أثار استدعاء قصير موجةً من الاستياء في الأوساط الإعلامية والحقوقية. وعجَّت وسائل التواصل الاجتماعي بإدانةٍ واسعةٍ من صحفيين ونشطاء ومنظماتٍ معنيةٍ بالدفاع عن حرية الصحافة. وأعلن وزير الإعلام آنذاك زياد مكاري أنه يتابع القضية عن كثب، مؤكداً التزامه باحترام حرية التعبير التي يكفلها الدستور اللبناني. ونظَّم تجمع نقابة الصحافة البديلة مظاهرةً تضامنيةً أمام محكمة بيروت، وهو ائتلافٌ مستقلٌّ يتكوّن من صحفيين لا يرون أنفسهم ممثَّلين في نقابة المحررين. رفض جان قصير الذهاب إلى مركز الاستجواب، ورأى أن جهاز أمن الدولة غير مخوَّلٍ بالتحقيق مع الصحفيين، وفضَّل أن تمثله محاميته. وبعد عدّة أيام، اتصل به هاتفياً وزير الإعلام يبلغه بأن المدعي العام سحب شكواه.
قضية قصير واحدة من عدة قضايا تواجه حرية الصحافة في لبنان. يواجه الصحفيون اللبنانيون مثل هذه القضايا برفض المثول أمام الضابطة العدلية (جهاز تابع للنائب العام)، متمسكين بإحالة القضايا المرتبطة بعملهم إلى محكمة المطبوعات. وما يزيد من صعوبة هذا النضال الصحفي غياب نقابة المحررين، التي يفترض أن تمثّل مصالحهم أمام السلطة من ناحية، وأمام ربّ العمل المتمثل بنقابة الصحافة (التي تمثل أصحاب الصحف) من ناحيةٍ أخرى. تشير تلك القضايا في مجموعها إلى تراجعٍ في هامش حرية الصحافة والتعبير التي تكرَّست في لبنان منذ عقود، وميّزت لبنان عن كثيرٍ من دول محيطه العربي. إذ تحاول القوى السياسية فرض سيطرتها على الإعلام، مستغلةً كون معظم وسائل الإعلام من محطات تلفزة وصحف تتبع جهاتٍ سياسيةٍ طائفية. وتساعدها القوانين التي ترعى القطاع الإعلامي في البلاد، والتي يعود أحدثها إلى سنة 1994.
استند التعويل على رئيسَي الجمهورية والحكومة الجديدين إلى مرتكزين. الأوّل أنهما لا ينتميان إلى القوى السياسية التقليدية التي أمسكت مقاليد الحكم في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية، والثاني سجلهما قبل الوصول إلى سدّة الحكم الذي يحظى باحترامٍ واسعٍ بين أبناء مختلف الفئات والطوائف في لبنان.
ينتمي عون إلى المؤسسة العسكرية التي تحترمها شرائح واسعة من اللبنانيين، ويُحسب له رفضه القاطع وضعَ المؤسسة العسكرية في مواجهة المحتجين في مظاهرات 17 أكتوبر 2019. أما سلام، فيُعرف عنه عمله قاضياً في محكمة العدل الدولية، ثم انتخابه سنة 2024 رئيساً لأعلى سلطة قضائية دولية. وفي عهد رئاسته المحكمةَ الدولية، أصدرت المحكمة قراراً استشارياً يدين الاحتلال الإسرائيلي فلسطينَ.
ارتفعت آمال الصحفيين في تعزيز حريتهم وحصانتهم مع تولّي عون وسلام منصبيهما، خصوصاً أن عوناً تعهد في خطاب القسم الذي ألقاه أمام مجلس النواب عند انتخابه باحترام "حريّة الإعلام وحريّة التعبير ضمن الأطر الدستورية والقانونية". وأكد البيان الوزاري لحكومة سلام أنها "حريصة على الحريّات العامة والحقوق الأساسية التي ضمنها دستورنا وجرت المحافظة عليها في أصعب ظروف تاريخنا".
