ترك ذلك العبور المثير في ذاكرتي أسئلةً بلا جواب. هل يتوقف نهرٌ يجتاز بلدين في المنتصف ليُظهر جواز سفره؟ ولماذا تمتد الصحراء غير مباليةٍ باللافتات التي يغرسها البشر في الرمال؟ كيف يكون عبور البشر الحدودَ دون إذن جريمةً، وصيد المهربين بالبنادق سيادةً؟
لكن سنوات النضج اللاحقة جعلتني أدرك أن الحدود بين بلدان المغرب العربي ليست مجرد حدودٍ عاديةٍ كالتي نعرفها بين دولٍ متجاورة حول العالم. إذ يمكن عبور حدود كثيرة بسهولةٍ بلا تأشيراتٍ وجوازات سفر، مثل حال الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي. فيما تبدو الحدود المغاربية كأنها أدوات لمعاقبة شعوب الإقليم على أخطاء ومشاكل وخصوماتٍ يقترفها حكامها. فتُفرَض عقبات إدارية وحواجز قانونية أمام حركة الأفراد والسفر والإقامة، حتى صار هذا الإقليم ممنوعاً عن كثير من أهله ومفتوحاً أمام أغلب الجنسيات.
يكشف هذا الوضع عن مفارقتين. الأولى تاريخية تتكشف بالمقارنة بما كان عليه الحال في مرحلة الاستعمار الأوروبي للمنطقة وحالها اليوم، إذ كانت حركة السكان في الفترة الاستعمارية أسهل في ظل أوضاع سياسية مضطربة. تظهر هذه المفارقة أيضاً بمقارنة ما رفعته حركات التحرر المغاربي من شعارات الوحدة في مواجهة الاستعمار، قبل أن تتحول هذه الحركات نفسها إلى قيادة الدول المستقلة في الإقليم. أما المفارقة الثانية فهي إقليمية ذات أثر عاطفي مؤلم. ففي الوقت الذي تطالب فيه حكومات دول بلاد المغرب أوروبا بفتح الحدود وتخفيف الحواجز أمام حركة السكان، تشدد القيود على حركة سكان بلاد المغرب داخل الإقليم نفسه بآليات وذرائع مختلفة.
ليست هذه الحواجز على حركة السكان أدواتٍ سلطويةً في أيدي الأنظمة الحاكمة وحسب، بل قد تكون عقبةً أمام حلم الوحدة المغاربية. وتبدو هذه الحواجز عاملاً لتوسيع الفجوة بين مجتمعات الإقليم، متقوقعةً داخل هوياتها الوطنية المستحدثة. فضلاً عن كونها تفوت الفرصة أمام تكاملٍ اقتصادي يبدو ضرورياً في ظل ما تعيشه هذه الدول من أزماتٍ اقتصادية واجتماعية. في منطقة توحدها اللغة والدين والتاريخ، صارت هذه الحدود لا تحمي الاختلاف، بل تعززه.
ويروي المؤرخ مهدي غويرقات في كتابِه "لوردر ألموهد" (النظام الموحدي)، المنشور سنة 2014، أنّ مرحلة الدولة الموحّدية شكّلت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر اللحظة التي كادت أن تشهد ولادة مغرب موحد من المحيط الأطلسي إلى حدود ليبيا الحالية. في وقت مثلت الحدود الطبيعية مثل الجبال والصحاري والصراعات السياسية والمذهبية، عوامل دائمة لغياب وحدة مركزية. وهو الوضع الذي ورثه الاستعمار الأوروبي عندما سيطر على المنطقة بدايةً من القرن التاسع عشر.
