تضافرت عوامل داخليةٌ وخارجيةٌ أوصلت البلاد إلى لحظة السابع عشر من أكتوبر. في تلك المرحلة بدأ التوازن الدقيق بين القوى السياسية الطائفية ومعها رعاتها الإقليميون يختلّ تدريجياً، ما أعاد تسليط الضوء على أزمة النظام السياسي اللبناني الطائفي وعجزه البنيوي. هذا النظام المتشابك الذي يتميّز بقدرٍ من الثبات، مع هشاشة التوازنات التي يستند إليها، جعل الحياة السياسية في لبنان عصيةً على التغيير. لكنه أوجد حالةً اعتراضيةً كانت تبرز كلّما سنحت فرصةٌ للتعبير عن الرفض. هذه الفرص سبق أن اختبرها اللبنانيون، لاسيما مع موجة الربيع العربي سنة 2011 بتظاهراتٍ لإسقاط النظام الطائفي ثمّ في 2015 إثر أزمة النفايات، وصولاً إلى السابع عشر من أكتوبر 2019. فالأزمة في جوهرها واحدةٌ، أزمة طبقةٍ سياسيةٍ قائمةٍ على المحسوبية والفساد. وما دام المسبّب واحداً، تبقى الحركة الاعتراضية في جوهرها تعبيراً عن حالةٍ واحدة.
جاءت انتفاضة 17 تشرين تتويجاً لمسارٍ طويلٍ من المحاولات الهادفة إلى الخروج من الإطار الطائفي الذي ينظّم الحياة السياسية اللبنانية، أكثر مما كانت حدثاً منفصلاً أو طارئاً. وعلى طابعها المفاجئ، فإنّ جذورها تمتدّ إلى سلسلةٍ من الاعتراضات والحركات السابقة التي حاولت مقاربة الشأن العام خارج القنوات التقليدية. ومع الزخم الشعبي الذي شهدته الساحات، ظلّت قدرة الانتفاضة على إحداث شرخٍ فعليٍّ في البنية السياسية موضعَ نقاش. فقد حالت مجموعةٌ من العوامل السياسية والبنيوية دون ترجمة المطالب إلى إصلاحاتٍ ملموسةٍ، ما أبقى أثرها قائماً ولكن بفعاليةٍ محدودةٍ مقارنةً بالشعارات والمطالب التي حملتها.
استمرت الانتفاضة أشهراً وشهدت تظاهراتٍ حاشدةً وقطعاً للطرقات واعتصاماتٍ أمام المؤسسات العامة. وبرز شعار "كلُّن يعني كلُّن" ليعكس رفضاً للطبقة السياسية الحاكمة بجميع مكوّناتها الحزبية والطائفية. فيما دخلت قوىً حزبيةٌ تقليديةٌ على خط المشهد بدرجاتٍ متفاوتةٍ من التأييد أو الرفض أو الاستفادة.
مع مرور الوقت واجهت الحركةُ ضغوطاً متعددةً، من تراجع الزخم الشعبي إلى القمع والاحتكاكات مع أنصار أحزابٍ مختلفةٍ، وصولاً إلى تداعيات الانهيار المالي وجائحة كورونا. ومع غياب قيادةٍ تنظيميةٍ موحّدةٍ تراجع الحراك على الأرض تدريجياً، بعدما أسهم في إسقاط حكومة سعد الحريري وفتح الباب أمام صعود مرشحين مستقلّين في انتخابات 2022، وبقاء عددٍ من مطالب الحراك حاضرةً في النقاش العام.
يقدِّم الناشطون الذين التقتهم الفِراتْس رؤاهم المختلفة عن أسباب تلك الاستجابة، إلا أنهم يتفقون على أنّ عواملَ داخليةً وخارجيةً ساهمت في الوصول إلى تلك اللحظة. على المستوى السياسي الداخلي، بدأ الصراع بين أطراف الطبقة السياسية يأخذ منحىً تصاعدياً. فقد بدأت التسوية بين الأحزاب المختلفة تترنَّح، تلك التسوية التي أدّت إلى وصول ميشال عون رئاسة الجمهورية سنة 2016 وتشكيل حكومةٍ ائتلافيةٍ برئاسة سعد الحريري تضمّ معظم القوى السياسية المتصارعة. قبل نحو شهرٍ ونصفٍ من اندلاع الانتفاضة، دعا رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، المُشارك في الحكومة وأحد أكبر الأحزاب المسيحية، إلى تشكيل حكومةٍ جديدةٍ من الاختصاصيين المستقلّين. وقبل نحو عشرة أيامٍ من الانتفاضة، نظّمت منظمة الشباب التقدّمي التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي المُمثل في الحكومة أيضاً، وقفةً رمزيةً دفاعاً عن حرية الرأي والتعبير، ورفضاً للاستدعاءات المتكررة بحق الناشطين والصحافيين وقتها. فيما بدا رئيس الحكومة سعد الحريري حينئذٍ مكبَّلاً بالتفاهم مع رئيس الجمهورية، ومن خلفه حزب الله الداعم الرئيس لميشال عون حينها.