هذا المناخ السياسي الذي فرضه وصول العهد الجديد، المترافق مع المطالب الدولية بإقرار قوانين إصلاحية، نفضَ الغبار عن العديد من مشاريع القوانين التي لم تقَرّ برلمانياً وأعيد النقاش حولها، وفي مقدّمتها مشروع قانون الإعلام الجديد.
هذه الفوضى التشريعية ليست قديمةً فحسب، بل مشوّهة أو يُتحايل عليها. فكثيراً ما يسيء القضاء أو الاجهزة الأمنية تفسير قوانين قطاع الإعلام والصحافة ويتلاعبون بها خدمةً لمصالح القوى السياسية الطائفية. ويعدّ هذا أحد أسباب عرقلة مشروعات القوانين الموحدة لتنظيم الإعلام التي قد تكفل إنهاء هذه الفوضى والاستفادة منها.
ومن الأمثلة على هذا ما حدث سنة 2010، حين تقدّم النائب البرلماني آنذاك غسّان مخيبر ومنظّمة "مهارات" المعنية بحرية الرأي والتعبير باقتراح قانونٍ جديدٍ للإعلام، لكنّ المشروع ظل عالقاً في مجلس النواب. مرّ مشروع القانون على لجانٍ عديدة وكاد أن يُفرَّغ من أي إصلاحات، ولكنه ظلّ يراوح مكانه ولم يصل إلى مرحلة الإقرار. وبعد مضيّ خمسة عشر عاماً، تستمر محاولات الصحفيين والحقوقيين في الدفع لإقرار قانونٍ عصريٍّ يراعي حرية الصحافة ويؤمِّن الحماية الكافية لحرية التعبير. ومع الجو السياسي الذي أنتجه العهد الجديد، عاد النقاش الجدّي عن مشروع القانون نفسِه في مجلس النواب اللبناني.
في مقابلةٍ مع الفراتس، تشرح المحامية ليال بهنام مديرة البرامج في منظّمة مهارات، التي شاركت في وضع نصوص القانون المقترح، أن "التنظيم القانوني للإعلام موزع بين قانون المطبوعات الصادر سنة 1962 وتعديلاته، وقانون الإعلام المرئي والمسموع الصادر سنة 1994". مضيفةً أن الأخير "جاء بعد انتهاء الحرب الأهلية، ما أدى إلى توزيع رخص وسائل الإعلام المرئية والمسموعة بحسب المحاصصات الطائفية والسياسية".
هذا التشتت القانوني أوجد عدداً من الثغرات في تشريعات قطاع الإعلام. تعدد بهنام تلك الثغرات مشيرةً إلى أنها تحيل قضايا القدح والذم لقانون العقوبات الذي يسمح بإمكانية إصدار حكم بالسجن على الصحفي حال إدانته. كذلك فإن ثمة ثغرة في اشتراط القانون الحصولَ على ترخيص مسبق لإصدار مطبوعة، ما يعني وجود رقابة مسبقة على المطبوعات. فضلاً عن غياب الشفافية في ملكية وسائل الإعلام وتمويلها، وغياب الإفصاح عن هذه المعلومات للجمهور. وتضيف "هناك ثغرة أساسية مرتبطة بغياب التشريعات المتعلقة بالإعلام الإلكتروني". والثغرة الأبرز عند الصحفيين تكمن في غياب الحماية الفعلية لهم ولمصادرهم.
أمام هذا الواقع، يسعى الصحفيون اللبنانيون في نضالهم الحقوقي لتكريس تطبيق المادة الثامنة والعشرين من قانون المطبوعات. هذه المادة القانونية تفرض أن تحال أي قضية نشرٍ إلى محكمة المطبوعات، وتنصّ المادة على أن: "تنظر محكمة الاستئناف بالدرجة الأولى في جميع القضايا المتعلقة بالمطبوعات".