غياب الوحدة السياسية بين مناطق الإقليم لم يكن يوماً حائلاً أمام حركة السكان داخله. وظل الفضاء المغاربي قبل قدوم الاستعمار الأوروبي مُنظَّماً وفق منطق مختلف عن الدولة الحديثة. وليس ذلك استثناء في عالم ما قبل الحداثة إذ إن الكيانات السياسية آنذاك لم تكن تعرف الحدود في صيغتها الدراجة اليوم. يذكر زولت بالوتاش، الباحث في جامعة سيغد المجرية، في دراستِه "بوردرز أند أيدنتِتي إن إيرلي مودِرن مغرب" (الحدود والهوية في بدايات المغرب الحديث)، المنشورة سنة 2023، أنّ الدولة تشكلت من سلطة تتركز عادةً في الحواضر الكبيرة مثل تونس وطرابلس وفاس والجزائر. أما بقية المجال فظل مناطق نفوذ لحكام هذه المدن يتكون من تجمعات قبلية، دون أن يكون مجال سلطة مركزيةٍ. سيطر الحكام بدرجات متفاوتة على أراضٍ شاسعة، ولكنهم قلما وضعوا لتلك السلطة حدوداً ثابتة أو علامة حدودية بالمعنى الحديث.
يربط عالم الاجتماع الهولندي هاين دي هاس في دراستِه "نورث أفريكان مايغريشن سِستمز" (أنظمة الهجرة الشمال إفريقية)، المنشورة سنة 2007، بين الاستعمار وتشكيل السلطة والمجال على نحو حديث متجاوزاً منطق الحدود الطبيعية غير المرسمة فوق الخرائط. فقد احتلت فرنسا الجزائر بدايةً من سنة 1830 ثم تونس سنة 1881 وأخيراً المغرب سنة 1912، فيما احتفظت إسبانيا بجيوب ساحلية في شمال المغرب والصحراء. في المقابل خضعت ولاية طرابلس الغرب، وهو الاسم العثماني لليبيا الحديثة، للاحتلال الإيطالي في 1911.
يذكر دي هاس أنّ إعادة التشكيل كانت فوقية بين القوى الاستعمارية، أي بعزلة عن السكان المحليين ومصالحهم الاجتماعية والسياسية. إذ حدّدت التفاهمات الفرنسية الإسبانية والفرنسية الإيطالية مناطق نفوذ ثابتة وخطوطاً دقيقة، لاسيما في المناطق الصحراوية حيث كانت الإدارة الميدانية محدودة. بالتالي رُسّمتْ الحدود بين المناطق بخطوط على خرائط قسّمت فضاءً كان دائماً مجالاً للحركة والعلاقات الاجتماعية المحلية. وحتى فرنسا التي احتلت ثلاث مناطق من الإقليم، ثم أضافت لها وصايتها على إقليم فزان جنوب ليبيا بداية من سنة 1947، لم تسعَ أبداً إلى توحيدها ضمن كيان واحد. بل على العكس، قننت التقسيمات التي كانت قائمة قبل سيطرتها، والتي تعود جذورها إلى انهيار الدولة الموحّدية، وهي التي شكلت النواة الأولى للدول الوطنية في عموم الإقليم بعد الاستقلال.
يضيف أستاذ الاجتماع الجزائري حسن رمعون إنّ هذا الوعي مهّد الطريق بعد سنواتٍ لبناء دول وطنية مستقلة في المنطقة تفصل بينها حدود دولية معترف بها، رغم محاولات قطاعٍ من النخب المغاربية التوحيدَ حينئذ. من هذه المحاولات تجربة "منظمة نجم شمال إفريقيا"، التي أسسها الشيوعي الجزائري عبد القادر حاج علي في فرنسا سنة 1926. وضمتّ بين 1926 و1937 طلاباً مغاربيين وجمعت حولها نخبة شبابية مثقفة ذات توجهات وحدوية. وكذلك تجربة "لجنة تحرير المغرب العربي"، التي ترأسها الأمير عبد الكريم الخطابي، أحد رموز المقاومة المغربية، في القاهرة في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته. ضمت اللجنة داخلها الحركات الوطنية في المنطقة، وكان برنامجها السياسي التحررَ من الاستعمار في نطاق المغرب العربي. لكن كل هذه المحاولات انتهت إلى مجرد أحلامٍ لم تترجم على أرض الواقع.
