في محاولتي لشرح الكلمة للطلبة وسبب وصف الليبيين القذّافيَّ بهذا الوصف، وجدتُني في مواجهة علاقة العقيد مع اللغة. المشكلة لم تكن في وصف القذافي بالقائد، فهو قائد ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 التي أطاحت بالنظام الملكي. ولكن في وصفه بالأخ، ذلك اللفظ الذي تبدو ترجمته لأيّ لغةٍ مهمةً سهلة. شرحت للطلبة سياقَ وصف العقيد بالأخ، فقلت إنه يؤمن بضرورة إلغاء الألقاب التشريفية التي قد تدلُّ على التفاوت بين البشر. هنا كلمة أخ، سواءً أُرفِقَت بالقائد أو بالعقيد كما كان يُنادى، لا تعني فقط الظاهر منها. إنّما تجتاز ذلك لتصبح انعكاساً لعقلية القذّافي المتشابكة مع أصوله البدوية وتطلعاته العروبية والاشتراكية التي حاول التبشيرَ بها وتطبيقَها في ليبيا.
تعطي كلمة "الأخ" في قاموس العقيد لمحةً عن علاقته المعقّدة باللغة. فقد حاول منذ السبعينيات خلقَ مجتمعٍ إنسانيٍ جديدٍ، مستخدماً اللغةَ إحدى الأدوات المركزية لعملية الهندسة هذه. كان العقيد واعياً باختياراتِه المفرداتِ وتنقيتِها واختراعِ مصطلحاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ جديدةٍ تخدم سيطرته على المجتمع. أصبحت اللغة مركز اهتمامٍ في منظومة العقيد السياسية، التي يعبّر عنها في "الكتاب الأخضر" الذي بدأ نشره منذ سنة 1975. مثلاً، خلق القذافي مصطلحاتٍ سياسيةً مثل "الجماهيرية" للتعبير عن دولة الجماهير، لتكون النظام المعبّر عن الجماهير بعيداً عن الملكيات والجمهوريات والسلطنات والإمارات، وهي أنظمةٌ كان يراها لا تعبّر عن الديمقراطية الحقيقية مهما ادّعت.
هذا الهوس باللغة جعل العقيد يطوّعها ويغيّر مواقفه منها. وإن بدت تصريحاته اللغوية كقولِه الدائم إنّ "الديمقراطية تعني ديمو كراسي، أي الدهماء على الكراسي"، أحياناً مضحكةً لكثيرٍ من العرب والغرب، إلّا أنّها تعبّر عن إيمان القذّافي العميق بأفضلية اللغة العربية على غيرها من لغات العالم. وتعبّر أيضاً عن نوعٍ من الأصولية اللغوية والأخذ بظواهر الأمور عند القذّافي، مهما كان الظرف السياسي الذي يمرّ به، كتحوّله من العروبة إلى الإفريقانية.
بهذا مثّل القذافي نهجاً جديداً لم يكن شائعاً في اللغة السياسية الليبية والعربية. ففي خطاب الانقلاب العسكري، والذي يُعرف تاريخياً بالبيان الأول لثورة الفاتح، المُذاع عبر إذاعة بنغازي في صباح 1 سبتمبر 1969، يمكن للمرء سماع صوت الملازم الأوّل الشابّ معمر القذّافي وهو ينادي الشعب الليبي بلغةٍ محمّلةٍ برؤية قادة النظام الجديد عن الإسلامية والعروبية والاشتراكية. بدأ العقيد خطابه بإعلان قيام الثورة تنفيذاً لإرادة الشعب الليبي الحرّة وتحقيقاً لأمانيه الغالية في الإطاحة بالنظام الملكي "الرجعي المتخلف المتعفن، الذي أزكمت رائحته النتنة الأنوف". ثم بشّر جماهير الشعب الليبي بشمس الحرية التي طلعت عليهم ذلك الصباح ليكونوا جميعاً متساويين، فلا "مهضوم ولا مغبون ولا سيّد ولا مَسود، بل إخوةٌ أحرار".
وعلى الحمولة العقائدية التي يحملها الخطاب، إلّا أنّ أهمَّ ما فيه هو كونه نموذجاً لخطاب العقيد الليبي ومعجم المصطلحات الثورية التي يستخدمها، لاسيما في اختياره الألقاب وألفاظ المخاطبة.
اشتُهِر العقيد منذ بداية حكمه بلغةٍ جريئةٍ تجتاز حدود الدماثة السياسية التي اعتادَها الليبيون من سياسيّي العهد الملكي. وكانت هذه اللغة الأداةَ التي يترجم بها القذّافي أفكاره الاشتراكية وخلفيته البدوية. فلم يمضِ سوى شهريْن على الثورة حتى عقدت قمّة الرباط في 23 ديسمبر 1969، فحضرها العقيد على رأس وفد الجمهورية الليبية الوليدة. يحكي الصحفي المصري محمد حسنين هيكل، المقرّب من الزعيم جمال عبد الناصر، في كتابه "كلام في السياسة"، في طبعته لسنة 2002، إنّ العقيد انتفض عندما قبّل مولاي عبد الحفيظ العلوي، مدير التشريفات الملكية والأوسمة بالمغرب، يدَ الملك المغربي الحسن الثاني آذناً بالبدء بالقمة. صرخَ العقيد: "ما هذا؟ عدنا إلى عصر العبودية.. لا، لا.. هذا شيء مرفوض". ويستمر هيكل في سرده ليقول إنّ العقيد خاطَب الحسن الثاني والملك السعودي فيصل بن عبد العزيز بأسمائهم المجرّدة، أي "يا حسن" و"يا فيصل".
أغضب تجاوز الحدود الدبلوماسية الحكّامَ العرب، فهم لم يعتادوا سماع أسمائهم مجرّدة. وبحسب هيكل، خرج الملك فيصل غاضباً بسبب ذلك، وناقش المجتمعون في الاستراحة "قواعد السلوك في حضرة الملوك"، لكن العقيد لم يقتنع بها فامتنع عن حضور بقية الجلسات.
تكشف هذه الحادثة عن إيمان القذّافي بضرورة إلغاء التمايز عبر اللغة. فهو لم يعترف بألقاب التشريف والتكبير، ورأى الحكامَ العربَ منذ اللحظة الأولى لصعوده إلى السلطة مهووسين بالترفع عن بقية البشر. ففي حواره مع طلبة الجامعة الليبية بطرابلس في يناير 1970 صرّح لهم عن رفضه القاطع ألقاب التبجيل وعبادة الأشخاص، حتى ألقاب مثل "السيد" و"الموقّر" التي قد تلحق أحياناً بأسماء المسؤولين كالقول "السيد الوزير فلان". بل صرّح العقيد للطلبة أنّ من أوائل قرارات مجلس قيادة الثورة الذي يقوده كان إلغاء هذه الصيغ والمفردات. ولم يرضَ القذافي في البداية إلا بلقب "الأخ العقيد" الذي تحوّل بعدها في النصف الثاني من السبعينيات إلى "الأخ قائد الثورة".