أهمية إحالة قضايا النشر إلى قانون المطبوعات، وليس إلى قانون العقوبات، هو أنها تمنع القاضي من توقيف (حبس) الصحفي احتياطياً وفقاً للمادة القانونية عينها. فمع أن قانون المطبوعات لا يمنع إصدار حكم على الصحفي بالسجن، وهو محل انتقاد الصحفيين، إلا أن النص الذي يحصن الصحفيين من التوقيف الاحتياطي سبب رئيس في تمسك الصحفيين به. فالتوقيف الاحتياطي قد يستخدم نوعاً من العقاب، إذ قد يلجأ القاضي إلى اتخاذه وحبس الصحفي الذي قد يُبرَّأ أثناء المحاكمة، ما يعني أن الصحفي يدفع مسبقاً ثمن جرم قد يثبت القضاء أنه لم يرتكبه.
ومع أن محكمة المطبوعات يمكنها إصدار حكم بالسجن، إلا أن معظم قراراتها، إن لم يكن جميعها، تكون غراماتٍ مالية. ويلجأ بعض الصحفيين للتقدم بطلب للمحكمة لجمع تلك الغرامات وتخفيضها، إذا ما تعددت الدعاوى القضائية والغرامات المتراكمة ضد الصحفي الواحد. ومع أنها لا تفضي إلى السجن إلا أنها تدرج في السجل العدلي للصحفي، وتجعله في نظر النظم القانونية المحلية والدولية مجرماً. فمثلاً، كان السجل العدلي للصحافي غسان تويني، أحد أعمدة الصحافة اللبنانية ومؤسس صحيفة "النهار"، يتألف من ثلاث صفحات مليئة بالأحكام الصادرة عن محكمة المطبوعات.
امتلاء السجل العدلي لأي مواطن له تداعيات سلبية على مستقبله. هذا الأمر دفع النائبة بولا يعقوبيان، التي عملت في الإعلام لسنوات طويلة، إلى تقديم اقتراح قانون معجل إلى مجلس النواب سنة 2019، يرمي إلى عدم إدراج الأحكام الصادرة بمقتضى قانون المطبوعات في السجل العدلي. حينها عدَّت يعقوبيان أن "هدف مشروع القانون هو حماية الصحفي وحماية سمعته أقلّه تجاه الخارج، فالمنظمات الدولية لا تعرف أنَّها أحكام مرتبطة بحريّة التعبير وبنظام العدالة الجائر في لبنان، وهو ما سينعكس سلباً على أي صحفي يرغب في التواصل والعمل مع هذه المنظمات".
تلفت يعقوبيان في حديث مع الفِراتْس إلى أنه "قد يكتب على سجل الصحفي أنه صدر بحقه حكم بتهمة الإخلال بالآداب العامة، وهو ما قد يفهم بشكل خاطئ. وقد يدفع الآخرين للظن بأنه ارتكب جريمة لا ترتبط بالمهنة". إلا أن مشروع القانون هذا ما زال في أدراج مجلس النواب، وتؤكد يعقوبيان أنها ستحاول إحياءه مرةً جديدة.
التضييق على الصحفيين يكون بعدم الالتزام بالمادة الثامنة والعشرين من قانون المطبوعات التي تقضي بإحالة قضاياهم إلى محكمة المطبوعات، وذلك بالالتفاف عليها واستدعاء الصحفيين بموجب مواد قانون العقوبات. يقول محامي "اتحاد الصحفيين والصحفيات في لبنان" فاروق المغربي، الذي يتولّى عادةً الدفاع عن الصحفيين عند استدعائهم، في حديثٍ مع الفِراتْس إن القانون واضح. ويضيف: "إذ أنه يشير إلى أن كل جرمٍ ارتُكب عبر مطبوعةٍ، يُحال إلى قانون المطبوعات، أي أن المعيار هو وسيلة النشر وليس صفة الكاتب، أكان صحفياً أو مواطناً عادياً. هكذا يمكن تفسير كيف أن بعض السياسيين يُرفع عليهم دعاوى لدى محكمة المطبوعات، إذ أن الدعوى تكون بتهمة ارتكابهم جرم القدح والذم عبر مقابلة تلفزيونية أو في أي مطبوعة أخرى".
