أثارت الحملة جدلاً شرعياً واسعاً. يحكي ابن إياس ضيق الناس ذرعاً بالهدم الذي أتى على ممتلكاتهم ودكاكينهم. ويظهر من مجمل المرويات التاريخية تنوع صور الاعتراض وكثرة الصدام بين الناس والسلطة. على أن المعارضة الأخطر جاءت من الفقهاء الذين انتقدوا هدم بعض الأوقاف لتوسيع الطرق، وعدُّوا ذلك عدواناً على حكم الشرع بتأبيد الأعيان الموقوفة واعتبارها في ملك الله. ومع احتداد المعارضة الفقهية، استصدر يشبك من مهدي مرسوماً قضائياً من القاضي الشافعي فتح الدين السوهاجي يؤيد الأمرَ السلطاني. وكتب الفقهاء عدداً من الرسائل وأصدروا بعض الفتاوى التي تضفي الشرعية على التطوير وتسوق له المبررات.
تحوّلت هذه الحادثة والنصوص التي أفرزتها، ووقائع معدودةٌ مماثلةٌ، أساساً نظرياً لمجالٍ بحثيٍ جديدٍ تطوَّر في القرن العشرين وسمّي "فقه العمران". ويفترض الباحثون في هذا المجال وجود كيفيةٍ إسلاميةٍ لتخطيط المدن وبنائها، يسعون لاستنباطها من تحليل النصوص الشرعية التي أنتجها الفقهاء في مثل حادثة تطوير القاهرة على يد يشبك من مهدي.
يكشف تمحيص حادثة تطوير القاهرة المملوكية عن ضعف الأسس التي تستند إليها بعض التصورات السائدة في "فقه العمران". إذ يبني الباحثون مفهوم "الإسلامية العمرانية" على فتاوى ورسائل ألَّفها الفقهاء، تعبِّر عن مشروعاتٍ سياسيةٍ وتقديرات السلطة للمصلحة، أكثر من تعبيرها عن قواعد فقهيةٍ مستقرةٍ أو واقعٍ تاريخي. وفي توظيف هذه النصوص أساساً نظرياً لفقه العمران تُنزع من سياقها، وتُصوَّر كيفياتٍ وخططاً للبناء. ينتج هذا تصوراً عن المدينة الإسلامية تختلط فيه الأحكام الشرعية بالكيفيات الفنية، والخصوصيات التاريخية بالقواعد العامة، والفرضيات النظرية بالواقع.
في الجامعات المصرية اهتم أساتذة العمارة والفنون الإسلامية في كليات الآداب والآثار بمشروع المعماري العراقي. فنشرت آمال العمري، الأستاذة بكلية الآثار سنة 1988 تحقيقاً لرسالة "الفوائد النفسية الباهرة في بيان حكم شوارع القاهرة في مذاهب الأئمة الأربعة الزاهرة" للفقيه الشافعي أبي حامد محمد بن خليل المقدسي، المتوفّى سنة 1483. وعرضت في مقدمة التحقيق تصوّرها للأسس الفقهية التي يستند إليها العمران في المدن الإسلامية. وفي السنة نفسها ألَّف محمد عبد الستار عثمان، أستاذ العمارة الإسلامية بجامعة سوهاج، كتابَ "المدينة الإسلامية"، وحلَّل فيه القواعد الفكرية والشرعية التي تأسست عليها هذه المدن. وفي سنة 1989 نشر حسن الباشا، الرئيس السابق لقسم الآثار الإسلامية بكلية الآثار بجامعة القاهرة، مقالاً بعنوان "المنهج الإسلامي في العمارة الإسلامية: مقدمة في فقه البنيان" سكّ فيه مصطلح "فقه البنيان" مستنداً على كتاب "الفوائد النفسية" وكتاباتٍ أخرى مشابهة.
