الغزّيون في مسقط.. هجرة اضطرارية بلا أفق بعد السابع من أكتوبر

بعد الحرب الإسرائيلية على غزّة وصل كثيرٌ من الغزّيين إلى مسقط عبر "إقامة المستثمر"، بحثاً عن ممرٍّ مفتوحٍ إلى العالم. وهم يعيشون اليوم بين انتظار التأشيرات وترحيب العُمانيين وانسداد المنافذ

Share
الغزّيون في مسقط.. هجرة اضطرارية بلا أفق بعد السابع من أكتوبر
تتجمّع في مسقط قصص الغزّيين كأنها مدينةٌ مؤقتةٌ داخل مدينة | تصميم خاص بالفراتس

تعيش أم كريم نازحةً في خيمةٍ في منطقة المواصي جنوب قطاع غزة بينما يمكث زوجها أبو كريم في فندقٍ في العاصمة العمانية مسقط، منتظراً صدور تأشيرة دخول له إلى تركيا. أبو كريم واحدٌ من غزّيين كثرٍ كانوا عالقين في مصر بعد اندلاع الحرب في أكتوبر 2023 وانتهى به المطاف في عُمان بعد محاولاتٍ شتّى للعثور على طريقٍ مفتوحٍ إلى العالم.
الغزّيون الذين دخلوا مصر بعد اندلاع الحرب لم يحصلوا على الإقامة المصرية، إلّا من استطاع منهم فتح مشروعٍ تجاريٍ كبير. لقد عاشوا في مصر حياةً يطبعها انعدام الأفق، فلا يستطيعون الدراسة أو العمل قانونياً، ولا يُسمح لهم بامتلاك حساباتٍ مصرفيةٍ ولا بتلقّي العلاج في المشافي والعيادات الحكومية. وجودهم هشٌّ ومؤقّتٌ، فهم مهدَّدون دوماً بالترحيل عند أول تفتيشٍ أو مراجعةٍ رسمية. إنهم في منفىً مزدوجٍ، بعيدون عن قرع القنابل في غزة، لكنهم محاصَرون في مصر بقوة القانون. يعيشون في ظلّ ظروفٍ اقتصاديةٍ متباينةٍ، على موارد قليلةٍ تنفَد مع كلّ يومٍ جديدٍ، فينتظر بعضهم تحويلاتٍ من أقارب في الخارج، فيما تتقلّص فرص العودة أو السفر إلى بلدٍ ثالث.
بدت عُمان الممرّ الوحيد الممكن للغزّيين، عبر نوعٍ خاصٍّ من التأشيرات المخصّصة للأجانب المستثمرين، وهي الفرصة التي اغتنمها من استطاع إليها سبيلاً. غير أن دوافع اللجوء إلى هذا الخيار لم تكن واحدة. فبعضهم وصل بعد الترحيل القسري من دولٍ أخرى، فيما جاء آخرون بإرادتهم لأسبابٍ اجتماعيةٍ أو اقتصاديةٍ، أملاً في بدايةٍ جديدةٍ أو في لقاءٍ عائليٍّ لمّ شمله الشتات. ومع ذلك، بدا أن غالبية الغزيين في عُمان يرون في هذه الإقامة محطةَ عبورٍ مؤقتةً، إذ يتاح للحاصلين على إقامة مستثمرٍ في سلطنة عُمان – بعد مرور نحو ستة أشهرٍ – التقدّمَ بطلب تأشيرةٍ لإسبانيا أو تركيا ووجهاتٍ أخرى تتغيّر مع الوقت، قبل أن تغلق هذه المسارات تباعاً. وفي غضون ذلك، أخذ يتشكّل في مسقط مجتمعٌ صغيرٌ من الغزّيين، يجمع بينهم الشعور بالانتظار والبحث عن مخرجٍ جديد.