ولكن القضاء اللبناني لا يعتمد معيار وسيلة النشر في بعض الأحوال. وكثيراً ما تعتمد النيابات العامة في إحالة القضية إلى محكمة المطبوعات على معيار حيازة الصحفي بطاقة عضوية في نقابة المحررين، ولا تعتد بكونه صحفياً إذا لم يكن منضماً نقابياً. ويُعتمد هذا المعيار مع أن الصحافة ليست من نقابات المهن الحرّة التي تشترط العضوية لممارسة المهنة مثل نقابات المحامين أو الأطباء أو المهندسين.
ثمة الكثير من الحالات التي تبين أثر اعتماد القضاء اللبناني على معيار البطاقة الصحفية. في 23 سبتمبر 2025، استدعى مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية رئيسةَ تحرير منصة "شريكة ولكن" حياة مرشاد والصحفية جويل عبد العال للتحقيق في شكوى قدّمها أحد المغنين، بعد نشر المنصّة تحقيقاً عن نظام الكفالة تضمّن اتهاماتٍ له بإساءة معاملة عاملةٍ منزلية.
حضر الوكيل القانوني عن الصحفيتين أمام المكتب، وطالب بإحالة الدعوى إلى محكمة المطبوعات. لكن القاضي قرر إحالة حياة مرشاد وحدها إلى محكمة المطبوعات لحيازتها بطاقة نقابة المحررين، فيما أصرّ على مثول جويل عبد العال أمام الضابطة العدلية لأنها غير منتسبةٍ للنقابة نفسها. عندئذٍ يصبح أمام الصحفي خياران. إما التغيّب عن الحضور أمام الضابطة العدلية، ما قد يُعدّ تجاهلاً للقانون وإصدار حكمٍ قضائيٍّ بحقه، أو الحضور أمامها مع المخاطرة بإمكانية حبسه احتياطياً.
يلجأ الصحفيون أمام هذا الواقع إلى تصرفٍ يوازن بين البقاء تحت سقف القانون والتمسك بحقهم بإحالة القضية إلى محكمة المطبوعات. فيحضرون إلى التحقيق مع التزام الصمت والاكتفاء بطلب تحويل القضية إلى المرجع المختص. يشرح المغربي للفراتس أن هذا التصرف "تأكيد على أننا تحت سقف القانون، فرغم أن الجهة المستدعية للصحفي غير مختصة، إلا أنه لا يمكن تجاهلها. لذا نوازن بين عدم الذهاب بصدام مع المؤسسة القضائية وبين ضرورة التأكيد على موقفنا بضرورة إحالة القضية إلى محكمة المطبوعات". ويؤكد أن هذه الطريقة ناجحة لغاية الآن، "فمنذ اعتمادها لم نسجل أي توقيف لصحافي بسبب التزام الصمت، وإنما عادةً ما يتم التراجع من قبل القضاء وإحالة القضية لمحكمة المطبوعات".
المكتسبات المحدودة التي يقدمها قانون المطبوعات مقارنةً بقانون العقوبات، تدفع الصحفيين للتمسك بإحالتهم لمحكمة المطبوعات. إذ يشكل هذا التمسك أداتهم القانونية الوحيدة القادرة على منحهم نوعاً من الحصانة. غير أن عدم قدرة صحفيين كثيرين على الانتساب لنقابة المحررين والحصول على بطاقة صحفية لإبرازها للقضاء اللبناني، يطرح علامات استفهام عن دور النقابة في حمايتهم.
نقابة المحررين مرآةٌ للأحزاب الطائفية بكل اختلافاتها، ما يجعلها نقابة سياسية أكثر منها مهنية. فهذه النقابة، على غرار معظم النقابات في لبنان، تتقاسم الأحزاب الطائفية مقاعدَها من لائحة توافقية تفرض على الصحفيين، إما عبر انتخابات شكلية أو بالتزكية. ومن أبرز الشواهد على ذلك أنه منذ تشكيل النقابة سنة 1962، لم يتناوب على رئاستها سوى ثلاثة نقباء. ومن اللافت أن الانتخابات الأخيرة لمجلس النقابة كانت في 27 نوفمبر 2024، أي في يوم وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان، ففاز أعضاء المجلس السابق أنفسهم بالتزكية.
