في قصيدة محمود درويش "خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض"، التي صدرت سنة 1992 ضمن مجموعته الشعرية "أحد عشر كوكباً"، لم يكن الرجل الأبيض سوى ذاك المستعمِر الذي احتلّ القارة الأمريكية وفرضَ ثقافته بدلاً من ثقافة السكان الأصليين. لم يكن عنوان قصيدة درويش تمهيداً مجرّداً، بل رؤيةً رمزيةً عن صراعٍ طويل الأمد بين الغزاة وأصحاب الأرض. هؤلاء الذين عاشوا على أمل استعادة أرضهم وتراثهم اللذَيْن دمّرهما المستعمِر أو أعاد تشكيلهما.
تردّدتْ أصداء هذه الكلمات في ذهني عندما زرتُ منتدى هومبولت للمتاحف في برلين. وهو مؤسسةٌ ضخمةٌ تضمّ أكثر من خمسمئة ألف قطعةٍ أثريةٍ تمثل حضاراتٍ وثقافاتٍ مختلفةً من آسيا وإفريقيا وأنحاءٍ أخرى من العالم. وعلى ضخامة العدد إلّا أن كلّ قطعةٍ أثريةٍ معروضةٍ مجرّدةٌ من سياقها الأساسي، الإنساني والثقافي. فلا شرحَ كافياً عنها، وإنما تفاصيل تاريخيةٌ مختصَرةٌ باردةٌ وجافة.
من بين هذه القطع، استرعت انتباهي مجموعة قطعٍ أثريةٍ من مملكة بنين توحي بقصةٍ مأساويةٍ عن الاستعمار البريطاني. في سنة 1897، شنَّ الجنود البريطانيون حملةً عسكريةً على مملكة بنين الواقعة غرب نيجيريا اليوم. كانت الحملة جزءاً من سياسة العقاب الجماعي، ردّاً على كمينٍ نصَبه زعماء بنين لقوةٍ عسكريةٍ بريطانيةٍ كانت تنوي اجتياح المملكة. في هذه الحملة، دُمّرت المدينة الملكية القديمة بالكامل تقريباً ونَهب الجنود البريطانيون كنوزَها التي توزعت فيما بعد على المتاحف الأوروبية.
وبينما أتأمل هذه القطع الأثرية خلف الزجاج، كنت أبحث عن أيّ سياقٍ تاريخيٍّ أو ثقافيٍّ لها أو أيّ إشارةٍ إلى الفظائع التي ارتكبتها بريطانيا بحقّ مملكة بنين وشعبها. لكنّ ما وجدته كان تفاصيل تقنيةٍ عن القطع نفسها، كموادّ صنعها وأبعادها، بلا ذكرٍ لتاريخها وقصة وصولها الأليمة إلى هذا المكان. هذه الآثار، التي كانت جزءاً من حياة شعبٍ بكامله هي اليوم معروضاتٌ زجاجيةٌ في عالمٍ يروِّج لتفوّقه الحضاري. معروضات للفرجة فُصلت عمداً عن جذورها، وصارت رموزاً باردةً تَخدم المستعمِر وتكرِّس روايتَه للتاريخ.
عند تأمّل هذه القطع، لا يمكن تجاهل الأثر الاستعماري الذي جعل من نهبِ ثقافاتِ الآخرين عملاً مشروعاً ومبرَّراً بذرائعَ واهيةٍ، مثل التمدّن والتحضّر. فهذه القطع الأثرية تُعرض اليوم في دولٍ استعماريةٍ سابقةٍ دليلاً على "إنجازاتها" الحضارية، بينما تُهمَّش حكايات الشعوب الحقيقية التي صَنعت هذه القطع. هي رغبةٌ في نقدِ ومناقشةِ فعالية مفهوم إزالة الاستعمار وتفكيكه في المتاحف الألمانية. فعلى سبيل المثال، وبينما يبرِز الألمان وحشيةَ النظام السوفييتي بتحويل مقرّات وزارة أمن الدولة في ألمانيا الشرقية إلى متحفٍ، يتعاملون بالتحفظ والغموض مع الإرث الاستعماري في المتاحف التي تحتوي على قطعٍ أثريةٍ من إفريقيا وآسيا. وفي حين يمكن للزوار مشاهدة أماكن الاحتجاز السوفييتية غير الآدمية وغرف التحقيق، ليس ثمّة معلوماتٌ عمّا فعلته بريطانيا في مملكة بنين وشعبها.
تردِّد المؤسسات الثقافية والتعليمية في الغرب شعارات إعادة الاعتبار للشعوب الأصلية وتقديم رواياتٍ منصفةٍ، لكن هذه المحاولات تظلّ قاصرةً عن تحقيق العدالة التاريخية. لاتزال معظم المتاحف الألمانية تَعرض القطع الأثرية المنهوبة بلا إشارةٍ واضحةٍ إلى تاريخِ نهبِها ولا اعترافٍ بمسؤولية القوى الاستعمارية المسؤولة عن تدمير الثقافات التي أنتجت هذه القطع. هو التناقض بين شعارات إزالة الاستعمار التي لا تنفكّ أوروبا تردّدها وبين الممارسات الفعلية داخل مؤسساتها الثقافية.
