كان الجمهور ينتظر شيئاً ما. سكت المزداوي ثمّ حيّا أهلَ العريس والجمهور. وسكت مرةً ثانيةً وشرع في غناء موّالٍ شديد الحزن، ليسكت مرةً ثالثة. خرجت فجأةً من فمه الكلمات التي ينتظرها شباب المدينة: "شالوها ما ودّعتني وأنا ما نصبر بلاها". في تلك اللحظات حلّت فينا رجفةٌ ساحرةٌ هزّت الجميع. فتداخلت الجموع حتى تحوّلت إلى كتلةٍ واحدةٍ والتحمت بالفرقة. وأكمل المزداوي بقية الحفل يغنّي محمولاً على الأعناق. كنت ساعتها مراهقاً ورأيت "الأسطورة" عياناً. فقد كان فوزي المزداوي أسطورةً في خيالنا لا يتجلّى لنا سوى من خلال أغانيه. وفي تطاوين الممزقة بين تونس وليبيا، كان المزداوي علامةً على هويةٍ موسيقيةٍ لا تعترف بخطوطٍ رسَمها الاستعمار بين البلدين. فقُدرته على أن يغنّي جراحك ورجفة قلبك –وأنت الشاب المقيم في الطرف الآخر من الحدود– وكأنه يقطب جرحاً، تكشف عن وحدةٍ روحيةٍ وهوياتيةٍ في الوقت نفسه.
رغم بُعد تطاوين عن السواحل والمراكز الحضرية، إلّا أنّها كانت تنهل من موسيقاتٍ مختلفةٍ تونسيةٍ وليبيةٍ وجزائريةٍ، وهي في حقيقتها موسيقى مغاربية تشترك فيها قبائل المنطقة وسكانها. كانت الأغاني الليبية شائعةً مثلها مثل أغاني الراي المغربي والجزائري والغناء الشاوي الجزائري، جنباً إلى جنبٍ مع الأغاني الشعبية المحلية وغناء المزود التونسي. وتُرى كلّها أغانيَ محلّيةً، خلافاً للأنواع الغنائية التي حملتها الإذاعة والتلفزيون من المشرق العربي.
ومثل أغلب المجالات الجغرافية والثقافية المتجاورة في العالم، للمغرب العربي –أو المغرب الكبير كما يسمّى أحياناً– أذنٌ مشتركةٌ تجعل من الغناء والكلمة الملحّنة طائراً يخترق الحدود. فيعيش حالةً من الطبيعية المضادّة للتقسيم الحدودي الطارئ على المنطقة، منذ خضوعها للاستعمار الأوروبي بدءاً من القرن التاسع عشر. لكن التقسيم ترك آثاراً على تمثّل السكان للغناء في المنطقة. فصار التراث المشترك محلّ نزاعٍ على ملكيّته بين هوياتٍ وطنيةٍ حديثة النشأة، مع أنه وُلد وتطوّر وترسّخ قبل وجود هذه الهويات المصطنعة في سياقاتٍ تاريخيةٍ غابت فيها الحدود الواضحة بين مناطق بلاد المغرب. لم تكن هناك حواجز أمام حركة السكان الذين رسّخوا بهجراتهم وتنقّلهم طبائع وعاداتٍ وأعرافاً وفنوناً صارت لاحقاً خصائص ثقافية واجتماعية مشتركة.
حسمت اليونسكو هذا الخلاف بمنح الجزائر ملكية الراي سنة 2022. لكن القرار بدا تعسّفاً في منح التراث المغاربي المشترك هويةً وجنسيةً محدّدة. وُلِد الراي في بدايات القرن العشرين من مزيجٍ من الفنون الصوفية والبدوية في المجال الجغرافي الواسع بين الغرب الجزائري والشرق المغربي، في منطقتَي وهران بالجزائر ووجدة بالمغرب. وقد ساهم في تطويره فنّانون مغربيّون أمثال الشاب ميمون وحنينو، وجزائريون مثل الشاب خالد والشاب حسني والشاب مامي. وهو يحظى باهتمامٍ كبيرٍ في تونس وليبيا، لاسيما في أوساط الشباب. فهو بذلك نوعٌ غنائيٌّ عابرٌ للحدود الوطنية.
