إبادة المدن وهدم الذاكرة.. من سراييفو وغروزني إلى دير الزور

شاع مصطلح إبادة المدن بعد تدمير سراييفو، ثم في الحرب الروسية على غروزني، وتمثل مدينة دير الزور السورية نموذجاً لهذه الإبادة.

Share
إبادة المدن وهدم الذاكرة.. من سراييفو وغروزني إلى دير الزور
يتمايز نموذج دير الزور عن نماذج أخرى لإبادة المدن في أن نظام الأسد لم يستهدف هويةً محددةً | خدمة غيتي للصور

يَهال السوريَّ ما يرى وهو عائدٌ إلى مدينته بعد سقوط نظام بشار الأسد، كما لو أنه يشهد يوم القيامة. فالدمار الذي لحق بالحواضر والأحياء التي احتضنت الثوار، قد محا ملامحَها المختزنة في الذاكرة. وكأنّ حرب نظام الأسد كانت ثأراً من البشر والحجر معاً. وفي ثأرهِ إبادة للمدينة ومَحقٌ ممعنٌ في الفضاء الحضريّ ببعدَيهِ الماديِّ والرمزيّْ.
تُعرف هذه الممارسة التدميريّة بمصطلح "الإبادة الحضريّة" أو "اغتيال المدن". وشاعَ استعمال المصطلح في سياق الحروب والصراعات، خصوصاً بعد الحرب البوسنية - الصربية بين سنتيّ 1992 و1995، إشارةً إلى تدميرِ القوات الصربيّة مدينة سراييفو. في الصراعات العرقيّة والسياسيّة والدينيّة، تتحوّل المدينة إلى فضاءٍ يمثّل الذاكرة والطبقة والصراع، لذلك تصبح هدفاً عسكرياً يرغب الآخر باغتياله، كما أشار خوان غويتيسولو في بحثه "إربيسايد، ماسَكَر، كمون غريفز" (إبادة المدن، المجازر والمقابر الجماعية) المنشور سنة 1996. ويؤكد ذلك مارتن كاوَرد في كتابه "إربيسايد" (إبادة المدن) المنشور سنة 2010، إذ يشير إلى أن السّمات السياسية أو الثقافية أو الهوياتية التي تحملها المدن، هي ما يجعلها هدفاً للتدمير.
في السياق السوريّ، لا يبدو العنف الذي مارسه نظام الأسد مجرد استجابةٍ عسكريةٍ أو أمنيةٍ ضدّ الثورة أو الفصائل المسلحة. إذ استمرّت عمليات الهدمِ بعد خروج الفصائل من هذه المناطق حتى لحظة هروب بشار الأسد في ديسمبر 2024. يدعم هذا الفرضيّة القائلة بأن تدمير المدن كان إستراتيجية إبادةٍ حضريةٍ منهجية، وكان هدفها اقتلاع الثورة من أماكن ظهورِها، ومحو ذاكرة المكان المتمرّد، وإعادة إنتاج الحيّز الحضريّ بتصورٍ سلطويٍّ جديد. لم تكن سوريا أولى حالات الإبادة الحضرية، إذ تتشابه حالة مدينة دير الزور مع مدينتَيْ سراييفو البوسنية وغروزني الشيشانية، وتنطبق عليها الأدبيّات النظرية عن العنف المكانيّ واغتيال المدن. وهكذا فهمَ أبناء مدينة دير الزور تدميرَها في شهاداتهم.


كانت سراييفو أوّل نموذجٍ درسَته وفكّكته بعنايةٍ الكتابات عن اغتيال المدن، وقد جاء هذا بدايةً في كتاب مارتن كاوَرد "إبادة المدن". كانت المدينة ذات تنوعٍ دينيٍّ وعرقيٍّ، يسكنها بوشناق مسلمون، وصرب أرثوذكس، وكروات كاثوليك، وبعض اليهود. جعلها ذلك تمثّل رمزيةً اجتماعيةً لإمكانية التعايش المشترك في فترة تصاعد النزعات القومية في منطقة البلقان مطلع التسعينيات. ولذلك هدّدت نموذج النقاء القومي الذي سعى القوميون الصرب إلى ترسيخه في البلقان.