بحسب غوميز، رتّبت الحضارة الغربية المعارفَ البشرية وفق تسلسلٍ هرميٍّ يبدأ من "البربرية الإفريقية" – وهو مصطلحٌ سَعَت بريطانيا لترسيخه في عقول البشرية – ويمرّ بثقافات المشرق لينتهي بالحضارة الأوروبية. لم يبقَ هذا الترتيب تصنيفاً أكاديمياً، وإنما صار أداةً لإلغاء تعدّدية طرق إنتاج المعرفة وتهميش مساهمات شعوب إفريقيا وآسيا. على سبيل المثال، صُوِّرت إفريقيا في القرنَين التاسع عشر والعشرين أرضاً موحشةً تخلو من التنظيم والحضارة. وذلك بهدف تبرير الغزو الأوروبي واتخاذه "مهمّةً حضارية".
تتجلّى هذه الفكرة في تصريحات القنصل البريطاني ريتشارد بيرتون سنة 1862 بعد زيارته مملكة بنين التي وصفها بأنها مكان "للبربرية الفائضة وتفوح منها رائحة الموت". ذاعَ تصريحه هذا في جميع أنحاء بريطانيا. وناهيك من تحقير ثقافة الآخَر، فإن وَصْفَه قد ساعد في تسويغ الحملات العسكرية ضدّ بنين واستغلال ثرواتها. هذا الفكر بلغ ذروته في مؤتمر برلين بين سنتي 1884 و1885 حين اجتمعت القوى الأوروبية لتقسيم القارة الإفريقية فيما بينها، بلا اعتبارٍ لحقوق الشعوب الأصلية أو ثقافاتها. كان المؤتمر نقطةَ تحوّلٍ أدّت إلى تكريس الاستغلال المنظَّم لإفريقيا ونهْب ثرواتها. وهو ما انعكس لاحقاً في المتاحف الأوروبية التي عجّت بالقطع الأثرية المسروقة من إفريقيا.
في كتابه "استعمار مصر" المترجَم للعربية سنة 1990، يقدِّم الباحث في شؤون العالم العربي وأستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا تيموثي ميتشل فصلاً كاملاً تحت عنوان "مصر في المعرض". يستخدم ميتشل الفصل، وهو الأول في الكتاب، لفهم طبيعة العلاقة التي نشأت بين القوى الاستعمارية والشعوب المستعمَرة. فيرى أن الاستعمار الأوروبي لم يكن مشروعاً مادّياً هدفه السيطرة على الأراضي واستغلال الموارد وحسب. ووفقاً له، فقد كان بالتوازي مشروعاً معرفياً وثقافياً يسعى إلى إعادة تشكيل طريقة فهم الثقافات المستعمَرة وتمثيلها أمام العالم.
لم تكن المعارض الأوروبية في القرن التاسع عشر محضَ فضاءات مادية لعرض قطعٍ أثريةٍ أو تحفٍ فنية. مَثَّلت المعارض، وفق ميتشل، أدواتٍ رمزيةً ذات هدفٍ سياسيٍّ ثقافيٍّ واضح: ترسيخ فكرة تفوّق الغرب. دأبت هذه المعارض على تقديم الثقافات والشعوب المستعمَرة ليس بصفتها حضاراتٍ متطوّرة أو كياناتٍ ثقافية حيّة قادرة على التفاعل والتغيير، وإنما باعتبارها كياناتٍ ثابتة وجامدة. وبهذا، تحوّلت ثقافات الشعوب المستعمَرة إلى عناصر "للفرجة" تُقدَّم على أنها "أشياء" منفصلة عن سياقَيها التاريخي والاجتماعي.
وفي هذا الإطار، يشير تيموثي ميتشل إلى أن هذا النهج لم يكن صدفة، بل كان جزءاً من استراتيجيةٍ استعماريةٍ ممنهَجة. فالأوروبيون لم يكتفوا بنهب ثروات البلدان المستعمَرة، إنما سعوا أيضاً إلى بناء سرديةٍ ثقافيةٍ تصوِّر هذه الشعوب على أنها متخلّفةٌ وغير قادرةٍ على التطوّر دون التدخل الغربي. على سبيل المثال، كانت مصر في سياق هذه المعارض رمزاً للحضارة القديمة التي توقّفَت عن التطوّر. ففي المعرض العالمي الذي نُظّم في باريس سنة 1889 وزارَه وفدٌ مصريٌّ طيلة ثمانية عشر يوماً، صوّر الفرنسيون مصرَ مكاناً يعجّ بالفوضى.
يذكر ميتشل في الفصل أن الجناح المصريّ في المعرض العالمي "ازدحم بالحوانيت والأكشاك [. . .]. ولاستكمال وقع السوق الشرقية، كان المنظمون الفرنسيون قد استوردوا من القاهرة خمسين حماراً، بالإضافة إلى قائدِيها والعدد اللازم من السُيّاس [المُعْتَنِين بالحمير] والبيطاريين [البياطرة] والسروجيين [صنّاع سروج الخيل]. وكان يمكن ركوب الحمير ذهاباً وإياباً في الشارع مقابل فرنكٍ واحدٍ، ممّا أحدث هرجاً ومرجاً [. . .] بحيث إن مدير المعرض قد اضطر إلى إصدار أمرٍ بتخصيص عددٍ معيّنٍ من الحمير لكلّ ساعةٍ من ساعات النهار".