خارجياً اتسم الموقف الخليجي، خاصةً السعودي وكذلك الأمريكي، بعدم الرضا بالسلطة الحاكمة. إذ تصاعدت وقتئذٍ الاتهامات الموجَّهة لحزب الله بأنه مسيطرٌ على القرار السياسي أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، إلى جانب اتساع تدخلات الحزب ودوره الإقليمي من سوريا إلى العراق وصولاً لليمن.
دفع الاحتقان الشعبيّ المواطنين للمشاركة في الانتفاضة، بعدما بلغت المحسوبية والفساد مستوياتٍ متقدِّمةً على مختلف الأصعدة. تقول "منظمة الشفافية الدولية" في تقرير سنة 2019 عن مقياس الفساد العالمي، إن الناس خرجوا إلى الشارع في لبنان سنة 2019 "للتعبير عن غضبهم إزاء الفساد الذي يرونه متفشِّياً على جميع مستويات الحياة اليومية. من أعلى مستوى في الحكومة، وصولاً إلى الخدمات العامة الأساسية التي تقدَّم للمواطن". وفي هذا السياق المحتقن صدر قرار فرض رسومٍ على واتساب لزيادة إيرادات الدولة في مشروع ميزانية البلاد لسنة 2020، كما أعلنت الحكومة وقتها. ولم تخطُ الحكومة أيّ خطواتٍ إصلاحيةٍ جادةٍ لوقف الهدر والفساد، وفق تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" سنة 2020. قالت المنظمة إن السلطات اللبنانية لم تفعل إلا القليل لمواجهة الفساد أو معالجة الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت لانهيارٍ غير مسبوقٍ، صنّفه البنك الدولي ضمن أشدّ ثلاث أزماتٍ اقتصاديةٍ في العالم منذ مئةٍ وخمسين عاماً.
بدأت معالم الأزمة الاقتصادية سنة 2019 بالظهور بانخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية تدريجياً أمام الدولار الأمريكي للمرة الأولى منذ سنة 1993. فطال الغلاء المعيشي كلَّ بيتٍ لبنانيٍّ، فيما كانت معدّلات البطالة والتضخم والفقر تشير لاتجاه البلاد نحو اضطرابٍ اقتصاديٍّ واجتماعيّ. وقد وثّق مسارَ الأزمةِ التصاعدي مقالٌ نُشر على موقع "منظمة العفو الدولية" في أكتوبر 2021، بعنوان "ضريبة واتساب لم تكن المحرّك الوحيد لتظاهرات 2019 في لبنان".
بعد نحو ساعةٍ، توجّه فقيه — كما يخبرنا — مع عددٍ من أصدقائه في المجموعة إلى ساحة رياض الصلح، المواجِهة مقرَّ الحكومة في وسط بيروت، حيث التقوا بمجموعةٍ من حملة "لِحقّي" وآخرين كانوا تجمّعوا هناك. اختار بعض الشباب التوجّه نحو "جسر الرينغ"، أحد الشرايين الرئيسة الرابطة أحياءَ العاصمة بيروت، فلحق بهم فقيه حاملاً العلم اللبناني ومكبّره الصوتيّ الذي يرافقه دائماً لترديد الشعارات الاحتجاجية. حاول المعتصمون قطعَ الطريق على الجسر. منعتهم القوى الأمنية بحزمٍ، فقرروا السير في تظاهرةٍ متنقلةٍ، وصولاً إلى منطقة وسط بيروت مجدداً. كانت الأعداد تزداد تباعاً، مع بدء توافد ناشطين برزوا في تظاهرات سنة 2015 إضافةً إلى بعض الأفراد من أحزابٍ يسارية.
يضيف فقيه أنه بعد اجتياز منطقة أسواق بيروت وسط العاصمة وقطع الطريق "اعترضت سيارة الوزير آنذاك أكرم شهيب الطريق الذي حاول المرور بالقوة، فيما أطلق أحد مرافقيه النار لترهيبنا. قاومه المتظاهرون، وركلَت شابةٌ أحد المرافقين ليصبح المشهد أول رمزٍ يعبّر عن هذه الانتفاضة". انتشر فيديو الركلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأعقبه نزول كثيرٍ من المواطنين المعترضين على فرض ضرائب جديدةٍ، بما في ذلك على استخدام تطبيق واتساب.