في كتابه "وور إن ذا بالكان" (الحرب في البلقان) المنشور سنة 2003، يُرجع الباحث الأمريكي كريغ نيشن جذور الحرب إلى حقبة تفكّك يوغوسلافيا بسبب صراعاتٍ واضطراباتٍ سياسيةٍ في البلد ذي العرقيّات المتعددة. وكانت يوغوسلافيا منذ الحرب العالمية الثانية خليطاً من ستّة كيانات: صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك وسلوفينيا والجبل الأسود ومقدونيا. وخلال تفكّك يوغوسلافيا، سعَت معظم هذه الكيانات المتمايزة عرقياً ودينياً للاستقلال. وقد أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها واعتماد سراييفو عاصمةً سنة 1992، وهو ما رفضه صرب البوسنة. فدعَت القيادة الصربية جيش يوغوسلافيا إلى شنّ عملٍ عسكريٍ ضدّ الحكومة الوليدة.
اختلف نمط العنف الصربي ضدّ المدن البوسنية في سنوات الحرب بين المدن أحادية الهوية القومية والمدن المتنوعة قومياً وعرقياً. أشار إلى ذلك الباحثان الصربي غوران باسيك والبوسني زلاتان ديليش في ورقتهما "آيديولوجي، وور، آند جينوسايد" (الأيديولوجية، الحرب، والإبادة) المنشورة سنة 2004. تعرّضت المدن غير الصربية لمحاولاتٍ محدودةٍ للسيطرة ومعارك قصيرةٍ زمنياً. وتخلّلتها جرائمَ ضدّ الإنسانية مثل المذابح والتطهير العرقي، أفظعها مذبحة سربرنيتسا سنة 1996. ولكن المدن متنوعة الهوية، مثل سراييفو، اختبرت نمطاً تدميرياً أقسى إبان الحصار الذي فرضته عليها القوات الصربية، والذي امتدّ نحو ألفٍ وأربعمائة يوم. ويعدّ أطول حصارٍ عسكريٍ في التاريخ الأوروبي في القرن العشرين.
ظهرت أنماط التدمير المركّبة منذ بدء حصار سراييفو في أبريل 1992. إذ طوّقت القوات الصربية سراييفو بتمركزٍ محكمٍ أدّى إلى عزلها، مستغلّةً الجبال المحيطة التي نشرت عليها المدفعية، ونقاط القنص التي شلّت حركة السكان، دون إمكانية ردٍّ عسكريٍّ معاكسٍ وفعّال. ألغى القصف والقنص الفضاء العام، وتحوّلت المساحات العامة إلى مناطق قتلٍ عشوائي. يرى كاوَرد أنّ هدف الصرب من التدمير البنيوي للمدينة واستهداف البنية التحتية الأساسية، كان كسر مقاومة السكان وجعل الحياة مستحيلة.
لم يسعَ العنف، كما يورد كاوَرد، إلى تفكيك الحيز المكانيّ المشترك الذي يتيح التفاعل بين الأفراد متنوّعي التوجهات السياسية والهويات وحسب، بل لإحداث خللٍ في التكوين السكاني نفسه لتدمير النسيج الاجتماعي التعددي الموجود قبل الحرب. تسبب الحصار والقصف بإفراغ بعض الأحياء من مكوناتها العرقية أو الدينية، وتأثرت 65 بالمئة من أبنية سراييفو بالقصف خلال الحرب، حسب كتاب كريغ نيشن.
استهدفت الحرب ذاكرة المدينة التعددية الثقافية وتاريخها المشترك، عبر التدمير المباشر للرمزيات المرتبطة بذاكرة السكان الجمعية، مثل تركيز القصف على المكتبة الوطنية والمتاحف والمراكز الأكاديمية. واستمر القصف حتى بعد إفراغ أحياءٍ كاملةٍ من سكانها. وقد وصف غويا بادسكو، الباحث في جامعة كونستانس الألمانية، التأثيرات المديدة لهذه العملية حتى بعد الحرب، في دراسته "دويلينغ إن ذا بوست وور سيتي" (السكن في مدينة ما بعد الحرب) المنشورة سنة 2015. قال في الدراسة إنها كانت إعادة تشكيل المدينة عمرانياً واجتماعياً وفق الهوى الصربي.
وعلى فداحة التدمير الممنهج لسراييفو، فلم تكن المدينة بعيدةً عن نمط اغتيالٍ حضريٍ آخر على بعد بضعة آلافٍ من الكيلومترات شرقاً.


تشابهت حرب القوات الصربية على سراييفو مع حرب القوات الروسية على غروزني في الشيشان. إلا أن إبادة غروزني تجسّدت أكثر فيها خلال إعادة الإعمار، ووصل الدمار حدّ أن بدت المدينة مشهداً من مشاهد الحرب العالمية الثانية. وفي فبراير 2004، قال وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية يان إيغلاند إنه رأى كثيراً من المدن المدمَّرة، ولكن غروزني كانت أكثر هذه المدن دماراً. وأضاف إنه من الصعوبة العثور على مبنىً لم يطله الضرر.
