بين المواربة والسخرية المرّة.. قراءة في الأمثال الشعبية المغربية

يمكن فهم علاقة قطاع من الشعب المغربي المضطربة بين الخضوع والعصيان بمن يحكمه من أقواله المأثورة كالأمثال الشعبية السياسية.

Share
بين المواربة والسخرية المرّة.. قراءة في الأمثال الشعبية المغربية
الأمثال الناقدة سياسياً قد تكون في جوهرها فعل مقاومة | تصميم خاص بالفراتس

كان صباحُ البلاد في الأول من أكتوبر سنة 2025 مثقلاً بالحديث عن المظاهرات التي شهدتها مناطق متفرقة من المملكة المغربية في الليلة السابقة. واندلعت هذه المظاهرات التي دعا إليها جيلٌ جديد من الشباب يُعرف بـجيل "زِد"، وهم مواليد 1996 إلى 2012، احتجاجاً على رداءة الخدمات في قطاعي الصحة والتعليم واستفحال الفساد. جلستُ في مقهىً أتابع الأخبار المتناثرة على الشاشات، وإلى جواري صديقي الذي لا يكلّ من الجدال في السياسة. تحدثنا عن انتخابات 2021 التي حملت رجل الأعمال عزيز أخنوش إلى رئاسة الحكومة، لتتوالى بعدها فضائح عن تضارب المصالح في إبرام الصفقات، وزيادة كبيرة في الأسعار، وصولاً إلى ما يمكن وصفه بأكبر احتجاجات يشهدها المغرب منذ حراك 20 فبراير ضمن موجة ثورات الربيع العربي سنة 2011.
وفيما كنا نخوض في حال السياسة في البلد، قاطعَنا رجل يبدو من التجاعيد التي علت وجهه أنه تجاوز الستين، قائلاً: "إلى كانت الناس خرفان تايكونو حكامها ذياب". وهو مثل شعبي معناه إذا كان الشعب ضعيفاً وساذجاً ويساق بسهولة مثل الخِراف، فإن من يحكمه سيكونون أذكياء ومخادعين يستغلّونه مثل الذئاب. بهذه الجملة القصيرة اختزل الرجل عقوداً من التجربة السياسية، وحوّل نقاشنا إلى ما يشبه التنافس في قول الأمثال الشعبية وتقصي مدلولاتها. فالأمثال الشعبية سجلٌّ غير رسمي لتجارب المجتمع وتصوراته لنفسه وللعالم. وفي بنيتها الموجزة ولغتها تمثيلاً لوعي الناس وموقفهم من قضايا شتى، من الدين للعلاقات الاجتماعية، ووصولاً إلى السياسة والسلطة.
اكتسبت الأمثال الشعبية ذات الطابع السياسي أهمية خاصة في المغرب، وسيلةً تعبيرية غير مباشرة في مجتمع عاش فترات طويلة من التضييق على حرية القول، خاصة بعد الاستقلال من الحمايتين الفرنسية والإسبانية سنة 1956. هذه الأمثال كانت بمثابة خطاب شعبي يعكس رؤية الناس للسلطة وعلاقتهم بها بين ترويض وتمرد، وينطوي على نقد ساخر وسرد بديل للتاريخ السياسي. بل تمثل الأمثال الشعبية مرآةً للمفارقات في المشهد السياسي، كأن يستخدمها السياسيون أنفسهم وسيلة للتقرب من الناس. وليست المسألة هنا مرتبطة بمدى صدق هذه الأمثال أو بكونها سجلاً موضوعياً للوقائع أو التاريخ، إنما بكونها مهمة في فهم الثقافة السياسية المغربية، وبقيمتها أداةً تكشف عن علاقة البسطاء بالسياسة والسياسيين.


