الدين في الدولة الحديثة.. كيف نفسّر اختلاف هذه العلاقة حول العالم؟

يرجع اختلاف أنماط العلاقة بين الدولة والدين حول العالم إلى الظروف التاريخية التي تشكلت ضمنها الدول البيروقراطية الحديثة المختلفة، وليس لاختلافات جوهرية بين الأديان نفسها.

Share
الدين في الدولة الحديثة.. كيف نفسّر اختلاف هذه العلاقة حول العالم؟
يظهر الدين في المجتمعات الحديثة في مجالاتٍ مختلفة | تصميم خاص بالفِراتْس

أعلنت جامعة لوسيرن الحكومية في سويسرا سنة 2023 عن وظيفةٍ في قسم اللاهوت اليهودي. اشترط الإعلان في المتقدّمين للوظيفة درجاتٍ علميةً معينة، واشترط معها أن يكونوا من أتباع الكنيسة الكاثوليكية. عرفتُ بالواقعة من صحيفة تايمز أوف إسرائيل الإسرائيلية التي أظهرَت بعض التبرّم من هذا الشرط، لكنه ليس غريباً في السياق السويسري. فقد أسفرت التجربة التاريخية عن وضعٍ معيّنٍ للمؤسسات الدينية في المجال العام، جعل الكنائس تنسّق برامج الدِّين في مؤسسات التعليم العالي. ربما يبدو امتلاك مؤسسات دينية هذه السلطة في بلدٍ أوروبيٍّ علمانيٍّ أمراً غريباً للمتابع من خارج سويسرا.

وفي إسرائيل، حيث لا يُشترط أن يكون الأساتذة في قسم اللاهوت اليهودي كاثوليكيين، ثمة غرائب أخرى في علاقة الدين بالدولة. مثلاً، نال أحمد ناطور، أحد أهم قضاة محكمة الاستئناف الشرعية العليا في البلاد (هناك محاكم شرعية إسلامية في إسرائيل) درجة البكالوريوس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية من الجامعة العبرية بإشراف أستاذٍ يهودي. 

ثمة افتراضات تسم الجدل عن علاقة الدين بالسياسة. أولاً يفترض المتجادلون عادةً تكوين الدين والسياسة ثنائيةً متضادة أو امتداداً متصلاً. تنقسم المجتمعات في هذا التصوّر إلى علمانيةٍ بالكامل، ليس للدين فيها مكانٌ داخل مؤسسات الدولة العامة، وأخرى تنظّمها مؤسسات الدين الرسمية بدرجاتٍ متفاوتة. وثانياً يُعرَّف الدين عادة تعريفاً علمانياً بأنه مُعتقدٌ شخصي. وثالثاً تؤطَّر ثنائية العلماني وغير العلماني جغرافياً. فالدولة الحديثة نشأت في أوروبا علمانيةً. ومع استنساخ هياكلها في مناطق أخرى، سلكت مساراتٍ غير علمانية.

تقصر هذه الافتراضات رغم انتشارها عن تفسير التباين الكبير في موقع الدين من النظام العام في البلدان المختلفة. تختلف أنماط التداخل بين الدين والدولة من بلدٍ لآخر اختلافاً لا يمكن اختزاله في أن الدولة دينيةٌ وعلمانيةٌ. أو اختزاله في نموذج دولة "ويستفاليا" الذي حوَّل الدين والاعتقادَ قضيةً شخصيةً حضوراً أو غياباً. ولا يمكن رد الاختلاف كذلك لاختلاف طبيعة الدين السائد في كل بلد.

يرجع اختلاف أنماط العلاقة بين الدين والدولة للظروف التاريخية المختلفة التي تأسست فيها الدول الحديثة بتزامن في مناطق متعددة من العالم في القرنَين التاسع عشر والعشرين. اتخذت كل دولة في بداية تأسيسها قرارات لخدمة أهدافٍ قصيرة الأجل أو لأنها كانت الاختيارات الأسهل، ثم شَّكلت هذه القرارات ونتائجها مساراتٍ ثابتةً ومستدامةً في كل بلد، لاتزال إلى اليوم تشكل نمط علاقة الدين بالسياسة فيه.


تعجز التفسيرات البسيطة التعميمية أمام التفاصيل المتباينة في كل بلد. وهذا يشمل التفسيرات التي تصرّ على حتمية مسار العلمنة، أو على ارتباط أنماط العلاقة بين الدين والسياسة في مجتمعٍ ما بماهية الدين المهيمن فيه، أو قرب دولة ما أو بُعدها عن نموذج الدولة الحديثة الأوروبي.

يكشف النظر تهافت الفرضيات الأساسية لهذه التفسيرات. يظهر الدين في المجتمعات الحديثة في مجالاتٍ مختلفةٍ، منها العائلة والحياة الاجتماعية والتعليم والعمل الخيري والنظم القانونية والسلطة. تتجاوز هذه المساحات المجالَ الذي تخصّصه التصوّرات العلمانية للدين، وهو قلوب الأفراد وأرواحهم. وإذا قصدنا بالدولة الحديثة الكيانَ ذا الهياكل التي تُعدّ تصرفاتها رسمية، والتي تتعامل مباشرةً وبانتظام مع مجموعة المواطنين الذين يتشكل منهم المجتمع، فهذا الشكل السياسي ظهر في القرنَين التاسع عشر والعشرين في كل مكان تقريباً. فلا تصحّ نسبته لأوروبا. نعم، تَشكَّل هذا الكيان في بعض المناطق في أوروبا قبل غيرها، ولكن الفرق الزمني بالعقود لا بالقرون.