انعكس ذلك سلباً على أداء النقابة ودفع البعض إلى البحث عن أطر جديدة لباقي أنواع الصحافة. فقد دفعت هذه السياسة إعلاميين إلى تأسيس نقابة "العاملين في الإعلام المرئي والمسموع" في سنة 2013، بعد أن وجدوا أن لا مكان لهم في نقابة المحررين. ومع محاولة نقابة المحررين، بعد وصول إلياس عون إلى قيادتها في سنة 2012، تغيير سياستها وفتح المجال أمام فئات من الصحفيين للدخول إلى النقابة، إلا أن هذه المحاولة بقيت محدودة ومترددة مع استثناء صحفيي الإعلام الرقمي، وصحفيي العمل الحر (الفريلانسر) لتعود وتسمح لهم بالانتساب بعد سنوات. كل ذلك أدى إلى عدم مواكبة النقابة النمطَ الاقتصادي الجديد في العمل الصحفي.
تعاني النقابة من خلل بنيوي، فانتساب الصحفي إلى نقابة المحررين يحتاج إلى موافقة اتحاد الصحافة اللبنانية المكوَّن من عضوين من نقابة المحررين وثلاثة أعضاء من نقابة الصحافة التي تمثل أصحاب الصحف والمطبوعات. ويعني هذا أن رب العمل الممثل بأصحاب الصحف والمطبوعات يحدد الصحفيين المؤهلين للدخول إلى نقابة المحررين، في حين يفترض بها أن تمثل مصالح الصحفيين أمام رب العمل.
يرى صحفيون كثر أن النقابة لا تحميهم كما هو مناط بها. تقول الصحفية المستقلة أليسار قبيسي للفِراتْس إن "القائمين على النقابة لا يقومون بواجباتهم في الدفاع عن الحريات وحالات قمع الصحفيين. فضلاً عن أن كل عمليات الصرف التعسفي التي حدثت، خصوصاً بعد الانهيار الاقتصادي سنة 2019، لم تدفعها إلى تحريك ساكن، وكذلك الأمر فيما يتعلّق بعمليات خصم الأجور".
قررت قبيسي الترشح لانتخابات مجلس النقابة في الدورة ما قبل الأخيرة سنة 2021، عادّةً أن هذا الترشح "ليس بهدف الفوز وإنما لمراقبة العملية الانتخابية والطعن بصحتها أمام القضاء نظراً لما يشوبها من تجاوزات ومخالفات ونظام داخلي مصمم لتأمين فوز بعض المرشحين، خصوصاً أن هذا الطعن يتطلب أن أكون إحدى المرشحات".
تستخدم الأحزاب النظام الداخلي للنقابة لتكريس تركيبتها الطائفية ومنع أي اختراق قد يهدد نفوذ طائفة لحساب غيرها. لذا استند طعن قبيسي على سوء النظام الداخلي المفصّل على قياس السلطة مما يمنع إجراء انتخابات شفافة. هذا النظام ينص على أن لجنة الجدول المكلفة بالإشراف على الانتخابات مؤلفة من النقيب وعضوين من مجلس النقابة، أي أن من يشرف على الانتخابات هو نفسه المرشح فيها. فضلاً عن مخالفات قانونية إجرائية أخرى، منها عدم التأكد من صحة اكتمال نصاب الجلسة إلا بعد انتهاء الانتخابات وليس قبلها. وقد طلبت قبيسي من المحكمة تكليف خبير للاطلاع على جدول الانتساب للنقابة، والتأكد من أن الأسماء الواردة فيه لصحفيين وليست مجرد أسماء وهمية لعاملين في قطاعات أخرى.
ومع هذه الحيثيات إلا أن قرار القضاء اللبناني صدر قبل انتهاء ولاية المجلس بنحو ستة أشهر يرفض الطعن، استناداً إلى أن الفارق بين قبيسي وآخر الخاسرين كبير من دون الخوض بتفاصيل النظام الداخلي.