هذا التوجه، وفقاً لميتشل، يمثل "عنفاً رمزياً". فمنه يقوَّض الفهم الحقيقي لثقافات الشعوب المستعمَرة، وتصبح شروى أدواتٍ استعراضيةٍ يستهلكها الجمهور الغربي بصريّاً. هذا العنف لم يكن ملموساً أو مادّياً، ولكنه كان مبنيّاً على تقليص هذه الثقافات إلى مفاهيم مبسَّطةٍ تُنظَر من عدسة المركزية الأوروبية، أي من حيث اتخاذ أوروبا مرجعيةَ العالم الحضارية.
لاتزال المتاحف الغربية – لاسيما الأوروبية – تمثل امتداداً لهذا الإرث الاستعماري. تَعرض المتاحف هذه القطعَ الأثرية الإفريقية والآسيوية بمعزلٍ عن السياقَيْن الثقافي والاجتماعي اللذَيْن يبرزان المعنى الحقيقي لتلك الآثار. تعرض المتاحف هذه القطع دليلاً على تفوّق الغرب، سواءً من حيث قدرته على "جمع" هذه القطع أو "حمايتها". ما يعيد إنتاجَ أنماط السيطرة الرمزية نفسها التي ظهرت في المعارض الاستعمارية.
ما يثير الاهتمامَ في رؤية ميتشل هو كيفية عرض الآثار في المتاحف والمعارض الأوروبية نموذجاً لإعادة تعريف العلاقة بين الغرب والمستعمَرات. الغرب بوصفِه الحاميَ والمطوِّرَ، والمستعمَرات بوصفِها الموروثَ القديم الذي يحتاج إلى من يحفظه من الزوال.
انطلاقاً من هنا، كانت المعارض والمتاحف فضاءاتٍ ثقافيةً بَلْهَ دورها المحوريّ في ترسيخ الهيمنة الثقافية والمعرفية الغربية. وقد استخدمتها أوروبا أداةً لشرعنة الاستعمار وإقناع الجمهور الأوروبي بأهمية الدور "التحضّري" الذي تؤدّيه في البلدان المستعمَرة.
وفي هذا السياق، جاءت لحظةٌ فارقةٌ في الخطاب الذي ألقاه عالِم الإناسة الأمريكيّ من أصلٍ هنديٍّ أخيل غوبتا في الاجتماع السنوي لجمعية الإناسة الأمريكية سنة 2021. إذ دعا الجمعيةَ لأنْ تتخيّل مآلَ تخصّص علم الإناسة لو أنه أنهى الاستعمارَ منذ أيامّه الأولى. وأضاف متسائلاً: ماذا لو أَولَى هذا العلم اهتماماً لعمليات الاستيلاء على الأراضي والعنف التي عانت منها الشعوب المستعمَرة في جميع أنحاء العالم، وأدرج تحليلاً لهذه العمليات في أطرِها التفسيرية؟
كانت هذه التساؤلات بمثابة تحدٍّ للخطاب السائد الذي طالما قدّم علمَ الإناسة مجالاً معرفياً "محايداً" ومنفصلاً عن مشاريع السلطة والهيمنة. بإزاء ذلك، استفزّ خطاب غوبتا ردودَ فعلٍ قويةً، أبرزها من عالم الإناسة الأمريكيّ هربرت لويس ومجموعةٍ من الأكاديميين الذين دافعوا عن إرث مؤسِّسِي علم الإناسة. زعم لويس وزملاؤه أن أولئك العلماء لم يتواطؤا مع الاستعمار، بل سعوا إلى توثيق حياة الشعوب ومساعدتها، وإنْ بوسائل قد تبدو إشكاليةً اليوم.
اللافت في هذا الجدل هو الغياب التامّ لأيّ إشارةٍ إلى المتاحف، مع كونها من أبرز أدوات إنتاج المعرفة الإناسية ومركزاً أساساً لحفظ وتمثيل المواد الثقافية للشعوب المستعمَرة. ومع أن مؤسسات المتاحف كانت ومازالت جزءاً صميماً من البنية الاستعمارية للمعرفة، فإنها نادراً ما تُذكَر في النقاشات النظرية الكبرى داخل حقل الإناسة الأكاديمية.
على النقيض من ذلك، كان القيّمون على المتاحف أكثر تقدّماً في تطوير مفاهيم "إزالة الاستعمار" وممارساته. فمنذ التسعينيات، بدأت تنتشر أدبياتٌ نقديةٌ واسعةٌ تفضح التحيّزات الكامنة في تنظيم المعروضات وتطالب بتغيير العلاقة بين المتحف والجمهور. والجمهور المقصود هنا هي المجتمعات الأصلية التي استُخرِجَت منها هذه المعروضات، غالباً بطرقٍ عنيفةٍ أو غير أخلاقية.