يقول فقيه: "غَرَفْنا من هتافات الذاكرة. الهتافات التي حفظناها عن ظهر قلبٍ مثل 'يسقط حكم الأزعر' و'الشعب يريد إسقاط النظام'، فيما كان هتاف 'كلّن يعني كلّن' يخرق المسامع في ذلك المساء". ويضيف: "كان لديّ إحساسٌ بأنّ هذه التظاهرات ستكبر، لكن ليس للحجم الذي وصلت إليه. فسبق أن خُضنا تجارب التظاهرات الاعتراضية سنتَيْ 2011 و2015، وشعرتُ أنّ الظروف مشابِهةٌ إلى حدٍّ بعيدٍ ويمكننا خلق مسارٍ مشابهٍ يدفع المواطنين للمشاركة ضدّ الفساد، ولكن لم أتوقع للحظةٍ أن تكون الشرارة ضريبة واتساب".
يبيّن فقيه أنّ الاحتجاج في 2019 جاء اعتراضاً على سياسة الضرائب التي تضرب مختلف القطاعات الاجتماعية. ولكن هذا لا ينفي أنّ خلفية المحتجين الأساس كانت إصلاح المنظومة السياسية بجملةٍ من المطالب، تبدأ باستقلالية القضاء ولا تنتهي بقانونٍ انتخابيٍّ عادل. ويضيف أن تصوراتهم تغيّرت نحو إسقاط الحكومة ومن خلفها المنظومة الحاكمة في الأيام التالية للتظاهرات.
يتوافق رأي الناشط السياسي علي مراد مع رأيَيْ فقيه ونعمت بدر الدين. يقول مراد في حديثٍ لـلفِراتْس إنّ أهدافَ السابع عشر من أكتوبر وفكرتَه نتيجة مسارٍ طويلٍ لم يبدأ في ذلك التاريخ، وإنما جاء نتيجة تراكم نضالاتٍ على مدى سنوات.
جاءت انتفاضة 17 تشرين امتداداً لتحركاتٍ مدنيةٍ بدأت منذ 2011 مع اندلاع ثورات الربيع العربي. ترك شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، الذي ترددت أصداؤه في شوارع العديد من الدول العربية، أثره في لبنان أيضاً. إذ انطلقت تظاهراتٌ حاولت تكييف الشعار مع خصوصية الواقع اللبناني، مُضيفةً إليه كلمة "الطائفي". فصدح المتظاهرون في ساحات وسط بيروت بشعار "الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي". وإذا كان النظام في البلدان التي شهدت الثورات يُختزل غالباً بحاكمٍ فرد يمسك بمقاليد السلطة، فإنّ المشهد في لبنان كان مختلفاً. إذ لا يمكن اختصار النظام بشخص الرئيس، الذي يشكّل جزءاً واحداً ضمن منظومةٍ سلطويةٍ مترابطةٍ ومتداخلة البُنى.
فشلت تلك الاحتجاجات في تحقيق إنجازاتٍ ملموسةٍ إلا أنّها نجحت في خلق كوادر سياسيةٍ شبابيةٍ شكّلت نواةً لما تبعها من تحرّكاتٍ في السنوات التالية، وصولاً إلى السابع عشر من أكتوبر 2019. يقول أحد الناشطين في تلك المرحلة للفِراتْس، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، إن شعار الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي أصبح "أشبه بإثبات هوية، أي أننا مواطنون علمانيون أو مدنيون خارج النظام الطائفي. كما أنه جاء ليقول إننا ننتمي للربيع العربي". ويرى الناشط نفسه أنّ فشل الاحتجاجات يعود إلى "قوة النظام الطائفي وغياب أي بديلٍ عنه. فالبديل ربما كان الفوضى، خصوصاً مع الطابع الطائفي الذي بدأت تأخذه بعض الثورات العربية". ويوضح أنّ هذا الشعار أخاف جزءاً من المسيحيين، لأنه يعني التحوّل نحو الديمقراطية العددية التي قد تؤدي إلى سيطرة المسلمين على مقاليد الحكم.