وعلى نطاقٍ أقلّ شدّة، اختلف البلدان المغاربيان أيضاً حول جنسية موسيقى "الكَناوة"، التي تمزج مجموعةً من الأغاني والإيقاعات الدينية المغاربية. وقد نشأت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتطوّرت من الاندماج الثقافي للعبيد الذين جُلبوا من إفريقيا إلى بلاد المغرب. ومع أن اسم الكناوة هو الشائع في المملكة المغربية، إلّا أن هذا النوع يجد شبيهاً له في تونس. نتحدث عن فنّ "السْطُمْبالي"، وفيه انتشاءٌ روحيٌّ غنائيٌّ يعبّر عن رحلة السود والأحباش من جنوب شرق إفريقيا الذين سيقوا إلى أسواق النخاسة.
صَنّفَت اليونسكو الكناوة سنة 2019 تراثاً مغربياً إنسانياً ضمن اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي، وهو ما عَدّته وزيرة الثقافة الجزائرية مليكة بن دودة "موسيقى جزائرية تمّ تصنيفها في بلدٍ آخَر". لكن الكناوة تشكّلت تاريخياً من اندماجٍ اجتماعيٍّ فريدٍ في مجالٍ مفتوحٍ. ليس في بلاد المغرب فحسب، وإنما مع إفريقيا جنوب الصحراء. إذ لم تكن آنذاك محصورةً ضمن الحدود الحديثة للدول، ولم تحمل أيَّ جنسيةٍ أو هويةٍ قوميةٍ بمفاهيم العصر.
هذه الخلافات المغربية الجزائرية حول ملكية الراي والكناوة تبرز مثالاً للخلافات التي تنشب بين حينٍ وآخَر بين التونسيين والليبيين حول ملكية الأغاني الشعبية، لاسيما على وسائل التواصل الاجتماعي، ويمتدّ الجدل أحياناً إلى وسائل الإعلام. حدث ذلك سنة 2024 مع الفنانة التونسية لطيفة عندما أصدرت أغنية "يا ليالي"، وهي إعادة إنتاجٍ لأغنيةٍ تراثيةٍ تسمّى "ريت النجمة". بدأت الأزمة عندما عرّفت لطيفة الأغنيةَ قطعةً من التراث التونسي والليبي المشترك، مع أنها تعود في جذورها إلى إقليم فزّان جنوب ليبيا.
ربما لم تدرك لطيفة حقّاً جذور الأغنية. وبسبب قوّة حضور الأغنية منذ عقودٍ في الجنوب التونسي، فقد كنّا دائماً نعتقد أنها من تراث الجنوب التونسي. وذلك لكثرة ما كنّا نسمعها في الأعراس وفي المناسبات على لسان الأمّهات والجدّات. وقد أشارت لطيفة نفسها إلى أنها سمعت الأغنية أوّل مرّةٍ من والدتها وهي صغيرة.
وعلى الشاكلة نفسها دارت سجالاتٌ تونسيةٌ ليبيةٌ على وسائل التواصل الاجتماعي حول تنازع ملكية أغنية الفنانة التونسية صليحة "بخنوق بنت المحاميد عيشة". كلمة "بخنوق" تعني الوشاح الطويل لدى القبائل البدوية. مع أن الأغنية تمثل ذروة الإبداع المشترك، بين كلماتٍ كتبها الشاعر الليبي البشير فهمي فحيمة وأداءٍ بصوت الفنانة التونسية الأشهَر التي تنحدر في الوقت نفسه من أصولٍ جزائرية. تروي الأغنية قصّةَ حبٍّ بين شابٍّ قيرواني وفتاةٍ تُدعى "عيشة" بنت غومة المحمودي، أحد زعماء قبائل المحاميد أيام الحكم العثماني. وكان مستقرّ هذه القبائل تاريخياً بين الجنوب التونسي والغرب الليبي.