شرعت كل دولة عقب الاستقلال في بناء رواية وطنية انعزالية عن بقية الدول. أصبح الليبي أو التونسي أو الجزائري أو المغربي أو الموريتاني في بلاد المغرب هويةً مستقلةً تملك مقومات وجودها القانوني، بعد أن بدت لقرونٍ هويةً فرعيةً ضمن هوية مغاربية أو عربيةً أو إسلامية أوسع وأكبر. بل إنّ المسميّات نفسها لم تكن حاضرة قبل الاستعمار، فلم يكن هناك ليبي أو جزائري بالمعنى الحديث للكلمة، ويدل على ذلك انتشار تسمية "المغاربة" في مصر والجزيرة العربية وبلاد المشرق قبل الاستعمار لوصفِ سكّانِ المنطقة.
تحولت الحدود التي تركها الاستعمار إلى قوادح لحروب وصراعات بين هذه الدول. ففي سنة 1963، العام التالي لاستقلال الجزائر، اندلعت حرب الرمال بين المغرب والجزائر بعد أن قدّم المغرب في عهد الملك الحسن الثاني مطالباتٍ بأجزاء من جنوب غرب الجزائر حالياً. وهي أراضٍ كان وضعها الإداري تحت الحكم الفرنسي غامضاً، واعتبرها الملك المغربي جزءاً من نطاق بلده التاريخي. شكلت هذه الحرب الحدودية الحلقة الأولى في مسلسل صراع مغربي جزائري لم ينته حتى اليوم، وكانت كل فصوله تدور حول الحدود والمجال الجغرافي.
ظلت التوترات بين تونس والجزائر قائمةً حول ترسيم الحدود في الصحراء إلى سنة 1968. ومع أن توترات الستينيات حُلّت بالاتفاقيات، إلا أنها تركت أثرها على العلاقات الثنائية في عهد الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة. فطالما شعر بورقيبة أن تونسَ قُطرٌ صغير مقارنة بجيرانها، وأخذ يعلن عن مطالبها بأن يكون لها امتداد داخل ما يعرف اليوم بالصحراء الجزائرية. وصل الأمر سنة 1961 أن اجتمع بورقيبة بالرئيس الفرنسي شارل ديغول بباريس آملاً بإقناعه بأن يحصل على تعديلات في الحدود الجزائرية تعطي لتونس نصيباً داخل الصحراء الجزائرية، قبل أن ينخرط في مفاوضات مع الجزائريين. لكن ديغول لم يلبِ طلبه.
لكن النزاع الأبرز في المنطقة بشأن الحدود، الذي ما زال يشكل استعصاءً أمام بناء المغرب العربي، هو الصراع حول الصحراء الغربية، ويُنظر إليه نموذجاً لآثار الاستعمار الأوروبي. فقد انتهى حكم إسبانيا الطويل على الصحراء سنة 1975 بعد اتفاقية مدريد الثلاثية والتي جمعت المغرب وإسبانيا وموريتانيا. وهو ما عنى ضمنياً إقصاء الجزائر وجبهة البوليساريو اللتين لم تشاركا في الاتفاق. ومنذ ذلك الوقت صارت تلك الصحراء محل نزاعٍ بين المغرب والبوليساريو، التي تريد إقامة الجمهورية العربية الصحراوية بدعمٍ جزائري. أدى ذلك إلى قطع العلاقات بين المغرب والجزائر وإغلاق الحدود البرية سنة 1994.
لم تتأثر حركة الأفراد داخل المجال المغاربي بالنزاعات الحدودية فقط، بل بالنزاعات السياسية بين الأنظمة الحاكمة. فقد شكل الصراع بين الزعيم الليبي معمر القذافي والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة سنة 1974، تاريخ فشل اتفاق الوحدة التونسية الليبية في "الجمهورية العربية الإسلامية" التي لم تدم سوى يومين، سبباً لاضطراب الحركة بين البلديْن. زاده تاريخ عزل بورقيبة عن الحكم سنة 1987 وتولي زين العابدين بن علي. فما لبثت الحدود أن تفتح حتى تغلق مرة أخرى بقراراتٍ مزاجية من الطرفين. فضلاً عن الصراع بين البلدين حول الحدود البحرية، لاسيما ما يرتبط بحقلِ البوري النفطي غرب ليبيا والذي لم تحسمه سوى المحكمة الدولية سنة 1982، وجاء الحكم لصالح ليبيا بأحقيتها بكامل الجرف القاري.