الصيغة القانونية التي توصلت إليها اللجنة الفرعية تحمل الكثير من المواد التي تعزز حرية الصحافة. فوفق هذه الصيغة ألغيت العقوبات السجنية والتوقيف الاحتياطي في جميع قضايا الرأي، سواء للصحفيين أو المواطنين الذين يعبرون عن مواقفهم على منصات التواصل الاجتماعي. فضلاً عن ذلك، لا يشترط مشروع القانون الحصول على ترخيص مسبق لتأسيس موقع إلكتروني، وإنما بات ضمن إطار العلم والخبر (الإخطار)، ونص على حماية مصادر الصحفيين وجرّم خطاب الكراهية. وألغى المقترح موادَ القدحِ والذم والتحقير من قانون العقوبات وقانون القضاء العسكري. وأورد مشروع القانون فصلاً عن الإعلام الرسمي وأنه ينبغي أن يعمل من أجل الصالح العام وتعزيز التنوع والتعددية، وليس أداة سياسية للحكومة.
إلا أن هناك تخوفاً من تعديل هذه الصيغة قبل إقرارها ليتحول مشروع القانون إلى أداة رقابية للسلطة على وسائل الإعلام والصحفيين. فبعد نحو شهر من وصول مشروع القانون إلى لجنة الإدارة والعدل، وصل إلى أعضاء اللجنة مستند يتضمن أحد عشر تعديلاً، ويشير في عنوانه إلى أن وزير الإعلام اللبناني هو الذي اقترحه. هذه التعديلات من شأنها إفراغ القانون من طابعه الإصلاحي، إذ تسمح بالتوقيف الاحتياطي بما في ذلك في حال اقترنت الجريمة بما يسمى "ظروف مشددة، كالتعرّض لكرامة الأشخاص أو حياتهم الخاصّة". هذه الصياغة الفضفاضة تعرّض القانون لإساءة استخدام السلطات لإسكات الصحفيين.
وتلزم هذه التعديلات محطات التلفزيون المرخّصة بتقديم تقارير منتظمة إلى وزارة الإعلام والمجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، تتضمّن معلومات مفصّلة عن جدول برامج البث، وتفرض على وسائل الإعلام الإلكترونية نظام ترخيص مسبق بدلاً من نظام العلم والخبر.
أثارت التعديلات المقترحة غضب الصحفيين والحقوقيين الذين وجدوا فيها توجيهاً للقانون ليصير تشريعاً قامعاً للإعلام. وأصدرت أربع عشرة منظمة حقوقية لبنانية ودولية بياناً مشتركاً يدين هذه التعديلات ويعدها خطوةً كبيرة إلى الوراء في حماية الحق في حرية التعبير وحرية الإعلام في لبنان. دفع ذلك وزير الإعلام إلى التراجع عن هذه التعديلات نافياً مسؤوليته عنها.
عادةً تدرس مشاريع القوانين المقترحة في مجلس النواب اللبناني في اللجان النيابية المخصصة ليحال بعدها إلى الهيئة العامة لإقراره. إلا أن فوضىً تشريعية تحصل في الكثير من الحالات بإقرار قوانين في الهيئة العامة للمجلس بلا اطلاع النواب على صيغتها النهائية وبلا تصويت شفاف عليها. تزيد هذه الفوضى التشريعية من مخاوف تغيير محتوى مشروع قانون الإعلام في اللحظات الأخيرة.
شرعتُ في استكمال الجزء الثاني من تحقيق صحفي في شهر أغسطس 2025، كشفت فيه عن صفقة تحصّل بموجبها أحد المتعهدين على عقد استثماري لمساحات شاسعة قريبة من الشاطىء مقابل بناء نادٍ للضباط للجيش اللبناني. توجهت حينها إلى موقع الأعمال لمعاينته فاقترب أحد مهندسي الشركة المتعهدة طالباً المغادرة وإلا سيستدعي الجيش. رفضت الأمر وصممت على استكمال عملي الميداني. علمت حينها أن الأمور لن تجري على ما يرام، فأبلغت الوسيلة الإعلامية التي كنت أعمل معها بما حدث، وتواصلت مع "نقابة الصحافة البديلة". ما هي إلا دقائق حتّى جاءت قوة من الجيش واصطحبتني إلى مقرها. رفضت بدء أي تحقيق أولي أو فتح هاتفي، وتمسكت بالمادة السابعة والأربعين من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تمنحني الحق بعدم بدء التحقيق قبل وصول المحامي. وما زاد الطين بلّة وجود وثيقة اتصال لدى الجيش تتهمني بأنني أنتقده وأهاجمه في الجزء الأول المنشور من تحقيقي.