واجهت جميع الدول الحديثة تقريباً سؤال الدين أثناء فترة تَشكّلها. ولم يكن السؤال الحاكم لعلاقتها به: هل تقبل وجوده أو لا، بقدر ما كان سؤالاً عن كيفية التعامل معه. ففي تنظيمها الحياةَ العائلية والتعليم والعمل الخيري والخدمات الاجتماعية، تباينت أساليب الدول الحديثة في التعامل مع القوى الدينية، من الشراكة معها مروراً بتنظيم وجودها وتحديده انتهاءً إلى إقصائها. وحتى وجود الدين نفسه مجالاً عاماً، وتعريف حدوده وما يدخل في نطاقه، تأثر بالظروف التاريخية والكيفية التي تطوّرت فيها هذه الدول.

ولا يمكن تفسير التباين الواسع في أنماط تعامل الدولة الحديثة مع الدين بثنائية العلماني مقابل الديني، أو مدى التزام الدولة بالنموذج الأوروبي، أو بالعودة لنصوص تأسيسية والتعامل معها كما لو أنها حَسمت موضع الدين في الدولة. لا تختلف في ذلك النصوص الدينية مثل الكتاب المقدس أو القرآن، ونصوص الدولة مثل الدستور الأمريكي أو الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن. فليس في النصوص الدينية القديمة ما يتعلق بتنظيم البيروقراطية إلا إرشادات قليلة على أحسن تقدير. وحتى النصوص السياسية الحديثة، التي كُتبت قبل تطوّر الدولة الحديثة، لا تقدِّم إلا القليل من الإرشاد في هذا الإطار.

اكتسبت النصوص التأسيسية معنى مختلفاً مع ظهور الدولة الحديثة. فعلى سبيل المثال، جرت العادة على أن التعديلَ الأول للدستور الأمريكي – الذي يمنع مجلس النواب والشيوخ "الكونغرس" من إصدار "أي قانون خاص بتأسيس دين أو يمنع حرية ممارسته" – أساس العلمانية الأمريكية. إلا أن معناه كان مختلفاً عند صدوره في بلدٍ لم تكن فيه "دولة حديثة"، كما عرَّفناها في فقرة سابقة، ولا تمييز بين المجالين العام والخاص ولا بين الشقَّين الديني والعلماني للحياة الاجتماعية. فعند إقرار الدستور الأمريكي سنة 1791، فهم البعض منه حظر تدخل الدولة في المجال الديني. ولكن غيرهم قصروا الحظر على الحكومة الفيدرالية، واستندوا إلى شطر العبارة الثاني الذي يكلِّف الكونغرس بحماية حرية ممارسة الدين، مدّعين أن وجوب حمايته تعني "حرية" الولايات المختلفة في اتخاذ دِين رسمي لها إن أرادت.

يتضح من هذا خطأ إرجاع نمط العلاقة بين الدين والدولة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى النصوص التأسيسية. فالخلاف في تفسير النص وقتئذٍ يعني أنه لم يَحسم صورة العلاقة بين مؤسسات الدولة والدين، بل أطَّرها، وفتح المجال لظهور أسئلةٍ أخرى مثل السؤال عن موقع الدين في نظام التعليم العام. وربما ساهم قانون الضرائب المفصَّل، الذي يمنح المؤسسات الدينية بعض المزايا الضريبية، أكثر من هذا التعديل في صياغة العلاقة بين المؤسسات الدينية وأجهزة الدولة في الولايات المتحدة وفي تعريف كل منهما.

لا تقتصر حداثة تأطير الدين والدولة على الولايات المتحدة. ربما كانت أقلّ دول العالم انخراطاً في إدارة الدين هي سيراليون، الدولة التي نشأت على أنقاض كيانٍ سياسيٍّ شكَّلته بريطانيا قبل قرنَين على أساسٍ دينيٍّ قويٍّ دعَمَته البعثات التبشيرية المسيحية. فقدَ هذا الكيان هويّتَه الدينية مع توسّعه الجغرافي بعد ذلك بقرن. وما بدأ مسعى دينياً لتأسيس مستعمرةٍ صغيرةٍ للمحرَّرين من العبودية في فري تاون (المدينة الحرة) توسَّع بسرعةٍ في نهاية القرن التاسع عشر في منطقةٍ جغرافيةٍ ينتشر الإسلام فيها بسرعة ويصعب تمييز المسيحية والإسلام والممارسات الدينية الأخرى لسكانها. نشأت الدولة في هذا السياق الذي لم يؤطَّر فيه الدين ولم تظهر الحاجة لتأطيره ولا لتمييز بعض الممارسات الدينية عن بعض، فتُركت الحياة الدينية بعيدةً عن أسئلة الحكم. 