انتقل هذا الاهتمام من الأساتذة للطلاب والدارسين. في تسعينيات القرن العشرين، أَلّف طلبة الدراسات العليا في عددٍ من الجامعات المصرية رسائل ماجستير ودكتوراه عن قضايا الفقه العمراني. فقدَّم خالد عزب سنة 1995 رسالة ماجستير في الآثار الإسلامية عنوانها "دور الفقه الإسلامي في العمارة المدنية في مدينتي القاهرة ورشيد في العصرين المملوكي والعثماني". وفي سنة 1996 نشر محمد الكحلاوي، المدرس بكلية الآثار بجامعة القاهرة حينئذٍ، مقالاً بعنوان "أثر مراعاة القبلة وخط تنظيم الطريق على مخططات العمائر الدينية بمدينة القاهرة". ثم نشر سنة 2000 بحثه "القيم الدينية وأثرها في تخطيط عمارة المساجد".
لم يختلف الأمر كثيراً في المملكة العربية السعودية، التي فتح استقرار المعماري العراقي بسيم حكيم بها باب اهتمامٍ واسعٍ بفقه العمران. فعاد جميل أكبر بعد حصوله على الدكتوراه للتدريس في كلية العمارة بجامعة الملك فيصل، ونشر سنة 1992 كتاب "عمارة الأرض في الإسلام" المبني على أطروحته للدكتوراه. أما الهذلول، الذي عاد للمملكة للتدريس في كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود، فنشر سنة 1993 كتاب "المدينة العربية الإسلامية: أثر التشريع في تكوين البيئة العمرانية" المبني على أطروحته للدكتوراه. وتوالت بعدها الأطروحات والكتابات العلمية عن القضايا ذاتها.
ساهمت هذه الكتابات في تطوير فقه العمران مجالاً بحثياً ومعرفياً مستقلاً. يحاجّ الباحثون في هذا المجال قيام المدن التي نشأت في ظل حكم الإسلام على قواعد فقهية. يؤكد عثمان في ورقته "توسیع عمارة المساجد في ضوء الأحكام الفقهية" المنشورة سنة 2017، استناد العمارة المملوكية لقواعد فقهيةٍ مستمَدّةٍ من الكتاب والسنة، أهَّلتها للوصف بالإسلامية. ويسعى الباحثون لاستخلاص هذه القواعد بالنظر في النصوص التي كتبها الفقهاء وقت تأسيس المدن وتطويرها. ففي دراستهما "مصطلحات فقه العمران في ضوء الوثائق والمصادر الفقهية" المنشورة سنة 2024، يُعرِّف الكحلاوي ونهال عبد الصمد، طالبة الماجستير بالكلية، فقهَ العمران بأنه علمٌ حديثٌ يعتمد كتبَ الفقه والفتاوى والنوازل والسياسة الشرعية أساساً نظرياً. ويؤكد عزب في كتابه "فقه العمران: العمارة والمجتمع والدولة في الحضارة الإسلامية" المنشور سنة 2013، استناد هذا المجال الناشئ، بعد قواعد السياسة الشرعية، لمجموعة القواعد "التي ترتّبت على حركية العمران [. . .] وما ينتج عن ذلك من تساؤلاتٍ يجيب عليها فقهاء المسلمين، مستنبطين أحكاماً فقهيةً من خلال علم أصول الفقه".
هذه التصورات تستند لفكرةٍ مركزيةٍ هي "شمول الإسلام"، أي تعلّقه بجوانب الحياة عموماً. هيمنت هذه الفكرة على الخطاب الإسلامي في الثلث الأخير من القرن العشرين، ودفعت الباحثين في مجال العمران للبحث عن التصور الإسلامي له. يظهر هذا في خاتمة دراسة عثمان "الإعلان بأحكام البنيان لابن الرامي: دراسة أثرية معمارية"، التي نشرها سنة 2002. إذ يؤكد فيها تناول الإسلام قضايا الفقه والعمران جزءاً من تناوله مناحي الحياة كافة، ويؤكد تحكّم الفقه الإسلامي في صياغة مفهومٍ متكاملٍ عن العمران والمدينة.