إثر الحرب على غزّة بعد السابع من أكتوبر سنة 2023، دخل آلاف الغزّيين إلى مصر من غزة عبر ما يُعرف بِاسم "التنسيقات"، في ظروفٍ شديدة القسوة. وفيما عدا من حملوا تحويلاتٍ طبيةً للعلاج بالمستشفيات المصرية، كان التنسيق هو الطريقة الوحيدة لعبور الغالبية من معبر رفح، إذ كان كل شخصٍ يدفع مبالغ باهظةً مقابل إدراج اسمه في القوائم التي تسمح له بالمرور.
نسّقت شركة "هلا" للاستشارات والسياحة التابعة لرجل الأعمال المصري إبراهيم العرجاني هذه القوائم، وتقاضت مبالغ تبدأ من خمسة آلاف دولارٍ أمريكيٍ للشخص الواحد البالغ. وحسب تحقيقٍ استقصائيٍ لصحيفة التايمز البريطانية في أبريل 2024، فقد تقاضت الشركة حتى وقت نشر تحقيق الصحيفة ما مجموعه ثمانيةٌ وثمانون مليون دولارٍ من رسومٍ فرضتها على الغزّيين لقاء خروجهم إلى مصر.
غير أن الوصول لمصر لم يكن نهاية المعاناة، فقد وجد كثيرٌ من هؤلاء الغزّيين أنفسهم بلا إقامةٍ ولا عملٍ، ولا إمكانيةٍ قانونيةٍ للبقاء أو الحركة. فالإقامات لا تُمنح إلّا لمن يملك المال لفتح مشروعٍ أو تسجيل استثمارٍ كبيرٍ، وهم قلّةٌ نادرة. أمّا الغالبية فظلّوا يعيشون بلا هويةٍ ولا أوراقٍ رسميةٍ، مُعرَضين للمساءلة في أيّة لحظة، مكبلين بعجزٍ قانونيٍ وماليٍ. ويصف حسن الذي دخل مصر بالتنسيق في أبريل 2024 ووصل عُمان في أكتوبر من ذات العام، وضعه قائلاً: "نعيش في القاهرة كأننا شفّافون، لا أحد يرانا ولا مستقبل لنا".
ومثل حسن يحكي طارق أنّه بعد أسابيع من وصوله إلى مصر أدرك أنّ الحياة هناك مستحيلةٌ، "كنتُ أعُدّ الأيام. كلّ يومٍ يمرّ يعني صرفاً من المدّخرات بلا مردود. كلّ معاملةٍ تحتاج إقامة. وكلّ إقامةٍ تحتاج مشروعاً بعشرات الآلاف. حتى كرت [بطاقة] الإقامة المؤقّتة كان حلماً". أمّا أنس الذي دخل مصر بداية مايو 2024، أي قبل أيامٍ من احتلال إسرائيل محور فيلادلفيا بين مصر وغزة وإغلاق المعبر، فيستعيد لحظة إدراكه أنّ القاهرة ليست محطة استقرارٍ بل انتظارٍ طويل، "كأنك تنتظر شيئاً لن يأتي. ولا شيء يبشّر بتغيّر الحال".
هكذا عاش الغزيون شهوراً بين الإحباط والانتظار في مصر، يُنفقون ما تبقّى من أموالهم على السكن والمعيشة والرسوم المتكرّرة، دون أن تلوح أيّ إمكانيةٍ لتصحيح أوضاعهم القانونية. كان البقاء في مصر يعني الاستنزاف البطيء، لاجئين داخل بلدٍ لا يعترف بلجوئهم ولا يمنحهم الحقوق المرتبطة باللجوء. لكن عدد الدول التي تسمح للفلسطينيين بالدخول محدودٌ جداً، وغالباً ما يكون السماح بدخولهم مشروطاً.