يبدو الوضع مختلفاً في سريلانكا، حيث بنت الحكومة الإنجليزية – المكوّنة حصراً من مسيحيين – الجهاز البيروقراطي. وقَّع حكّام كاندي سنة 1815 اتفاقيةً مع الحكومة البريطانية حوَّلت مملكتهم محميةً بريطانية. وتضمنت الاتفاقية مادة تقضي بضرورة حماية بريطانيا الديانةَ البوذية ومعابدَها. وعندما بنى البريطانيون المؤسسات البيروقراطية والمدنية، بنوها على أساس البوذية وحدها. في التعليم، وفّر الحكم البريطاني حمايةً لتأسيس مدارس الإرساليات المسيحية. فضغط غير المسيحيين لتأسيس تعليمٍ حكوميٍّ موازٍ وتخفيف المحتوى المسيحي لمدارس الإرساليات. كانت النتيجة تقديم الدولة نفسها مناصرةً للحريات الدينية، وحاميةً البوذية في الوقت نفسه. فصارت ترعى وتدير الشأن الديني، تارةً بالتبجيل وأخرى بتردّد وتحفّظ. ولا يكتفي هذا المزيج المعقد بإقحام النقاشات الدينية في السياسة، بل يضمِّنها داخل الدولة التي تديرها بطرقٍ ليست دائماً سلمية.

ولا يمكن تقسيم أنماط العلاقة بين الدين والدولة إلى أوروبية وغير أوروبية. قد يُفاجأ زوار منطقة ويستفاليا الألمانية، التي يفترض أنها مَنشأ منظومة الدول الحديثة التي تعترف بالدين مجالاً خاصاً، بطلب الجهات الرسمية اختيار دينهم من قائمةٍ محدودةٍ من الأديان المعترف بها. وقد يحتارون عند اكتشاف تدريب الجامعات الحكومية في المنطقة منتسبي المؤسسات الدينية في مدارس الولاية. وفي فرنسا تَعدّ الدولة الدين مسألةً شخصيةً لا تتدخل فيها، ما لم يكن هذا الدين الإسلامَ الذي تتحدث النخبة الفرنسية باستمرار عن الحاجة لاستحداث صيغةٍ فرنسيةٍ منه.


يصبح وجود الدين ومؤسساته في الفضاء العام، في مجتمعاتٍ يُفترض أنها علمانية، أقلّ غرابة إذا اعتمدنا طريقة جديدة لفهم العلاقة بين الدين والدولة. اعتاد الباحثون الحديثَ عن "الدين والدولة" كيانَين منفصلَين، لكلّ منهما تعريف وحدود واضحة وثابتة، تُبحث كيفية تفاعلهما.

يُبحث هذا التفاعل عادةً على أربعة أسس. الأول يعرِّف الدين بعقائده الأساسية، أو "الدولة الحديثة" من لحظة ظهورها في ويستفاليا في القرن السابع عشر. ينطوي القبول بهذا الأساس على خطر الانطلاق من فهمٍ ضيق للدين والدولة، نشأ في ظرفٍ تاريخيٍّ معيّن، وتعميمه على سياقاتٍ جغرافيةٍ وتاريخيةٍ أخرى للدين والدولة فيهم تمظهرات أخرى.

الأساس الثاني فهم الدين والدولة في إطار مفاهيم فضفاضة وغامضة، مثل "العلمانية". يعترف المستندون لهذا الأساس عادةً بوجود درجاتٍ مختلفةٍ من العلمانية. لكن القبول بأصلهم ينطوي على خطر الاختزال الذي يحوِّل التنوع الواسع في صور الدين والاختلاف في معناه، وحتى مجرد وجوده، مجالاً متمايزاً إلى درجاتٍ مختلفةٍ من لونٍ واحد.

يركز الأساس الثالث على توظيف السلطات السياسية الدين. وفق هذه المقاربة، تتحدد صورة وجود الدين في المجتمع وتتصرف المؤسسات الدينية على النحو الذي يخدم السلطات، أو الأنظمة أو الدول أو المستبدين، ويضمن بقاءهم ويمكّنهم من إعادة إنتاج سلطتهم. وتكمن خطورة هذا الأساس في حصره أسباب ظهور الأنماط المختلفة لوجود الدين في المجال العام في ألاعيب المستبدين. وإذا كان الحكام يساهمون في تشكيل المجال الديني، فإنهم لا يتحكمون فيه بالكلية. بل يحسن تفسير طبيعته ودوره بالرجوع إلى تطوّره التاريخي، ومسار تكوّن الدولة الحديثة في العصر الحديث الذي لا يقتصر على رغبات الحكّام.

الأساس الرابع عدُّ أوروبا منشأَ نموذج الدولة الحديثة العلمانية، ومنها انتشر بعد ذلك في ربوع العالم أو فرضه الاستعمار الأوروبي بالقوة. يتغافل هذا الأساس عن كون التحولات المنسوبة لأوروبا هي في الحقيقة أكثر عالميةً في طبيعتها، وأكثر تنوعاً في خصائصها وأشكالها، ولم تحتج دوماً لدول "قومية". فإلى نهاية القرن العشرين، عاش معظم الأوروبيين في دولٍ متعددة القوميات، مثل المملكة المتحدة ويوغوسلافيا والاتحاد السوفييتي. أما الدول القومية، فليست منتجاً أوروبياً، بل ظهرت بصورٍ متباينةٍ في العالم كلّه في القرنَين التاسع عشر والعشرين. وإذا كان الاستعمار فرض في بعض الأحيان دولاً قومية، فإنه حال في أحيانٍ أخرى دون قيام دولٍ أخرى، وتأسّس صنف ثالث من هذه الدول في بعض الحالات لمواجهته. وإذا كانت الدول الأوروبية تُعَدّ علمانية، فإن علمانية جلها تصير محلّ شك إذا قورنت بعلمانية سيراليون. وبعضها (مثل إسبانيا) كان دينياً على نحوٍ وَلَّد صراعاتٍ مشابهة للصراعات في سريلانكا.