شهد لبنان سنة 2015 تظاهراتٍ واسعةً رفعت شعار "طلعت ريحتكم"، على خلفية أزمة النفايات التي تكدّست في الشوارع. يستذكر عماد بزي كيف استفزّته مشاهد النفايات التي غمرت الطرقات، فتواصل مع عددٍ من أصدقائه لإطلاق دعوةٍ للتظاهر عبر منصة "فيسبوك" تحت شعار "طلعت ريحتكم"، قاصداً به أحزاب السلطة. نفّذ بزي ورفاقه اعتصاماتٍ على مدى شهرٍ كاملٍ من دون أن ينجحوا في استقطاب المواطنين، إلى أن حدث التحوّل المفصلي. يشرح بزي أنه في أحد الاعتصامات، كانت إحدى القنوات التلفزيونية تنقل التحرّك مباشرةً حين هاجمتهم القوى الأمنية بعنفٍ غير مبرر. هذا المشهد حرّك شريحةً واسعةً من المواطنين الذين شعروا بالإهانة من تفاقم الأزمة. حينها بدأت أعداد المتظاهرين تتضاعف بسرعةٍ، وشعرت الأحزاب أنّ ثمّة حالةً اعتراضيةً جدّيةً ينبغي تطويقها، وفق بزي.
ازدياد أعداد المتظاهرين دفع السلطة إلى اعتماد عدّة أساليب لاحتواء الحراك. أولها كان تفتيت الحراك من الداخل عبر خلق مجموعاتٍ مقربةٍ من السلطة تعمل على إغراقه بالمطالب وتشتيت أولوياته. يوضح بزي أنّ "أعداد المجموعات التي باتت تدعو للتظاهر معنا ازدادت بشكلٍ مبالغٍ به، وبدأت مجموعاتٌ كثيرةٌ تفتح معارك جانبيةً مثل المطالبة بإقرار سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام، وإصلاح قطاع الكهرباء وغيرها". ومع إقراره بأنّ تلك القضايا محقّةٌ، لكنه اعتبر أنّه "من الناحية الإستراتيجية، لا يمكن فتح عشر معارك في الوقت نفسه". يستعيد بزي مثالاً آخر قائلاً إنه حين قرّر رفقة زملائه في الحملة اقتحام وزارة البيئة والاعتصام داخلها، صدر بيانٌ بِاسم "شباب 22 آب" يتبرأ منهم، وهذا ما رآه بمثابة ضوءٍ أخضر للقوى الأمنية للتعامل معهم بعنف.
عملت أحزاب السلطة أيضاً على محاصرة حراك 2015 بتشويه سمعة الناشطين، عبر نشر شائعاتٍ تتهمهم بالعمالة لسفاراتٍ أجنبية. وردَ ذلك على ألسنة العديد من الحزبيين ووسائل إعلامهم. بل إن صحيفة "الجمهورية" اللبنانية نشرت مقالاً استند إلى ما أسمته "تقارير دولية"، وردت فيه اتهاماتٌ للناشطين "بتلقّي تعليماتٍ من سفاراتٍ أجنبيةٍ والعمل لحساب أجهزة استخباراتٍ، خصوصاً وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية". لم يقف الناشطون مكتوفي الأيدي، فرفعوا دعوى قضائيةً ضدّ الصحيفة وكاتب المقال آلان سركيس. وفي سنة 2018 صدر الحكم القضائي مؤكداً أن "التقارير الدولية" التي استند إليها المقال ليست سوى مادةٍ مفبركةٍ مجهولة الكاتب والمصدر، نُشرت في أحد مواقع الإنترنت ليومٍ واحدٍ فقط، وفقاً لإقرار الكاتب نفسه.
الضغط الذي مارسته السلطة على الحراك لم يكن العامل الوحيد الذي أضعف زخمه. فمع تزايد الضغوط وتوسّع رقعة الشائعات، ظهرت الانقسامات داخل الحراك نفسه حول أولوياته وكيفية مقارعة السلطة، ما أوجد شرخاً سياسياً وتنظيمياً بين المجموعات المشاركة. حينئذٍ قررت نعمت بدر الدين مع مجموعةٍ من الناشطين، ولاسيما اليساريين، تشكيل حملة "بدنا نحاسب" التي تبنّت مقاربةً تقوم على شمولية المطالب. تشرح نعمت وجهة نظرهم بالقول: "لا يمكن الاكتفاء بالحديث عن أزمة نفاياتٍ ينبغي حلّها. فهي ليست أزمة مكبّاتٍ أو فرزٍ أو تفاصيل تقنيةٍ، بل هي نتاجٌ لأزمات النظام السياسي والاقتصادي الذي يعاني اختلالاتٍ على جميع المستويات، من الصحة إلى المياه والكهرباء والاتصالات". وتمكّنت أحزاب السلطة من محاصرة الاحتجاجات من دون تقديم أيّ حلٍّ فعليٍّ للأزمة البيئية.