في هذا السياق يُذكِّر عبد الهادي العجلة في دراسته المعنونة "غزاوي أز بير لايف [. . .]" (حياة الغزاوي المجرّدة [. . .]) المنشورة سنة 2019، بأن تجارب سفر الغزّيين كانت دوماً صعبة. ويتناول في الدراسة سرد سفر الغزّيين في ظلّ الاحتلال والمطارات والمعابر الحدودية، فيما أسماه "التأشيرات والعنف الحدودي"، والحالة الاستثنائية للعيش فلسطينياً من خلال عمليات "التنميط المنهجي" للفلسطينيين على حدود الدول العربية خصوصاً. وهي ممارسةٌ تجريها السلطات أو الأجهزة الأمنية حين تستجوب أو تراقب فئةً معيّنةً من الناس بسبب أصلهم أو جنسيتهم أو معتقدهم أو موقفهم السياسي، وليس بناءً على سلوكٍ فرديٍ فعلي. ويرى العجلة أن استجواب جميع الغزّيين أو الفلسطينيين في دولةٍ معيّنةٍ بعد الحرب هو ضربٌ من "التصنيف المنهجي". وكذا ينطبق الأمر على تحمّلهم مشاقّ السفر وإجراءاتٍ قلّما يعيشها مسافرون من جنسياتٍ أخرى.
يقول عبد الهادي العجلة للفِراتْس إن تعامل السلطات المصرية في معابرها مع الفلسطينيين، والغزّيين خاصةً، مرتبطٌ بما سُمِّيَ "اعتبارات الأمن القومي". ويشرح: "يبدو أن القاهرة تنظر للغزّيين من منظورٍ أمنيٍ، وليس بالذات إنسانيٍ أو بدافع الجوار. فالغزّيون لربما ملحقٌ من ملاحق الأمن القومي المصري". ويسمّيها "الأَمْنَنة في التعامل"، ويضيف لها عامل "التسليع"، ويقصد به رسوم "التنسيقات" والغرامات التي تفرض على الغزّيين ويستفيد منها متنفذون في السلطة أو مقرّبون منها.
تحدثت مريم للفِراتْس عن تجربة خروجها من مطار القاهرة في 15 يوليو 2025 متجهةً إلى عُمان والصعوبات التي عايشَتْها. كانت مريم قد دخلَت مصر في بداية مارس 2024 بعد أن دفعت خمسة آلاف دولار. تقول: "كنت أشتري سجائر لزوجي قبل مغادرة مصر لأن الأسعار في مسقط مرتفعة. فوصلتُ المطار متأخرةً، لأكتشف أنني في الصالة الخطأ. كانت تلك أوّل مرّةٍ أسافر فيها وحدي. شعرتُ بعنف التجربة كلّها: ختم الجواز، وزن الحقائب، الانتقال بين الصالات".
أخبرتنا أن عامل المطار ساعدها مقابل وعدٍ مبطَّنٍ، "مش هتقصّري معايا وأنا هقف معاكي"، مضيفةً أنه صوّر لها الوصول إلى الصالة الصحيحة والتي لم تكن سوى على بعد خطواتٍ قليلةٍ، كأنه إنجازٌ بطولي. تقول مريم: "أنهينا الوزن. أخذ نصيبَه ورحل [تقصد عامل المطار]. ثم جاء عاملٌ آخَر ليساعدني في تجاوز الوزن الزائد الذي كان سيكلّفني مئة دولارٍ تقريباً. غُرّمتُ عند الجمارك غرامةَ تجاوزِ مدّة الإقامة القانونية في مصر، وهي أربعون يوماً. دفعتُ من قبلُ خمسة آلاف دولارٍ للخروج من غزة، والآن عليّ أن أدفع ثانيةً لأغادر مصر. احتسبَ الموظف المدّة وطلب منّي أربعة آلافٍ وخمسمئة جنيه".