كيف يتداخل الدين مع الدولة. هذا السؤال ليس أوروبياً أصالةً، وإجابته ليست أوروبية. هو سؤال عالمي إجاباته محلية تختلف من بلدٍ لآخر. تشتبك الدول المختلفة، بقصد أو بدون قصد، مع سؤال الدين حين تصوغ سياساتها التعليمية أو برامج الرعاية الصحية أو قوانين تسجيل الملكية أو الضرائب. وتضطر في خضم هذه العملية لتأطير "الدين"، وتحديد ما يقع في مجال عمل أجهزة الدولة وما يقع خارجه. ويندر تحاشي الدولة الدين كاملاً. فمعظم الدول، بما في ذلك تلك التي تقدّم نفسها علمانيةً، تضمّ جوانبَ من الدين في هياكلها وأنماط إدارتها وقوانينها. ولم تتشكل هذه الأنماط في الماضي البعيد، بل مع ظهور الدولة الحديثة وتوسعها وتكثّف وجودها في التعليم والإحصاء والضرائب والإسكان والتجنيد والأمن، وغيرها من الخدمات التي تقدّمها لمن تحكمهم.


لا يمكن تفسير الصبغة الدينية المميِّزة لجل النظم السياسية في الشرق الأوسط اليوم بوجود فروقٍ جوهريةٍ بين الإسلام والأديان الأخرى. بل السبب الأهم لهذه الصبغة هو قرارات بيروقراطية اتخذت قبل قرنَين من الزمان. رسّخت الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أنماطاً وهياكل للدين والدولة ورثتها الدولَ التي قامت على أنقاضها. صحيح أن الدول الوارثة عدَّلت الأنماط والهياكل، لكن التركة العثمانية ظلَّت حاضرة ومؤثرة في تعريف المجال الديني وموقعه من الدولة. وحتى دول المنطقة، التي لم تكن تحت السيطرة العثمانية، اتبعت أنساقاً مشابهة.

تظهر هيمنة التركة العثمانية في استمرار أنماط إدارة الأوقاف والمساجد والمحاكم على أنها مؤسسات دينية. بدأ الحكم العثماني قبل خمسة قرون بحكومةٍ محدودةٍ تمثل امتداداً للبيت السلطاني. اعتادت الحكومة استرشاد مفتي إسطنبول في المسائل الدينية، وأطلقت عليه لقباً تقديرياً هو "شيخ الإسلام". ومع نمو الدولة وتعقّد هيكلها واتساع مسؤولياتها، تقلّد شيخ الإسلام مهاماً إدارية جديدة مثل الإشراف على القضاة، فتحوَّل تدريجياً من فردٍ إلى مؤسسة حكومية بيروقراطية.

عَرَّفت مهام شيخ الإسلام المجالَ الديني. اكتمل تَحوّل منصب "شيخ الإسلام" بحلول القرن التاسع عشر من فقيهٍ في العاصمة، يعيِّن القضاةَ المحليين والمسؤولين الدينيين في سائر الولايات، إلى "مشيخة" ومؤسسة هرمية ذات اختصاصات ومكاتب إدارية تخضع لإشرافٍ مركزيٍّ من إسطنبول. تولَّت المشيخة مسؤوليةَ التعليم والقضاء، فعُدت المدارس والمحاكم – لارتباطها الإداري بشيخ الإسلام – مؤسساتٍ دينيةً. وعندما تأسست مؤسسات تعليمية وقضائية خارج مؤسسة شيخ الإسلام مثل المدارس الفنية، ومنها مدارس الطب والهندسة ومجالس الحكم، لم تكن معاديةً للدين أو "علمانية" بالكامل. فقد احتوت في كثيرٍ من الأحيان على عناصر دينية، وشغل مناصبها أفراد تعلّموا تعليماً دينياً. ولكنها لم تعد "دينية" بسبب خضوعها لإشراف وزارات ومؤسسات حكومية غير المشيخة.

أَدخلت هذه التطورات الأوقافَ والمساجد والعائلات المجال الديني. وُجِّه ريع الكثير من الأوقاف لعمارة المساجد والإنفاق على أوجه البر. وخضع نُظَّار هذه الأوقاف لإشرافٍ من القضاة. مع انتظام المحاكم في البيروقراطية، وعدّها "دينية" بأثرٍ رجعي، صار الإشراف على الأوقاف ومصارفها عملاً دينياً. ومع ظهور هيئات التقاضي الأخرى غير التابعة للمشيخة واختصاصها بنظر القضايا التجارية والجنائية، واستمرار ولاية المحاكم الشرعية على قضايا الزواج والطلاق والميراث وما يتعلق بهما من نفقة وحضانة، دخلت "أحكام الأسرة" – دون الأحكام التجارية مثلاً – المجال الديني.

لا ينبغي الانخداع بالتشابه بين الإشراف القضائي على الأوقاف قبل القرن التاسع عشر وبعده. طوّر الفقهاء فكرة الإشراف القضائي على الأوقاف في كتاباتهم المبكرة عن الوقف، ولكن القاضي لم يكن حينئذ جزءاً من جهازٍ بيروقراطيٍّ معقّد تنظِّم عمله قواعد مفصَّلة. وقصدت الإصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر استبدال الطابع الشخصي بالإجراءات المؤسسية. فلم يعد الإشراف على الأوقاف مهمة قاضٍ فرد، بل أصبح مهمة جهازٍ بيروقراطيٍّ بإجراءات وأحكام أفقدت الأوقاف جانباً كبيراً من استقلاليتها ووضعتها تحت إدارة الدولة.