منذ 2016 وحتى انتفاضة 2019، تراجعت الحالة الاحتجاجية في البلاد بحسب ما يشير إليه مشروع "بيانات مواقع وأحداث الصراعات المسلحة"، المتخصص بجمع بياناتٍ تفصيليةٍ حول أحداث العنف السياسي والاحتجاجات في العالم. فقد دخلت هذه الحالة في فترةٍ من الركود بعد الانتخابات النيابية لسنة 2018. في تلك الانتخابات خاضت المنافسة إحدى عشر مجموعةً من قطاعاتٍ مستقلةٍ وعلمانيةٍ ضمن المجتمع المدني، تحت لوائح مشتركةٍ ضمّت ستةٍ وستين مرشحاً، في مواجهة الأحزاب السياسية التقليدية. إلّا أنّ النتائج جاءت مخيّبةً الآمالَ، إذ لم يتمكّن هذا التحالف من الفوز سوى بمقعدٍ واحدٍ شغلته النائبة بولا يعقوبيان.
هذه النتائج كرّست سطوة الأحزاب الطائفية على المشهد السياسي، وألقت بظلالها على الحراك الاحتجاجيّ في البلاد. فلم يشهد الشارع أيّ تحرّكاتٍ تُذكر عقبها، سوى مع بداية سنة 2019. حينها أعادت المجموعات تنظيم نفسها والدعوة لتحركاتٍ تحت عناوينَ مطلبيةٍ مختلفةٍ، إلّا أنّها لم تجذب سوى عشرات المواطنين في أفضل الأحوال، إلى أن كان التحوّل الجذري في السابع عشر من أكتوبر من ذلك العام.
تقول نعمت بدر الدين: إنّ "انتفاضة 17 تشرين جذبت مواطنين لم أتخيّل يوماً رؤيتهم في تظاهرة. فمنهم من كان يُعدّ من جماهير الأحزاب التقليدية، حتّى إنه يمكن ملاحظة مشاركة مواطنين من بيئاتٍ اجتماعيةٍ لصيقةٍ بالأحزاب. فتجد ابن الضاحية الجنوبية لبيروت التي تُعدّ معقلاً لحزب الله، وابن طريق الجديدة المحسوبة على تيار المستقبل، جنباً إلى جنب في التحركات الاحتجاجية" بينما هم في السياسية متعارضان. يرى فقيه أنّ الشعارات غير الطائفية التي رُفعت في الساحات، ورفع العلم اللبناني دون غيره، جذب كثيراً من المواطنين. وساهمت التغطية الإعلامية في تعزيز الزخم الشعبي.
وتميّزت انتفاضة 17 تشرين عن التحرّكات السابقة منذ 2011 بعدم مركزيتها في العاصمة بيروت. إذ وصلت مناطقَ تُعدّ معاقلَ للأحزاب الحاكمة، بما في ذلك مدنٌ وأريافٌ لبنانيةٌ بعيدة. وعن ذلك يقول فقيه: "احتجاجات المناطق جاءت تعبيراً عن التمرّد على سياسة كمّ الأفواه، وسياسة الترغيب والترهيب والارتهان بلقمة العيش التي كانت تمارسها أحزاب السلطة خصوصاً في الأطراف". ويضيف أنّ عملية التشبيك بين المناطق أعطت الانتفاضة ميزةً مهمةً، تمثّلت في إضفاء الطابع المدني اللاطائفي عليها، لأنها جمعت مناطق ذات أغلبياتٍ طائفيةٍ مختلفة.
إحدى مفاجآت تلك الانتفاضة كانت وصولها الجنوب اللبناني، المحسوب بمعظمه على الحزبَين الشيعيَّين حزب الله وحركة أمل. غاب الجنوب عن أيّ حراكٍ احتجاجيٍّ فعليٍّ منذ نهاية الحرب الأهلية أواخر 1990. ويروي الناشط حاتم حلاوي في كتابه "صور، إلى تشرين 2019 وبعده.. روايتي للتاريخ" المنشور سنة 2024، مشهدَ المدينة الجنوبية يومئذٍ إذ انتقل من بيروت إلى صور فور علمه ببدء تحركاتٍ احتجاجيةٍ فيها. يكتب حلاوي "ركضت إلى السيارة، فالاعتراض في صور هو الأحبّ إلى قلبي وها هي تستجيب أخيراً بعد سباتٍ عميق [. . .] كانت الرحلة طويلةً ومليئةً بالإطارات المشتعلة، صوّرتُها ولم أعترض على الإقفال. كنت أضع الصور على صفحتي فرحاً بتمردٍ طال انتظاره. وصلتُ إلى صور وكانت تعج بالناس [. . .] كانت البلاد كلها تغلي [. . .] حتّى صور المطبّعة استجابت".