دخلت مريم مصر، مثل الغالبية الساحقة من "المنسّقين" بإقامةٍ سياحيةٍ مدّتها أربعون يوماً، فيما بَقِيَت في البلاد ما يقارب عاماً ونصف عام. تقول إن تجديد الإقامة لم يكن متاحاً، "السلطات المصرية حسب ما عهدت لا تعطي الإقامة للغزّيين العالقين إلّا مقابل استثماراتٍ بمبالغ كبيرةٍ، أو في حالة الدراسة بالجامعات المصرية".
وعن وصولها إلى مسقط تقول: "عندما وقفتُ في طابور الجوازات كنت في غاية التوتر. هنالك دائماً مشكلةٌ عندما يتعلّق الأمر بدخول الغزّيين لأيّ مكان. ومع أنّني أسافر للمرّة الأولى، إلّا أنّ تجارب أقربائي كافيةٌ لمعرفة ما يحدث. تذكّرتُ صديقةً فلسطينيةً من مخيّمات لبنان تحمل وثيقة سفرٍ لبنانيةً، لكن جنسيتها فلسطينية. أُخرِجَتْ هنا في مطار مسقط من المسار لدراسة حالتها. كان لديَّ فكرةٌ واضحةٌ عن جهل العرب بالتفاصيل التي تتعلّق بحياة الفلسطينيين وهويّاتهم".


كانت مريم واحدةً من مئات الغزّيين الذين وصلوا إلى السلطنة. وفيما كان هدفُها الأساس لمَّ شملِها بزوجها ومِن ثمّ انتظار تأشيرةٍ إلى تركيا، اختلف القادمون من غزة إلى عُمان في نظرتهم إلى مسقط وهدفهم لبلوغها. منهم من رآها محطة عبورٍ مؤقتةً إلى وجهةٍ أخرى مثل تركيا أو أوروبا، فيما قرّر آخرون الاستقرار فعلاً في السلطنة ومحاولة بدء حياةٍ جديدةٍ فيها. بدأ كثيرون من الفئة الثانية بفتح مشاريع تجاريةٍ صغيرةٍ، تتركّز معظمها في نشاط الاستيراد، خاصةً في قطاعاتٍ مثل الخضار والفواكه والأدوات المنزلية، لأنها تتطلّب رأسَ مالٍ متوسّطاً وسوقاً دائماً للحركة اليومية.
وعلى عكس من أقاموا في عُمان منتظرين تأشيرةً لدولةٍ ثالثةٍ، سلك آخَرون طريقاً في الاتجاه المعاكس. قَدِم بعض الغزّيين إلى عُمان من تركيا مثلاً لأسبابٍ مختلفةٍ، مدفوعين بظروفٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ متباينة. وجد فادي نفسه مضطراً للمغادرة بعد أن الْتَهَم التضخّم وارتفاع الأسعار قدرتَه على العيش في إسطنبول. فحتى وهو يسكن بعيداً عن المناطق السياحية كانت تكلفة الحياة هناك أعلى بكثيرٍ من مسقط، وهو ما فاجأه. كان يتصوّر أن المدينة الخليجية أغلى بطبيعتها، لكن واقع الإيجارات والخدمات أثبت العكس.
أمّا قصي (اسم مستعار)، الذي كان مقيماً في إسطنبول سنواتٍ قبل الحرب، فاختار المغادرة بدافعٍ عائلي. أراد الالتحاق بأخويه المقيمَيْن في عُمان بعد إصابة أحدهما في الحرب. وقد دخل المصاب مصر بتنسيقٍ طبّيٍ رفقةَ أخيه مساعداً له، بعد مقتل شقيقتهما في غزّة في بداية الحرب. بحث قصي عن مكانٍ يضمّ ما تبقّى من العائلة، فوجد في مسقط مساحةً لِلَمّ الشمل أكثر منها محطة عبورٍ أو وجهة استقرارٍ اقتصادي.