كذلك كان توتر العلاقات بين القذافي والحسن الثاني منذ بداية السبعينيات سبباً في تعطل الحركة بين ليبيا والمغرب. أما المغرب والجزائر فقد ظلت الحدود بينهما مغلقة منذ 1976 حتى جاءت قمة مراكش في 17 فبراير 1989 لتفتح أملاً للناس عندما قررت الدول الخمس، المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، إنشاء اتحاد المغرب العربي.
بدا أن فكرة التكامل قد اكتملت باتفاق رؤساء دول المنطقة على إنشاء كيان إقليمي يتجه نحو الوحدة. وكان من أهداف اتحاد المغرب العربي الرئيسة تعزيز "روابط الأخوة" وتحقيق "التقدم من أجل رفاه" مجتمعاته، والمشاركة في "صون السلام"، وتنسيق السياسات والمواقف. بالإضافة إلى تحقيق اندماج أكمل بين الدول الأعضاء.
لذا شهد الناس نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات فسحة حريةٍ غير مسبوقةٍ في تاريخ دول المغرب العربي المعاصر. لكن هذه الفسحة سرعان ما تقهقرت في أعقاب هجوم مسلح، لا تزال هوية منفذيه غير واضحة، استهدف فندق أسني في مراكش المغربية في أغسطس 1994. اتهم المغرب الجزائرَ بدعم المهاجمين، وفرضَ على الأثر تأشيرةَ دخول على الجزائريين. ونظمت الدولة المغربية حملة طرد الجزائريين المقيمين في البلاد بلا تصاريح إقامة. ردت الجزائر بإغلاق الحدود وفرضت تأشيرة دخول على المواطنين المغاربة.
ألغى المغرب سنة 2004 شرط التأشيرة عن الجزائريين، ما سهّل السفر للسياحة والأعمال. وحذت الجزائر حذوه سنة 2005 برفع القيود الحدودية المفروضة على المواطنين المغاربة. إلا أن هذه الإجراءات لم تُفضِ إلى إعادة فتح الحدود البرية كاملةً، إذ لا تزال مغلقة أمام حركة الأفراد والتجارة حتى أكتوبر 2025. وبهذا ظل التحكم في حركة السكان داخل المجال المغاربي قراراً سياسياً يخضع في أحيانٍ كثيرةٍ إلى طبيعة العلاقات الشخصية بين حكام المنطقة، وأمزجتهم السياسية وتوجهاتهم. فلا يراعي الساسة المشاكلَ التي يمكن أن يسببوها للمجتمعات، لاسيما المجتمعات الحدودية التي ترتبط بعلاقات قرابة أو تجارة أو مصالح مشتركة.
تختلف سياسات تأشيرات الدخول بين الدول بسبب طبيعة العلاقات الثنائية وأولويات الأمن القومي لكل دولةٍ. فإدارة الحدود في المنطقة مزيج من اللوائح الرسمية والتطبيق غير الرسمي. وضعت الدول ضوابط حدودية رسمية لتنظيم دخول الأفراد وخروجهم، إلا أن هذه الضوابط لا تكون متسقة عند التطبيق، وتتفاوت في مستويات التنفيذ والشفافية. إذ يكثر أن يواجه الأفراد الذين يسافرون بين دول المنطقة للعمل أو التعليم أو لمّ شمل الأسرة أو العلاج تأخيراتٍ طويلة وغموضاً بسبب الإجراءات المعقدة على الحدود. وبسبب انتشار الفساد بين بعض مسؤولي الحدود، يتخذون قرارات تعسفية فيمنعون دخول بعض المسافرين أو يقيدون مدّة وجودهم بلا مبرر واضح. حكى لي صديق ليبي، رفض الإفصاح عن اسمه، أنّه أصبح يواجه منذ 2024 مشاكل في حصول سيارته على رخصة التجوّل في تونس، إذ قد يعطيه ضابط الحدود مدة أسبوعين أو شهر بعد أن كان مسموحاً له التجول ثلاثة أشهر، وإن أراد هذه المدة الطويلة قد يضطر إلى دفع الرشوة. إضافةً إلى ذلك، يؤدي غياب التنسيق بين أجهزة الحدود في الدول المجاورة إلى تضارب في السياسات والإجراءات، مما يزيد من تعقيد حركة العبور عبر الحدود. وقد حدث هذا مؤخراً سنة 2024 عندما قُفِلَ معبر راس جدير بين ليبيا وتونس أشهراً، بسبب تطورات أمنية في الجانب الليبي.