أحد أبرز التحوّلات في هذا المجال جاء بعد صدور قانون حماية المقابر الأمريكية الأصلية وإعادة الممتلكات سنة 1990. هذا القانون الفيدرالي أَلزمَ المؤسسات الأمريكية – ومنها المتاحف – بإعادة الرفات البشرية والقطع الجنائزية والمواد المقدّسة إلى قبائل السكان الأصليين. يعَدّ هذا القانون بداية تحوّلٍ جذريٍّ في فهم العلاقة بين المتاحف والشعوب الأصلية. إذ لم تَعُد هذه المجتمعات "مواضيع دراسة"، وإنما أصبحت شريكةً فعليةً في إنتاج التاريخ وتفسيره.
في هذا السياق، برزت مجموعةٌ من المبادرات النوعية داخل الولايات المتحدة وخارجها. مثال ذلك تأسيس ما اصطُلِح على تسميته "المتاحف القَبَلية"، وهي متاحف تديرها بالكامل المجتمعات الأصلية، وتَستهدِف تمثيلاً غيرَ استعماريٍّ لتاريخها وثقافتها. من أبرز هذه المتاحف: متحف قبيلة شيروكي في ولاية كارولاينا الشمالية، ومتحف قبيلة نافاهو في أريزونا، ومتحف أمّة نيشناوبي في كندا. كذلك، أعادت هذه المتاحف النظرَ في لغة العرض المتحفي. فابتعدت عن الأساليب الأكاديمية المحايدة لصالح سردياتٍ إنسانيةٍ مرتبطةٍ بالسياقَيْن الثقافي والسياسي الأصليَّيْن. كأن تُستخدَم مثلاً مسمّياتٌ لممارساتٍ وأشياء تعارفت عليها هذه المجتمعات القبائلية بلغتها ولهجاتها وفي ثقافتها بدل اللغة الأكاديمية الوصفية لغرباء عن ثقافة هذه القبائل. وقد شُرِّعت سياساتٌ لإشراك المجتمعات الأصلية في لِجان المراجعة والعرض، وتدريب موظّفي المتاحف على الحساسية الثقافية والعدالة التاريخية.
إلى جانب التحوّلات العملية في إدارة المتاحف وتقديم معروضاتها، شهدت الدراسات الأكاديمية تطوراً لافتاً في نقد المتاحف من منظور "ما بعد الاستعمار". وهو منهجٌ بحثيٌّ يرصد إرث الاستعمار ثقافياً وأخلاقياً ومادّياً، وتبعاته على السكان الأصليين الذين كابَدوه. وفي هذا الإطار برزت أصواتٌ، مثل الباحثتَيْن الكنديتَيْن روث فيليبس وكارا كرومبوتيتش. ساهمت فيليبس في تحليل علاقة المتاحف بالمشروع الاستعماري، لاسيما في كتابها المشترَك مع كريستوفر ستاينر "أنباكينغ كالتشر" (تفكيك الثقافة). ناقشت فيليبس كيف استخدم الغرب الفنَّ والمقتنيات الثقافية في دعم سرديات هيمنته على الشعوب الأصلية.
أما كارا كرومبوتيتش، فقد ركزت في كتابها "ذيس إز أوَر لايف" (هذه حياتنا) على كيفية إعادة بناء العلاقة بين المتاحف والمجتمعات الأصلية، باحترام التراث المادي وتفعيل مشاركة تلك المجتمعات في صناعة السياسات المتحفية. يستند الكتاب إلى تعاونٍ مباشرٍ بين كرومبوتيتش ولورا بيرس، أحد أفراد قبيلة هايدا، وهم السكان الأصليون الذين عاشوا في أرخبيل هايدا غرب كندا وفي جنوب ألاسكا منذ آلاف السنين. ويبرز الكتاب كيف يمكن للمتحف أن يكون امتداداً للحياة الثقافية وليس مجرّد أرشيفٍ منفصلٍ عنها.
هذا المسار النقدي لا يقتصر على الولايات المتحدة. فقد انتقلت هذه الممارسات إلى الساحة الدولية، وبدأت بعض المتاحف الأوروبية أيضاً بإعادة التفكير في معروضاتها. متحف إفريقيا في ترفورين ببلجيكا مثالٌ بارزٌ على ذلك. عُرف متحف إفريقيا تاريخياً بترويجه للوجود البلجيكي في الكونغو. فقد عَرض المقتنيات الإفريقية ضمن سرديةٍ تمجِّد "مهمة الحضارة" البلجيكية في الكونغو، وتسقِط الوكالةَ عن الشعوب الأصلية.
لكن بعد سنواتٍ من النقد المحلي والدولي، خضع المتحف لعملية تجديدٍ شاملة. وأعيد افتتاحه سنة 2018 بمفهومٍ جديدٍ يحاول الاعتراف بتاريخ الاستعمار البلجيكي والنظر في تبعاته، بل وتضمين أصواتٍ إفريقيةٍ في صياغة محتواه. شملت هذه العملية مراجعةً للّوحات التفسيرية، وتعاوناً مع باحثين وفنانين من الشتات الإفريقي. وشملت كذلك عرضاً نقدياً للمواد التراثية بما يعكس التوترات بين الماضي والحاضر. ويجري المتحف حواراتٍ جادّةً حول استرداد المقتنيات الثقافية وإعادة بناء الثقة مع المجتمعات المعنيّة، في خطوةٍ تُعدّ استثنائيةً، مقارنةً بالجمود الذي يطغى على بعض المؤسسات الأوروبية الأخرى.