أصبحت كلمة "أخ" رديفةً للقذافي في أحاديثه ولقاءاته وخطاباته الرسمية، يخاطب بها الناس كافة. واستمر هذا في كل المناسبات السياسية المحلية والعربية والدولية حتى مقتل القذّافي سنة 2011. ففي قمة الدوحة سنة 2009، وجّه حديثه إلى الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، بعد أعوامٍ من القطيعة بقولِه "أخي عبد الله"، ليخبره أنّ المشكلة الشخصية التي نشبت بينهما قبلها بأعوامٍ قد انتهت وأنّه يمدُّ له يد الصفح من جديد.
امتد اختيار كلمة "أخ" ونظيرتها "أخت" إلى سائر مؤسسات الدولة وتعاملاتها، في المراسلات والبيانات والتعاملات التجارية والإذاعة والتلفزيون. لم تلتصق الكلمة بالعقيد فقط تمييزاً له عن غيره، إنّما جاءت لتُحقّق نبوءته التي قالها في بيان الثورة "لا سيّد ولا مَسود، بل أخوةٌ أحرار". فأصبحت كلمةً معبّرةً عن نظام الحكم الاشتراكي، في تناصٍّ مع كلمة "رفيق" الشيوعية التي كانت شائعة الاستخدام في الأنظمة الشيوعية.
ما جعل الكلمة تتجذّر أيضاً في المجتمع الليبي اقترانها برفضِ المجتمع الدولةَ المركزيةَ وتميّزها عنه. وقد مثّل القذّافي استمراراً لهذا الرفض، كما يقول علي عبد اللطيف حميده، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة نيوإنغلاند، في كتابه "الأصوات المهمشة" المترجَم سنة 2009. فالقذّافي كان قادراً على التعبير عن "ثقافة مقاومة الاستعمار، والوطنية الليبية، وبثّ ذلك من خلال ترجمة هذا الميراث إلى إيديولوجيا ثوريةٍ، مستخدماً في ذلك لغةً شعبيةً يفهمها الليبيون [. . .] فهو يتحدث كبدويٍ من الدواخل ويلبس مثل لباسه ويؤمّ المصلّين كإمامٍ أو أميرٍ للمؤمنين". والبدوي يتحدث بلغةٍ لا تعطي للتمايز أيّ تعبيرٍ، لأنّه يرفض أصلاً الدولة المركزية التي تعطي اعتباراً للتمايز والتشريف بين الناس. وحتّى اليوم، ما زال الليبيون بالأصول البدوية لكثيرٍ منهم يرفضون هذه الألفاظ، حتى أنّ كلمةً مثل "سيّد" في ليبيا عادةً ما تستعمل في مواقف تحقيريةٍ ويتلقّاها المخاطَب بشحنة غضب.
بهذا أصبحت اللغة السياسية لغةً ثوريةً بالضرورة. لم يعد ثمّة مكانٌ للسياسة غير الثورية، لأنّ هذا يعني عداءً للثورة. يقول التير إنّ المعجم السياسي الليبي أضيفت له مفرداتٌ سياسيةٌ ثوريةٌ جُلّها من اختراع القذّافي، مثل الحديث عن تحريض الجماهير وزحفها وتطهير البلد من الدنس والأرجاس. وامتدّ الأمر "إلى جانب صفاتٍ سلبيةٍ مثل الزندقة والكلاب الضالة والخُوّان المسلمين وأخيراً الجرذان". فالزنادقة هم الجهاديون، والكلاب الضالة هم المعارضة الليبية، والخوّان المسلمون هم الإخوان المسلمون، والجرذان هم ثوّار ثورة 17 فبراير 2011.
هذه مصطلحاتٌ يزخر بها قاموس العقيد، لاسيما عندما يرتبط الأمر بأعدائه أو من رآهم أعداءً للشعب. إذ يقول التير إنّ العقيد اصطلح على شعاراتٍ جديدةٍ لتبرير التصفيات الجسدية التي بدأ اتباعها منذ منتصف السبعينيات. ومن ذلك قوله سنة 1975: "إذا كانت الثورة تخاف الدم أو تخاف العنف لا تكون ثورة"، تمهيداً لإعدام المشاركين في انقلاب عمر المحيشي، أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة وقائد انقلاب أغسطس 1975 على القذّافي، والذين لم يستطيعوا الفرارَ من البلد مثله. وكذلك تهديد القذّافي طلبةَ الجامعات الليبية في ثورتهم ضدّ قوانين التجنيد العسكري سنة 1976 بقوله إن "الصراع يستمر حتى لو أدّى إلى مجازر [. . .] لن أتراجع حتى ينزف الدم ويجري في الشوارع مع أعداء الثورة". ومنها خرج شعار الثوريين المفضّل، الذي سيقتبسونه في عدّة مناسباتٍ "صفّيهم بالدم يا قايد، سير ولا تهتم يا قايد".
عند تفحّص خطابات العقيد ولغته خلال العقود الثلاثة الأولى نلحظ جرأته على اختيار المفردات التحقيرية والتهديدية دون مفردات المديح. اتّبع مريدو القذافي نهجه وأنتوا معجماً ليبياً للشتائم والهجاء السياسي. اللغة هنا مركزيةٌ في طريقة تعامل حركة اللجان الثورية، التي تأسست سنة 1977، مع الخصوم. فكلّ من ليس ثورياً هو في نظرهم خصم. فأصبحت شعاراتهم الثورية تزخر بمفرداتٍ ترهيبيةٍ مثل "شنّق في الميدان يا قايد، ما ترحم من خان يا قايد"، أو مفردات سخريةٍ مثل "دوم معمّر هو القايد، ومن دونه خرّاف وزايد" (دوماً معمر هو القائد، وغيره بلا نفع)، وهو شعارٌ أُشيعَ أنّ اللجان الثورية استحدثته للسخرية من الرائد عبد السلام جلود، الرجل الثاني في ثورة الفاتح، لاسيما مع خلافاته الكثيرة مع الحركة.