سرعان ما انتشر خبر توقيفي بعد أن أعلنت الوسيلة الإعلامية التي أعمل معها عن ذلك عبر صفحاتها، وما لبث أن صدر بيان عن "نقابة الصحافة البديلة" يطالب بالإفراج الفوري، ولحقته عدد من وسائل الإعلام والناشطين والمتضامنين. بعد انقضاء نحو أربع ساعات، وبفشل المحقق إقناعي البدء بالتحقيق، طلبَ أن أتحدث هاتفياً مع أحد كبار الضباط الذي أبلغني أن الأمور قد حُلّت، وسيفرج عني فوراً من دون أي عواقب أو حتّى فتح محضر تحقيق.
حينها أدركت أهمية وجود قانون يحمي حقوق الصحفيين أثناء عملهم من ناحية، والتضامن الصحفي الذي كرّسه تجمع "نقابة الصحافة البديلة" لحماية الصحفيين من ناحية أخرى، والخروج من عباءة الطائفية في القطاع الإعلامي.
تأسس تجمع نقابة الصحافة البديلة سنة 2019 بمبادرة من مجموعة من الصحفيين الذين شعروا بغياب نقابة تحميهم، بحسب ما تقول منسقته إلسي مفرّج للفِراتْس. في تلك السنة شهد لبنان ما عرف بانتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) التي ترافقت مع بدء الانهيار المالي والاقتصادي. وتأثر الصحفيون سريعاً بهذين الحدثين، فقد ازدادت عمليات الفصل من العمل تعسفياً في القطاع الإعلامي. كذلك ارتفعت معدلات استدعاء النيابات العامة الصحفيين، فضلاً عن المضايقات نتيجة التغطية الطويلة على الأرض. كل ذلك حدث مع شعور عام بغياب أي مظلة حماية لهم.
تشير إلسي مفرّج إلى أن هذه المرحلة شهدت إعلان عدد من القطاعات الثورةَ على الكتل السياسية الطائفية المسيطرة عليها، ففاز المرشح المستقل ملحم خلف بمنصب نقيب المحامين وكذلك فاز المرشح المستقل عارف ياسين بمنصب نقيب المهندسين. وكان لا بدّ للصحفيين من التفاعل مع باقي النقابات وإعلان الثورة في قطاعهم على المحاصصة الطائفية والحزبية المتحكمة بنقابة المحررين.
تطّورت تجربة التجمع مع الحاجة المتزايدة إليه وصولاً إلى نيله الاعتراف الدولي سنة 2025 وتحوله إلى "اتحاد الصحفيين والصحفيات في لبنان". بدأ التجمع بإصدار البيانات والدعوة إلى التحرك عند تعرض أحد الصحفيين لاعتداء أو استدعاء أحدهم للتحقيق. كذلك حاول تكريس فكرة عدم مثول الصحفيين أمام الضابطة العدلية بالتواصل المباشر مع القضاء أو وزارة الإعلام ما عزز من حضوره. وشكلت فترة وباء كورونا وانفجار مرفأ بيروت فرصة لأن يشكل التجمع نقطة تواصل والتقاء بين الصحفيين. وصولاً لسنة 2021 حين وضع نظام داخلي وأجريت أول انتخابات داخل التجمع. فتمكن من تكريس الاعتراف به شيئاً فشيئاً، إذ عقدت الجهات الدولية التي حضرت إلى لبنان لمراقبة الانتخابات النيابية سنة 2022، مثل بعثة الاتحاد الأوروبي، اجتماعات مع ممثلين للتجمع.