التقينا في إحدى الجولات التي نظّمَتها المبادرة في الحيّ الإفريقي ببرلين، وهو حيٌّ يجلّي تاريخه طموحاتِ ألمانيا الاستعمارية. يعود أصل الحيّ إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما تَصوّر تاجر الحيوانات كارل هاغنبيك خطةً طموحةً لإنشاء ما اصطلح على تسميته "هيومن زو"، وهي حديقة حيواناتٍ تَعرض البَشَر فيما تَعرض مِن حيواناتٍ برّية. كان الهدف من هذا المشروع الاحتفال بإنجازات الاستعمار الألماني، الذي امتدّ وقتئذٍ من جنوب غرب إفريقيا الألمانية (ناميبيا حالياً) إلى شرق إفريقيا الألمانية (تشمل اليومَ بوروندي ورواندا وتنزانيا).
رغب كارل هاغنبيك في إنشاء ما يمكن وصفه بمعرضٍ حيٍّ يَعرض فيه ثقافات الشعوب المستعمَرة بجانب الحيوانات البرية. ولكن وفاته المفاجئة سنة 1913، بالإضافة إلى تداعيات الحرب العالمية الأولى، أحبطت هذا المشروع. ومع ذلك، بقي الحيّ الإفريقي في برلين، بشوارعه وساحاته التي تحمل أسماءً مرتبطةً بالمشروع الاستعماري، جزءاً دائماً من مشهد المدينة.
قالت جاستس مفيمبا خلال حديثنا إن الحيّ الإفريقي يمثل "معرضاً مفتوحاً لتاريخ ألمانيا الاستعماري والعنصري". وأوضحَت أن السود الأفارقة في ألمانيا غالباً ما يشعرون بعدم الارتياح عند المرور بشوارع تحمل أسماء دولٍ إفريقيةٍ، أو أسماء جنرالات ومسؤولين استعماريين معروفين بتاريخهم العنيف.
على سبيل المثال، حتى أغسطس من سنة 2024، كان أحد شوارع الحيّ يشتهر بِاسم "بيترز". وذلك نسبةً إلى كارل بيترز المتوفى سنة 1918 والذي كان رجلاً إدارياً استعمارياً ألمانياً اشتهر بوحشيته حتى صار لقبه "بيترز الجلّاد" و"ذا الأيدي الدموية". أشاد أدولف هتلر به لاحقاً، ممّا عزّز من رمزيته وجهاً لتاريخ ألمانيا الاستعماري. لكن بعد سنواتٍ من ضغط مجموعاتٍ حقوقيةٍ ومبادراتِ نَزْع الاستعمار، تغيّر اسم "شارع بيترز" إلى "شارع آنا مونغوندا". وآنا من الشخصيات البطولية التي قادت نضالاتٍ ضدّ الاستعمار الألماني في ناميبيا، وضَحّت بحياتها في انتفاضة 1959 التي تُعدّ مفصليةً في تاريخ النضال التحرري بالبلاد.
نظّم هذه الانتفاضةَ عددٌ من القادة المجتمعيّين والناشطين، من بينهم آنا مونغوندا، احتجاجاً على محاولات التهجير القسري من حيّ "أولد لوكيشن" في العاصمة ويندهوك في إطار تطبيق سياسات الفصل العنصري. خرج الأهالي في مظاهرةٍ سلميةٍ يوم 10 ديسمبر 1959. لكنّ الشرطة الاستعمارية قمعت التجمّع بعنفٍ وأطلقت الرصاص على المتظاهرين، فقتلت عشرةً منهم ومن بينهم مونغوندا. تحوّلت هذه الانتفاضة رمزاً لمقاومة الاستعمار وأسهمت في تعبئةٍ جماهيريةٍ واسعةٍ دعماً لحركات التحرير.
تقول جاستس إن تغيير أسماء الشوارع ليس خطوةً رمزية، لكنه جزءٌ من إعادة تقييم تاريخ ألمانيا الاستعماري وفتح نقاشٍ أوسع في أثر هذا التاريخ على الحاضر. وتردف قائلةً إن هذا التقييم "دائماً ما يأتي متأخراً في أولويات ألمانيا".
أوضحَت جاستس أن المبادرة لا تعمل فقط على تنظيم الجولات. إذ أنها تضغط أيضاً على المؤسسات الحكومية لإعادة النظر في الأسماء الأخرى المرتبطة بالاستعمار، وإيجاد طرقٍ لتحويل الحيّ إلى مساحةٍ تعليميةٍ تروي حقيقة التاريخ. تقول: "نحن لا نطالب بمحو التاريخ، إنما إعادة صياغته ليروي الحقيقةَ كاملةً عبر سردية هؤلاء الذين استُعمروا، وليس من وجهة نظر المستعمِر".