بعد خمسة عشر عاماً من الحرب الأهلية الطاحنة، عاد الحراك الاحتجاجي إلى الظهور في لبنان بأشكالٍ مختلفة. يوضح عماد بزي، المنخرط في النشاط الاحتجاجي منذ التسعينيات، أنّ قوة هذا العمل الاحتجاجي تباينت تبعاً للمرحلة السياسية، ولاسيما في حقبة الوجود السوري ما بعد الحرب وحتى 2005. وهي الحقبة التي اتّسمت بإحكام القبضة الأمنية. ومع ذلك لم يستطع الحراك ترسيخ نفسه مساراً متواصلاً، بحسب بزي. إذ تمكّنت الأحزاب السياسية من تعطيله بين سنتَي 2005 و2011 لعدّة أسباب. فمنذ سنة 2000، طُوّقت تلك الاحتجاجات عبر سيطرة الأحزاب على النقابات العمالية، وفي مقدّمتها الاتحاد العمالي العام. وساهم الانقسام بين قوى "8 آذار" و"14 آذار"، التحالفَين السياسيَّين الرئيسين اللذين تشكّلا بعد 2005، في تحويل معظم التظاهرات الشعبية إلى تحركاتٍ ذات طابعٍ سياسيٍّ بدل أن تكون مطلبية. إذ أدّى الاستقطاب الحادّ والانقسام السياسي بين التحالفين حول قضايا أساس، مثل الوجود السوري واغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري سنة 2005 وتأثير القوى الإقليمية، إلى تراجع الأولويات الاجتماعية لصالح التعبئة السياسية. يُضاف إلى ذلك، تعطيل الانتخابات الطلابية في الجامعة اللبنانية منذ سنة 2008 وحتى اليوم.
ومع تراكم هذه التجارب المتقطعة وصعوبة الحفاظ على زخمٍ احتجاجيٍّ مستمرٍّ، برزت أسئلةٌ جوهريةٌ عن طبيعة التحركات الاحتجاجية وكيفية تنظيمها. وهي أسئلةٌ ظهرت بوضوحٍ أكبر في انتفاضة السابع عشر من أكتوبر.
ومع غياب مشروعٍ سياسيٍّ واضحٍ، برز شعار "كلّن يعني كلّن" ليمنح الانتفاضة هويةً جامعةً رافضةً جميع أحزاب السلطة، على اختلاف مواقعها وتحالفاتها، وفق ما يقول ناشطٌ فاعلٌ في الحركات الاحتجاجية اللبنانية للفراتس مفضلاً عدم ذكر اسمه. ويوضح أنّ هذا الشعار لم يكن وليد لحظته، بل امتداداً لما ظهر في احتجاجات 2015، حين رُفعت صورةٌ تضمّ جميع الأقطاب السياسية وتحميلهم مسؤولية أزمة النفايات. يومها استُبدلت بصورة الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصرالله صورةُ رئيس كتلة الحزب النيابية محمد رعد، وهو ما لم يَرُقْ شريحةً واسعةً من المتظاهرين الذين ردّوا برفع شعار "كلّن يعني كلّن"، في إشارةٍ لشمول المنظومة المسؤولة نصرَ الله.
وفي 2019 أثار إحياء الشعار اعتراضاتٍ من قوىً سياسيةٍ متحالفةٍ مع حزب الله، وأخرى تناصبه الخصومة، لكّنها أيّدت الانتفاضة وسعت إلى استغلالها. إذ رأت أنّ الشعار يساوي بينها وبين غيرها ويحمّلها مسؤولية ما وصلت إليه البلاد أسوةً ببقية الأطراف، وفق الناشط نفسه. كان حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع أحد أبرز هذه الجهات التي اتهمتها شريحةٌ واسعةٌ من المتظاهرين بركوب موجة الانتفاضة، علماً أنها كانت جزءاً أساساً من المشهد السياسي. وقد حصلت أكثر من مرّةٍ احتكاكاتٌ وتضاربٌ بين مناصري جعجع وبعض الناشطين. لكن هذه الاحتكاكات شهدت تصعيداً كبيراً، وكانت المواجهات أكثر حدّةً مع مناصري حزب الله بعد أن حذّر نصر الله من أن إسقاط الحكومة قد يؤدّي إلى الفوضى أو حتى حربٍ أهليةٍ، متحدثاً عن توجهاتٍ خفيّةٍ إقليميةٍ ودولية.
كذلك واجه شعار "كلّن يعني كلّن" انتقاداتٍ داخل بعض الأوساط الناشطة نفسها، التي رأت أنّ التعميم لا يراعي تفاوت أدوار القوى السياسية في منظومة الفساد، وأن وضعها بمستوىً واحدٍ من الإدانة قد يحجب الفوارق في حجم المسؤوليات. وفي خضمّ هذا السجال، برزت إشكالياتٌ أعمق تتصل بقدرة الانتفاضة نفسها على إنتاج إطارٍ سياسيٍّ جامع.