تبدو هذه اللغة مرتجَلةً لكنها مدروسة. إذ كانت سلاحاً في يدِ القذّافي يستخدمه كما يشاء. وليس أدلّ على ذلك من خطاب زوارة في 15 أبريل 1973، الذي أعلن فيه عن الثورات الثقافية والشعبية والإدارية والقضاء على الأحزاب وأعداء الثورة وإلغاء القوانين الوضعية كافة. الخطاب مشبّعٌ بروح الخطاب الارتجالية وبأوصاف العقيد التقليدية، مثل الخنافس والمرضى والمعتوهين، لضرب الشيوعيين والإخوان المسلمين وكلّ صاحب رأيٍ مخالف. كان ذلك الخطاب سلاحاً قويّاً أشعل جماهير القذافي لتنتفض بعده لحرق الصحف والكتب والإغارة على مؤسسات الدولة. وأوصاف التحقير التي أطلقها على المعارضة السياسية بالخارج، مثل وصف "الكلاب الضالة"، جعلت التخلّص منها واجباً ثورياً على كلّ من يريد رضى القائد. فقد شاعت في الثمانينيات، عندما أصبحت المعارضة منظمةً، عمليات اغتيالٍ وتنكيلٍ بالخصماء السياسيين في بلدان العالم. ومنها اغتيال يوسف خريبيش، عضو الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا وهي حركة المعارضة، الذي اغتيل في العاصمة الإيطالية روما في يونيو 1987.
لم يكن سهلاً على المجتمع الليبي تقبّل هذا النهج الثوري الجديد. لكن أيضاً كان استخدام هذه اللغة ضرورةً للارتقاء في النظام الجديد، لاسيما بعد تأسيس حركة اللجان الثورية. فالحركة في أُسِّها لا تؤمن بوجود شخصيةٍ ثوريةٍ دون ما تسمّيه "فقه ثوري". إذ أصبحت الثورة أشبه بدينٍ أو طائفةٍ لها معجمها الطائفي. فمراكز اللجان الثورية ومقرّاتها هي "المثابات الثورية"، وهي جمع مثابةٍ، في تناصٍّ لغويٍّ مع الآية 125 من سورة البقرة إذ تصف الكعبة الشريفة بقولِ الله: "وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً".
ويشرح أحمد إبراهيم، أحد قادة حركة اللجان الثورية المقرّبين من القذّافي، في كتابه "حركة اللجان الثورية أداة الثورة الشعبية" المنشور سنة 1984، إنّ حركة اللجان الثورية كأيّ ديانةٍ أو حركةٍ سياسيةٍ "ليست تنظيماً سياسياً تقليدياً يهدف إلى الاستيلاء على السلطة بقدر ما هو مجموعاتٌ من الدعاة والمبشرين بالحضارة الجديدة". هنا تبرز مفرداتٌ مثل دعاةٍ، أيْ من الدعوة في الاصطلاح الإسلامي، ومبشرين، أيْ من التبشير في الديانة المسيحية. وتزخر مصطلحات الحركة بمثل هذه المفردات التي تضفي قدسيةً على من يحرسون القذّافي وفكرَه. وخير مثالٍ على ذلك "الراهبات الثوريات"، اللقب الذي كانت تُسمَّى به حارسات القذّافي الشخصيات اللائي شُبّهن بالراهبات المسيحيات. وعضو اللجان الثورية في تعريفه الذي تستخدمه الحركة "هو مثالٌ للإنسان النموذجي الجديد والقدوة في المهارة والمسلك". وهذه كلّها تسمياتٌ وتعريفاتٌ واعيةٌ جاءت جُلّها من العقيدِ نفسه واستحسنها، لأنّها تخدم فكرة قدسيّة الثورة.
بهذا كانت اللغة الثورية، التي تقدّس الثورة في جانبٍ وتتّسم بالعنف في جانبٍ آخَر، وجهاً من وجوه النظام السياسي طيلة أكثر من أربعين عاماً حتى سنة 2011 . لم يكن سهلاً على المجتمع الليبي تقبّل هذه اللغة، ولم يكن ضرورياً له استخدامها. لكن استخدامها كان شرطاً للترقّي الثوري في صفوف النظام، وضرورةً من ضرورات عضوية اللجان الثورية. وقد عمل النظام على تثبيت هذه اللغة وتعليمها للأجيال اللاحقة عبر إدخالها في مناهج الدراسة، فألزم التلاميذ بتعلّم مفردات الحركة منذ سنّ العاشرة وحتى العشرين عاماً، أي من صفّ الرابع الابتدائي إلى بدايات المرحلة الجامعية، عبر مناهج مثل "المجتمع الجماهيري" و"الفكر الجماهيري". وكانت حركة اللجان الثورية تدعو الطلّاب المتميّزين بعد انتهاء العام الدراسي إلى حضور مخيّمات "التعبئة الثورية" التي سمّيت "براعم الفاتح"، وكانت توازي في حقيقتها حركة الكشاف والمرشدات. فبراعم الفاتح هي النسخة الثورية من الكشافة.
استهدف هذا العنفوان الثوري في اللغة ترهيبَ من تُسوّل له نفسه قلب النظام. ولكن أيضاً، كما تقول حركة اللجان الثورية، حماية سلطة الشعب والدعوة لأطروحة القذافي السياسية. هذه الأطروحة هي أكثر ما يزخر بها قاموس العقيد من تجديدٍ نحو إعادة بناء المجتمع البشري، ولاسيما الليبي بوصفه فأرَ تجاربِه، عبر عمليتَيْ إعادة هندسةٍ اجتماعيةٍ لغويةٍ وتشكيل لغة الدولة.
يبدأ القذّافي نظريته السياسية بمسألةٍ لغويةٍ مرتبطةٍ بالمجالس النيابية، فيخلص إلى كون مسألة "النيابة" لا تتوافق مع الديمقراطية. ورأى أنّ هذه المجالس توحي للشعب بوجود ديمقراطيةٍ عبر تمثيله بأفرادٍ، لكنها ديمقراطيةٌ مخادعةٌ لأنّ "التمثيل تدجيل". هذا المبدأ الرئيس الذي تنطلق منه "النظرية العالمية الثالثة"، كما وصف القذّافي أفكار كتابه الأخضر الديمقراطية المباشرة. ففي عدّة خطاباتٍ ومناسباتٍ أصّل الرجل لنظريته السياسية بقولِه إنّ كلمة "ديمقراطية" عربية الأصل ومكوّنةٌ من شقَّيْن هما "ديمو" و"كراسي"، ديمو أي "الدهماء" بمعنى الشعب على كراسي الحكم. وهكذا ستصبح ليبيا في 2 مارس 1977 أوّل دولةٍ، على رأي العقيد، تطبّق مبدأ سلطة الشعب أو "السلطة الشعبية".