اختلفت دوافع وصول فارس (اسم مستعار) إلى عُمان عن غيره. إذ لم يأتِها من مصر أو تركيا، بل من أبوظبي. فبعد أيامٍ قليلةٍ من عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023، استدعته السلطات الإماراتية دون إنذارٍ أو مسوّغاتٍ واضحة. كان فارس يعمل مصفّف شعرٍ في أبوظبي منذ سنة 2019 حيث يعيش حياةً مستقرة. لكنه فوجئ أثناء التحقيق بأسئلةٍ تدور حول موقفه من حركة حماس، بل وحتى عن احتمال تواصله معها أو نقله معلوماتٍ عمّا يحدث في غزة. بعد ذلك، مُنح مع أكثر من ثلاثين شاباً غزّياً يعرفهم شخصياً مهلةً قصيرةً لمغادرة الدولة. يروي فارس أن حملة الترحيل شملت أولئك الذين يملكون شركاتٍ تجاريةً فاعلةً، ولم يُستثنَ أحدٌ منهم ما داموا من أبناء غزة.
كان من بين أسباب قدوم بعض الفلسطينيين إلى عُمان أيضاً تلقّي التعليم لأبنائهم وإمكانية إلحاقهم بالمدارس النظامية الحكومية التي لا تتجاوز رسومها خمسين ريالاً عُمانياً في السنة، أي ما يعادل نحو مئةٍ وثلاثين دولاراً أمريكياً. يقول الكاتب محمود جودة، ابنُ مدينة غزة الذي خرج لمصر في مارس 2024، إن تكاليف التعليم الخاص في مصر كانت منهِكةً إلى حدٍّ لا يطاق، وإن وجوده في عُمان كان خياراً حتمياً من أجل مستقبل أطفاله. ومع ذلك، وبعد حصوله على دعوة من "مهرجان فينيسيا السينمائي" في إيطاليا لحضور عرض فيلمه، سافر إلى بلجيكا طالباً اللجوء هناك.
وبموجب القوانين، فإن تأشيرته العُمانية تلغى تلقائياً بعد تجاوزه مئةً وثمانين يوماً خارج البلاد، أي بعد ستة أشهر. وهو ما يلغي بالتبعية تأشيرات من التحق به من أفراد عائلته، ما يعني أن أبناءه سيواجهون مجدداً مأزق فقدان حقّهم في التعليم النظامي الذي حظوا به أخيراً في عُمان.
وكان جودة قد غادر من مصر إلى جنوب أفريقيا في سبتمبر 2024، ومن ثمّ انتقل إلى عُمان في أواخر أبريل 2025، قبل أن يتوجّه لإيطاليا بداية سبتمبر من العام نفسه.
تُمثّل حالة أبو نبيل مثالاً آخَر على اختلاف دوافع القدوم إلى عُمان. فقد وصل في بداية يوليو 2025 بعد أن رُحِّل من مصر بسبب مخالفة سَيْر. أثناء عودته بسيارته إلى منزله المستأجَر في الزمالك، دخل في الاتجاه المعاكس، لتوقِفَه الشرطة وينتهي به الأمر مسجوناً مدّة أربعة عشر يوماً. كان أبو نبيل قد حصل سابقاً على "إقامة المستثمر" في عُمان وعاد بعدها إلى مصر في مايو 2025.
وبما أن غزة في حالة حربٍ ومعبر رفح مغلق، سئل عمّا إذا كان يملك إقامةً في بلدٍ آخَر وإلّا رحّلوه إلى ماليزيا، فاختار عُمان لأنها الوجهة الوحيدة التي يمكنه دخولها قانونياً. عند وصوله إلى مسقط انضم إلى مجموعةٍ من الشباب الغزّيين الذين سبقوه إلى السلطنة، وقدّم معهم طلباً للحصول على تأشيرة إلى تركيا، غير أنه لم يتلقَّ أيّ ردٍّ حتى حين نشر هذا التقرير.