أصبحت غروزني عاصمة الدولة الشيشانية الوليدة بعد إعلان الاستقلال سنة 1991، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي. وحسب كاوَرد، كانت كياناً سياسياً حياً، يمثل حاضنةً للمقاومة المعادية للروس وحاملاً للهوية الشيشانية، ولذلك كان تدميرها بغرضٍ سياسيٍ لفرض الرؤية الروسية المقابلة. عدّت روسيا الاستقلال تمرداً وتهديداً بخروج جمهورياتٍ أخرى عن سلطتها، فحاولت إعادة فرض سيطرتها بالقوة لإنهاء المقاومة المتشكلة فيها.
مرّت الحرب الروسية الشيشانية بمحطتين، الأولى بين سنتَيْ 1994 و1996، إذ انتصر الشيشانيون ووقّعوا مع الروس اتفاقيةً اعترفت فيها موسكو واقعياً باستقلال الشيشان. والثانية بين سنتَيْ 1999 و2000، حين شنّت القوات الروسية هجوماً على الشيشان بعدما هاجم مسلحون شيشانيون خارجون عن سيطرة الحكومة مدناً روسيةً، وحاولوا دخول داغستان المجاورة لإنشاء جمهوريةٍ إسلاميةٍ في القوقاز. انتهت الحملة الروسية بقصفٍ واسعٍ على غروزني والسيطرة عليها في فبراير 2000.
تكررت أنماط تدمير سراييفو في غروزني خلال الحربين باستخدام عنفٍ يتجاوز الضرورة العسكرية. يشير الضابط والمحلل العسكري الأمريكي تيموثي توماس، في دراسته "ذا باتل أوف غروزني" (معركة غروزني) المنشورة سنة 1999، إلى معركة يناير 1995. إذ استمرّ القصف المدفعي والجوي على المدينة عشرين يوماً بمعدل أربعة آلاف قذيفةٍ في الساعة، ما خلّف دماراً شبه كليٍّ للقصر الرئاسي ومجلس الشعب وغيرها من المعالم الوطنية.
إلى جانب اغتيال الذاكرة كان القصف العشوائي الذي أودى بحياة الآلاف في الحربين، واستهدف التكوين السكانيّ للمدينة ومحاولة إفراغها بالقتل والحصار والتجويع. استكملت الهجمات البرية محو المدينة، إذ اعتمدت أساليب التطهير والاعتقالات الجماعية والإعدامات الميدانية. واستمر القصف والحملات البرية أحياناً على الأحياء التي أُفرغت من سكانها، كما يؤكد غويتيسولو.
استكملت روسيا الحرب بإعادة الإعمار بعد سيطرتها على المدينة. وأضاف ذلك لمفهوم الإبادة الحضريّة أسلوباً غير الهدم. يقول كاوَرد إن السلطات الروسية عمدت في هذه المرحلة إلى محو رمزيات المدينة وإعادة تشكيلها معمارياً بإفراغها من كلّ المعالم المعبّرة عن الهوية الشيشانية. اختفت خلال إعادة الإعمار هذه الرموز الدينية والثقافية والمجتمعية التي مثلت استقلالية الشيشان وخلفيتها الإسلامية، وبُنيَت عوضاً عنها كتلٌ حكوميةٌ جديدة.
من الأهداف العمليّة لإعادة التخطيط قتل إمكانيات نشوء مقاومةٍ فيها، فقد فُتِّتَت الأحياء بإنشاء طرقاتٍ واسعةٍ ونشر المراكز الأمنية بينها. وفي دراسته "بوستمورتيرم سيتي" (مدينة ما بعد الموت) المنشورة سنة 2004، يقول أستاذ الجغرافيا البشرية في جامعة دورهام البريطانية، ستيفن غراهام، إن العمران الحضري استُخدم أداةً سلطويةً للقمع المستقبلي. يرى غراهام أن عملية إعادة إعمار غروزني لم تترك أنقاضاً أو متاحف أو أيّ شيءٍ يذكّر أهلها بالمذبحة التي استهدفت المدينة وسكانها. كما استُبعِد صوت أهلها وقرارهم من إعادة تشكيل مدينتهم، ما حوّلها مدينةً ميتةً صامتةً بجسدٍ جديدٍ لا يشبه روحها الشيشانية.