هذه العوائق الإدارية مجرد تجلٍ للصراعات السياسية بين الأنظمة الحاكمة. في سبتمبر 2024 أعادت الجزائر العمل بفرض تأشيرات دخول على حاملي جوازات السفر المغربية، على خلفية نشاطات قالت إنها "تمسّ باستقرار البلاد وأمنها الوطني". وذلك بعد تدهور العلاقات بين البلدين وإعلان الجزائر عن قطع العلاقات الدبلوماسية في أغسطس 2021. وبعد نحو شهر من ذلك قررت الجزائر أن تغلق أيضاً مجالها الجوي أمام جميع الطائرات المدنية والعسكرية المغربية.
ومنذ 2014 تفرض المغرب على المواطنين الليبيين شرط تأشيرة دخول شبه تعجيزية بعد ضبط مواطنين أجانب في العام نفسه يحملون جوازات سفر ليبية مزورة. وهي تأشيرة صعبة المنال وتحتاج أحياناً دعوةً رسمية من جهة مغربية رسمية مثل الديوان الملكي للظفر بها. تفرض المغرب أيضاً تأشيرة دخول على مواطني موريتانيا. والمفارقة أن المواطن الليبي أو الموريتاني الذي يحمل على جواز سفره تأشيرةً أوروبيةً أو أمريكية أو أسترالية، تتيح له السلطات المغربية الحصول على تأشيرة إلكترونية بدلاً من عناء الحصول على تأشيرة عادية في مقر القنصلية.
تتعامل جميع الدول مع طالبي الإقامة من سكان دول المغرب العربي كحال أي أجنبي يريد بطاقة إقامةٍ. إذ تسمح لهم التأشيرة بالبقاء مدة لا تزيد عن تسعين يوماً. وللإقامة لابد من سبب مثل الزواج أو العمل أو الدراسة أو الاستثمار. وكثيراً ما يخضع منح بطاقات الإقامة إلى شروط أمنيَّة تجعل من الحصول عليها أو تجديدها أمراً صعباً. فضلاً عن كون تعقيد الإجراءات الإدارية في هذا الشأن مدخلاً كبيراً للفساد والرشوة.
يُمنح مواطنو الدول المغاربية الحق الكامل في تملك العقارات مثلما يمنح مواطنو دولهم. باستثناء ليبيا، فحق التملك فيها لاي قتصر على مواطني الدول المغاربية، بل هو متاح لكل الأجانب. وفي بقية القوانين مثل الزواج والتعليم والتجارة يعامل مواطنو الدول المغاربية في جميع دول الإقليم معاملة الأجانب. ومع توقيع اتفاقية بين دول المغرب العربي سنة 1990 لتسهيل "النقل البري للمسافرين والبضائع"، إلا أن الحركة على المعابر البرية ليست سهلة. إذ ما زالت بعض المعابر، حتى المفتوحة منها، تخضع لقوانين محلية ولوائح وطنية تتغير بتغير العلاقات بين أنظمة الحكم، فالمعابر بيئة مناسبة لانتشار الفساد والرشوة.
ولا ينتهي الأمر عند ذلك. إذ تنعكس القيود المفروضة على حركة التنقل على وضع البنية التحتية للنقل في المنطقة. فوسائل النقل البري والجوي والبحري عبر المغرب العربي ليست متطورة. في سنة 1972 كان من الممكن السفر بالقطار من الدار البيضاء بالمغرب إلى العاصمة التونسية، لكن هذه الخدمة توقفت سنة 1975 بعد اندلاع الصراع في الصحراء الغربية. أما اليوم فلا توجد خطوط سكك حديدية تعبر الحدود باستثناء خطٍ جديد بين مدينة تونس وعنابة شمال شرق الجزائر بدأ تشغيله سنة 2024 بسبب التقارب السياسي بين الرئيس التونسي قيس سعيد ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون. ومن متابعة تجارب أشخاصٍ سافروا عبر هذا الخط، تتضح رثاثة القطارات والأوقات المهدورة للمسافرين وهم ينزلون على الخط الفاصل بين البلدين لختم الجوازات.