شملت الحملة مناطق متعددةً من المدينة عرفت بازدحامها السكاني، أهمها القصبة العظمى التي تمتد من باب الفتوح حتى باب زويلة (أبواب في السور الذي أحاط بالقاهرة القديمة). وتركزت الإصلاحات في منطقة بين القصرين في قلب العاصمة الفاطمية، وكذا منطقة خارج باب زويلة التي ضمّت منشآت خوند شقرا، ابنة السلطان المملوكي فرج بن برقوق. أزالت الإصلاحات بعض هذه المنشآت ومعها عددٌ من المنشآت والمحلات التجارية الأخرى. وألزمت أصحاب الدكاكين بتمهيد الطريق.
تعددت أوجه الاعتراض وصوره على هذه الإصلاحات. في كتابيه "الروض الباسم في حوادث العمر والتراجم" و"نيل الأمل في ذيل الدول"، يحكي المؤرخ عبد الباسط الملطي الحنفي، المتوفى سنة 1514 امتعاض الناس من تعثر الطرق وإغلاقها. وينقل المؤرخ شمس الدين السخاوي، المتوفى سنة 1497، في كتابه "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع"، سَبَّ الناسِ القاضيَ فتح الدين السوهاجي بسبب قرارات الهدم التي أقرّها، وتعيينَ يشبك أحد أولاد المماليك لمراقبة تنفيذ القرارات وأمرَه باستخدام العنف في تنفيذها إن استدعى الأمر.
واعترض مع عموم الناس وجهاؤهم من الأمراء والعلماء. أما أمراء المماليك، فواجهت السلطة اعتراضهم بالقمع. ولعل المثال الأهم على ذلك ضرب الأمير تنم الضبع، أحد أمراء "العشرات" في القاهرة، بعد اعتراضه على إقرار السوهاجي هدم ممتلكاته، بحسب الحنفي. وأما الفقهاء فاعترضوا على هدم بعض الأوقاف العامة، مثل الأسبلة والتكايا، والمنشآت الموقوفة التي استفادوا من ريعها.
لم تكتف السلطة بالقمع في مواجهة معارضة الفقهاء، بل استصدرت عدداً من الفتاوى الداعمة لموقفها. بدأت بمرسوم السوهاجي الذي أضفى شرعيةً دينيةً على قرار السلطان. وطلب يشبك من الفقيه الشافعي أبو حامد محمد بن خليل المقدسي دعم قراره، فألَّف رسالة "الفوائد النفيسة الباهرة في بيان حكم شوارع القاهرة"، وذكر في مقدمتها إقدامه على الكتابة بطلب الأمير المملوكي. أما قاضي القضاة الحنفي سري الدين عبد البر ابن الشحنة، الذي ألَّف رسالة "تحصيل الطريق إلى تسهيل الطريق" وأيَّد فيها الإصلاحات، فكوفئ بتعيين والده شيخاً لأحد مدارس القاهرة الرئيسة.
كانَت هذه الكتابات أول تقاطعٍ في تاريخ القاهرة المملوكية بين العمران والفقه. فالإنشاءات والإصلاحات في القاهرة قبلها، على كثرتها، لم تكن محلّ اهتمام الفقهاء والمفتين ولم يتناولوها في مؤلفاتهم وفتاواهم.
ثمّة اختلافاتٌ مهمّةٌ بين رسالتَي المقدسي وابن الشحنة. فقد اقتصر ابن الشحنة على عرض الحوادث حسب المذهب الحنفي واستنباط أحكامه فيها، بينما يعرضها المقدسي حسب المذاهب الأربعة. واعتمد ابن الشحنة أكثر من المقدسي على المؤلفات الفقهية السابقة. إذ ينقل في مواطن مختلفةٍ من رسالته عن نحو مئة مؤلَّفٍ فقهيٍ يلخّص أقوال الفقهاء في مسائل العمران فيها. أما المقدسي فيكتفي بنقل أقوال رؤوس المذاهب الثلاثة، أبي حنيفة النعمان ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل، مع قليل من التوسع عند بيان الأحكام على مذهب محمد بن إدريس الشافعي، فينقل أقوال أئمة المذهب مثل الرافعي والنووي والغزالي.