يذكر الكاتب والمؤرخ الويلزي جيمس هاويل في كتابه "باروميوغرافي" (علم الأمثال) الصادر سنة 1659، بأن المكونات الأساسية التي تُكوّن المثل هي "المعنى والإيجاز والطرافة". وفي كتابه "ويت آند وِزْدم إن مَوروكُو، آ ستادي أوف نايتف بروفربز" (الطرافة والحكمة في المغرب: دراسة في الأمثال المغربية الشعبية) الصادر سنة 1930، يقول عالم الاجتماع الفنلندي إدوارد ويسترمارك، إن هاويل أغفل صفة أساس من صفات المثل وهي الشعبية. ويعني أن عنصراً جوهرياً في أن يصبح القول "مثلاً" لا صدوره عن شخص واحد، وإنما في قبولِ الجماعة وتبنيها إياه.
بالإضافة للإيجاز والشعبية، يتميز المثل الشعبي باعتماده على الاستعارة أو التشبيه أو المبالغة، أو الانسجام الصوتي الممثل بالقافية أو السجع أو الجناس. وهو ما يترك تأثيراً نفسياً قوياً على المتلقي. يقول منير ميدول، الباحث في جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، في بحثه "ذا ستايلستك أناليسِس أوف موروكن بروفربز" (التحليل الأسلوبي للأمثال المغربية) المنشور سنة 2013، إن هذه السمات الأسلوبية تميز الأمثال عن الكلام العادي وتعزز قابليتها للتذكر.
ويشير ميدول أيضاً إلى أنّ الأمثال تمتاز بالقدرة على التعميم، إذ تقدم قاعدة أو حكمة يمكن تطبيقها على مواقف متعددة، مع مرونة تسمح بتكييف صياغتها حسب السياق الاجتماعي أو الزمني دون المساس بجوهر المعنى. أما من زاوية البنية فيؤكد أنّ الأمثال تتسم بالبساطة، وقد تُحذف فيها بعض عناصر الجملة مثل الفعل أو المفعول للحفاظ على الإيقاع والقافية.
وتعتبر لويزة مكسح، الباحثة في جامعة باتنة الجزائرية، في دراستها "الأمثال والحكم الشعبية" المنشورة سنة 2015، "أن الأمثال والحكم مرآة تعكس طبيعة الشعوب وخلاصات تجاربه". فتوضح أنها مفتاح أساس لفهم الثقافة الإنسانية وتفسير الواقع الاجتماعي.
وفي نسق مشابه فالأمثال السياسية المغربية تمثل رأياً عاماً، يتداولها الناس في المجالس العامة وفي الشارع ويحمّلونها دلالات سياسية يعيها الغالبية دون أن تقال صراحةً في مجتمع لا مساحة كبيرة فيه لنقد السلطة. فالمثل الشعبي من جهة، نصّ أدبي مكثّف يحمل صوراً واستعارات وحكماً، ومن جهة أخرى وثيقة اجتماعية تعبّر عن ذهنية جماعية تجاه السلطة. وهذا البُعد المزدوج هو ما يجعل تحليل الأمثال السياسية مدخلاً لفهم الثقافة السياسية المغربية نفسها. فهذه الأمثال وسيلة ترويض واحتجاج في آن، تمكِّن الفرد من التكيف مع السلطة حين تعلو كفّتها. لكنها تمنحه أيضاً وسيلة للاحتجاج حين تضيق به السبل.


تتحدث الكاتبة المغربية رشيدة قرمودي في مقالها "الأمثال الشعبية المغربية: وظائفها وأهدافها" المنشور سنة 2021، مطولاً عن الوظائف السياسية المتشابكة للمثل الشعبي، وعن دور بعضها وسيلةً للترويض في واقع سياسي صعب التغيير. تقول قرمودي إن"دلالتها الظاهرية [تقصد الأمثال الشعبية] كانت تحمل معاني التملق، بينما كانت لها في الواقع مرامٍ داخلية، فالمقصود منها هو المسايرة لقضاء غرض معين، أو لتفويت ظرف معين".