تطورت في هذه الفترة هياكل ومؤسسات أخرى في الدولة أطَّرت السؤال عن معنى الدين وحدود المجال الديني. مثلاً، مع تطوّر القضاء وظهور هياكله الهرمية والمتخصصة، ازداد الاعتماد على القوانين المكتوبة التي أخذ بعضها من الفقه الإسلامي. وواجهت الدول المختلفة في هذه الفترة التاريخية أسئلةً عن الملكية الخاصة والتعليم والخدمة الاجتماعية والمواطَنة، لم تواجهها الدول السابقة عليها بنفس الحدّة والإلحاح. وأنتجت تعريفاتِ الدين وحدودَ المجال الديني التي لاتزال مهيمنة.

تزامن اكتمال هذه الهياكل مع تفكك الدولة العثمانية إلى دولٍ إقليمية، فاستمر بقاؤها في هذه الدول. ورثت الدول مؤسساتِ الإشراف على الأوقاف، ومعها المساجد وجهات البر المستندة لأموال الأوقاف، وضمّتها في وزاراتٍ للأوقاف أو أجهزةٍ إداريةٍ مماثلة. فخضعت المساجد – التي يفترض أنها بيوت الله الخاضعة لأحكامه والخارجة عن دائرة نفوذ الحكام – للتنظيم الإداري والتشريعي، وإن اختلفت أطر هذا التنظيم باختلاف الدول. وتعاملت الدول مع "الأحوال الشخصية" أو القوانين العائلية مجالاً مستقلاً يقوم على أساس ديني، وإن اختلفت بعد ذلك في وجود محاكم "شرعية" وأخرى "مدنية"، أو تضمين صلاحيات الأولى في الثانية. وتسمح جل هذه الدول لغير المسلمين، وأحياناً لأتباع المذهب الشيعي والدروز، بالاحتكام لشرائعهم في الشؤون العائلية. وينشئ بعضها محاكم خاصة لأتباع المذاهب والأديان من غير المسلمين السُنّة، وتختص المحاكم العادية بنظر هذه القضايا في جل الأحوال. وتتضمن المناهج التعليمية في هذه الدول تعليماً دينياً في المراحل الابتدائية والثانوية. وتعيّن جلها مُفتياً.

وثمة ملمحٌ آخر أقل ظهوراً، ولكنه ليس أقل أهمية في الدول الوارثة التركةَ العثمانية. في كل ما ذكرته إلى الآن أتحدث عن "الدين". ولكن الدول التي ورثت العثمانيين لا تتعامل مع الدين صنفاً عاماً تندرج تحته كل الأديان أو الأديان السائدة في المنطقة ويساهم في الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الشخصية. المقصود أن "الدين" في هذه الدول هو الإسلام، أي أنه ليس مجرد دين مميَّز عن غيره وحسب، بل هو الدين الافتراضي لهيئات الدولة والسلطات الدينية الرسمية. لا يتعارض هذا مع السماح باستثناءات في مجالات محددة – في التعليم والأحوال الشخصية مثلاً – لديانات محددة أخرى تعترف بها الدولة. وهكذا، فإن جل ما يظهر في المجال العام على أنه "إسلامي" يكون تابعاً للدولة، بينما يُعتَرف بالأديان الأخرى ويسمح لها بالتصرف بدائلَ للإسلام لدى أتباعها. والمكان الأفضل لمعاينة هذا الترتيب في صورته العملية هو التعليم العالي.


زرت في حياتي الأكاديمية جامعات عديدة في أربع قارات، كانت كلها متشابهة ومألوفة في أكثر جوانبها، ولكنها تعاملت مع سؤال الدين بطرقٍ شتى. تتألف كل جامعة من كليات. في كلٍّ منها أقسام بأسماء تخصصات مألوفة، وتقدَّم فيها مواد أكاديمية دراسية ومواد أخرى مخصصة لمهن محددة، مثل الطب والهندسة، وفيها عمداء ورؤساء أقسام وكراسي بحثية وهيئة تدريس وطلبة دكتوراه. وتمنح درجات علمية وشهادات تحظى باعترافٍ خارجي. تتفق الجامعات باختلاف مواقعها الجغرافية والأنظمة السياسية التي تعمل في إطارها في هذا الشكل التنظيمي.

ومع هذا الاتفاق، تختلف الجامعات بدرجةٍ كبيرة في تعاملها مع سؤال الدين. يتجنب البعض تدريس الدين كلياً. في فرنسا مثلاً، لا تسمح المؤسسات التعليمية الحكومية بإظهار الرموز الدينية أو استعمالها، ولا يُسمح بتدريس الدين إلا في منطقة الألزاس شرق فرنسا حيث الدين جزءٌ من المناهج الرسمية. اضطر هذا الوضع جامعة السوربون، التي تأسست في القرن الثالث عشر لتعليم اللاهوت، لإلغاء هذا التخصص قبل قرنين. وتتحاشى جامعات الدولة الأخرى تدريس هذا التخصص باستثناء جامعة ستراسبورغ في الألزاس، التي تقدّم برنامجاً في اللاهوت الكاثوليكي واختارت مؤخراً قسيساً رئيساً لها.