تحضر هنا مسألة الزعامة أو قيادة الأمّة. فإذا كان الشعب هو الحاكم، فهذا يعني أنّه لا رئيس لدولةٍ مثل ليبيا. استُعمِلت اللغة مرّةً أخرى لتبرير وجود العقيد على هرم السلطة. فهو ليس رئيس ليبيا ولا ملكها ولا أميرها ولا حتى زعيمها، إنّما هو "قائد الثورة". أعاد العقيد تعريف الثورة لا بوصفها لحظةَ قلبِ السلطة وإبدالها بسلطةٍ أخرى، وإنما مساراً مستمراً لا يتوقف. وبهذا أصبحت "الثورة" موازيةً للدولة تسير معها في خطٍ موازٍ وتملك حقَّ الرقابة والسيطرة عليها إن حادت سلطة الجماهير عن المسار الموضوع لها.
حتى يتأكد القذّافي من ذلك، شرعَنَ وجودَه بما سُمّيَ وثيقة الشرعية الثورية التي اقترحَتْها حركة اللجان الثورية سنة 1986 وصادقت عليها المؤتمرات الشعبية الأساسية سنة 1990 بالقانون رقم 1. يحكي الرائد عبد السلام جلّود في مذكراتِه "الملحمة"، المنشورة سنة 2022، قصة تلك الوثيقة بقولِه إنّها جعلت معمّر وحده يملك شرعيةً ثوريةً فوق القانون، وإنّ ما يقوله وما يعمله يُعَدّ "قانوناً" ملزماً. وهو أيضاً ما تدعمه مقولة "توجيهات القايد"، التي أشيع استخدامها في عهدِ الجماهيرية لتمرير قراراتٍ تنفيذيةٍ في المؤتمرات الشعبية الأساسية (أي المجالس الشعبية البديلة للمجالس النيابية). فالتوجيه وإن كان لغوياً يحمل معنى النصح والاستشارة، لكن في السياق الجماهيري أصبح يعني أوامر القيادة العليا. ولم يكن غريباً أن يناقضَ القذافي حديثه في "الكتاب الأخضر" عن أكذوبة النيابة عن الشعب، لاسيما في تمثيله ليبيا في المحافل العربية والدولية كالقمم العربية. لأنّه لم يرَ نفسه حاكماً للبلد إنّما قائداً لثورتها، وهذه الثورة هي ثورةٌ عالميةٌ تبشّر بانعتاق البشرية.
حتى يبدأ ذلك الانعتاق دخلت البلاد سنة 1977 في مرحلة "الجماهيرية" أي دولة الجماهير. ظلّ اسم الجماهيرية يُفهَم خطأً في الترجمات الغربية وفي فهمِ العرب له أيضاً. فقد قرأتُ مقالاتٍ كثيرةً بالإنجليزية تترجمها إلى "الجمهورية" أو "جمهورية الشعب". مثلاً، في مقالة الصحفية أوليفيا سناجي "أركيولوجي تورنز بوليتيكال تو بينيفت آ تريو أوف ميدل إيست سترونغ مِن" (الآثار تصبح سياسية لفائدة ثلاثي من زعماء الشرق الأوسط) المنشورة سنة 2021 على مجلّة نيولاينز، تجدها تترجم النظام الجماهيري إلى "الجمهورية الليبية". لكن العقيد نفسه كان دقيقاً في هذه المسألة، حتى إنّ الصحفي والروائي مجاهد البوسيفي يتحدث في كتابه "دولة الخيمة: سيرة سياسية للقذافي" المنشور سنة 2021، قائلاً إنّ العقيد واجه معارضةً في تقبّل الليبيين الاسمَ الجديد. فقد فضّلوا أن تبقى ليبيا "جمهورية" كما كانت منذ 1969. وفي يوم التصويت على اختيار اسم البلد واجه العقيد مشكلةً حقيقيةً في فهم الناس الاسمَ الذي يريده. يقول البوسيفي: "أحضر [القذّافي] السبورة والطباشير، وبدأ يشرح للقاعة – وللتلفزيون بالطبع – بعد أن كتب بخطٍّ غليظٍ كلمتين: 'جمهور وجماهير' ثم حوّلهما إلى 'جمهورية وجماهيرية'". ومن ثمّ يحكي البوسيفي إنّه حتى بعد الشرح مال التصويت إلى الجمهورية، واستخدم القذّافي شرعيته القانونية رئيساً للبلد لتثبيت اسم الجماهيرية.
كانت التسمية أمراً مهماً للعقيد لتحقيق التحوّل الذي أراده، فإن بقيت ليبيا جمهوريةً فهذا يعني أنّه لم يأتِ بشيءٍ جديد. ولهذا كان ضرورياً أن يكون المعجم السياسي جديداً ليصبح أداةً مركزيةً في تثبيت النظرية السياسية "الجديدة" التي يدعو لها. في هذه النظرية تأتي "المؤتمرات الشعبية" لتحلّ محلَّ "المجالس النيابية" أو "المجالس المحلية"، لأنّها كما يقول القذّافي في كتابه الأخضر "الوسيلة الوحيدة للديمقراطية الشعبية"، ثم يذهب للشرح بالقول إنّ أيّ نظام حكمٍ خارج المؤتمرات ينافي مبدأ الديمقراطية لغوياً وفعلياً. وهذه الديمقراطية لا تتمُّ بالانتخابات، بل بنظامٍ "جديدٍ" يدعى "التصعيد"، يشارك فيه أبناء الشعب بتصعيد أعضاء المؤتمرات الشعبية برفع الأيدي خلال أيام التصعيد. هنا تحضر اللغة مرّةً أخرى لتبيان وجهة نظر القذّافي، فالانتخاب هو قرين التحايل على الديمقراطية المباشرة، عندما يتمُّ بوضع ورقةٍ في صندوقٍ بانتظار خروج نتائج يمكن تزويرها بسهولة. أما التصعيد فهو مثالٌ حيٌّ على الديمقراطية المباشرة، فكيف يمكن تزييف نتيجةِ ما يستطيع المرء أن يراه رأيَ العين؟
القذّافي هنا لا يعيد تعريف السياسة فقط، بل يذهب إلى بطلان لغتِها التي استخدمتها. فبدلاً من الدوائر الحكومية أو البلديات هناك اللجان الشعبية التي تكوّنها الجماهير في "شعبيّاتها"، أيْ بلديّاتها أو محافظاتها، لتنفّذ قرارات المؤتمرات الشعبية. وبدلاً من أن يكون هناك عميدٌ للبلدية أو وزيرٌ للوزارة أو أيّ منصبٍ حكوميٍ، هناك في النظام الجماهيري "الأمناء"، يقودهم أمينٌ على "الأمانة". وليس اختيار مفرداتٍ مثل "أمين" و"أمانة" حركةً اعتباطيةً، وإنّما هو في مركزية نظرة العقيد الظاهريّة للّغة ودورها في تحقيق النبوءة التي يحلم بها. فهو لا يرى العمداء أو الوزراء أمناء، لأنّ هذه المفردات لا تمنعهم من السرقة أو الاختلاس أو استغلال مناصبهم لتحقيق مآرب شخصيةٍ، لكن لفظة "أمين" تمنع الأمين من ذلك، نظرياً على الأقل.