ومع هذه الاختلافات، يشترك النصَّان في خلوّهما من وقائع الإزالات والتعدّيات على الملكية الخاصة والأوقاف. لا يشير الفقيهان إلى هذه الوقائع، ولا إلى اعتراض الأهالي عليها وخلاف الفقهاء حولها. بل يكتفي كلٌّ منهما، بعد مقدمةٍ تمتدح عمل الأمير يشبك إجمالاً، بشرح بعض الأحكام الفقهية، مثل الفرق بين أحكام الطريق النافذ وغير النافذ، دون الإشارة للحالات المعيّنة التي تنطبق عليها هذه الأحكام. ويكتفي المقدسي في ختام رسالته بالإشارة لسريان هذه الأحكام على الإصلاحات المعاصرة له بقدر التزامها الشروط التي ينص عليها. أما ابن الشحنة فلا يتناول واقعه المعاصر إلا في إشارته لتكدس شوارع القاهرة وضيقها على الناس. ومع عدم تناولهما الوقائع التفصيلية، تبدو الرسالتان في سياقهما وترتيبهما وكلامهما عن الأحكام العامة تسويغاً لأفعال يشبك من مهدي.
لم تحظَ هذه النصوص والفتاوى بقبول معاصري كُتّابها. يصف السخاوي في "الضوء اللامع" المدافعين عن الأمر السلطاني وإصلاحات يشبك بأنهم "قضاة سوء" استخدمهم الأمير لهذا الغرض. ويحكي انقلابَ الناس على القاضي السوهاجي بعد موت الأمير، وإعراضَهم عنه وهجرَهم إياه لأنهم رأوه مشاركاً في هدم ممتلكاتهم وتدميرها بفتاواه، حتى مات فقيراً منبوذاً.
تقرأ جلُّ الكتاباتِ في فقه العمران النصوصَ الفقهية الواردة من واقعة توسعة شوارع القاهرة في زمن الأشرف قايتباي وغيرها تخطيطاً للمدينة. وتكشف استعادة السياق التاريخي عن خطأ هذه الفرضية. إذ لم تكن الرسائل التي ألَّفها المقدسي وابن الشحنة وغيرهما تخطيطاً للواقع، تسبق وجودَ الإصلاحات فتوجّهها، بل كان ظهورها لاحقاً للإصلاحات. وتشير المصادر التاريخية لعدم التزام أمراء المماليك القواعدَ التي نصَّ عليها الفقهاء. إذ بنى عددٌ من السلاطين مقابرهم التي دفنوا فيها في الطرق ذاتها التي شهدت الإزالات. فبنيت مدرستا الناصر محمد والظاهر برقوق، ومجموعة السلطان قلاوون، وهي مجمع منشآتٍ مختلفة الوظائف من قبّةٍ ومشفىً ومدرسةٍ، في شارع المعزّ لدين الله الفاطمي في قلب القاهرة الفاطمية. وهذا كلّه مخالفٌ للمنصوص عليه في الكتب التي يتخذها فقه العمران مرجعاً تاريخياً.
ولا تتوقف هنا مخالفة الواقع ما دُوّن في ذلك. بل يحكي الفقيه والمؤرخ الشافعي تاج الدين السبكي، المتوفى سنة 1327، في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم" بيع وكلاء بيت المال أجزاء من الشوارع المملوكة لبيت المال لحسابهم الشخصي.
النصوص الفقهية التي يستند إليها فقه العمران تشتبك مع عناصر معماريةٍ وعمرانيةٍ في المدن التي تحكمها سلطةٌ مسلمة. مثلاً، يخصّص ابن الشحنة باباً كاملاً في رسالته لمناقشة الحديث النبوي الذي ينصّ على جعل عرض الطريق سبعة أذرعٍ عند الاختلاف في ذلك. وهو حديثٌ قد يُفهم من ظاهره بيان كيفية تخطيط المدن بتحديده عرض الطرق فيها.