تدرج الكاتبة أمثلةً متداولة كالمثل القائل "اليد اللي ما عندك عليها فين، بوسها وادعي عليها بالهرس". ومعناه أن اليد التي لا تملك عليها سلطةً ولا قدرة لك على مجابهتها وجب عليك تقبيلها، أظهر لها الطاعة وادعُ عليها في سرك أن تكسر. فهذا التملّق والمسايرة برأيها تعويض عن العجز أمام السلطة، والمغربي في هذا المثل يوازن بين الخضوع والرفض، فيبدي الطاعة بيده لكنه يحتفظ بتمرّده في قلبه ولسانه الخفي.
في سياق مقارب يُقال في المغرب "إلا [إذا] حاجتك عند الكلب قولو سيدي"، وهو من أكثر الأمثال انتشاراً وتعبيراً عن تغليب الإنسان مصلحته تحت وطأة القهر. فالكلب في الثقافة المغاربية ليس "صديق الإنسان"، إنّما مضرب تحقير. فمَن امتلك السلطة ولو كانت ظالمة أو دنيئة، صار سيداً تُؤدى له التحية. والمغزى هنا ليس الإذعان بحد ذاته بقدر ما هو تشخيصٌ ونقد واقعٍ سياسي انتهازي يجعل من الولاء رهين المصلحة.
هناك من يرى هذه الأمثال من زاوية أخرى، ومنهم عبد الرحيم العطري، أستاذ علم الاجتماع بجامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس. يورد في مقالته "ابن الوزير وابن الفلاح: كيف تؤثر فينا الأمثال الشعبية؟" المنشورة سنة 2019 أن قطاعاً واسعاً من هذه الأمثال الشعبية يسهم في ترسيخ ثقافة الحذر المفرط والانقياد، ويحدّ من روح المبادرة والفعل الحر. تُسوّق هذه الأمثال، حسب العطري، لفكرة الخضوع والقبول بالقدر السياسي والاجتماعي دون اعتراض.
ويشير الكاتب إلى أن أمثال مثل "الحيطان لها وذان" و"اللي قالها المخزن هي اللي كاينة"، أي إن ما يقرّره المخزن هو الذي يُنفّذ ولا مجال لمعارضته، يخلق تكرارها ذهنية جماعية تخشى المواجهة وتؤمن بأن تجاوز الخطوط الحمراء جريمة. فهذه الأمثال آلية لإعادة إنتاج الخضوع وتدجين الإرادة حتى باتت تشكّل ما يسميه "الشلل التغييري" الذي يصيب المواطن العربي ويمنعه من الحلم بواقع مغاير. إنها أمثال تُخفي في ظاهرها النصح والحكمة، لكنها في عمقها تنتج إنساناً مروضاً يتصالح مع الظلم ويبرر الخضوع له.
تُبرز رشيدة قرمودي في كتابها الآنف الذكر أمثالاً أخرى تجسد وجهاً آخر من التجربة السياسية، عندما يضطر الإنسان إلى الانحناء القسري أمام واقعٍ لا يطاق. فالمغاربة حين يقولون "الله يسيل الشوكة بلا دم"، فإنهم يعبّرون عن أملٍ في الخلاص من الأذى دون الدخول في مواجهةٍ دامية. إنها حكمة الخائف لا الزاهد. أمّا المثل "قولو ديما العام زين" (قولوا دوماً أنّ العام جميل)، فيجسّد ثقافة النفاق الاجتماعي التي تولدها الرقابة السياسية، إذ يجبر الناس على تمجيد الواقع وإن كان بائساً، تفادياً للبطش. وهو مثل تتجلى فيه إحدى الوظائف التي يؤديها المثل الشعبي آليةَ دفاعٍ جماعي ضد القهر. يعلّم المثل الناس كيف يتحدثون ويعبرون باستهزاء عن عدم رضاهم دون أن يُسمَعوا، وكيف ينتقدون دون أن يُتَّهَموا أو يُدانوا.