في المقابل يرى محمود فقيه أنّ "الانتفاضة تركت أثراً كبيراً، وخلقت مجمتعاً ينتمي إليها وللمبادئ التي رفعتها". ويشير إلى أنها "عبّرت عن نفسها في صناديق الاقتراع عبر إيصال ثلاثة عشر نائباً من خارج الاصطفافات السياسية التقليدية، بل تمكّنت من هزيمة زعاماتٍ سياسيةٍ تاريخيةٍ في الانتخابات النيابية". وهو الرأي الذي يتبناه كذلك الناشط علي مراد، الذي يرى أنّ الانتفاضة فرضت نفسها لاعباً حقيقياً على الساحة السياسية سنة 2022، ولا تزال شعاراتها تتردد في الحياة السياسية اللبنانية.
وشكّل نجاح ثلاثة عشر نائباً من قوى التغيير في دخول البرلمان مفاجأةً للجميع، إذ لم تكن أكثر التوقعات تفاؤلاً تشير إلى فوزٍ يتجاوز ثلاثة نوّابٍ إلى خمسة. غداة الانتخابات النيابية، ومع بدء ظهور النتائج، كنتُ رفقة أحد الأصدقاء عند المرشح المحسوب على التيار التغييري مارك ضو الذي بدا مذهولاً بما حققه. لم يكتفِ بالفوز بمقعدٍ نيابيٍّ، بل تصدّر أيضاً الأصوات التفضيلية في دائرته الانتخابية متجاوزاً مرشّح الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ومطيحاً بالزعيم الدرزي الآخر طلال أرسلان. والأصوات التفضيلية هي التي يمنحها الناخب لمرشّحٍ محدّدٍ داخل اللائحة نفسها التي ينتخبها.
لم يكن نجاح الانتفاضة في إيصال هذا العدد من النواب إلى البرلمان حدثاً عابراً، بل جاء نتيجة تضافر مجموعةٍ من العوامل. أوّلها، بحسب الناشط الذي فضّل عدم ذكر اسمه، الحالة الاحتجاجية الواسعة التي كانت قد ترسخت بين اللبنانيين، إذ صوّت كثيرٌ من الناخبين لقوائم التغيير بصرف النظر عن أسماء المرشحين. بل إنّ بعضهم كان يسأل عن المرشح الأوفر حظاً لإحداث تغييرٍ، لانتخابه من دون معرفةٍ مسبقةٍ به وبمشروعه. عاملٌ آخر يتحدث عنه عماد بزي، ويتمثّل باعتكاف تيار المستقبل برئاسة سعد الحريري عن العمل السياسي، وهو حزبٌ وازنٌ والأكبر لدى الطائفة السنية. خَلَق ذلك فراغاً سمح لقوى التغيير بملئه واستقطاب شريحةٍ من جمهور التيار. إلى جانب ذلك، ساهمت الحسابات الداخلية بين القوى التقليدية في محاصرة بعضها البعض عبر تمرير جزءٍ من الأصوات لقوى التغيير، بهدف إسقاط خصومها.
لا يلقى أداء هؤلاء النواب رفضاً مطلقاً لدى الناشطين. إذ يرى علي مراد أنّ نواب التغيير قدّموا تجربةً نيابيةً رائدةً تشريعياً ورقابياً، بيد أنّ الظروف السياسية التي شهدتها البلاد — من تعطيل انتخاب رئيسٍ للجمهورية أكثر من عامين ثمّ الحرب الإسرائيلية على لبنان — حدّت من قدرتهم على التأثير.
في نقاشات الفراتس مع عددٍ من هؤلاء النواب في مراحل مختلفةٍ، كرّروا أنهم حصلوا على 13 مقعداً فقط في انتخابات سنة 2022 من أصل 128 مقعداً، ما يعني أن انتفاضة 17 تشرين لم تُحدث انقلاباً شاملاً في موازين السلطة، وعليه لا يمكن محاسبتهم على أساس امتلاكهم زمام الأمور في البلاد.
ومع ذلك يظلّ تقييم مسار هؤلاء النواب مرتبطاً بمدى قدرتهم على مواصلة حمل شعارات انتفاضة 17 تشرين وترجمتها داخل مؤسسات الحكم، وتحويلها إلى مسارٍ سياسيٍّ واضح. فقد بات أداؤهم يُقاس بمدى اقترابه من مطالب الشارع وبقدرته على تجسيدها عملياً، في ظلّ التعقيدات البنيوية للنظام السياسي اللبناني واتساع المسافة بين النواب التغييريين أنفسهم. فيستمرّ النقاش العام حول مستقبل التغيير السياسي في لبنان وإمكانية إعادة تجديد دور القوى المنبثقة من انتفاضة 2019، خصوصاً مع ما يظهر من تغييراتٍ عميقةٍ في المشهد السياسي وتغيّر موازين القوى بين الأحزاب اللبنانية عقب الحرب الإسرائيلية وتراجع نفوذ حزب الله.