لم يكن هدفه الهجرة إلى أوروبا، بل إيجاد مكانٍ يستطيع من خلاله إحضار عائلته والاستقرار. وبعد شهرٍ من وصوله، أحضر أسرته إلى عُمان لتقديم طلب التأشيرة، لكنه اضطر بعد فترةٍ وجيزةٍ إلى إعادتهم إلى مصر بسبب التكاليف الباهظة التي تكبّدها من تذاكر سفرٍ وإيجار منزلٍ مستقلٍّ، بعدما كان يتقاسم الإيجار مع شبّانٍ آخَرين. ومع كلّ تلك الأعباء، لا يزال أبو نبيل ينتظر ردّ السفارة التركية على أمل أن يجد منفذاً جديداً يتيح له الاستقرار أخيراً.


كان أبو كريم أيضاً واحداً من الغزّيين المقيمين في مصر الذين تقدّموا بطلبٍ إلى السلطات العُمانية للحصول على "تأشيرة المستثمر" التي لا تتجاوز رسومها الرسمية ثلاثمئة ريالٍ عُمانيٍ (حوالي سبعمئةٍ وثمانين دولاراً)، لكنه دفع ثلاثة آلاف دولار.
لم يكن هذا المبلغ ثابتاً، بل تغيّر من حالةٍ لأخرى حسب المقاول الذي يتولّى الإجراءات، وحسب مدّة الإقامة المطلوبة، وهي متاحةٌ بخيارين: سنةٌ واحدةٌ أو سَنَتان. بعضهم دفع أكثر، وبعضهم أقلّ، وكلّ شيءٍ كان خاضعاً للوساطة والاتفاق الشخصي. وهكذا تحوّلت تأشيرة الاستثمار إلى باب غير رسمي للهجرة يدفع فيه الغزّيون مبالغ متفاوتةً مقابل وثيقةٍ تمنحهم حقّ البقاء المؤقّت في بلدٍ يمكنهم السفر منه لاحقاً.
بدأ الفلسطينيون باستخدام بطاقة "إقامة المستثمر" منفذاً قانونياً للوصول إلى عُمان بعد انسداد معظم الطرق الأخرى أمامهم. هذه البطاقة ليست برنامج لجوءٍ أو إقامةٍ إنسانيةٍ، بل جزء من برنامج الإقامة للمستثمرين الذي أعلنت عنه وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار العُمانية في أكتوبر سنة 2021، ضمن خطةٍ لجذب الاستثمارات النوعية ودعم الاقتصاد الوطني. الإجراء يبدأ عبر منصة "استثمر بسهولة"، وهي البوابة الإلكترونية الرسمية لوزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، التي تتيح تأسيس الشركات واختيار النشاط التجاري وتسجيل الاسم وسداد الرسوم كاملةً عن بُعد.
يمنح البرنامج الأجانبَ إقامةً طويلة الأمد تتراوح بين سنةٍ وخمس سنواتٍ قابلةٍ للتجديد بحسب حجم الاستثمار وطبيعته. ويُشترط على المتقدّم أن يؤسّس مشروعاً قائماً في السلطنة وأن يثبت استمراريته طوال مدّة الإقامة. كذلك يُلزَم أصحاب هذه الإقامات بتقديم خطة عملٍ واضحةٍ، وتوظيف مواطنين عُمانيين ضمن مؤسساتهم، والالتزام بالقوانين التجارية والضريبية والبيئية.
تحوّلت البطاقة في حالة الغزّيين من أداةٍ اقتصاديةٍ إلى وسيلة عبورٍ إنسانيةٍ مقنّعةٍ. واستُخدِمَتْ خارج إطارها الرسمي عبر مكاتب وسماسرةٍ استغلّوا ثغرات النظام. فكانت الأوراق المطلوبة في حالاتٍ كثيرةٍ لا تتجاوز صورة جواز السفر وصورةً شخصيةً والمبلغ الماليّ المتّفق عليه، في حين تُنشأ شركاتٌ "شكلية" بأسماء المتقدّمين دون وجود نشاطٍ استثماريٍ حقيقي.