على أن تمحيص النظر يكشف عن خطأ اتخاذ هذا الحديث دليلاً على تناول الفقهاء كيفيات البناء والتخطيط. إذ لا يستدل ابن الشحنة به على جواز إصلاحات يشبك بن مهدي. بل يبحث طرق الحديث ورواياته المختلفة، ويعرض شروح أئمة الحنفية إياه، واختلافهم في تفسيره بين من يراه أمراً دينياً تعبدياً واجب الاتباع في كلّ زمانٍ ومكانٍ، ومن يراه غير صحيحٍ في الأساس. ومن يراه إرشاداً ورأياً غير ملزِمٍ من النبيّ، ومن يراه حكماً معقول المعنى تتغير صورته بتغير الظروف، ومن يأخذ منه وجوب اتساع الطريق للتهوية والشمس. ويعرض كذلك اختلاف أئمة المذهب في نطاق عمل الحديث، بين من يرى اقتصاره على الطرق التي ورثها المسلمون في المدينة، ومن يرى عمومه الجغرافي ليشمل الأرض الموات، أي غير المملوكة ولا المعمورة، والتي لا توجد بها آثار عمارةٍ ولا تتعلق بها مصلحةٌ عامة.
ولا يرجّح ابن الشحنة بين هذه الأقوال، بل يكتفي بنقلها على نحوٍ يتيح فهم الحديث إرشاداً لكيفيات العمارة، أو حكماً شرعياً لا يتناول الكيفيات، أو حديثاً ليس فيه حكمٌ شرعي. وينشغل عن ذلك بالخوض في تفاصيل فقهيةٍ، مثل ماهيّة الطرق وفرق الأحكام بين الطريق النافذ وغير النافذ.
ويختلف بعض الفقهاء المعاصرين مع منظّري فقه العمران في استعمالهم الحديث دليلاً على وجود كيفيةٍ إسلاميةٍ لبناء المدن. مثلاً، في كتابه "إزالة الأوهام عن دين الإسلام" المنشور سنة 2017، يحاجج خالد محمود بأن عرض الطريق الذي نصّ عليه الحديث ليس تعبدياً وليس مقصوداً لذاته، بل كان مقدراً بما يحتاجه مرور الدواب والتهوية والشمس مع ارتفاع الأبنية في حينه. وينقل عن الإمام الشافعي قوله إن هذا الحكم يتغير بتغير أحوال العمران. أي إن الحكم الشرعي هنا تابعٌ للعمران وليس منظِّماً له، لأن الشرع – بحسب محمود – "لا يأتي بتعليم الناس كيف يؤدون أمورهم الدنيوية".
ويقرأ منظِّرو فقه العمران بعض القواعد الفقهية كيفياتٍ للبناء. فيستند عزب في كتاب "فقه العمران" إلى قاعدة "حيازة الضرر" في تفسير علوّ بعض المنازل في القاهرة أو انخفاضها، ويعدّ ذلك أصلاً في العمران الإسلامي. بحسب هذه القاعدة، يكتسب مصدر الضرر الذي استقر فترةً دون أن يعترض عليه أحدٌ، أو الذي سبق وجوده وجودَ المتضرر منه، صفةَ الشرعية التي تحميه من الإزالة. وقد تطوّرت هذه القاعدة عبر عدّة فتاوى استندت لقاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، مثل فتوى الفقيه المالكي عبد السلام سحنون، المتوفى سنة 777، بمنع صعود المؤذّن المئذنة العالية التي بنيت بعد بناء منزلٍ ملاصقٍ أقلّ ارتفاعاً. يفترض عزب تأثير هذه القاعدة في الأنماط العمرانية. وفي دراسته للمعمار في مدينتي القاهرة ورشيد، يفسّر تباين ارتفاعات المباني المتلاصقة بها.
يقحم هذا التفسير الفقهَ في كيفيات البناء، لكنه لا يقوم على أسسٍ صلبة. فتباين أطوال المباني المتلاصقة له أسبابٌ عمرانيةٌ بحتةٌ لا علاقة لها بقاعدة حيازة الضرر. إذ يبني مالك المنزل منزله وفقاً لحاجته من الأدوار حتى لو اضطر في بعض الأحيان أن يعلو على البناء المجاور له، أي لو كان الأحدث هو المطلّ على الأقدم. وليس ثمّة دليلٌ تاريخيٌ على أن قاعدة "حيازة الضرر" تنظم العلاقة بين الجيران. إذ تكشف قراءة وثائق الأوقاف المتعلقة بمنازل القاهرة غياب القاعدة عن التداول. وإنما حكمت العلاقةَ بين الجيران اعتباراتٌ أخلاقيةٌ لا يسهل ردُّها للفقه، ولا ادّعاء اتخاذها نمطاً عمرانياً موحداً.