هذا التقييم يتقاطع مع ما تقوله نعمت بدر الدين التي ترى أنّ "الخطاب المذهبي والطائفي والتدخلات الخارجية والاحتلال الإسرائيلي والوضعَين الاقتصادي والاجتماعي المترديَين، جميعها عوامل لا تسمح للخطاب المدني العلماني واللاطائفي — الذي حملته الانتفاضة — بأن يبرز. فهذه الظروف تدفع المواطنين للتكتل خلف مرجعياتهم الطائفية". وتُشير إلى أنه "في لبنان، كلما اقترب موعد الانتخابات النيابية يزداد الخطاب الطائفي حدّة. مما ينعكس سلباً على روحية السابع عشر من أكتوبر".
وتتحدّث نعمت بدر الدين عن سببٍ آخر أدّى لإضعاف حالة السابع عشر من أكتوبر يتمثّل بتجربة نواب التغيير. وتوضح: "المواطنون أرادوا رؤيتهم كتلةً واحدةً ذات موقفٍ موحّدٍ، في حين أنهم في الواقع ينتمون إلى أفكارٍ مختلفةٍ، رغم وجود قواسم مشتركة بينهم". وترى أنّ هذه التجربة لم تتمكّن من التعبير عن طموحات المواطنين والشعارات الكبيرة للانتفاضة، وهذا ما انعكس سلباً عليها.
وأسهمت الحرب والضغوطات الإسرائيلية المتواصلة على لبنان في تغيير أولويات المشهد الداخلي. فتراجع الاهتمام بالمطالب الإصلاحية التي شكّلت محور انتفاضة 17 تشرين لصالح تصاعد الصراع السياسي. فقد أصبحت قضايا التوازنات الإقليمية والداخلية، ولاسيما ما يتصل بملف سلاح حزب الله، تتقدّم على المسائل الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت المواطنين إلى الشارع سنة 2019. يرى عماد بزي أن "الدافع الأساس لمشاركة المواطنين في انتفاضة 2019 كان اقتصادياً، في حين أن النخب هي التي أدركت الترابط بين السياسة والاقتصاد وسعت إلى تكريسه عبر الاعتراض على السياسات التي اعتمدتها قوى السلطة". ويضيف أنه في ضوء تراجع الأولويات المعيشية لصالح الاصطفافات السياسية، وانقسام الناشطين ونواب التغيير حول مقاربة ملف السلاح، باتت قوى السابع عشر من أكتوبر أقلّ قدرةً على صياغة رؤيةٍ موحّدةٍ تعيد تفعيل حضورها في الحياة العامة.
ويقول بزي: "أنا اليوم مغترب في جورجيا، والسبب في ذلك أنني خسرت على أكثر من صعيد. أولاً خسرت مدّخراتي مثل باقي اللبنانيين، وثانياً خسرت معنوياً بسبب حملات التشويه التي طالتني بعدما سعت أحزابٌ سياسيةٌ لترسيخ فكرة أنني عميلٌ لسفاراتٍ أجنبيةٍ بهدف ضرب الاحتجاجات". ويؤكد أنّ المشروع السياسي الذي يحلم به لم يُهزم، لأنه لم ينطلق بعد، موضحاً: "هذا المشروع السياسي الاعتراضي الذي يمثلني ظهرت بوادره في انتفاضة 17 تشرين من خلال الخطاب السياسي العلماني الجامع، ولكنه لم يأخذ شكله النهائي بعد".
مرّت كثيرٌ من الأحداث منذ ذلك اليوم. ويرى علي مراد أن "طبيعة الصراع السياسي في البلاد حالياً مختلفة، والتحدي الأساس أمام قوى السابع عشر من أكتوبر يكمن في قدرتها على الربط بين النضال من أجل سيادة البلد بمفهومها الواسع، الذي يشمل السيادة الأمنية وكذلك السيادة الاجتماعية والاقتصادية، والنضال من أجل الإصلاح والمحاسبة". هذه الأطروحات المتقدّمة من بعض ناشطي تلك الانتفاضة ستواجه استحقاقها الأهم في الانتخابات البرلمانية المقبلة المقرَّرة في مايو 2026، لقياس مدى توسّع الحالة التغييرية أو تراجعها شعبياً.