الطرق البرية أيضاً خاضعة لسلطة المعابر. فضلاً عن أنه لا يوجد طريق يمكن أن يسلكها المسافر مباشرةً من ليبيا إلى موريتانيا لعبور الدول الخمس، بسبب الحدود المغلقة بين المغرب والجزائر، والحدود المغلقة بين الجزائر وليبيا. فالإنسان المغاربي يحتاج أن يطير من الجزائر إلى إسبانيا ومنها إلى المغرب ليواصل رحلته إلى وجهته النهائية في موريتانيا. أما النقل البحري بين دول المنطقة فهو شبه منعدم، إذ تخدم أغلب سفن نقل الركاب المغاربية خطوطاً بحريةً نحو موانئ الدول الأوروبية مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.
ساهمت الاضطرابات السياسية والأمنية في المغرب العربي منذ التسعينيات في زيادة تعقيد تلك الحواجز. فقد شكلت الحرب الأهلية في الجزائر مطلع سنة 1992، إثر إلغاء الانتخابات البرلمانية نهاية سنة 1991 التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، مصدر اضطرابٍ في المنطقة حتى بداية الألفية. ثم كان لانتشار الجماعات الجهادية عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 في أمريكا التي قادتها القاعدة، دورٌ في تشديد قواعد الأمن على الحدود. وجاءت ثورات الربيع العربي لتزيد من حجم الحواجز وسُمكها. ولاسيما بعد دخول ليبيا حالةً من عدم الاستقرار وهيمنة سلطة الأمر الواقع على الكثير من مناطق البلاد بعد ثورة فبراير والإطاحة بالقذافي. فقد أطلق الصراع المحتدم في ليبيا منذ 2014 العنان لتدفق الأسلحة عبر المنطقة، حتى وصلت إلى جماعات مسلحة في تونس والجزائر.
تزامن ذلك مع تصاعد قوة الجماعات المسلحة في جنوب الصحراء على تخوم ليبيا والجزائر وموريتانيا، مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وحركة الجهاد والتوحيد. وفي مواجهة هذا التحدي الأمني عسكرت الجزائر حدودَها مع ليبيا بكثافة، بنشر عشرات الآلاف من الجنود، لاسيما بعد تصاعد التحركات العسكرية في الحدود سنة 2024. أما تونس فقد أنشأت سنة 2016 خنادق حدودية مع ليبيا ووضعت أنظمة مراقبة بدعم دولي لمنع التسلل. وفيما تأثر بهذه السياسة الأمنية الكثير من المهربين، إلا أنها أعاقت كذلك حركة المواطنين العاديين. فقد واجهوا ضوابط إدارية أكثر صرامة وقيوداً على السفر عبر الحدود. ومع أن المغرب لا تقع على حدود ليبيا إلا أنها عززت منذ 2016 أجهزة الأمن الداخلي وسياسات الهجرة رداً على عدم الاستقرار الإقليمي.
ولا تزال التعريفات الجمركية المفروضة على الواردات مرتفعة مقارنة بمناطق أخرى، إذ قُدر متوسطها بنحو 14 بالمئة منذ سنة 2016. وفقاً لمديرة برنامج شمال إفريقيا والساحل في معهد الشرق الأوسط انتصار فقير، والباحثة في جامعة كولج بلندن، حنين زقلام، في دراستهما "ذا لِمِتس أوف إيكونوميك إنتغريشن إن ذا مغرب" (حدود التوافق الاقتصادي بين دول المغرب)، المنشورة سنة 2023 في كتاب "ذا كوست أوف نون مغرب" (ثمن عدم تفعيل الاتحاد المغاربي). وبدلاً من إعطاء الأولوية للتكامل الإقليمي، يبدو أن حكومات المغرب العربي تركز على تعزيز علاقاتها التجارية الثنائية القائمة مع الشركاء الأوروبيين. وتبحث تلك الحكومات عن شراكات جديدة خارج المنطقة، مع قوى دولية مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة، في جهد تسعى فيه الدول للحصول على الدعم السياسي لأنظمتها.