ويقابل المزود في ليبيا "الزُكْرَة" التي تُصنع هي أيضاً من قربة جلد الماعز. ومن أشهر الإيقاعات في المِزْوِد "إيقاع الفِزّاني التونسي". وقد سمّي كذلك نسبةً إلى فزّان. وذلك، كما يبدو، انعكاسٌ للتداخل المعقد جغرافياً وثقافياً في بناء هذا النوع الغنائي وتطوره، والذي يحظى بشعبيةٍ هائلةٍ في تونس تجعله الأكثر انتشاراً في كلّ المناطق والطبقات الاجتماعية.
الشأن ذاته ينطبق على المرسكاوي الليبي الذي تعود جذوره إلى مدينة مزرق، جنوب ليبيا. وشهد المرسكاوي تطوّرَه في بنغازي شرق البلاد حسب الباحث عبدالله السباعي في كتابه "تراث الغناء التقليدي والشعبي" الصادر سنة 2007. تأثر هذا النوع بروافد متنوعةٍ جعلته ما هو عليه اليوم، ومن بين هذه الروافد أغاني اليهود التونسيين.
يشير الكاتب الليبي محمد العنيزي، في مطوّلته المنشورة بالفِراتس "فنّ المرسكاوي.. موسيقى شهدت على تحوّلات بنغازي الليبية"، إلى أن الفنانين اليهود في شرق ليبيا "تأثروا بالمطرب التونسي اليهودي الشيخ العِفريت. اسمه الحقيقي إيسران روزيو، وهو صاحب الأغنية التونسية المشهورة 'ليّام كيف الريح في البرّيمة'. انتشرت أغاني الشيخ العفريت ولاقت إقبالاً في المجتمع التونسي". ويضيف العنيزي أن تسجيلات هذا المطرب كانت "تصل إلى بنغازي منذ الأربعينيات على أسطواناتٍ، فيستمع إليها الناس عبر غرامافون المقهى. ولاتزال بعض كلمات أغاني الشيخ العفريت تتردد في أغنياتنا الشعبية. إحداها أغنيةٌ كان الفنانون الشعبيون يرددونها إلى وقتٍ قريبٍ، ومنهم الفنان عبد الجليل عبد القادر، مع تغييرٍ بسيطٍ في كلماتها".
لذلك فإن هذه الأنواع التراثية ليست ملكيةً تونسيةً أو ليبيةً، بل تنتمي لهذا المجال الجغرافي والاجتماعي المغاربي الواسع. وتكوّنت على مدى قرونٍ من رواسب عربية وأمازيغية وإفريقية ويهودية، كان محرّكها الأساسي الهجرة والتجارة وحركة السكان بين أقاليم بلاد المغرب. وهذا ما يشير إليه عبد الواحد المكني، عضو اتحاد المؤرخين العرب، في دراسته سنة 2003 عن الظواهر الاستهلاكية في المجتمعات المغربية فترة الاستعمار. وتثبت ذلك الشواهد الثقافية حتى في مجالاتٍ أخرى من خصائص الثقافة، مثل الطعام واللباس والشعر والأنساب. فكثيراً ما نجد، مثلاً، بين المغرب والجزائر ألقاباً عائليةً مشتركةً ونسباً لايزال قائماً.