تزيد لغة الجماهيرية مفرداتها وتقويّها باختيارِ ألفاظٍ بديلةٍ لكلّ ما اعتاد عليه العالم. فيتكون النظام السياسي من مؤتمر الشعب العامّ الذي تتفرع منه أمانات المؤتمرات وهي أقرب إلى مجالس الوزراء والعمداء. وثمّ مؤتمراتٌ شعبيةٌ أساسيةٌ ومؤتمراتٌ شعبيةٌ غير أساسيةٍ هي أقرب إلى مجالس المحافظات ومجالس البلديات. هنا، يأتي الغرض اللغوي من قولِ القذّافي في الكتاب الأخضر لينتهي "التعريف البالي للديمقراطية الذي يقول (الديمقراطية هي رقابة الشعب على الحكومة) ليحلّ محلّه التعريف الصحيح وهو (الديمقراطية هي رقابة الشعب على نفسه)".
لم يكن التفكيك اللغوي لنظريات الكتاب الأخضر يسيراً، وقد حاول الليبيون على مدى عقودٍ تأويلَ الكتاب وتطبيقَ ما يقوله أو ما يريد قوله. أصبحت السفارات تُسمّى "مكاتب اتصال شعبيّ خارجيّ"، وصار السفير هو أمين هذا المكتب. وتحوّلت المدارس الثانوية، لاسيما في عقد الثمانينيات، إلى ثكناتٍ دراسيةٍ تحقيقاً لرؤية الكتاب الأخضر في ضرورة إلغاءِ الجيوش النظامية وتمكين الشعب من السلاح عبر شعار "الشعب المسلح". فبدلاً أن تقول "مدرسة علي وريّث الثانوية"، وهي مدرسةٌ ثانويةٌ شهيرةٌ في طرابلس، صار لزاماً القول "ثكنة علي وريّث الثانوية" ولم تعد المدرسة فضاءً للتعليم المدني فقط، بل فضاءً للتجهيز والتدريب العسكري.
الأهم من تأويل الليبيين الكتابَ الأخضرَ لأنفسهم هو تأويلهم إياه لغيرهم من البشر. وحتى اليوم عندما يتحدث الليبي إلى غيره عن تلك الحقبة فإنه يقرن أو يبدّل كلمة "أمين" بكلمة "وزير"، كما فعلتُ في هذه المقالة، مع أنّ الكلمتَيْن تتناقضان ظاهرياً، بحسب فكرة العقيد. فالقاموس السياسي وقتئذٍ كان فريداً للجماهيرية لا يستخدمه غيرها من أنظمة الحكم. وحتى ترجمة هذا القاموس كانت مهمّةً شبه مستحيلة. فكيف يمكن ترجمة "أمين" ترجمةً وافيةً للكلمة بكلّ حمولتها اللغوية والعقائدية؟ اضطرّ المترجمون للتخلّي عن هذه الدقة من أجل وصول المعنى، فأصبحت الكلمة في الإنجليزية مثلاً "سيكرتيري".
بدا الليبيون على المستوى الرسمي يتحدثون لغةً سياسيةً مختلفةً عن غيرهم من البشر. ولهذا لم يكونوا راضين تماماً عن هذا النظام، فظلوا في النطاق الشعبي يستخدمون المصطلحات التي يستخدمها غيرهم. فمع أنّه لم يكن هناك "حكومة" بمعنى الكلمة المتعارف عليه عالمياً، ظلوا يسمّون "اللجنة الشعبية العامة" بالحكومة. بل رفض الليبيون أصلاً مبدأ سلطة الشعب، فكانوا مثلاً يسخرون من استغلال أملاك الدولة وإفسادها بقولهم "رزق حكومة ربّي يدومه"، مع أنّ "الدولة" هي دولة الشعب والحكومة هي حكومة الشعب، نظرياً على الأقل. هذه المقولة ستتحول مثلاً ساخراً يوضح كيف نظر الليبيون إلى الحكومة ورزقها. حتى إنّ أبي، وقد كان مسؤولاً في الدولة، يمازحني دائماً أمام رفاقه بقولِه إنني سأصبح "رئيساً لليبيا"، مع أنّه حينئذٍ لم يكن ثمّة رئيسٌ للبلد، وكأنه أراد تحدّي موقع القذّافي على هرم السلطة.
كانت هذه المقاومة ناعمةً، لكنها تختفي في حلقةٍ من نفاقٍ ضروريٍ، مغلّفٍ أحياناً بالخوف وبالازدلاف للقذّافي وأطروحته السياسية واللغة التي جاءت بها. وهي لغةٌ لم تتوقف فقط عند حدود السياسي لكنها ذهبت لتشمل كلّ مناحي الحياة. على ذلك فشلَتْ أمام الواقع الاقتصادي المتغيّر.
كَرِهَ القذّافي التجّارَ ورؤوسَ الأموال ورأى فيهم مجموعةً من الانتهازيين ومصاصي دماء الشعوب. منذ تأسيسها أنهت الجماهيرية حقبةَ التجّار ورؤوس الأموال، وكان عليها أن تعيد تسمية مفردات الاقتصاد أكثر من مرّة. لم يعد هناك محالّ تجاريةٌ، ولكن "جمعيات تعاونية استهلاكية"، وهي بمثابة دكاكين للدولة (أو في فكر العقيد، دكاكين الشعب) تبيع حسب الاختصاص، فدولة الشعب هي التي توفّر قطع غيار السيارات والمعدات الزراعية والمواد الغذائية والملابس. أيضاً انتهى عهد "الشركات الخاصة"، وأصبحتْ تُسمّى "تشاركيّة" تطبيقاً لمبدأ "شركاء لا أُجَراء" الذي جاء به الكتاب الأخضر لإنهاء طبقة الموظفين والعمّال وإشراكهم في رأس المال.