يعلّق أنس على ذلك قائلاً إن "إقامة المستثمر كانت مجرد تذكرة عبور. لا أحد فينا كان ينوي فتح مشروعٍ حقيقي. كلّ ما أردناه هو ورقةٌ تتيح لنا البقاء والتحرك". على حين يرى طارق ، الذي خرج من غزة في أبريل 2024، أن "البرنامج لم يكن موجّهاً لنا أصلاً. نحن استخدمناه لأن لا خيار آخَر أمامنا. لو لم تكن هذه الإقامة موجودةً لكُنّا ما زلنا عالقين في مصر بلا هويةٍ ولا مستقبل".
تولّى مساعدة الغزّيين للوصول إلى مسقط شبكةٌ من السماسرة الفلسطينيين المقيمين في عُمان أو الذين غادروها لاحقاً إلى أماكن أخرى مثل تركيا أو أوروبا، مستفيدين من معرفتهم السابقة بآليّة عمل مكاتب "سند"، وهي مكاتب تجاريةٌ تعمل على تخليص المتطلبات الحكومية في مختلف القطاعات. أعلن هؤلاء السماسرة عن أنفسهم على منصّات التواصل الاجتماعي وأبرزها تيك توك، متولّين عملية التنسيق والتحويل المالي مقابل مبالغ تتراوح بين ألفٍ وثلاثمئة دولار وخمسة آلاف دولار بحسب نوع الإقامة ومدّتها. أحد السماسرة الذين تحدّثنا معهم أوضح أن حصته لم تتجاوز 10 بالمئة من المبلغ الكلّي، مشيراً إلى أن الباقي يذهب إلى مكاتب "سند" في مسقط التي تتولّى إنجاز المعاملة فعلياً. وعند سؤاله عن عدد الذين توسّط لهم، قال إنهم في حدود ثمانمئة شخص.
يستخدم هذا السمسار عملة "يو إس دي تي"، وهي عملةٌ رقميةٌ مستقرةٌ لأنها تتيح له استلام الأموال بسرعةٍ ومن دون المرور بالمصارف أو القيود الرسمية، خاصةً في التحويلات بين دولٍ مثل مصر وعُمان. هذه العملة الرقمية تعادل الدولار الأمريكي وتُحوَّل فورياً بين المَحافظ الإلكترونية، مما يمكّنه من تجنّب التتبع والرسوم المصرفية مع الحفاظ على قيمة المبلغ ثابتةً طوال العملية. وغالباً ما يفضّل السماسرة هذا النوعَ من التحويلات لأنهم يعملون في منطقةٍ رماديةٍ في نظر القانون. فلا هم مصارف رسميةٌ ولا شركاتٌ مرخّصةٌ، بل وسطاءٌ يبيعون خدمةً غير معترفٍ بها رسمياً تشمل تسهيل استخراج التأشيرات أو الإقامة مقابل مبالغ غير محددةٍ في القانون.
ويبدو أن هذه الممارسات دفعت السلطات العُمانية إلى تشديد الإجراءات وطلب مستنداتٍ إضافيةٍ من المتقدّمين الفلسطينيين للتحقّق من جدّية هذه الطلبات. وبحسب أحد مكاتب "سند" التي تحدّثنا معها، فإن السلطات بدأت تطلب "في الأشهر الأخيرة"، حسب تعبيرهم ومن غير تحديد الوقت بالضبط، أوراقاً إضافيةً من المتقدّمين الفلسطينيين. فبعد تزايد أعداد هؤلاء، يُخشى أن يكون قدوم بعضهم صورياً دون تفعيلٍ حقيقيٍ للسجلات التجارية أو أيّ نشاطٍ استثماريٍ حقيقي.