وبين تونس وليبيا يبدو الأمر أكثر ترابطاً. تنتشر في تونس ألقاب عائلاتٍ نسبتها إلى مدنٍ أو قبائل ليبيةٍ، مثل الطرابلسي والفزاني والزليطني والورفلي والمحمودي والصويعي. فضلاً عن وجود شخصياتٍ أساسيةٍ في التاريخ المعاصر للبلاد تنحدر من أصولٍ ليبيةٍ. لعلّ أبرزها أوّل رئيسٍ تونسيٍّ الحبيب بورقيبة الذي ينتمي لعائلةٍ تعود أصولها إلى مدينة مصراتة وسط ليبيا. وحسب ما يرد في بعض الدراسات التاريخية، ومنها دراسةٌ سنة 2010 بعنوان "الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبلاد المغرب العثمانية" للمؤرخ الجزائري ناصر الدين سعيدوني، فقد رسّخت الهجرات بين البلدين هذا الترابط. ذلك أنهما كانا حتى نهاية القرن التاسع عشر ولايتَيْن تتبعان السلطنة العثمانية. وقبل ذلك كانت طرابلس تتبع تونس أيام الدولة الحفصية حتى نهايات القرن الخامس عشر.
سيطرت إيطاليا على ليبيا بعد تسليمها ضمن معاهدة أوشي لوزان أعقاب نهاية الحرب الإيطالية التركية بين سنتَي 1911 و1912 وهزيمة السلطنة العثمانية. شرع الاحتلال الإيطالي بعدها في تنفيذ عمليات تهجير السكان ونفيهم على نطاقٍ واسعٍ نحو تونس ومناطق أخرى. وقد نقل المهاجرون من الأقاليم الليبية، بالأخص طرابلس وفزّان، عاداتهم وفنونهم وشعرهم وغناءهم إلى تونس. فاندمج قطاعٌ منهم في الحياة الثقافية في البلاد.
ينقل الكاتب الليبي إبراهيم أحمد أبو القاسم، في كتابه "المهاجرون الليبيون بالبلاد التونسية" المنشور سنة 1992، أن الفنان والملحن البشير فهمي فحيمة كان من بين الأسماء الليبية التي برزت داخل الساحة الفنية التونسية، ولاتزال أعماله الفنية خالدةً حتى يومنا.
كان البشير صاحب برنامجٍ يُبث على الإذاعة التونسية كلّ خميس. عاش في تونس بين سنتَي 1922 و1947، وألّف عديداً من الأغاني لفنّانين تونسيين، منهم شافية رشدي وحسيبة رشدي والهادي الجويني ومحمد الجموسي. وهو صاحب كلمات إحدى أشهر الأغنيات التونسية "لاموني اللي غاروا منّي" التي غنّاها الهادي الجويني. أمّا في الموشحات الأندلسية والمالوف، فقد برز أحمد شاهين، أحد العناصر المهمة في "فرقة المالوف" في الإذاعة التونسية. والمالوف واحدٌ من أشكال الموسيقى الأندلسية.
يذكر أبو القاسم أن تشابه الفنّ في تونس وليبيا أفسح المجالَ أمام الفنانين الليبيين للاندماج في المشهد الغنائي التونسي. وهنا تبرز شخصيةٌ نسائيةٌ عرفَتها الساحة الفنية التونسية، وهي نجمة الطرابلسية التي ظهرت في الخمسينيات وكانت رفيقةً للفنانة التونسية صليحة. وقد عملت نجمة الطرابلسية بالإذاعة التونسية وفرقة الرشيدية، التابعة للمعهد الرشيدي للموسيقى، والتي كان هدفها الدفاع عن الهوية الثقافية التونسية. وبعد عودتها إلى ليبيا، على الأرجح في الستينيات، اشتغلت نجمة في الإذاعة الليبية. وقد ظلّت أغنيتها ''250 جديدة" إحدى أشهر الأغنيات الشعبية في تونس، ويعاد دورياً إنتاجها وتوزيعها بطرائق جديدة.