تشير جاستس إلى أن تغيير أسماء الشوارع والاعتراف بالشخصيات التي قاومت الاستعمار خطواتٌ صغيرةٌ ضمن مشروعٍ أكبر يتطلب إعادة التفكير في الهوية الثقافية الوطنية، التي لا تزال متشابكةً مع التاريخ العنصري والاستغلالي. في برلين وحدها عشرات المواقع التي تعرض هذا الماضي. ويعمل النشطاء إلى جانب المبادرات، مثل "جولة المدينة لنزع الاستعمار"، على توعية الناس بتاريخ ألمانيا الاستعماري ودفعهم للتفكير في تأثيرات هذا الإرث على مجتمعات اليوم.
في السياق نفسه، زرتُ متحف النصب التذكاري لمعسكر اعتقال داخاو في ولاية باڤاريا. وهو أول معسكر اعتقالٍ أقامه النظام النازي في ألمانيا، ويظهر توثيقاً دقيقاً وتفصيلياً للحقبة النازية. أنشئ المعسكر في مدينة داخاو سنة 1933، نظراً لقربها من مدينة ميونخ وعزلتها النسبية، ولأن ريف داخاو يحتوي على مصنع ذخيرةٍ غير مستخدَم. شهد معسكر داخاو تحولاتٍ كبيرةً مع مرور الوقت. فقد بدأ مركزَ احتجازٍ صغيراً مخصَّصاً للسجناء السياسيين قبل أن يتحوّل إلى مجمّعٍ عسكريٍّ صناعيٍّ ضخم. في أوائل الأربعينيات، تجاوز عدد السجناء في المعسكر عددَ سكان المدينة المحليين وبفارقٍ كبير. وشمل مجموعاتٍ متنوعةً من السجناء السياسيين والسجناء بسبب خلفيتهم العرقية أو الاجتماعية أو الدينية.
ما يسترعي الانتباهَ هو أن المتحف بشكله الحاليّ حافظَ على حالة معسكر الاعتقال الأصلية، بلا أيّ تغييراتٍ تخفي بشاعةَ ما حدث داخله أو تلطّفه. فلاتزال حجرات الغاز موجودةً إلى جانب المحارق التي استخدمها النازيون لحرق جثث اليهود والغجر، وفئاتٍ بشريةٍ أخرى صُنّفت غيرَ جديرةٍ بالحياة لأسبابٍ وراثيةٍ أو لكونهم عبئاً على المجتمع. ولاتزال أماكن نوم المعتقلين موجودةً، وهي عبارةٌ عن أَسرّةٍ خشبيةٍ ضيقةٍ ومزدحمةٍ تظهِر الظروفَ القاسية وغيرَ الإنسانية التي عاشها السجناء في المعسكر.
دفعت ألمانيا مليارات اليوروهات لضحايا معسكرات النازية اليهود منذ اتفاقية لوكسمبورغ سنة 1952 وصولاً إلى آخِر اتفاقيةٍ وقّعتها في 2024. على سبيل المثال، وفي اتفاقيتها الثالثة تجاه ضحايا المحرقة النازية سنة 2012، تعهّدت ألمانيا أن يستفيد منها ثمانون ألف يهوديٍّ لم يحصلوا على تعويضاتٍ لعدم معرفتهم بها. فيحصل هؤلاء على مبلغ 2556 يورو مرّةً واحدةً، في حين يحصل من يثبِتون تعرّضَهم للسجن أو الملاحقة أو الاختباء ستة أشهرٍ من النظام النازي على ثلاثمئة يورو شهرياً مدى الحياة. كما التزمت ألمانيا بمقتضى الاتفاقية الجديدة بتوفير رعايةٍ صحيةٍ ومنزليةٍ لمئة ألفٍ من كبار السنّ اليهود الذين ثبتت معاناتهم خلال حقبة الحكم النازي.
لاحقاً في اتفاقيتها الأخيرة سنة 2024، وافقت ألمانيا على تقديم مبلغٍ إضافيٍّ قدره 1.29 مليار يورو للناجين من المحرقة أينما كانوا اليومَ ولمدّة عامٍ إضافي. فضلاً عن تعويضاتٍ تصل إلى 781 مليون يورو لتوفير الرعاية المنزلية لكبار السنّ وخدمات الدعم.
لكن في مقابل هذا الفائض في الاعتراف الألماني بالحقبة النازية، هناك التفافٌ ومواربةٌ في التعاطي مع تاريخ ألمانيا الاستعماري.
فمثلاً دعت وزارة الخارجية الألمانية عبر سفرائها المعنيّين في ديسمبر 2015 سبعة مندوبين يمثلون كلّاً من توغو وغانا وناميبيا وتنزانيا والكاميرون للمجيء إلى ألمانيا. كان اللقاء في هامبورغ لتجربة البرنامج الفريد الذي أَطلق عليه مكتب الخارجية اسمَ "جولة موضوعية حول تاريخ ألمانيا الاستعماري".