تتجلّى هنا المفارقة بين المدينة الحيّة القادرة على إعادة بناء الذاكرة وفتح مجالات التعدّد والحركة والتداخل الطبقي والثقافي، وبين المدينة الميتة. تُغتال في الأخيرة الرموز الثقافية، وتبدو مقسمةً هوياتياً وخاضعةً لنظام مراقبةٍ شاملٍ يمنع مساحاتها العامة من أن تكون مساحاتٍ سياسية. لذا يقول غراهام إن اغتيال المدينة لا يعني بالضرورة تدميرها عمرانياً، بل قتل إمكانيات وجود كيانٍ سياسيٍ فيها عبر تصفية فكرة انبعاث المجتمع نفسه مرّةً ثانيةً فيها. وهو ما تسعى حروبٌ معاصرةٌ إلى استهدافه.


لم يكن تدمير المدن ممارسةً غريبةً على النظام السوري السابق. وفي كتابها "السيطرة الغامضة" المترجَم للعربية سنة 2010، رأت أستاذة النظرية السياسية في جامعة شيكاغو، ليزا ويدين، أن الأسد رسّخ حكمه بالعنف المادي والرمزي طويل الأمد. واستهدف بذلك خلق بيئةٍ نفسيةٍ مشبعةٍ بالرعب تجعل فكرة المقاومة أشبه بالمستحيل.
وقد بدأ العنف التدميري جلياً منذ مجزرة حماة سنة 1982. واستعمل الصحفي الأمريكي توماس فريدمان مصلح "قواعد حماة" لوصف الطريقة التي واجه بها حافظ الأسد تمرّد الإخوان المسلمين، في كتابه "فروم بيروت تو جيروزاليم" (من بيروت إلى القدس) المنشور سنة 1989. دمّر الأسد الأحياء التي تمركز بها المتمرّدون بالقصف المدفعي، ثم دخلت القوات العسكرية ونفذت مجازر راح ضحيّتها عددٌ غير موثّقٍ بدقّة. ولكن أقلّ التقديرات تتحدث عن عشرة آلاف قتيل. أصبح المصطلح شائع الاستخدام في وصف مواجهة التمرد المسلح بتدمير الأماكن وتسويتها بالأرض.
قالت الباحثة المصرية البريطانية سلوى إسماعيل، في كتابها "ذا رول أوف فايُلِنس" (حُكم العنف) المنشور سنة 2018، إن بنية نظام الأسدين، الأب والابن، قامت على مأسسة العنف في الحياة اليومية للسوريين وربطها بالمكان. اعتمدت هذه المأسسة على الحيّز المكاني الحكومي لإنتاج الطاعة، من المدارس حتى السجون، بحيث يصبح المكان فضاءً لوضع قواعد الخوف والعقاب بين السلطة والمواطن. أو عبر درس حماة الذي أصبح حكاية رعبٍ مكانيةً في الذاكرة الجماعية ترسخ قدرة النظام على المحو. بدورها نوّهت ويدين أيضاً بدور مجزرة حماة في ترسيخ الرعب النفسي المرتبط بالاخضاع في الذاكرة الجمعية.
بعد بداية الثورة السورية في مارس 2011، طبّق الأسد الابن الأنماط التدميرية نفسها التي ظهرت في سراييفو وغروزني. وظهرت كثافة العقاب الجماعي واغتيال الذاكرة في جميع حواضن الثورة السورية. لم تكن مناطق مثل حمص وحلب وجنوب دمشق ودير الزور مواقع اشتباكٍ فقط، بل فضاءاتٍ حضريةً شكّلت برمزيتها وساكنيها تهديداً لسلطة الأسد. ولذلك استخدم عنفاً يتجاوز الضرورة العسكرية بهدف تدميرها مادياً ورمزياً، واستدعى الابن "قواعد حماة" التي وضعها الأب مع إضافة عنفٍ أكثر توحشاً وانتشاراً.
أصبح أثر السياسة التدميرية التي استمرّت حتى سقوط النظام في الثامن من ديسمبر 2024 ظاهراً في كلّ أنحاء سوريا. ففي فبراير 2025 أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريراً عن آثار الصراع في سوريا، قدّر فيه أن ثلث المساكن في سوريا طالها الدمار جزئياً أو بنسبةٍ كبيرةٍ، وبلغ عددها مليوناً وثلث مليون وحدةٍ سكنية. كما وثّق التقرير دمار 328 ألف منزلٍ كلياً، إلى جانب دمار 50 بالمئة من محطات المياه والصرف الصحّي، و70 بالمئة من محطات الكهرباء وخطوط النقل. وفي مدينة دير الزور وحدها قدّر تقرير البنك الدولي في أغسطس 2022 عدد الوحدات السكنية التي طالها الدمار بنحو ثمانية آلاف وحدةٍ من أصل ثمانيةٍ وأربعين ألفاً.