أثّر الوجود الفنّي الليبي في تونس، غناءً وشعراً، حتى على طريقة أداء الأغاني. فقد أصبحت الأغاني تبتدئ بآخِر جزءٍ من صدر البيت ثمّ يعاد البيت بأكمله على الطريقة الليبية. يشير إلى ذلك الكاتب التونسي الراحل وعضو المجمع العربي للموسيقى، محمد خَمَاخم، في دراسته "الصيغ الغنائية للموسيقى الشعبية التونسية" المنشورة في مجلة الثقافة الشعبية البحرينية سنة 2013.
لم يخفت هذا التأثير مع الزمن. فقد ظلّت الأغاني الليبية، أو ذات الجذور الليبية، تحظى بشعبيةٍ كبيرةٍ في تونس. كانت الحفلات التي يحييها الفنان الليبي الراحل محمد حسن محطةً أساسيةً لاختبار هذه الشعبية. إذ امتدّت من الحفلات الرسمية إلى التداول الشعبي من خلال حفلات الأعراس والختان والسماع اليومي. شكّل محمد حسن ظاهرةً فريدةً في تونس تشدّ إليه الرحال حيثما أقام حفلاً في مهرجان قرطاج أو في المسرح البلدي بالعاصمة أو في أيّ منطقةٍ من جهات البلاد. لاسيما في الجنوب حيث يزيد جمهوره على جمهوره في ليبيا.
وفي هذا الصدد، أشار الباحث التونسي في الثقافة الشعبية علي سعيدان إلى أن أغنية محمد حسن "يسلم عليك العقل" كانت من بين ثلاث أغانٍ مغاربيةٍ تركت أثراً لا يمّحي في الذاكرة الجماعية التونسية. وذلك إلى جانب أغنية "جريت وجاريت" للمغربية نعيمة سميح، و"يا رايح وين مسافر" لدحمان الحراشي، التي أعاد إحياءَها الجزائري رشيد طه في الثمانينيات.
يقول سعيدان: "تمكّنتْ 'يسلم عليك العقل' في منتصف الثمانينيات بشكلٍ يكاد يكون آليّاً من ذائقة الجمهور التونسي منذ صدورها. من خلال كلماتها التي انتقاها محمد حسن من معجم دارجة الشعر الشعبي الليبي المعاصر. وثانياً الترنيمة الموسيقية المأخوذة من عمق النغم الطرابلسي [غرب ليبيا] والمسنودة بإيقاع المرسكاوي في نسقه البطيء في المقاطع الغنائية والنسق السريع في مقاطع الربط في ما بينها. وهو ما جعلها من أنجح الأغاني الليبية".
من خلال هذه الأمثلة يبدو أن قدرة الأذن الموسيقية وذائقة السماع على تجاوز منطق الحدود الجغرافية والقانونية أكبر من أيّ عملية تقسيمٍ حديثةٍ لبلاد المغرب. ولذلك تصبح كلّ الصراعات على جنسيات الأغاني وانتمائها الوطني محض سجالٍ وهميٍّ لا ينطلق من سياقٍ تاريخي وثقافي متماسكٍ واضح.
ومع وجود دولٍ ودويلاتٍ في المنطقة منذ ضعف نفوذ الخلافة العباسية، أي منذ القرن التاسع وصولاً إلى السيطرة العثمانية في القرن السادس عشر، إلّا أن المجال الجغرافي والثقافي بين أقاليم المغرب العربي كان مفتوحاً ولا تحدّه الحدود القانونية والأمنية التي ولدت مع ولادة الدولة الحديثة.
فحتى نهاية القرن التاسع عشر كانت دول المنطقة، باستثناء المغرب وموريتانيا، ولاياتٍ عثمانية تتمتع باستقلالٍ ذاتيٍّ واسع. بل كانت ضمن أشبه ما يكون وحدةً عسكريةً حتى مطالع القرن التاسع عشر. وفي كثيرٍ من الأحيان كانت الانتماءات القبلية والهويات المحلية لها الأسبقية على السلطة المركزية. ولم تكن قد تشكلت فيها الهويات الوطنية الراهنة، التونسية والليبية والجزائرية. بل إن ليبيا نفسها لم تكن تسمّى رسمياً بهذا الاسم حتى سنة 1934، عندما أطلق الإيطاليون عليها اسم "ليبيا"، وهو اسمٌ يونانيٌّ قديمٌ للمنطقة. وقد ساعدت هذه الهياكل السياسية التي سبقت الاستعمار في تشكيل الهويات المحلية، وكانت مرتبطةً في كثيرٍ من الأحيان بالانتماءات القبلية وولي الأمر الشرعي وشبكات التجارة.