على ذلك مثّلت تحولات النظام نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، تحدّياً للكتاب الأخضر وأطروحته الاقتصادية. وكان الحصار الدولي على ليبيا بعد حادثة "لوكيربي" سنة 1988، التي اتهُِمت فيها ليبيا بتفجير طائرة بان آم 103 الأمريكية فوق الأراضي الأسكتلندية، حدثاً أظهر عجز النظام عن الاستمرار في سياساته الاشتراكية الصريحة. فالاقتصاد أوّل ما يتأثّر بالتغيرات الإقليمية والدولية. وبهذا أعادت سلطة الشعب طبقةَ التجّار للواجهة ضمن قائمة إصلاحاتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ، لكن كان لزاماً عليها ألا تعيدها بالشكل القديم وأن تبتدع مفرداتٍ جديدةً لهم. فأصبح اسم تجّار الجملة "موزّع جملة" وأصبح اسم أصحاب الدكاكين "موزّع فرد". وهنا تأتي اللغة لوضع التاجر في حجمه الذي أرادته له دولة الجماهيرية: أيْ أنّه لا يتجاوز كونَه موزّعاً لما تَهَبه الدولة.
هكذا ظلّ النظام الجماهيري على طول عقوده الثلاثة يعيد تعريف نفسه ويستخدم اللغةَ أداةً لإعادة فهم نظرية القذّافي. ففي سنة 2007 اقترح العقيد إعادةَ هيكلة النظام كاملاً ومنه النظام التعليمي وتطبيقَ نظامٍ سمّاه "التعليم التشاركي"، وما زلت أذكر كيف تحوّل اسم مدرستنا الثانوية من "مدرسة السابع من إبريل الثانوية" إلى "تشاركية السابع من إبريل الثانوية"، في خطوةٍ أريدَ للمدرسة فيها أن تكون نموذجاً جديداً لتطبيق النظام الجماهيري للمدرسة التي يديرها طلابها وأساتذتها إدارةً كاملة. وفي سنة 2009 أعلن القذّافي في لقائِه بأمناء المؤتمرات الشعبية عن خيبته مرّةً أخرى في تطبيق الليبيين الكتابَ الأخضرَ، واقترح إعادة هيكلة نظام سلطة الشعب وتوزيع الثروة. وبهذا تنتهي مرحلة "اللجان الشعبية" لتسلّم كلّ شيءٍ للشعب، كما اقترح. أيْ أن تصبح كلّ مدرسةٍ ومصنعٍ ومستشفىً وشركةٍ وجامعةٍ تدار إدارةً كاملةً من الشعب، وبهذا "نستغنوا عن الدولة ورواتبها"، كما قال القذّافي.
هكذا كانت لغة الجماهيريةِ الاقتصادية تتحرّك وتتحوّل وتتغيّر مفرداتها مع تغيّر النظام والمشاكل الداخلية والخارجية التي واجهها. ومع ذلك ظلّت انعكاساً لأصولية القذافي اللغوية، وهي أصوليةٌ تبدو أكثر وضوحاً في مساعيه للتعريب.
كانت العربية لغةَ الدولةِ الرئيسةَ منذ استقلال البلاد في 24 ديسمبر 1951. أصدر الملك محمد إدريس السنوسي في فبراير 1952 القانون رقم 6 بشأن كون العربية اللغة الرسمية للدولة، وفيه أمرَ الملك أن يُحرَّرَ كُلّ ما يرتبط بحكومة المملكة الليبية المتحدة بالعربية فقط. وسمحَ القانون للشركات والمحلات التجارية والمصانع والبنوك وغيرها من المؤسسات أن تكتب أسماءها بلغةٍ أخرى، إلى جانب العربية، على "أن لا تكون اللغة الأجنبية أكبرَ حجماً ولا أبرزَ مكاناً ولا أعلى موضعاً من اللغة العربية". فانتشرت في البلاد أسماء مؤسساتٍ بالإنجليزية، مثلما كانت الأسماء الإيطالية منتشرةً منذ الاستعمار الإيطالي.
عند صعود القذّافي استمرّ الحال في تعامل الدولة مع اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية. فقد ظلّ العقيد يتحدث بإنجليزيةٍ جيّدةٍ، بلكنةٍ ليبيةٍ واضحةٍ، في حواراتِه وأحاديثه مع الصحفيين الأجانب، حتى وإن استعان بمترجمين يساعدونه في فهم ما استحكم عليه. لكن مع ذلك كان يرى ضرورة تعريب كلّ ما هو أعجمي. فأصبحت السينما، على سبيل المثال، منذ بداية السبعينيات تُسمى "الخَيَالة". وأنشئت الشركة العامة لإنتاج أشرطة الخيالة سنة 1977، والتي ستتغيّر أسماؤها كثيراً لكن سيبقى اسم "الخيالة" مؤشراً على هذا التوجه العروبي. وحتى تاريخ كتابة المقالة لا تزال هناك في ليبيا "الهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون". وفي سنة 1984 أخذ هذا التوجه العروبي منحىً عدّه كثيرون متطرفاً بإصدار القانون رقم 16 بتحريم استعمال غير العربية في أمور الحياة كافّةً، ومعاقبة المخالفين بالحبس شهراً على الأقلّ، مع غرامةٍ لا تتجاوز مئتي دينارٍ ليبيٍ وقتئذٍ (أيّ تقريباً ستمئة دولار في الثمانينيات).
سياسات التعريب طالت كلّ شيءٍ حتى العلامات التجارية. فمنذ الثمانينيات اختفت كثيرٌ من العلامات التجارية العالمية من السوق الليبي واستُبدلت بها علاماتٌ تجاريةٌ ليبيةٌ تحمل خصائص العلامة العالمية لكن بِاسمٍ ليبيّ. ففي الشاحنات كانت ليبيا تتعامل مع العلامة "إيفكو" الإيطالية لتوريد الشاحنات منذ السبعينيات، وقد كتبتُ عن هذا الموضوع في مقالتِي "تشريح سيارة الإيفكو قبل أن تموت"، المنشورة في منصّة "خط 30" سنة 2021. لكن استُبدِل بشعارها شعار شركة الشاحنات والحافلات باختصار أحرف كلّ كلمةٍ بالعربية. وكذلك في صناعة الإلكترونيات، فكانت أجهزة التلفاز تُستورَد وتُركَّب في "المركب الإلكتروني قاريونس"، ببلدتِي في تاجوراء، التابع للشركة العامة للإلكترونات. وكانت تلك الأجهزة تُسمى أجهزة "قاريونس"، بِاسم حيّ قاريونس في مدينة بنغازي. وغُيِّر اسم علامة السجائر الليبية "سبورت" إلى "رياضي".