التقت الفراتس عدداً من أبناء محافظة دير الزور الذين قدّروا نسبة الدمار بأعلى من تلك الموثقة بالأرقام الرسمية، وذلك بعد عودتهم إلى المدينة وصدمتهم بمشاهد الدمار عقب سقوط النظام في ديسمبر 2024. قال الصحفي عهد الصليبي إن نسبة الدمار تفوق 70 بالمئة من العمران. بينما أخبرنا أنس الراوي الذي يدير مركزاً للخدمات الاجتماعية أن "كل أحياء المدينة دُمّرت تقريباً، باستثناء حيَّي الجورة والقصور، اللذَيْن بقيا تحت سيطرة النظام السابق، أما بقيتها فيَصِل دمارها نسبة 80 بالمئة منها".
وبعيداً عن التقديرات الشخصية لحجم الدمار، والتي قد يكون مردّها الصدمة لا الدقّة الإحصائية، يجسّد مشهد المدينة نموذجاً لاستراتيجيات التدمير المكثف الذي يتجاوز تدمير البنية العمرانية إلى محو رمزية المكان. وهي إستراتيجياتٌ درستها أدبيات اغتيال المدن في حالتي سراييفو وغروزني.
تطلّ مدينة دير الزور على نهر الفرات، حيث تصلها الجسور بمدن المحافظة وبلداتها على الضفّة الشرقية منه، بينما تمتدّ البادية في غربها. وتشمل المدينة ستة عشر حيّاً إدارياً غرب نهر الفرات. أضاف لها النظام السابق ثلاثة مناطق إداريةٍ إحداها شمالاً واثنتان شرق النهر. انقسمت هذه الأحياء خلال الثورة إلى قسمين، شرقيٍّ وغربيّ. كانت الأحياء الشرقية المطلّة على الفرات منطقة تجمع الثوار ثم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام أو "داعش"، ويشقّها رافد متفرّع عن نهر الفرات، مكوّناً جزيرة هي حيّ الحَوِيقة التي تتصل بجسورٍ مع بقية المدينة. بقي القسم الغربي المطلّ على البادية تحت سيطرة النظام، ويتصل شمالاً بالجبل الذي كان قاعدةً عسكريةً وجنوباً بالمطار العسكري.
ولم تعرف دير الزور مطلع الثورة الانقسام السياسي الحادّ الذي عايشته مدنٌ أخرى بين أحياءٍ مؤيدةٍ للثورة وأخرى معارضة. فقد شهدت معظم مناطق المدينة مظاهراتٍ ثوريةً في سنتَيْ 2011 و 2012. يحضر هذا في سردية أبناء المدينة عن سبب تدميرها. قال للفراتس عدنان الدخيل الذي كان أحد المشاركين بالمظاهرات إن النظام السابق نقم على المدينة لأنها انتفضت ضدّه برمّتها، إلى جانب بقية مدن المحافظة وبلداتها، وشملت المظاهرات حتى المناطق الأمنية مثل غازي عياش ومحيط المطار العسكري.
حالت هذه المشاركة العامة في الثورة دون نشوء حواضن شعبيةٍ مواليةٍ للنظام السابق لا تُقصف أو تُقتحم أحياؤها. قال أبناء المدينة إن مؤيّدي النظام كانوا أفراداً معزولين لم يشكّلوا كتلاً مجتمعيةً في المدينة. ومع توسع المظاهرات بدأت الحملات الأمنية باقتحام حيّ الحويقة في 28 يوليو 2011، واستمر الاقتحام أربعة أيام. ثم بدأ النظام حملةً عسكريةً أخرى في السابع من أغسطس من العام نفسه، اقتحم فيها أحياء المدينة تباعاً بالدبابات.
وقد تنوّعت آليات التدمير إبان سنوات الصراع تبعاً للمرحلة والفاعلين. في المرحلة بين سنتَيْ 2011 و2014 استهدفت قوات النظام الهيكل البنيوي للمدينة والمواقع التي ترمز للثورة فيها. بدأ التدمير الرمزي في الحملة العسكرية الأولى في التاسع من أغسطس 2011، إذ قصفت الدبابات مئذنة جامع عثمان بن عفان وأسقطتها. وكان الجامع أول منطقة تجمّعٍ للمظاهرات. وتكرّر قصفه لاحقاً بالطيران ما تسبّب بتدميره بالكامل في 23 يوليو 2013. وعند نشوء مجموعات الجيش السوري الحرّ أواخر سنة 2011، نصبت قواتُ النظام المدفعيةَ ومرابضَ الهاون على الكتلة الجبلية جنوب غرب المدينة لدكّ أحياء دير الزور.