يواجه السكان كذلك حواجز على التجارة الصغيرة، التي شكلت لقرونٍ مصادر دخل أساس للفئات الاجتماعية المستقرة على هوامش الحدود في المنطقة. فخلق هذا عوزاً وتهميشاً مضاعفاً في هذه المناطق. وخلق بالضد منها اقتصاد التهريب، الذي يصنف في قوانين دول المنطقة جريمةً اقتصادية، لكنه يبدو تجلياً لفشل هذه الدول في تحقيق تكاملٍ وإن نسبياً.
وتؤثر هذه الحواجز على تدفقات الهجرة المغاربية النظامية وغير النظامية والتي تتوجه أساساً إلى أوروبا. فتترك آثارها السلبية على القوة العاملة في بلدان المغرب العربي، سواء الكفاءات العلمية أو العمالة الماهرة. ذلك أن الأبواب المغلقة بين دول المنطقة تدفع الكثيرين للتفكير في الهجرة شمالاً نحو السوق الأوروبية. وتشير دراسة نشرها صندوق النقد الدولي بعنوان "الاندماج الاقتصادي في المغرب العربي" سنة 2019، إلى أن مستويات الهجرة الرسمية سنة 2013 بين البلدان المغاربية ضعيفة جداً، إذ لا تتجاوز نسبة المهاجرين من مجموع سكان المنطقة 1 بالمئة فقط. أما نسبة العمال المهاجرين من مجمـوع العامليـن فتبلغ أقـل من نصف بالمئة. وهجرة العمال من المغرب العربـي موجهـةٌ نحو بلدان الاتحاد الأوروبي.
يظل الأثر الأخطر لهذه الحواجز مستوى التفكك الاجتماعي الذي تتركه، ويتراكم كل يومٍ بلا ترميم. تؤدي السياسات التي تقيّد التنقل إلى تمزيق روابط القرابة التقليدية، ويُصعّب على العائلات زيارة بعضها البعض أو الحفاظ على روابطها الثقافية. وفي المدى البعيد قد يحدث ذلك تآكلاً في الهوية الثقافية المشتركة لبلاد المغرب ويزيد من هيمنة منطق الانعزالية الوطنية، ولا يؤجل حلم الوحدة بل يجعله مستحيلاً.
تساهم هذه النزعة الانعزالية الصاعدة في ترسيخ روايات الصراع التي تريد بعض الأنظمة في المنطقة تكريسها للتعبئة الداخلية، كما يحدث عادةً بين المغرب والجزائر. وغياب التواصل ومنع التنقل عله يزيد من تعزيز انعدام الثقة بين المجتمعات، لتستوعب الشعوب الروايات الوطنية التي تصور الجانب الآخر منافساً أو عدواً. وهو ما يلمسه المرء في كل أزمة ديبلوماسية بين بلدين مغاربيين من تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي تتراوح بين الشتائم والعنصرية وتصل إلى حدود التحريض.
لذلك فإن الحدود غير السالكة بين دول المغرب العربي ليست مجرد أدوات سيادية تلعب بها الأنظمة لعبة إدارة العلاقات، بل علها أعراض خوف أعمق ومتعدد الأبعاد. خوف من الوحدة، وخوف من فقدان السيطرة، وخوف من إعادة اكتشاف كيانات جغرافية سياسية جديدة يمكن أن تفقد هذه الأنظمة مصالحها في السلطة والثروة.
لكن نيل هذه الوحدة بناء تراكمي يبدأ بإطلاق حرية تنقل الناس داخل المجال المغاربي. وفي اللحظة التي ستتاح فيها هذه الحرية قد يكتشف البعض أن تلك الغربة مصنوعة وأن ما يجمعهم من مشتركاتٍ أقوى من أي حدود. ذلك أن حرمان مغربي من المرور الحر إلى الجزائر ليس مجرد إزعاجٍ إداري، بل هو عنفٌ رمزيٌّ ضد هذا الجوهر المشترك.

