الأندية وإداراتها تتهدد مصالح حلفائه السياسية والاقتصادية على نحوٍ يضطرهم لمقاومة توغله.

لم يأتِ نظام الثالث من يوليو في مصر بإعادته هندسة مجال كرة القدم في مصر بسابقةٍ تاريخيةٍ. بل هو استمرارٌ لنهجٍ سبقته إليه بعض النظم السلطوية حول العالم. إذ استثمرت في كرة القدم لإلهاء الشعوب وتغييبها، وتحقيق حالةٍ من النشوة القومية لأغراضٍ سياسية.

اشترك في نشرتنا البريدية