امتدّت يدُ السياسات التعريبية إلى لهجات مدنٍ كمدينة طرابلس. فلهجة المدينة على عكس كثيرٍ من المدن والقرى الليبية، كانت متأثّرةً كثيراً باللغات الإيطالية والتركية وبمفرداتٍ عربيةٍ أصيلةٍ للمدينة نفسها. التغيير السكّاني الذي أحدثته هجراتٌ سابقةٌ في الستينيات، كما يحكي مصطفى التير في كتابِه "صراع الخيمة والقصر"، كهجرةِ كثيرٍ من سكان جنوب طرابلس إلى أطراف المدينة، إضافةً إلى سياسات "ترييف المدينة"، قضى على كثيرٍ من ثقافة أهل طرابلس. أبناء الأرياف أو بدو جنوب طرابلس حافظوا على لهجةٍ عربيةٍ مختلفةٍ لم تدخلها مصطلحاتٌ أعجميةٌ كثيرةٌ، بحكم علاقتهم المختلفة مع الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر وعدم اختلاطهم بالمستعمر الإيطالي. بعد ثورة النفط منذ 1963 وصعود القذّافي، أصبح لهؤلاء موطئ قدمٍ في مدينةٍ كطرابلس حتى أصبحت "نسبة كبيرة من سكان المدينة الليبية في الوقت الحاضر" ريفيين من "حيث المرجعية الذهنية والعادات والتقاليد"، كما يقول التير.
أحدث هذا تحولاً تدريجياً في اللهجة الطرابلسية. أصبح سكّان طرابلس يسمّون لهجتهم القديمة قبل التحوّل السكّاني الكبير "اللهجة الزِمْنِيّة" (لهجة زمان) للكناية عن فقدانها. فمثلاً أذكرُ في طفولتي أننا كنّا نسمّي الحلّاق "حِسّان"، أيْ من يُحسِّنُ الشعر، واختفت الكلمة من التداول اليوم. أيضاً مفرداتٌ تركيةٌ قديمةٌ مثل "كاط"، بمعنى دور، كأن يقول المرء "الكاط الأوّل" أي الدور الأول في عمارة، اختفت تماماً. وأصبحت ألحظ الأجيال الجديدة من العائلة يسمّون "الفركيتّا"، وهي كلمة إيطالية تعني شوكة الطعام، بِاسمِ "الشوكة".
على ذلك لم يستطع النظام تعريب اللهجة الليبية كاملةً. فاللهجة الليبية احتفظت بكامل مفرداتها الإيطالية المرتبطة بقطع غيار السيارات لأنّ بديلها العربي الذي رُوّج له في المناهج الدراسية الفنّية لم يقدر على التعامل مع الواقع الاجتماعي واستخدام الكلمات الإيطالية يومياً. وحتى اليوم، يُعتَمد على الإيطالية بشكلٍ شبه حصريٍ في أسماء قطع غيار السيارات في اللهجة الليبية.
ممّا عناه قانون التعريب في الثمانينيات منعُ كتابة حتى الأسماء الأعجمية بأحرفٍ عربية. أيْ جعلَ النظام اللغة العربية اللغةَ الوحيدةَ للتعامل، سواءً الرسمي أو غير الرسمي، وكان على الأجانب الذين ينوُون زيارة ليبيا تقديمَ ترجمةٍ لجوازات سفرهم حتى سنة 2005، عندما أُلغِيَ القرار عامَيْن ثمّ أعيدَ تفعيله سنة 2007. كانت جوازات السفر الليبية حينئذٍ كلّها مكتوبةً بالعربية إلّا الصفحة الأخيرة في الجواز التي تصدر فيها ترجمةٌ إنجليزيةٌ مكتوبةٌ بخطِّ اليد.
ظلّ قانون التعريب حاضراً حتى نهايات حكم العقيد. فكان محاولةً لإعادة المجتمع الليبي إلى مرحلةٍ متخيّلةٍ يرى فيها القذافي نقاوةَ اللغة من مفرداتٍ ولغاتٍ دخيلةٍ أفسدت العربية. وكان في ذلك متجاهلاً تاريخ ليبيا بوصفها بلداً من البلدان المغاربية التي تزخرُ بلغاتٍ غير عربيةٍ كانت حاضرةً قبل الإسلام، ومتجاهلاً أيضاً الواقعَ الحضاريَ الذي يعيش فيه بوجود لغاتٍ مثل الإنجليزية كان وجودها ضرورة.
اعتبرَ العقيد أيّ نداءٍ لهويةٍ أمازيغيةٍ ثقافيةٍ والاعتراف بها، مخططاً من مخططات الغرب الاستعمارية لتفتيت الأمة العربية وتحييدها عن قضاياها الرئيسية كالقضية الفلسطينية. ففي خطابٍ له سنة 1983 قال موجهاً حديثه للجماهير: "بالله كلام الجدّات وخرافات العجائز لا بد أن ينتهي. بربر ما بربر [يقصد الأمازيغ]، لغة قديمة ما لغة قديمة". وقد منعَ النظام الأمازيغَ حقَّ تسمية أبنائهم بأسماء أمازيغيةٍ حتى وإن كُتِبَتْ بالعربية، وهذا ما زاد إثباته في القانون رقم 24 لسنة 2002 بمنعِ أيّ شكل تعبيرٍ أو تسميةٍ أو كتابةٍ بغير العربية، إلا في حالاتٍ خاصةٍ كالوصفات الطبية.
ظلّ موقف القذّافي كما هو تجاه اللغة الأمازيغية، التي كان النشطاء السياسيون الأمازيغ يحارَبون ويُحبَسون في سبيل الاعتراف بها. ففي سنة 2008 انتفضت مجموعةٌ من النشطاء الأمازيغ في مدينة يفرن مطالبةً بحقوقهم الثقافية، لكن سرعان ما اقتحمت قوات السلطة المدينةَ واعتقلت المنتفضين. وفي سنة 2010 في لقاءٍ مع وفدٍ مغربيٍ، امتعضَ القذّافي من استخدام إذاعاتٍ وقنواتٍ مغربيةٍ اللغةَ الأمازيغيةَ في برامجها ودعا إلى وقفها، لأنّ "لهجة قريش هي التي وحّدت الأمة العربية بعد أن انتهت اللهجات العربية [القديمة]. ووحّدت الدين وأصبح هناك كتابٌ واحدٌ، وهو القرآن، بهذه اللهجة التي أصبحت هي اللغة العربية".