بدأت النزعات الوطنية المحلية في الظهور مع تقسيم القوى الاستعمارية الأوروبية المغرب العربي إلى مستعمراتٍ منفصلةٍ، وفرض حدودٍ مصطنعةٍ تجاهلت الروابط التاريخية والعرقية والثقافية. فاحتلت فرنسا الجزائر سنة 1830 ثم تونس سنة 1881، ولاحقاً احتلت فرنسا مع إسبانيا المغرب سنة 1912. أمّا ليبيا، فخضعت للاستعمار الإيطالي بدايةً من 1911. فيما سيطرت إسبانيا على الصحراء الغربية. ولم تكن هذه الحدود مجرّد فصلٍ جغرافيٍّ بين الشعوب المغاربية، بل إعادةَ هيكلةٍ جذريةً لوَعْيِها وجَعْلَها تعتقد أن الهويات الوطنية الجديدة التي وُصِفَتْ بها كانت أصليةً وليست مفروضة. فما كان يُعَدّ سابقاً اختلافاتٍ إقليمية ضمن مجالٍ اجتماعيّ وثقافيّ أكبر، أعيد تعريفه مميّزاتٍ وطنيةً صارمةً فرضتها أنظمة التعليم والدعاية السياسية والهياكل الإدارية الجديدة.
وقد لعبت المقاومة ضدّ الاستعمار دوراً حاسماً في تشكيل الهويات الوطنية. وهذا بعد ظهور حركاتٍ سياسيةٍ مقاومةٍ تركّز في عملها الكفاحي على تحرير مناطق محددةٍ، وليس كامل بلاد المغرب. مثل الحزب الحرّ الدستوري في تونس، وحركة الأمير عبد الكريم الخطابي في ريف المملكة المغربية، والحركة السنوسية في ليبيا.
ومع جميع محاولات توحيد النضال ضدّ الاستعمار في تجارب مثل مكتب تحرير المغرب العربي، الذي امتدّ نشاطه في القارّة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الخمسينيات بقيادة الأمير الخطابي والحبيب بورقيبة، إلّا أن عمق التقسيم وحجمه الذي وضعه الاستعمار الأوروبي كان أكبر من محاولات إعادة التوحيد. وعندما حصلت الدول المغاربية على الاستقلال لم ترِث حدودَ الاستعمار فحسب، وإنما البنى العقلية التي فرضها أيضاً. فأصبحت الدولة الوطنية الوحدةَ الأساسيةَ للهوية السياسية. وهذا ما يتّضح في دراساتٍ متعدّدةٍ، أهمّها كتاب علي عبد اللطيف احميدة "ما بعد الاستعمار والقومية في المغرب العربي" الصادر بالعربية سنة 2014.
فضلاً عن أن ذلك العصر، أي النصف الأول من القرن العشرين، كان عصر الدولة القومية على الشاكلة الغربية. وكان هو النموذج الذي أثّر في ثقافة النخب المغاربية المناهضة للاستعمار وعقليتها، مثل الحبيب بورقيبة في تونس ومصالي الحاج، مؤسس حزب الشعب في الجزائر والأب الروحي لحركة الاستقلال. بل أثّر النموذج حتى في طريقة سعي هذه النخب ما بعد الاستعمارية إلى إضفاء الشرعية على السلطة وتوحيد السكان تحت هويةٍ وطنيةٍ متجانسة. ومع أن الهويات المغاربية غالباً ما تتمحور حول عناصر مشتركة، مثل اللغة والدين ومقاومة الهيمنة الأجنبية، إلّا أنها ظلّت دائماً هشّةً ومثيرةً للنزاعات بسبب التوترات السياسية بين أنظمة الحكم.