في البداية، كان المندوبون في حيرةٍ من أمرهم بشأن مبرّر الدعوة لهذه الجولة. وبدؤوا يطرحون أسئلةً على غرار: ما هو موقف الحكومة الألمانية الرسمي بشأن تاريخها في استعمار إفريقيا، وخاصةً غانا وتوغو؟ لماذا لا توجد أنشطةٌ سياسيةٌ أو دبلوماسيةٌ ألمانيةٌ بشأن هذه المسألة؟ لماذا تقتصر أنشطة وزارة الخارجية على العلماء من المستعمرات السابقة دون تأثيرٍ على السياسة؟ وما هي خطط الحكومة الألمانية للتعامل مع الآثار المادّية المتبقية من استعمارها في تلك الدول؟ جاء ذلك في ورقةٍ بحثيةٍ بعنوان "ذه رابروشمان أوف جيرمن ميوزيومز أند غافرنمانت ويذ كولونيال أوبجكتس أند بوست كولونياليزم" (تقارب المتاحف والحكومة الألمانية مع القطع الأثرية الاستعمارية وما بعد الاستعمار) نشرت في مايو 2020 في مجلة ميوزيوم أنثروبولوجي.
ووفقاً لكاتب الورقة البحثية، عالم الآثار الغانيّ وازي آبو الذي كان من ضمن الوفد المدعوّ إلى هذه الجولة، فقد كانت أسئلة المندوبين خارج اهتمام الحكومة الألمانية. وكان الهدف من الجولة، بحسب تفسيره، إقامة شراكاتٍ ثقافيةٍ خاويةٍ من أيّ جهودٍ سياسيةٍ ودبلوماسيةٍ حقيقية.
لم تكن ألمانيا جادّةً في الاعتراف بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها في إفريقيا حتى أغسطس 2004، عندما نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريراً بعنوان: "الوزيرة الألمانية تعتذر عن الإبادة الجماعية في ناميبيا". تناول التقرير تصريحات هايديماري فيتسوريك تسويل، وزيرة التنمية الألمانية آنذاك. قدّمت الوزيرة أوّل اعتذارٍ رسميٍّ عن واحدةٍ من أسوأ الجرائم الاستعمارية التي ارتكبتها ألمانيا، والتي أسفرت عن مقتل نحو خمسةٍ وستّين ألف فردٍ من شعب الهيريرو في ناميبيا بين سنتَيْ 1904 و1907، أي نحو 80 بالمئة من إجمالي عدد السكان الهيريرو وقتئذٍ.
بدأت الجرائم على خلفية تمرّد شعب قبيلة الهيريرو على الاستعمار الألماني سنة 1904، اعتراضاً على استيلاء المستعمرين الألمان على أراضيهم وظروف العمل القاسية التي فرضوها عليهم. ردّ الجيش الألماني وحشياً بتصفية السكان جماعياً بالقتل أو التجويع. فقد دفع الألمان عدداً كبيراً من شعب الهيريرو إلى الصحراء حيث ماتوا جوعاً وعطشاً.
لاحقاً، وفي حفلٍ أقيم بمناسبة الذكرى المئوية لانتفاضة الهيريرو، قالت الوزيرة: "نحن الألمان نتحمل مسؤوليتنا التاريخية والأخلاقية والذنب الذي ارتكبه الألمان في ذلك الوقت". وأضافت: "الفظائع التي ارتكبت آنذاك كانت ستُصنَّف إبادةً جماعية وفقاً لمعايير اليوم".
لكن تصريحات الوزيرة قوبلت بانتقاداتٍ واسعةٍ داخل ألمانيا، في جدلٍ يعكس الصراع المستمرّ في الداخل الألماني بين محاولات مواجهة الماضي وبين المقاومة المجتمعية والسياسية لفكرة الاعتراف الشامل بالجرائم التاريخية.
في السياسة الدولية تتحكم علاقات القوى بشكل العلاقات بين الدول. وألمانيا، بوصفها دولةً خاسرةً في الحرب العالمية الثانية، وجدَت نفسَها مجبَرةً على دفع ثمن جرائم النازية، خاصّةً المحرقة اليهودية (الهولوكوست) التي أثّرت كثيراً على علاقاتها الدولية. هذا الوضع يعكس واقعاً مفاده أن الاعتراف والاعتذار يتطلبان أحياناً ضغوطاً خارجيةً من القوى المنتصرة، كما كان الحال مع الحلفاء الذين فرضوا على ألمانيا الاعتراف بالهولوكوست وتبعاتها. في المقابل، لم تكن ثمّة ضغوطٌ حقيقيةٌ من القوى الاستعمارية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا على ألمانيا للاعتراف بجرائمها الاستعمارية في إفريقيا. فهذه الدول نفسها متورطة بعمقٍ في استعمار القارّة واستغلالها.
الإبادة الجماعية لشعب الهيريرو في ناميبيا تظلّ واحدةً من أفظع الجرائم الاستعمارية. لكنها لا تحظى بالقدر ذاته من التوثيق أو الاهتمام، مقارنةً بالمحرقة النازية. يُعزى ذلك جزئياً إلى أن الضحايا في هذه الحالة كانوا من شعوب إفريقيا المستعمَرة الذين لا يتمتعون بالنفوذ السياسي أو الاقتصادي نفسه الذي يضمن إيصال صوتهم للساحة الدولية. وبينما حاولت ألمانيا تقديمَ بعض التعويضات المالية لناميبيا على شكل مساعداتٍ تنمويةٍ، لم تصل هذه الجهود إلى مستوى الاعتراف الشامل أو تقديم تعويضاتٍ مباشرةٍ لأحفاد الضحايا. وهو ما يترك جراحاً مفتوحةً تعيق تحقيقَ العدالة التاريخية.