طالَ المنع لغاتٍ أخرى في فتراتٍ زمنيةٍ معيّنة. وكان هذا المنع مرتبطاً بموقفِ القذّافي السياسي من الغرب. فبعد الغارة الأمريكية على ليبيا سنة 1986، بعد تفجير ملهىً ليليٍّ في برلين يحتفل به جنودٌ أمريكيون، امتنع العقيد عن الحديث باللغة الإنجليزية إذ عدّها لغةً استعمارية. وفي لقاءٍ له مع تلفزيون "بي بي سي" سنة 1986 قال: " لا، نسيت الإنجليزي خلاص [. . .] مسحته من دماغي"، وأضاف "لغيناه حتى من المدارس". ويكتب الحسين محسن، الأستاذ في الجامعة الأسمرية بمدينة زليتن، في دراستِه "تيتشنغ إنغلش آز آ فورين لانغويج إن ليبيا" (تعليم الإنجليزية بوصفها لغةً أجنبيةً في ليبيا)، المنشورة سنة 2014، إنّ أمانة التعليم (أي وزارة التعليم) أصدرت القرار رقم 195 لسنة 1986 بوقف تعليم اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية في المدارس الإعدادية والثانوية. وظلّ هذا المنع سارياً حتى سنة 1994 عندما أعيدت الإنجليزية للمنهج الدراسي، ولم تُحَدَّث طرق تعليمها حتى سنة 2006.
ومع هذا الموقف المعادي تجاه اللّغات المحلّية غير العربية واللغات الأوروبية، إلّا أنّ القذّافي مرّ بمرحلة تغيّرٍ أثّرت في شخصيته بدءاً من الألفية الثالثة. شهد العقد الأخير من عمر النظام ما قد يبدو تحولاً في شخصية القذّافي، ومن ثمّ تحولاً في طبيعة الجماهيرية اللغوية. فكان لتقدمه في العمر وإصابته بالإحباط من "فشل الليبيين" في خلق مجتمعه الذي يطمح له، عاملاً مهماً في مطالبته بمراجعاتٍ لكلّ ما آمَن به وروّج له. لكن أيضاً كان لتأسيس الإتحاد الإفريقي دورٌ في كفر القذّافي ببعض ما كان يؤمن به وقرّره على الليبيين.
على ذلك، من أهمِّ ما أنجزه تأسيس الاتحاد الإفريقي جعلُ العقيد يؤمن ويستعمل لغةً كان يكرهها في شبابه. فقد نصّبه زعماء وملوكٌ أفارقةٌ سنة 2008 "ملكَ ملوك إفريقيا"، وسلّموه هديةً صولجاناً وتاجاً من الذهب وهو الذي كان يردّد دائماً برجعية هذه التشريفات. وقد افتخر العقيد في قمة الدوحة سنة 2009 بلقبه هذا.
يمكننا في هذه القمة مشاهدة تحوّلٍ جذريٍ في شخصية القذّافي ولغته. فعند حديثه لملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز ودعوته لنبذ الخلاف السابق بينهما، قال العقيد منهياً كلمته إنّه لا يمكن له التنازل أكثر لأنّ مكانته العالمية "أميناً للقومية العربية وعميداً للحكّام العرب وملكاً لملوكِ إفريقيا وإماماً للمسلمين". هذا التحوّل بين رفض العقيد الملكيةَ ولفظةَ "ملك" وبين اعتبارِ نفسِه ملكَ ملوك إفريقيا، يظهر تحولاً في شخصيته والمفردات التي كان ينتقيها في حديثه. فحتى استخدامه وصفَ "أمين القومية"، الذي خلعه عليه عبد الناصر، يعدُّ هنا موضعاً للتفاخر والتمييز بعد أن كان يعدّه القذّافي موضعَ مهمّةٍ تاريخيةٍ أُنيطت به لتوحيد العرب.
ما فعله الاتحاد الإفريقي أيضاً جعلُ القذّافي مؤمناً بأنّ "السود سيَسُودون"، وهي مقولةٌ كتبها في كتابه الأخضر. لهذا آمَنَ بضرورة تعليم لغات السود في ليبيا، فكاد أن يشرعِنَ تعليم لغاتٍ إفريقيةٍ مثل الهَوْسا التي يتحدث بها أهالي غرب إفريقيا، واللغة السواحلية المنتشرة في شرق إفريقيا. ما زلتُ أذكر في إحدى سنوات الدراسة الإعدادية بين سنتَيْ 2003 و2005 أننا وجدنا في الصحيفة المدرسية اللغتَيْن في المواد الدراسية، وكنّا نتوجّس من تعلّمِ لغةٍ إفريقيةٍ غريبةٍ علينا نحن "العرب" مضافةً للإنجليزية. لكن هذا الأمر لم يحدث. وقد حاول القذّافي مرةً أخرى سنة 2009 إحياءَ تعليم اللغتَيْن مرّةً أخرى، لكن عرقل الأمرَ عدم وجود عددٍ كافٍ من المدرسين الأكفاء للمهمة. وقد استخدم خصوم القذّافي، مثل سليمان الساحلي، مسؤول التعليم في المجلس الانتقالي الليبي (المجلس الذي كوّنه الثوار الليبيون) سنة 2011، هذا المسعى في نقدِه النظامَ في حديثِه لموقع الجزيرة نت عن سياسات القذافي التعليمية في البلد.
تَشِي علاقة العقيد مع اللغات الإفريقية والثقافة الإفريقية بوجود تحولاتٍ في منهج الرجل وتناقضاتِ موقفِه من أيّ لغةٍ غير عربية. فحتى تأصيله اللغوي للأسماء والمفردات الأعجمية، الذي اشتُهِر به، مثل مقولتِه أنّ اسم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما هو اسمٌ عربيٌ أصله "بركة حسين أبو عمامة"، حاول في عدّة مناسباتٍ أن يستنسخه لجمهوره الإفريقي. ومن أشهر تلك المواقف التي كنّا نعدّها طريفةً، خطابه في جمهورٍ من الأفارقة سنة 2007 بقولِه إنّ اسم "كولا"، لمشروب كوكا كولا، إفريقيُّ الأصل وقد سرقه الأمريكيون والأوروبيون.
لم يرضَ الليبيون بهذا التحول نحو الأفريقانية. فتاريخ العبودية في البلد، بوصفها واحدةً من أهمّ المحطات التاريخية لتجارة العبيد، إضافةً إلى بعض التأثيرات العنصرية، كلّها عزّزت رفضَ الليبيين فكرةَ الاتحاد الإفريقي. يتضح هذا من التراجع الكبير لدور ليبيا في الاتحاد بعد ثورة 2011 حتى كاد يكون معدوماً، وليتحوّل الاتحاد من مشروعٍ طموحٍ لخلق "الولايات المتحدة الإفريقية" الذي كان يحلم به القذّافي، إلى منظمةٍ تشبه المنظمات الإقليمية كالجامعة العربية. لهذا لم يكن سهلاً نشر اللغات الإفريقية وتعليمها في البلد. بل مثّلت المرحلة بعد العقيد انقلاباً كاملاً لكلّ نظامه اللغوي الذي خلقه.