لكن ومع المهادنة والخضوع الظاهري أحياناً، إلا أن لهذه الثقافة الشعبية وجه آخر تَحُثّ فيه على المواجهة المباشرة مع السلطة حين لا تجدي الحيل والمواربة نفعاً، وحين تتحول المهادنة إلى عبء لا يمكن تحمله. ومن بين الأمثال التي تعبر عن ذلك المثل القائل "قطع العرق وسيّح دمه". يشبّه المثل المشكلة بالعِرق المريض الذي لا يشفى إلا بقطعه، ولو سال دمه، لأن الألم المؤقت أفضل من المعاناة المستمرة. وحسب قرمودي، فغالباً ما كان هذا الخطاب يبرز في المراحل التاريخية التي اشتد فيها الاستبداد أو الاستعمار، مثل فترة حكم بعض السلاطين في القرن التاسع عشر أو زمن المقاومة ضد المستعمر الفرنسي والإسباني في النصف الأول من القرن العشرين.
في مقابل استخدام الأمثال الشعبية تعبيراً عن ضمير الشارع تجاه الواقع السياسي، ما كانت هذه المنظومة الشعبية لتكتمل دون توجيه سهام النقد أيضاً للعاملين في السياسة. ومثلما رصد المثل الشعبي الوضعَ السياسي ووصفه ترميزاً ومواربةً، طُبق ذات الشيء على السياسيين ومن سلك مسارهم.


جمع الكاتب إدريس دادون في كتابه "الأمثال الشعبية المغربية" الصادر سنة 2000، أكثرَ من ألفي مثل، مادةً خصبة لفهم المجتمع المغربي ورصد تحوّلات وعيه الاجتماعي والسياسي. ومن بين ما برز فيما جمعه الأمثال التي تعكس المنظور الشعبي لأصحاب السلطة.
على سبيل المثال، أورد في الكتاب مثلاً شائعاً يقول "قل للحمار سيدي حتى تقطع الواد". وهو واحد من بين أمثلة أخرى، يقول عنها دادون "إنها تدل على المداراة والمصانعة لتحقيق الأغراض". هذا المثل، وبالنظر إلى المرونة التي تميز الأمثال وقابلتيها للتكيّف مع مختلف المواقف وعلى ما يوحي ظاهره من خضوع، فإنه يُستعمل أحياناً للردّ الناقد الساخر على السياسيين. لاسيما حين يظهرون مواقف متناقضة أو تودّداً مصطنعاً للسلطة بعد أن كانوا من أشدّ منتقديها. فحين يلاحظ الناس تغيّر خطاب أحد السياسيين فور توليه منصباً حكومياً أو تحالفه مع خصومه السابقين، يُتداول هذا المثل مع تغيير طفيف في صياغته ليصبح: "ها هو قال للحمار سيدي حتى يقطع الواد". وفي هذا الاستعمال لا يُقصد بالحمار شخص بعينه، بل السلطة أو الجهة المتنفذة التي يضطر السياسي لمجاملتها كي يعبر "الوادي"، أي لتحقيق مصلحةٍ معينة.
وإذا كان دادون قد اهتم بجمع الأمثال الشعبية بمختلف موضوعاتها وتدوينها ودراستها، فإن عبد الحي بنيس، الموظف داخل قبة البرلمان المغربي أكثر من أربعة وثلاثين عاماً، ألّف عدة كتب لُقِّبَ بعدها بـالمؤرخ غير الرسمي للمملكة، جمع خمسة وتسعين مثلاً شعبياً خاصاً بمجال السياسة. وردت هذه الأمثال في مقالتِه "الأمثال الشعبية المغربية في الحكام والسياسيين" المنشورة سنة 2019.