غياب حواضن اجتماعيةٍ مواليةٍ للنظام داخل المدينة حال دون قدرته على تفكيك الفضاء المكاني المتمرد من داخله، أو الحدّ من انتشار الثورة عبر شبكات الولاء المحلية. دفعت غربة النظام عن المجتمع إلى خلق نقاط ارتكازٍ قسريةٍ عبر العنف المفرط. وكان أبرزها مجزرة حيَّي الجورة والقصور التي استمرت ثلاثة أيامٍ منذ 25 سبتمبر 2012. أسفرت المجزرة عن مقتل ما لا يقلّ عن أربعمئة شخصٍ وإفراغ الحيَّيْن من سكانهما، وتحويل حدودهما مع الأحياء الأخرى مناطق عسكريةً مغلقة. وبقيا بعدها تحت سيطرة النظام حتى سقوطه.
إلى جانب القصف العشوائي الذي طال الأحياء الخارجة عن سيطرة النظام، برزَ نمط استهداف ذاكرة المدينة ورموزها التاريخية. أبرز هذه الرموز الجسرُ المعلّق الذي افتتح سنة 1931. وقد انهار في مايو 2013 خلال المعارك بين النظام والثوار، بعد زرع عبواتٍ متفجرةٍ تحت دعامته. اتَّهَم الائتلافُ الوطني المعارض وقتها النظامَ بتدميره. كذلك استهدف قصف النظام البوابة العثمانية والسوق العتيق خلال سنة 2012. وطال قصف النظام كنائس دير الزور الخمس التي تقع في حيّ الرشدية. تحوّل الحيّ إلى ساحة معركةٍ منذ سبتمبر 2012، واستهدف طيران النظام الكنائس حين تقدّمت الفصائل في الحيّ، ومنها كنيسة مريم العذراء للسريان الأرثوذكس. وتعرضت كنيسة يسوع الملك للآباء الكبوشيين في أبريل 2015 لتفجير مفخخةٍ نفذتها جبهة النصرة في محيطها. قبل أن يأتي تنظيم "داعش" في يوليو 2014 ويستكمل استهداف الكنائس.
حوّل قصف النظام المدينة إلى بيئةٍ طاردةٍ لا تصلح للعيش، عبر استهداف المرافق الحيوية والبنية التحتية. كان جسر السياسية مثلاً من أهم المعابر بين ضفّتَي الفرات، واستهدفه قنّاصو النظام منذ بداية المعارك حتى أصبح اسمَه المتداول "جسر الموت". مع هذا الخطر تحوّل الجسر إلى المعبر الأخير لعبور المدنيين والمساعدات بين الأحياء الغربية الخارجة عن سيطرة النظام والبلدات الخارجة عن سيطرته في الضفة الأخرى، إلى أن دمّره تفجيرٌ مجهول المصدر في سبتمبر 2014 بعد شهرين من سيطرة تنظيم "داعش" على المدينة. اتّهم ناشطو المدينة النظامَ بتنفيذ التفجير. أصبحت الأحياء الغربية الخارجة عن سيطرة النظام وقتها محاصرةً بين البادية والنهر، ما دفع الأهالي إلى النزوح وإفراغ مناطق جديدةٍ وتغيّر البنية السكانية.
ولم تكن عمليات التدمير حصراً على النظام السابق، فقد استهدفت فصائل المعارضة بالقصف المدفعي الأحياء التي يسيطر عليها هذا النظام أيضاً. واستعملت تنظيماتٌ جهاديةٌ مثل جبهة النصرة، وبعدها "داعش"، المفخخات خلال المعارك. ولكن حجم الدمار الذي سبّبته الفصائل، يبقى أقلّ كثيراً ممّا شهدته الأحياء التي استهدفها النظام، كذلك فهذا القصف لم يكن ضمن نمطٍ منهجيٍّ ومستمرٍ للتدمير.
سيطر تنظيم "داعش" على مدينة دير الزور في يوليو 2014، متوّجاً بذلك حملته العسكرية للسيطرة على المحافظة، وتبقّت بعدها مواقع عسكريةٌ محاصرةٌ تابعةٌ للنظام السابق. ومع أن ثقل التنظيم الرئيس كان في بلدات المحافظة وليس في المدينة، لكنّه مثلما فعل النظام، مارس نمطاً من تفكيك الفضاء المدني وإحداث تغييراتٍ سكانيةٍ ومحو ما تبقّى من هياكل رمزيةٍ وثقافيةٍ واجتماعيةٍ للمدينة.