وتقع دعوى عزب في خطأٍ تاريخيٍ آخَر، سببه اعتماده على الرؤية العينية للمدينة. من منظوره المعاصر الذي يرى المدينة بعد تشكّلها، يرى عزب أبنيةً متلاصقةً متباينة الطول فيفترض تعاصر سكانها وقصدهم التباين. ولكن بعض هذه المباني التي يستدلّ بها عزب على صحّة نظريته بنيت في مراحل زمنيةٍ مختلفة. وعُمِّرت وهُجرت في أوقاتٍ مختلفةٍ، لا تسمح باختبار مراعاة أصحابها هذه القاعدة.
لا يستطيع منظّرو فقه العمران، على اجتهادهم، استخلاص كيفياتٍ شرعيةٍ لبناء المدن من النصوص الأصلية للشريعة أو نصوص الفقهاء. وهو أمرٌ يمكن ملاحظته من المنهجية المشتتة لدى منظّري فقه العمران، إذ لا يمكن الوقوف على نصٍّ متكاملٍ عن تأسيس المدينة، أو ملامح كاملةٍ للمدينة في العالم الإسلامي.
ودراسة تاريخ النصوص الفقهية التي يستخلص منها منظِّرو المجال قواعدهم تكشف عن خلل هذا التوجه. إذ يظهر منها أن الأحكام الفقهية، سواءً جاءت في صورة فتاوى أو رسائل، إنما كانت ردّة فعلٍ على وقائع وحوادث محدّدةٍ، يُنتج حذفها من التحليل تصوراتٍ مشوهة. مثلاً، يقول خالد عزب في "فقه العمران" بشرعية الإجراءات العنيفة التي أصرّ يشبك بن مهدي على اتخاذها في إصلاحاته لإنجاحها، استناداً لقاعدة "رفع الضرر" التي استعملها الفقهاء في تسويغ هذه الإجراءات. ويعمّم من ذلك جواز اتخاذ السلطة إجراءاتٍ مماثلةً، من نزع الملكيات والهدم وغيرها للحفاظ على الفضاء العامّ وتنظيمه. وهذا التصور يعطي السلطة المركزية في كلّ عصرٍ شرعيةً واسعةً في التدخل لإنفاذ رؤيتها العمرانية، بصرف النظر عما يؤدّي إليه ذلك من إهدارٍ للحقوق.
إلا أن تمحيص الوقائع التاريخية يدلّ على خطأ هذا التعميم. إذ رفض أغلب الفقهاء هذه الإجراءات ولم يقبلها إلا القلّة الذين يستند إليهم منظِّرو فقه العمران دون الإشارة لكونهم قلّة. وحتى القلّة التي قبلت هذه الإجراءات لم تقبلها ابتداءً. بل يحكي السخاوي في "الضوء اللامع" والحنفي في "نيل الأمر" حثّ الأمير يشبك أصحاب المنشآت في الشارع على تنظيمها بما يراعي المارّة، ومرور عامين على هذا الحثّ دون استجابة. خلال العامين تفاقم الضرر بزيادة الاعتداءات على الشارع، وعلوّ الأرض في بعض المواضع وانخفاضها في غيرها بسبب عدم التزام الناس. في هذا السياق، ووفقاً للحنفي، اضطر يشبك من مهدي لتلك الحملة العنيفة، التي استند فيها لأقوال العلماء القائلين بجواز الاعتداء على هذه الممتلكات العامة والأوقاف للضرورة.
هذه الواقعة وغيرها تعني أن الإجراءات المختلفة في بناء المدن وتطويرها سبقت البحث عن أحكام الفقه. وتعني أن البحث عن هذه الأحكام إنما ظهر في حالة تعارض المصالح، سواءً بين الأهالي من سكان المدن، أو بينهم وبين السلطة بسبب إجراءاتها. والأحكام والفتاوى التي صدرت في هذا السياق تاريخيةٌ بالضرورة. إذ يعبّر المقدسي وابن الشحنة عن ردّ فعلٍ تاريخي. وافتراض صلاحية هذه القواعد أساساً للمدينة الإسلامية في كل الأزمنة والأماكن يسقط هذه التاريخية.