الأمثال التي جمعها بنيس تكشف كيف يرى قطاع من المغاربة علاقتهم بالسياسة والفساد والمناصب، وتتكرّر فيها صورٌ ترمز إلى الرياء والتملق وازدواجية المواقف. وقد تكون أمثالاً اجتماعية حُورت لتصف واقعاً سياسياً ما. فحين يقول المغاربة: "غير كيوصلوا [عندما يصلوا] للكرسي كينساو [ينسوا عندها] كلشي"، فإنهم يقدمون صورة عن السياسي الذي يتحوّل من داعيةٍ للإصلاح قبل المنصب إلى رمز للنفاق بعده. ما قد يعكس إدراكاً شعبياً بانفصام الخطاب السياسي عن الممارسة الفعلية.
وحين يقول المغاربة: "كاينة وتكون، اللي كان البارح فكرون [سلحفاة] رجع اليوم فرعون"، فإنهم يكشفون بنبرة ساخرة عن وعيهم بتحوّلات السلطة وتقلّب أحوال الناس فيها. فوصف "فكرون" في المثل يشار به إلى الشخص البسيط أو المتواضع، وربما إلى من كان مهمّشاً لا يُؤبه له. بينما وصف "فرعون" صورة المستبد المتجبر الذي يرمز إلى الغطرسة والنفوذ. ومن المقابلة بين هذين الوصفين، يرصد المثل ظاهرة مألوفة في الحياة السياسية التي يظهر فيها أولئك الذين كانوا في الهامش، أو يدّعون النضال والتواضع. فيتحولون فجأة بعد توليهم المناصب إلى متسلطين متعجرفين، وينسون أصولهم ومعاناة الوسط الذي جاؤوا منه. لذا فهذه الأمثال لا تسخر من الأفراد بقدر ما تدين البنية السياسية التي تسمح بانتقال الانتهازية من الهامش إلى مركز السلطة.
ومن هنا فإن الأمثال الناقدة سياسياً قد تكون في جوهرها فعل مقاومة يواجه الخطاب الرسمي بخطابٍ شعبيٍّ ينزع عن السياسيين أقنعتهم بلغةٍ بسيطة أو استعارية. لكنها جارحة، لأنها صادرة من وعيٍ جمعيٍّ خبر السلطة وتلوُّنها عبر أجيال، وفي سياقات تاريخية متنوعة. تقول قرمودي إن بعض هذه الأمثال الناقدة للسياسيين نشأت في أجواء المقاومة ضد الاستعمار، فلم "تخفِ الأمثال ألم الشعب ومعاناته من بطش المستعمر". لكن الكثير منها تحوّل بعد الاستقلال إلى وسيلة للتعليق على المنظومة السياسية التي أنتجت سياسيين فاسدين. ثم أصبحت أثناء ما يُعرف في المغرب بسنوات الجمر والرصاص بين ستينيات القرن الماضي وتسعينياته عندما شهد البلد تضييقاً سياسياً، أداة للتعبير المبطّن عن الغضب والخوف تجاه السلطة، كما هو في المثل القائل: "عشنا حتى شفنا الذيب يتسارى [يتجول] وسطنا".
هذه التجارب تركت بصمتها على مضمون الأمثال وبنيتها. إذ شاعت استعارات الحيوان لتجسيد الغباء والطاعة أو الافتراس، واستُعملت استعارات القدر والزمن لتفسير تقلّب السلطة. إلا أن المثير للاهتمام هو تحول الأمثال أحياناً وسيلةً بيد الساسة أنفسهم، في اتجاه معاكس فيما يبدو للهدف الذي انتشر المثل من أجله في الأصل.