في دراسته "آ فورس ذَي ديدنت سي بيفور" (قوّة لم يروها من قبل) المنشورة سنة 2020، يرى الباحث الأمريكي غريغوري ووترز أن التنظيم أفرغ المدينة باعتماده "الحصار المعاكس". إذ فرض حصاراً على جيوب تمركز النظام في أحياء الجورة والقصور والمطار العسكري، ما أدّى إلى إفراغها وتفكيك ما تبقّى من بنية المدينة السكانية فيها. كذلك اتّجه التنظيم إلى تدمير البنية التحتية واستعمال السيارات المفخخة أو تفجير مناطق لكشف المساحات أمامه، كما أخبرنا نشوان الصالح، أحد سكان المنطقة، الذي عايش هذه الفترة.
أوضحُ سمات العنف المكاني لدى تنظيم "داعش"، كان السعي إلى محو روح المدينة وهويَّتها المتنوعة التي تتعارض مع الهوية العقدية، التي أراد فرضها عبر استهداف رموز المدينة واستكمال تدميرها الذي بدأه النظام السابق. كان الهدف الأبرز هو كنائس دير الزور (كنيسة شهداء الأرمن ومريم العذراء والأرمن الكاثوليك ويسوع الملك للآباء الكبوشيين والسريان الكاثوليك) التي أكمل تدميرها. إضافةً إلى تجريف بقايا الأسواق الأثرية والسرايا والمتحف القديم المبنيّ من الحجارة في العهد العثماني. وقال لنا الصالح إن التنظيم استعمل حجارة هذه المواقع بعد أن قصفها النظام موادّ ردمٍ، لبناء جسرٍ على نهر الفرات بين المدينة وحَوِيجة صقر، وهي جزيرةٌ نهريةٌ محاذيةٌ للمدينة.
تزامن عنف التنظيم مع قصف النظام الذي لم يتوقف. قال الصالح عن قصف تلك المرحلة: "ازدادت كثافة الألغام البحرية والبراميل المتفجرة. في بعض الأحيان، كانت ترمى قذائف أكبر من البرميل، أسميناها حاوية. سقطت إحداها في حيّ الحميدية فدمّرت جزئياً نحو ثلاث حارات. وكانت [الحاوية] نحو مترين طولاً بقطر خمسةٍ وسبعين سنتمتراً. أما القصف الروسي فكان معدله ثلاث أو أربع رشقاتٍ صاروخيةٍ يومياً". وكانت روسيا دعمت نظام الأسد من بداية الثورة في 2011، ولكنها تدخلت عسكرياً إلى جانبه في سبتمبر 2015 بعدما بدا النظام في وضعٍ حرجٍ أمام تقدم المعارضة، لا سيما في الشمال الغربي لسوريا.
كانت ذروة عمليات قصف النظام السابق والطيران الروسي والميليشيات المدعومة إيرانياً على المدينة في سبتمبر 2017، وانتهت بسيطرتهم عليها في نوفمبر للعام نفسه. تقاطعت هنا رغبة النظام السابق مع إيران في إعادة هندسة المدينة اجتماعياً وثقافياً. وسعت إيران لبناء ميليشيات وشبكات ولاءٍ محليةٍ طائفيةٍ، كما ذكر مدير شبكة "دير الزور 24" الإعلامي عمر أبو ليلى في مقالٍ منشورٍ في يوليو 2024 بعنوان "إستراتيجية إيران المتجددة في سوريا". ساهم ذلك في استمرار تدمير ذاكرة المدينة وبنيتها الاجتماعية ومنع استعادتها حتى بعد توقف القصف.


بعد انتهاء العمليات العسكرية، بقيت المدينة في ركودٍ عمرانيٍّ واجتماعيٍّ، وسط دمارٍ هائلٍ في بنيتها التحتية والمرافِق العامة. ولم تسلَم من استمرار التدمير ولو على نحوٍ متقطع. أمّا ما تبقى من متاع في المنازل فقد نالته حملات "التعفيش"، وهو مصطلحٌ يعني به السوريون عمليات نهب قوات النظام أو الميليشيات الموالية له أثاث المنازل وحديدَها وبلاطها. وبسبب استباحة الملكية الخاصة وإغلاق الفضاء المدني أمام سكانه الأصليين لصالح النظام وميليشياته، تعسّرت عودة النسيج الاجتماعي السابق للمدينة.