يَسهل شرح مخالفة جامعات الألزاس لسائر الجامعات الفرنسية بالنظر للتطورات التاريخية وأثرها على موضع الدين من مؤسسات الدولة. عند بناء الدولة الحديثة في فرنسا، كانت منطقة الألزاس تابعةً لألمانيا، التي تعاملت بطريقةٍ مختلفة مع الدين والتعليم. وما ترسّخ قبل قرن ونصف، يصعب تغييره اليوم.

تختلف الدول في طريقة تعاملها مع الدين في منظومتها التعليمية. هل تستبعده من مناهجها، وإن لم تستبعده، هل تبحث موضوعاته أكاديمياً وتخضعها للنقد. أم تدرِّسه عقيدةً للمؤمنين به فلا يدرسه غيرهم. وهل تعتبره تخصصاً يمنح دارسه شهادةً أكاديميةً بقطع النظر عن التزامه به. قدّمت كل دولة حديثة أثناء تشكلها إجاباتها الخاصة على هذه الأسئلة. في ألمانيا المجاورة لفرنسا، لم يمنع التزام الدولةِ الحيادَ إزاء الدين وتراجع مستويات التدين مؤسساتِ الدولة من تدريب رجال الدين المسيحيين واليهود، وحديثاً المسلمين. وخصصت الدولة في سريلانكا مواردَ كبيرة لبناء منظومة تعليمية رسمية تُزيح المدارسَ التبشيرية. وشجعت في مرحلةٍ لاحقةٍ تضمينَ وجهات النظر البوذية وتعليمَ بعض الرهبان البوذيين في الجامعات الحكومية. وتوجد في جل الجامعات الأمريكية أقسام مخصصة لدراسة الدين تخصصاً عاماً وموضوعاً للنقد والتحليل. وفي جامعات الدول التي ورثت العثمانيين لا توجد أقسام تختص بدراسة الدين، ولكن الموضوعات الدينية تدخل في مناهج الدراسة في كلياتها وأقسامها المختلفة.

لا يمكن ردّ هذا التباين في وضع الدين في المؤسسات الأكاديمية إلى ثنائية الغرب العلماني وبقية العالم الديني. فأسباب هذا التنوع تاريخية بالأساس، تعود أصولها إلى التحولات التي بدأت قبل قرنين ونصف تقريباً. إلى ذلك الوقت، كانت جامعات السوربون وهارفارد والأزهر متشابهةً في تقديمها برامج ومناهج تعليم تتضمن موضوعات متنوعة لا تفصل بوضوح بين المحتوى الديني وغير الديني. وشغل خرّيجو هذه الجامعات وظائف حكومية ودينية متنوعة. كان هذا قبل ظهور العام والخاص مجالين منفصلين. ولو سُئل قادة هذه الجامعات عما إذا كانت الجامعات مؤسساتٍ رسميةً أم خاصةً، لاحتاروا في الإجابة.


خلافاً لما يُظنّ عادةً، لا تختلف الولايات المتحدة كثيراً في تداخل الدين والدولة عن غيرها. فالتداخل بين الفضاءات الدينية وغير الدينية استمر قروناً بأشكالٍ طواها النسيان اليوم، لكنها خلّفت أثراً قوياً. لم تفصل الدولة الأمريكية الدين عن الدولة بسدٍّ منيع، ومازالت آثار الممارسات السابقة وبصماتها مستمرة. يمدح دستور ولاية ماساشوستس المعمول به اليوم، والمكتوب في نهاية القرن الثامن عشر، جامعة هارفارد بسبب "تشجيعها للفنون والعلوم والأدب الرفيع" لما في ذلك من "تمجيد لله وتكريم للدين المسيحي وتعزيز لهذه الولاية وغيرها من الولايات المتحدة الأمريكية". ولم تكن هارفارد الجامعة الوحيدة ذات الأصول الدينية. فقد كان أحد أسباب تأسيس جامعة ميتشغان وعدٌ تضمّنته اتفاقيةٌ أقرّها مسؤولون أمريكيون بتحقيق رغبة بعض السكان الأصليين في تعلّم الكاثوليكية.

استطاع الدين أن يستمر في التعليم العالي الأمريكي في ثلاثة أشكال. أولها إعلان بعض الجامعات والكليات الخاصة صراحةً ارتباطها بمذهب أو توجه ديني محدد، وهو موقف لا تستطيعه الجامعات والكليات العامة غير الطائفية بالتعريف. حتى هذا المصطلح تغيّر معناه مع مرور الزمن. ففي القرن التاسع عشر، قُصد به المسيحي غير المنحاز لطائفة بروتستانتية ضد أخرى، واليوم أصبح معناه عدم الانحياز لأي دين. الشكل الثاني تسامح مؤسسات التعليم العالي مع الأنشطة والأندية الدينية بين منسوبي الجامعة. والشكل الأخير وجود قسم للدين، مثل أقسام الكيمياء أو المحاسبة أو الهندسة الميكانيكية.

ظهرت هذه الأشكال تدريجياً في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وبنيت وتكونت على أساسات تشابه تلك التي كانتها هارفارد أو حتى الأزهر في القرن الثامن عشر. والمقصود بهذه الأساسات ذلك المزيج الذي يبدو غريباً لنا اليوم، مؤسسة لتعليم الدين وتخريج رجال الدين مع كلية آداب وعلوم إنسانية.

قاد تفكيك الكنائس المدعومة من الدولة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تراجع تدريجي في دعم الدولة تعليمَ رجالِ الدين وتدريبهم. ولم يكن وراء هذا التوجه أشخاص راغبين بإبعاد الدين عن الحياة العامة، بل أشخاص حريصون على إقصاء سلطة الدولة عن العقائد الدينية.