مع الزمن بدأت تظهر الشروخ بين الهويات المغاربية الوطنية حديثة الولادة. تحوّل المشترك الثقافي إلى أدواتٍ للصراع والسيطرة وتعزيز النزعات الانعزالية. وإلى جانب فرض الحدود المادية، أحدث الاستعمار قطيعةً ذهنيةً. وذلك بعدما كان المغاربيون يرون أنفسهم جزءاً من ثقافةٍ أوسع، أحياناً قوميةً عربيةً وأحياناً إسلاميةً. فصاروا دولاً قوميةً وهوياتٍ مجزّأة.
وتجلّت إحدى مظاهر هذه الشروخ في النزاعات على ملكية الأغاني أو الأنواع الغنائية أو أنواع الطعام واللباس. فقد كانت مكونات الثقافة المغاربية مدار جدلٍ وصراعٍ بين الدول المغاربية في منظمة اليونسكو، سواء كان ذلك بشأن الملابس التقليدية في "القفطان" أو الطعام في "الكسكس"، أو حتى الهوية المعمارية في "الزليج" (البلاط المزركش بأشكال هندسية فسيفسائية ملونة). ففي سنة 2023 اتهمّ المغرب الجزائر بالاستيلاء على تراثه بعد تقديم الدولة الجزائرية طلباً بإدراج "القفطان" ضمن التراث العالمي. وقبل ذلك سنة 2020، اختلف البلدان حول "الكسكس" وحسمت اليونسكو الخلاف بإعلانه "طبقاً مغاربياً". وأشعل شعارُ كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم في المغرب سنة 2025 الجدالَ بين الجزائر والمغرب حول ملكية فنّ الزليج.
فهناك دائماً ما هو مشترك في الذائقة السماعية تجعل المرء يطرب للكلمة والإيقاع والصوت دون أن ينظر في جنسيته. وهذا أمرٌ يكتشفه المراقب في التداول الشعبي للأغاني في الحفلات والمناسبات. فربما في حفلةٍ واحدةٍ يسمع أنواعاً مختلفةً من الغناء تخترق حدودَ بلاد المغرب كلماتٍ وألحاناً دون أن يشعر في نفسه بتغيّر. فالتداول الشعبي للأغاني في الحفلات وفي السماع اليومي يكشف عن كثيرٍ من هذه الوحدة المغاربية السماعية، رغم التأثيرات المشرقية الهائلة والقوية المدفوعة بقوّة السينما والدراما والقنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي.
هذا التراث الغنائي المنسوج من التأثيرات العربية والأمازيغية والأندلسية والإفريقية ليس مجرّد انعكاسٍ للماضي، بل هو قوّة حيّة تتنفس وتستمر في تشكيل روح المجال المغاربي. وهو ما يعكس ذلك الولع بفوزي المزداوي عند شبابٍ يعيشون في الجهة الأخرى من الحدود. أو ما يثيره الشاب خالد مثلاً في السامعين عندما يشدو بلحنٍ صاخبٍ "راقدة فالرمال وشعرها مخبّل".
عندما سمعتُ تلك الأغنية أوّل مرّةٍ قبل سنواتٍ، شعرت بلذّةٍ تكمن في تلك الخلطة العجيبة. فقد شعرت بتلك الشدّة الخفيفة بين الخاء والباء بهويّتي التي تربطني بخالد والتي لا تضاهيها إلّا أغنية التونسي الهادي حبوبة "طيح لتالي يا أم الشعور السود"، وهي صورةٌ شعريةٌ تكاد تكون متطابقةً بينهما، لكن كلّ واحدٍ منهما ينشدها بلغةٍ خاصّة.