تَعامل ألمانيا مع إرثها الاستعماري مقارنةً بإرثها النازي يعكس تناقضاً واضحاً. ففي الوقت الذي أَنشَأت فيه معالمَ ونصباً تذكاريةً بالمئات لتوثيق الجرائم النازية والاعتراف بها، لاتزال المتاحف الألمانية تعرض القطع الأثرية المنهوبة من إفريقيا وآسيا بأسلوبٍ يجمّل التاريخ ويغفِل بشاعتَه. هذه المعروضات تُقدَّم غالباً بعيداً عن أيّ سياقٍ يوضّح الممارسات الاستعمارية الوحشية التي أدّت إلى الاستيلاء عليها، وتُقدَّم أيضاً بلا اعترافٍ صريحٍ بتاريخ ألمانيا الاستعماري الذي ألحق الأذى بملايين البشر.
حتى في التعامل مع إرث الحقبة السوفييتية في ألمانيا الشرقية من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى 1990، حافظت الدولة الألمانية على مقرّات جهاز أمن الدولة (الشتازي) على حالها. وذلك بلا أيّ تحسيناتٍ جماليةٍ من شأنها أن تخفّف من وطأة بشاعة ما حدث فيها. يظهر ذلك أن الحفاظ على ذاكرة الفظائع يَصْلح أداةَ تثقيفٍ وتذكيرٍ للأجيال القادمة. لكنه في الوقت ذاته يفضح ازدواجية معايير ألمانيا في التعامل مع الفظائع الاستعمارية، التي لاتزال تعالجها بتجاهلٍ أو بتجميل الحقيقة.
أتذكّر زيارتي لمتحف الشتازي في مدينة لايبزيغ خلال أوّل أسبوعٍ لي في ألمانيا حيث واجهت عن قربٍ إرثَ تلك الحقبة القمعية. داخل المتحف، رأيت غرف الاحتجاز ذات الأسقف المنخفضة التي كانت تجبر المعتقلين على الانحناء الدائم. وهو ما يعكس صورةً واضحةً للمعاناة النفسية والجسدية التي تعرّضوا لها. وقفتُ داخل المتحف أمام غرف التحقيق ذات الأجواء الخانقة. هذه الأماكن كانت تجسّد نظاماً قامَ على الترهيب والسيطرة المطلقة. لكن، وفي حين يُعرض إرث الحقبتين النازية والسوفييتية بهذه الطريقة التي لا تدع مجالاً للشكّ أو إنكار الجرائم والتقليل من وقعها، فإن تاريخ ألمانيا الاستعماري لايزال يُهمَّش. وكأن المعاناة التي عاشتها الشعوب الإفريقية والآسيوية أقلّ أهمية.
تساؤل محمود درويش "لماذا يواصل حرب الإبادة للنهاية؟"، في قصيدته "خطبة الهندي الأحمر"، يظلّ جمراً يحترق تحت رماد الخطابات الأوروبية عن حقوق الإنسان والعدالة. فها هي ألمانيا، التي تتخذ من "التعلم من التاريخ" شعاراً لها، تظهر تناقضاً صارخاً حين يتعلق الأمر بضحايا الاستعمار الجديد، كما في حالة غزة. فامتناع وزيرة الخارجية الألمانية السابقة أنالينا بيربوك عن التصويت على قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة لوقف الحرب على غزة في نهاية أكتوبر 2023 يكشف كيف تنهار شعارات "الحقوق الشاملة" و"الاستدامة" أمام أول اختبارٍ حقيقي: هل تطبَّق هذه القيَم على الجميع أم هي امتيازٌ حصريٌّ للرجل الأبيض؟
المتاحف الألمانية، التي تحتضن آثاراً مسروقةً من مستعمَراتٍ سابقةٍ، ليست سوى وجهٍ واحدٍ لبنيةٍ استعماريةٍ أوسع. فالعنف الذي نُهبت به هذه الآثار هو نفسه العنف الذي يشرعِن اليومَ قتلَ الشعوب خارج "المركزية الأوروبية". فما الفرق بين سرقة تمثالٍ إفريقيٍّ وتبييض تاريخه، وبين دعم حربٍ مستمرةٍ منذ السابع من أكتوبر 2023 بحجّة الدفاع عن النفس؟ كلاهما ينتمي إلى المنطق نفسه: إعادة صياغة الإنسانية وفقاً لمعايير القوة، لا العدالة.
تفكيك الاستعمار في المتاحف ليس مقصوراً على إعادة قطعٍ فنّيةٍ أثريةٍ إلى أوطانها. تفكيك هذا الاستعمار يقتضي مساءلةَ الأنظمة التي تنتج هذا التفوّق الأبيض وتَحميه. فما قيمة إعادة تمثالٍ، بينما تعاد إنتاج العنصرية نفسها في السياسات الألمانية؟ المتاحف لن تتغيّر إلّا عندما تسقط أوهام التفوّق، وتعترف النظم السياسية الغربية بأن الإنسانية لا تقاس بلون البشرة أو حدود الجغرافيا. حينها فقط، قد نرى متاحف لا تخبّئ جرائم الماضي بل تعرّي جرائم الحاضر.