بهذا يعيد فقه العمران تركيبَ الفقه القديم، من رسائل وأقضيةٍ وفتاوى أنتجتها ظروفٌ تاريخيةٌ معيّنةٌ، بتجريده من هذه الظروف. وهو ما يضع هذا الفقه في إطارٍ مفاهيميٍ حديثٍ لا يعرفه الفقهاء. وهذا يعني أنه لا يتتبع فعل الفقهاء ليصنع مثلهم اقتداءً، بل يصنع من عملهم فقهاً ومفاهيم جديدة.
في ورقته "القاعدة الفقهية لا ضرر ولا ضرار وبعض فروعها وأحكامها في فقه العمران" المنشورة سنة 2020، يعدّ أحمد زهران هذه القاعدةَ واحدةً من أهمّ القواعد الناظمة للعمران في المدن الإسلامية. ويحاجج محمد علي عبد الحفيظ في كتابه "الفقيه والمعمار: دراسة حول أثر الفقه في العمران الإسلامي في مصر" المنشور سنة 2022، باستناد السلطات إليها في إزالة الرواشن والمباني التي يزيدها أصحابها فتصل الطريق العام. ويشير عزب في "فقه العمران" لتفرع قواعد عمرانيةٍ أخرى عليها، مثل قاعدة "إزالة سبب الضرر" إلا في حالة كونه أسبق في الوجود من المتضرر.
ويزعم منظِّرو فقه العمران أن قاعدة "من أحيا مواتاً فهو له" ساهمت في بناء المدن وإدارتها. فيحاجج عزب بأن هذا مفهوم "صاغ المدينة الإسلامية صياغةً كاملةً". أما أكبر فيرى أنه نظم العمران دون عملٍ مؤسساتيٍ ولا سلطويٍ، لأنه بنى قاعدةً عامةً يعرفها الجميع وتحدّد التزاماتهم، ففتح الباب أمام المجتمع المسلم لتعمير الأرض دون انتظار إذن السلطة .
لا يقدّم منظّرو فقه العمران دليلاً تاريخياً جاداً على اعتماد هذه القواعد أسساً للعمران في المدن الإسلامية. إذ تقوم دعواهم على استدعاء النصوص الفقهية التاريخية، مثل رسالتي المقدسي وابن الشحنة، اللتين ركّزتا على مثل هذه القواعد في تبريرها إصلاحات يشبك من مهدي. وهذه النصوص – كما تَقَدَّم – لا تعبّر عن الواقع العمراني التاريخي.
ولهذا، لا ينبغي حصر النقاش عن "إسلامية" العمران في بحث مطابقة هذه النصوص للمبادئ الشرعية. بل ينبغي بحث صور توظيف هذه النصوص التاريخية في السياق المعاصر الذي ظهر فيه هذا المجال البحثي الناشئ، والوقوف على البنية الفكرية التي وجّهت قراءتها وإعادة صياغتها، والافتراضات الأساسية التي حكمت هذه القراءة.
ومن ثمّ فإن أيّ قراءةٍ نقديةٍ جادةٍ لهذه النصوص تقتضي إعادة وصلها بسياقها التاريخي والاجتماعي، وفهم علاقتها بشبكات السلطة والمعرفة التي أنتجتها، بدل الاكتفاء بتوظيفها دليلاً جاهزاً على نموذجٍ عمرانيٍ متخيَّل. إن فهم النص في بيئته الأصلية يكشف بصورةٍ أفضل وأدقّ عن تصورات بعض الفقهاء التاريخية عن المدينة. كذلك فهو يفتح المجال أمام مقاربةٍ أكثر انفتاحاً وتعدديةً لفهم العمران في التاريخ الإسلامي نتاجاً لتفاعلاتٍ معقدةٍ بين الفقه والسياسة والمجتمع، لا صورةً أحاديةً وثابتةً تستعاد في الخطاب المعاصر بمعزلٍ عن جذورها.