مسحت الدولة الأمريكية الناشئة الأراضي، وعقدت اتفاقيات مع السكان الأصليين منحتهم بموجبها "محميات"، ثم استأثرت بملكية جل ما تبقى من أراض. استُعمل جزء مهم، وإن كان صغيراً، من هذه الأراضي في بناء مؤسسات للتعليم العالي تتجاوز الآداب والعلوم الإنسانية والتعليم الديني، وتضيف موضوعات عملية مثل العلوم العسكرية والهندسة والزراعة. وأُضيفت لاحقاً، وإن بتدرّج، مجالات مثل القانون والطب. وبهذه الطريقة، خرجت الجامعة من كليات الآداب والعلوم الإنسانية لتنتشر في مختلف أنحاء البلاد.

كان نموذج الجامعة البحثية الألمانية جاذباً للاهتمام والتقليد. دعمت الدولة في أمريكا هذا التوجّه، لكنه في البداية كان مجالاً حصرياً لكبار المحسنين الأفراد في أواخر القرن التاسع عشر. استطاعت مجموعة من التربويين المنتمين للمذهب المعمداني البروتستانتي إقناع رجل الأعمال ومؤسس شركة ستاندرد أويل وأحد أثرى رجال التاريخ، جون روكفيلر، بتكوين مؤسسة تعليمية خاصة. فتبرع بالوقف الذي تأسست بموجبه جامعة شيكاغو. وقاد التمويل الحكومي الكبير للبحث العلمي، الذي ازداد بشدة في النصف الثاني من القرن العشرين، إلى إقناع مؤسسات تعليمية أخرى للانضمام إلى نادي الجامعات البحثية.

النظام الجامعي الأمريكي الذي نعرفه اليوم وليد شبكة متداخلة من العوامل. على رأس هذه العوامل تزايد الحضور الكاثوليكي واليهودي ثم الدولي في الجامعات، وهيمنة فهم جديد بدأ في القرن العشرين للتعديل الأول للدستور غيَّر معنى "التعليم غير الطائفي"، ليصبح الحياد إزاء الدين. وهناك أيضاً التمييز القانوني بين المؤسسات العامة التابعة للدولة والخاصة التي تعمل خارج إطار الدولة بترخيص منها. أنتجت هذه العوامل نظامَ التعليم العالي الأمريكي الذي نعرفه، مزيجاً من جامعات عامة ليس لها ارتباط ديني، وجامعات خاصة لبعضها روابط دينية.

لكن ماذا فعلت الجامعات العامة والجامعات الخاصة، التي لا ترتبط بدينٍ معيَّنٍ، بالموارد والأشخاص الذين وعظوا ونظموا الحياة الدينية. الحل الأمريكي كان جمع هؤلاء جميعاً ووضعهم في أقسامٍ جديدةٍ، هي أقسام الدين. وهكذا أصبح الدين موضوعاً للدراسة، وأصبح في وسع الطلبة الإيمان والعبادة والتجمع في اتحادات وأندية أو الامتناع عن ذلك حسب رغبتهم.


قبل قرن تقريباً افترق مسار الجامعات في الولايات المتحدة عن مسار الجامعات في الدولة العثمانية والدول الوارثةِ تركتَها، مع اتفاقهما على إبقاء الدين في التعليم العالي. ظهرت الجامعات في الإطار العثماني في فترةٍ زمنيةٍ مقاربةٍ لظهور الجامعة الأمريكية، وشجّعتها الدولة كما شجعت الدول الأخرى الجامعات. ولكن الجامعات العثمانية تطورت بمعدلٍ أسرع، وفي إطارٍ أكثر مركزية، من الجامعات في الولايات المتحدة. 

في بدايات القرن التاسع عشر، حكمت الدولة العثمانية مجتمعاً ذا مؤسسات تعليمية متطورة لها طابعٌ ديني بارز. موَّلت الأوقاف هذه المؤسسات. ومع تنامي سيطرة الدولة على الأوقاف كما سبق، حافظت هذه المدارس على هامش استقلال عن السلطة الجديدة. ربما كان السبب في اختيار السلطة توفير حاجتها من الكوادر في مجالات، مثل العلوم العسكرية أو الهندسة أو الطب أو القانون، ببناء أكاديميات مستقلة لكل من هذه المجالات، لا عن طريق المدارس التقليدية.

اهتمت الدولة بهذه الأكاديميات أكثر من اهتمامها بالمدارس التقليدية. لم تعد الأكاديميات الجديدة نقيضاً فكرياً للمؤسسات التعليمية القديمة، بل اعتمدت على خرّيجي هذه المدارس أحياناً. ولم تكن هذه الأكاديميات الجديدة "علمانية"، بل تضمنت مناهجها الموضوعات الإسلامية. إلا أنها بُنِيت سريعاً لتلبي احتياجات جهاز دولة يتّسع بسرعة في مجالات الأشغال العامة وتقديم الخدمات الاجتماعية وتنظيم الحياة العامة والإدارة الاقتصادية والقدرات العسكرية. واقتُرِح جمع هذه المؤسسات معاً تحت مظلة واحدة، أي إنشاء جامعة مخصصة للتعليم والبحث والتدريب المهني وتقديم الاعتماد الأكاديمي، وفي بعض الأحيان حاول البعض تطبيقها.