تسللت الأمثال الشعبية إلى الخطاب الرسمي والسياسي نفسه. ولم يعد غريباً سماع سياسيين مغاربة، من برلمانيين ووزراء وحتى رؤساء حكومات، يوظفونها في خطبهم. منهم رئيس الوزراء الأسبق عبد الإله بنكيران، الذي عُرف بإدراجه الأمثال الشعبية في خطاباته السياسية. فمثلاً خاطب بنكيران معارضيه في إحدى جلسات البرلمان سنة 2012 بقوله: "لي فيه الفز كايقفز" (الخائف يقفز)، وهو مثل شائع يستعمله الناس عندما يُظهر أحدهم رد فعل أو تبريراً مبالغاً فيه قبل أن يُوجَّه إليه اللوم أصلاً. واستعمله بنكيران للتعليق على انسحاب نواب من جلسة البرلمان أثناء رده على منتقديه من المعارضة.
واستعمل سياسيون من المعارضة المغربية المثل الشعبي القائل "قالُّوا بّاك طاح، قالُّوا من الخيمة خرج مايْل". ويعنى أنه عندما قالوا له إنّ أباه سقط في مشكلة، أجابهم بأنّ سقوطه كان متوقّعاً، لأنه خرج من البداية منحرفاً أو مائلًا عن الصواب. ويستخدم هذا المثل للتعبير عن أن التعثر الذي يواجه تنفيذ بعض القرارات السياسية ليس وليد صدفة، وإنما نتاج سوء تخطيط منذ البداية. فعلى سبيل المثال استعانت ميلودة حازب، النائبة البرلمانية في حزب الأصالة والمعاصرة الذي كان ضمن فريق المعارضة، بهذا المثل لمهاجمة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي أقرتها حكومة عبد الإله بنكيران، في إحدى جلسات الاستماع للحكومة في أغسطس 2012.
استخدام الأمثال الشعبية امتد لملوك المغرب. ففي الخطاب الذي ألقاه الملك الراحل الحسن الثاني يوم الثامن من يوليو 1975 استعان بالمثل الشعبي في سياق حديثه عن قضية الصحراء الغربية المتنازع عليها. إذ قال: "لي بغا سيدي علي بوغالب يبغيه بقْلالْشُو". ومعناه أن من أحبّ الوليّ الصالح سيدي علي بوغالب (أحد أشهر أعلام الصوفية في المغرب، وتوفي في القرن التاسع الهجري وله ضريح في مدينة فاس) فعليه أن يحبه بكلّ ما هو عليه أي بملابسه الخشنة "قلالشو". وهكذا أراد الملك الإشارة إلى أن من يحب الصحراء الغربية، فليحبها بمشاكلها ومتاعبها، مضيفاً أن هذا المثل وإن كان دارجاً، فهو "يمثل بالضبط واقع الحال".
كذا يتحول المثل إلى جسر واصل بين الخطاب السياسي واللغة الشعبية البسيطة. إذ يخاطب السياسي المستمعَ العادي بلغة مألوفة له تستدرج الذاكرة الجماعية نحو التفاعل مع القضايا المطروحة. أشار إلى ذلك محمد بلاجي، الذي اشتغل سابقاً أستاذاً في كلية الآداب بعين الشق بالدار البيضاء، في مقالته "المثل في الخطاب السياسي المغربي" المنشورة سنة 2001. فالمثل كما يراه بلاجي، "يولد بين الناس، فهو من أنفسهم ومن عالمهم، فيه يرون صور أنفسهم [. . .] ويقدم معرفة تغتني بها النفس فتعرف نفسها وتعرف عالم الناس من حولها". ويعني ذلك في أحد أبعاده أن توظيف المثل في الخطاب السياسي المغربي تجعله أقرب إلى نبض الشارع وإلى وجدان المواطن البسيط، وبالتالي يسهل استقبال هذا الخطاب والتجاوب معه.