حاولت نقابة المحررين (النقابة الرسمية) التضييق على التجمع وحلّه لأنه "منتحل صفة". فتقدمت بدعوى قضائية سنة 2021 ضد تجمع نقابة الصحافة البديلة، مطالبة بمنعه من إصدار البيانات وتغريمه مبلغ مئة مليون ليرة، ما يعادل 1117 دولاراً أمريكياً، عن كل منشور على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي. إلا أن القضاء اللبناني ردّ الدعوى استتناداً إلى أن الدستور اللبناني يكفل حرية التعبير والتجمع، فضلاً عن توقيع لبنان على معاهدات دولية تضمن هذه الحقوق.
جاءت الحرب الإسرائيلية على لبنان في 2023 لتشكل مناسبة للتجمع للسعي لتحقيق أهدافه بحماية الصحفيين. فقد عمد التجمع إلى دعم الصحفيين عبر تأمين معدات الحماية باهظة الثمن. وأطلق مساراً حقوقياً لتحقيق العدالة في قضايا الصحفيين الذين اغتالتهم اسرائيل في الحرب الأخيرة، والدفع باتجاه إعلان صلاحية المحكمة الجنائية الدولية لإجراء التحقيقات اللازمة.
التحول الأبرز الذي شهده التجمع بعمله النقابي حصوله على اعتراف دولي عبر قبوله عضواً مشاركاً في الاتحاد الدولي للصحفيين في يونيو 2025، وعليه تغير اسمه إلى "اتحاد الصحفيين والصحفيات في لبنان".
تقول إلسي مفرّج إن النضال النقابي الذي خاضه التجمع لحماية الصحفيين ساعد في تقديم ملف متكامل للانضمام للاتحاد الدولي الذي يضم 148 دولة. وسمح هذا الانضمام بإصدار بطاقة صحافة دولية للصحفيين الذين لم يعودوا أسرى الدخول لنقابة المحررين. وفي الوقت الحالي يسعى الاتحاد للحصول على الاعتراف المحلي عبر التسجيل في وزارة العمل اللبنانية. وفي حين لم يُختبَر مدى اعتراف مؤسسات الدولة اللبنانية بالبطاقة الدولية الصادرة عن الاتحاد، ولكن يمكن القول إن الأجهزة الأمنية بدأت تعترف بها، إذ استخدمها عدة صحفيين لعبور الحدود بين لبنان وسوريا.
يرى الاتحاد في التكافل والتضامن بين الصحفيين مصدر قوة يجب تعزيزه. تؤكد إلسي مفرّج أن الاتحاد لم يكتفِ بفتح أبوابه لانضمام الصحفيين اليه، بل بات يضم مصورين مع أن بعضهم عضو في نقابة المصورين، "إلا أن أهمية ذلك هو تكريس التضامن بين العاملين في القطاع".
إلا أن تلك الحرية لم تكن في حالة لبنان دليلاً على تقدم النظام السياسي وتطوره. بل على العكس تماماً، فإن النظام السياسي الطائفي الذي يحكم لبنان وأدى إلى استمرار الأزمات فيه سمح بهذا الهامش من الحرية التي تبقى مطوقة ما لم تكرَّس في القوانين المحلية. وما تزال القوانين المنظمة للإعلام اللبناني قديمة ومتضاربة، ما يسمح بإساءة تفسيرها خدمةً لمصالح حزبية وسياسية وطائفية.
إنطلاقاً من ذلك، تأتي أهمية الصراع على مشروع قانون الإعلام الجديد بين صحفيين يحاولون صون حريتهم بتشريعات حديثة تقيل القيود التي تكبلهم ومهنتهم منذ عقود، في مقابل مصالح سياسية وطائفية تتصارع فيما بينها على المستوى الوطني، وتتلاقى في سعيها للحفاظ على مكتسباتها في السيطرة على الإعلام وحق الجمهور في المعرفة وحرية الرأي والتعبير. وتود هذه القوى السياسية أن تبقي الصحفيين تحت ضغط أدواتها التقليدية التي كرستها القوانين القائمة.