لم تظهر الجامعات بصورتها الحديثة إلا بعد زوال الإمبراطورية العثمانية. تشابهت هذه الجامعات هيكلياً مع الجامعات في دول أخرى من العالم. فلم يكن العاملون في مكتب القبول بالجامعة مثلاً يحتاجون أكثر من ترجمة سجّل الطالب القادم من أي مكان في العالم، من غير أي تغيير في المصطلحات أو التخصصات أو الدرجات الأكاديمية أو تعريف لها، لفهمه. بدأت المحاولات الأولى لتأسيس الكليات في مجالات مهنية، مثل القانون والطب والهندسة، وساهمت في إرسائها مجالاتٍ ذات اعتماد أكاديمي لا بدّ منه حتى يتمكن الخريج من ممارسة المهنة. ولكن التوسّع الأكبر في إنشاء الجامعات الكاملة، بدل أكاديميات منفصلة، جاء بسبب سياسة التعليم. فمع الانتشار السريع للتعليم الابتدائي والثانوي المجاني، لاسيما منذ أوساط القرن العشرين، أُنشِئت كليات التعليم ونمت سريعاً.

ما موقع الدين في جامعات الدول الوارثة للعثمانيين؟ هو موجود في كل مكان، وليس موجوداً في أي مكان.

الدين موجود في كل مكان بمعنى أنه موجود في كليات مختلفة. فمن يدرس القانون يدرس مادة في الشريعة الإسلامية، ومن يدرس اللغة العربية يدرس لغة مرتبطة بنصوص القرآن والحديث، ومن يدرس التاريخ سيتأثر باهتمام أقسام التاريخ الكبير بالتاريخ الإسلامي. ويتوقع ممن يرغب في العمل في المحاماة أو التدريس في المدارس الثانوية أن يكون على اطلاع على الموضوعات الإسلامية في المناهج. وعلى من يرغب في العمل في الجهاز البيروقراطي الديني، أي في إدارة المساجد وإلقاء خطب الجمعة والفصل في القضايا في الدول التي تضم محاكم شرعية، أن يبرز شهادته الجامعية ويقدِّم الدليل على إتقان المواد المطلوبة والنجاح في اختباراتها.

ولكن الدين لا يكاد يكون موجوداً في الجامعات ديناً. فالإسلام وحده هو موضوع الدراسة، وأحياناً تُدرَس أديان أخرى، لكن من وجهة نظرٍ إسلامية. ولا يوجد موضوع عام اسمه "الدين" يختلف محتواه من "معتَقد" إلى آخر، مع وجود عناصر أساسية مشتركة. ثمة حالات استثنائية تتعامل مع الدين موضوعاً عاماً، لكنها لا تعدو استثناء يثبت القاعدة. ففي المجتمعات المنقسمة طائفياً، مثل لبنان والعراق، يمكن العثور على شهادة في الأديان المقارنة. وثمة استثناء آخر، وهو ازدهار منظومة تعليم إسلامية دون أن تدخل تحت الدولة. فالحوزة الشيعية في العراق استطاعت حراسة استقلالها، لكن الثمن الذي دفعته أن خرّيجيها لا يملكون درجةً أكاديميةً تؤهلهم للعمل في الدولة. ومن تبعات هذا الأمر الغريبة أن بعض الجامعات الحكومية العراقية باتت تقدِّم الآن برامج شبيهة بتلك التي تقدّمها الحوزة، مخيّرةً طلابها الورعين بين شهادةٍ مرموقة دينياً خارج مؤسسات الدولة، أو شهادة أقل مستوى لكنها تساعد على التوظيف في وزارة حكومية.


ينتشر الدين في كافة الدول الحديثة تقريباً، ولكن أشكال التعبير عن حضوره شديدة التنوع على نحو يسهل إغفال بعضها. للنصوص الدستورية دورٌ مهم في تحديد نمط العلاقة بين الدولة ومؤسسات الدين، لكنها مع ذلك ليست حاسمة. ولذلك فإن أفضل طريقة لفهم دور الدين في أجهزة دولةٍ ما هو النظر في المؤسسات والإجراءات التي يواجهها السكان يومياً. فهل الدين موضوع إلزامي في المدارس. وإذا كان إلزامياً، فمن يدرّسه. هل ترى الدولة أن الدين مجال عمومي بحدود واضحة التعريف. وإذا كانت ترى، فما هي هذه الحدود وكيف تنظم. أم أن الدين مسألة عقائد وتعاليم محددة. وإذا كان كذلك، فما هي هذه العقائد والتعاليم وما تعريفها، ومن يتحدث باسم مجموعة دينية معتَرف بها رسمياً.

تنتشر غالباً الوعود بالحرية الدينية، ولكن ما تفاصيل هذه الوعود. هل تشمل حماية الطقوس والمعتقدات وحرية التجمع والتملك وقيم الأسرة، وكيف تعرف الدولة هذه المجالات وتحميها وتنظمها. لم تكن معظم هذه الأسئلة مطروحة قبل القرن التاسع عشر إلا لماماً. ولكن مع نشوء دول تتولى تسجيل معظم سكانها وتنظمّهم وتعلّمهم وتجنّدهم، وعمليات عديدة أخرى، ضمن نطاق سيادتها، لم يكن بالإمكان تجنّب هذه الأسئلة. وعندما تختار الدول إجابات مؤسسية، يصبح تغييرها من أصعب ما يكون.

اشترك في نشرتنا البريدية