ممارسة خطابية مشابهة تنتهجها الصحافة المغربية أحياناً. فقد لجأ بعض الصحافيين المغاربة لتوظيف الأمثال الشعبية لتقريب أفكارهم ومواقفهم من المتلقي العادي، مستثمرين ما في المثل من حمولة جمالية قادرة على إحداث الإقناع والمتعة في آن واحد. كذلك توفر الأمثال للكاتب السياسي هامشاً من الحرية في النقد، إذ يستطيع أن يعبر عن مواقف حادة بلغة التلميح متجنباً المواجهة المباشرة مع السلطة. درَس بلاجي حضور الأمثال في الصحف ذات التوجه السياسي، مثل جريدَتي "العلم" و"الاتحاد الاشتراكي". وقد أبانت دراسته أن هذه الصحف ملكت قدرة على تحيين المثل وإعادة صياغته بما يتلاءم مع التحولات السياسية والاجتماعية. ففي افتتاحية جريدة العلم استعمل كُتّاب الأعمدة السياسية أمثالاً عامية مثل "الراس اللي ما يدور كدية"، أي الشخص الذي يغيّر رأيه. وقد جاء المثل في عامود 15 يناير 1994 سخريةً من تحول موقف الوزير المكلف بملف حقوق الإنسان، "ومن علامات التغيير تحوله من الدفاع عن حقوق الإنسان في إطار جمعية شعبية إلى ما نراه الآن من دفاع عن حقوق الإنسان بشكل ثاني.. والراس اللي ما يدور كدية". مثل آخر هو "اللي بغى يربح العام طويل" استخدم في عامود يوم 28 أكتوبر 1994 لبثّ السخرية والتلميح تجاه بطء التغيير المرتقب للحكومة.
لا يخلو حضور الأمثال الشعبية في خطاب السلطة ومن وازاها من التناقض. فحين تستخدم السلطة السياسية نفسها لغة الشعب، فإنها تستعير أدوات النقد الشعبي لتبرير عملها أو تزيينه أو شرحه. فالمثل الذي يمكن أن يطلق في المقاهي والأسواق والمجالس الشعبية تعليقاً ساخراً على الفساد أو الانتهازية، صار بإمكان السياسي أن يستعمله في خطابه، ليتحوّل المثل من أداة مقاومة رمزية إلى وسيلة لتليين اللغة السياسية.


في السنوات الأخيرة، منح الفضاء الرقمي الأمثال الشعبية مساحة أوسع تجمع بين التراث والحداثة، فصارت في مواضع وسيلة احتجاج رقمي أيضاً. وأعيد تطويع المثل الشعبي حسب السياق ليتماثل مع ثقافة الجيل الجديد واستعماله الصور الساخرة (ميمز) أو تعليقات على وسائل التواصل. وهو ما ظهر مثلاً بعد تصريحات بعض حلفاء رئيس الحكومة عزيز أخنوش في أكتوبر 2025 إثر تظاهرات جيل زد، وقد بدا أنّهم تخلوا عنه. فتداول المغاربة على فيسبوك مثلاً شعبياً يقول: "نهار بغيتك أ وجهي، قمشوك المشاش"، أي عندما احتجتك يا وجهي جرحتك القطط، في دلالة على خذلان الأقربين وقت الشدة. ولكن سواءً وُظف المثل الشعبي رقمياً أو ظل في سياقه التقليدي، فالثابت أن ما فيه من مرونةٍ وإيجازٍ وبلاغةٍ وقدرةٍ على التلميح، يختصر عقوداً من التجربة السياسية في جملٍ قصيرةٍ تناقلتها الأجيال. وقد ظلّت هذه الأمثال تكشف عن موقف الناس من السياسة والسياسيين، مستغلين قدرتها على النقد المستتر، وجمال أسلوبها وإيقاعها وصورها البلاغية التي تجعلها سهلة الحفظ قوية الأثر ونافذة المعنى.
ومهما كان مضمون الأمثال الشعبية المتداولة، فإنها تأتي عادةً مرفقة بعبارة: "الله يرحم سيادنا اللولين لي ما خلاو للتاليين ما يقولو"، وتقال للتعبير عن الإعجاب بحكمة الأجداد الذين سبقوا غيرهم في الفهم والتجربة حتى قالوا كل شيء قبل أن يأتي الآخرون.

اشترك في نشرتنا البريدية