تسبب التدمير بتحولٍ تاريخيٍ في مكانة المدينة وبنية مجتمعها. وفي مقاله "العودة إلى أي مستقبل؟" المنشور في فبراير 2018، رأى خضر خضور، أن مدينة دير الزور لم تعد مركزاً تاريخياً للمنطقة الشرقية في سوريا بعد مراحل الحرب والتدمير. وأضاف أن البنية الاجتماعية العائلية والعشائرية تفكّكت، وأعاقَ عودةَ السكان انتماءاتُهم السياسية وخشيتُهم من الاعتقال على يد النظام السابق.
انخفض عدد سكان مدينة دير الزور من نصف مليون نسمة سنة 2010 إلى نحو ثمانين ألفاً سنة 2017، ولكن نزوح السكان استمرَّ حتى بعد توقف العمليات العسكرية. وفي دراسته "ما هو دور المنظمات غير الحكومية السورية في دير الزور بعد الحرب؟" المنشورة سنة 2021، يعزو زياد عوّاد أسباب ذلك إلى انعدام الخطط الحكومية الشفافة لإعادة الإعمار، وتدخّل النظام السابق في عمل المنظمات الأهلية والتنموية، التي يفترض أن تسدّ الفجوات الخدمية والاجتماعية في ظلّ انهيار مؤسسات الدولة. إلى جانب ذلك التعقيد القادم من وجود شبكات المحسوبيات والفساد التي تحكّمت بكلّ جهود إحياء المدينة. وهو ما قوّض فرص إعادة البناء المجتمعي وتقديم الدعم للسكان المحليين.
يتمايز نموذج دير الزور عن نماذج أخرى لاغتيال المدن في أن نظام الأسد لم يستهدف بنيةً رمزيةً أو هويةً محددةً مثل الحالات الأخرى. ففي سراييفو كان الهدف القضاء على الهوية التعددية عبر تدمير الذاكرة الحضرية للمدينة. وفي غروزني كان التركيز على اجتثاث الهوية القومية المقاومة التي حملها الشيشانيون. أما في دير الزور، فقد أزيل معظم المدينة ودورها التاريخي وبنيتها المجتمعية وتُركت ذاكرةً مهمَلةً، عاجزةً عن استعادة وظيفتها ومجتمعها وعمرانها. بهذا المعنى مثلت دير الزور حالةً متقدمةً من الإبادة الحضرية، فقد أصبح اغتيال المدن استراتيجية دولةٍ تعاقب المجتمع بتدمير عمرانه وذاكرته ومنع إمكانية إعادة إنتاجه.


في المشهد الأخير، لا تبدو دير الزور مجرّد مدينةٍ مدمَّرةٍ، بل هي حاضرةٌ اغتيلت مرّتين. المرة الأولى بالتدمير المنهجي إبان سنوات الصراع بين الثورة والنظام، ثمّ بين "داعش" والنظام وحلفائه. والمرة الثانية بعد انتهاء الأعمال العسكرية فيها. أُخرجت من الحياة، وحرص النظام على إبقائها مدينة متهالكةً متروكةً، بلا أيّ جهدٍ لعودة سكانها أو إعادة إحيائها والاعتراف بتدميرها.
يجسّد واقع المدينة اليوم الإشكال الأوسع الذي تواجهه سوريا في ملفّ إعادة الإعمار. إذ تحول هذا إلى شعارٍ سياسيٍ واقتصاديٍ وليس عمليةً شاملةً محورها العدالة وإعادة بناء الحياة ومشاركة السكان المحليين. ومع التحول الكبير في الثامن من ديسمبر 2024 إلّا أن الحكومة الجديدة لم تطرح بعدُ نموذجاً جديداً لإعادة الإعمار العادلة يلغي مخاوف تكرار "نموذج الإعمار الاستئصالي"، كالذي شرحه عمّار عزوز في مقاله "إعادة الإعمار العادلة في سوريا" المنشور في الفراتس. فمع زوال الخوف من إعادة إعمارٍ انتقاميةٍ تنتج مدناً ممسوحة الهوية مثل غروزني، إلّا أن القلق يبقى من سيطرة اقتصاد السوق وتغييب أصوات السكان في هذه العملية، ما يمنع إحياء ذاكرة المدينة واستعادة مجتمعها.
لعلّ هذا التحدّي الرئيس الذي تواجهه مدينة دير الزور المدمَّرة اليوم، وهو استعادة المدينة مجالاً حيّاً للذاكرة والهوية والمواطنة، وإمكانية استعادة المجتمع المهجّر والمفكّك. وأن تحلّ العدالة الحضرية التي تضمن تمثيل السكّان في إعمار المدينة محلّ التدمير، الذي محا المدينة وقتل السكّان وهجّرهم خلال أربع عشرة سنة.

اشترك في نشرتنا البريدية