رفضت المكاتب مشاركتنا أيّ وثائق تثبت هذه الطلبات أو توضح كيفية تعاملها معها، ما يثير تساؤلاتٍ إن كانت هذه الأوراق قد زُوّرت أو الْتُفَّ عليها، أم أنها لم تُطلب أصلاً. بدأنا معاملةً جديدةً مع أحد مكاتب "سند" لاستخراج إقامة مستثمرٍ لفلسطيني. وأكّد لنا أحدهم أن التأشيرة أصبحت ممنوعةً على كلٍّ من السوريين والفلسطينيين والسودانيين، ما يشير إلى أن المسار الذي استُخدم سابقاً ربما أُغلق.
يُلمّ الشمل سريعاً لعائلات المستثمرين. تقول مريم: "قبل أيامي الأخيرة في القاهرة [بداية يوليو 2025]، طلب منّي زوجي صورةً شخصيةً وصورةً عن وثيقة الزواج ليقدّم معاملة لمّ الشمل. لم تستغرق الإجراءات أكثر من أسبوعٍ، ثمّ حصلتُ على التأشيرة ووصلت ليلاً إلى الفندق الذي حجزه طارق مؤقتاً. لم يستأجر شقّةً لأنه كان يعتقد أننا سنمكث عشرين يوماً فقط ريثما تصدر تأشيرة تركيا ونبدأ رحلةً أخرى". تضيف مريم أنهما في اليوم التالي بعد وصولها لمسقط، أي في 16 يوليو، ذهبت مع زوجها إلى المكتب المكلّف بإصدار الإقامة لاستكمال إجراءات إقامتها في عمان. بعد ساعةٍ ونصفٍ كانت الإقامة جاهزةً، صالحةً لمدّة عامَيْن.
غداة استكمال الإقامة قَصَدَت مريم وزوجها السفارةَ التركيةَ لتقديم طلب تأشيرةٍ سياحية. توضح: "كانت القاعة ممتلئةً بالفلسطينيين، شباباً وعائلاتٍ، كلٌّ منهم يحمل ملفّه وأوراقه. طلبوا منا تعبئة استمارةٍ قبل الدخول. حين جاء دورنا، قدّمنا الأوراق والبيانات المصرفية وأخذوا بصماتنا ودفعنا المبلغ نقداً". أخبرتنا أن موظف السفارة سألهم إن كانا يريدان الخدمة العادية أم المميزة، فاختارا العادية. تقول مريم: "التجارب السابقة لأصدقاء زوجي لم تتجاوز العشرين يوماً في الانتظار، والفارق في السعر بسيط". تضيف مريم: "بعد أيام، أعلنت السلطات العُمانية إلغاء إقامة المستثمر للفلسطينيين وإغلاق هذا المسار نهائياً، وفي الوقت نفسه رفضت السفارة التركية فيزا ثمانية عشر شاباً فلسطينياً يعرفهم زوجي. ومع ذلك، تمسّكنا بالأمل، لأن رفض العائلات أقل احتمالًا من رفض الأفراد".
تردف مريم بشيءٍ من المرارة: "مرّ الآن ما يقارب ثلاثة أشهرٍ ونحن ننتظر الردّ الذي لم يصل بعد. وأصدرت السفارة التركية بعد فترةٍ قصيرةٍ قراراً جديداً: يُمنع الفلسطينيون من التقدّم بطلب الفيزا التركية إذا لم يمضِ على إقامتهم في عُمان سنةٌ كاملةٌ، لكنه لم ينشر رسمياً، وحصلنا عليه من موظفي السفارة أنفسهم".


حسب ما أعلمتنا السفارة الفلسطينية في مسقط، يُقدَّر عدد الغزّيين في مسقط قبل الحرب بنحو ألفي مقيم. لكن بعد الحرب وفتح الإقامة المرتبطة بالاستثمار ارتفع العدد إلى حوالي سبعة آلاف مقيم. غير أن نسبة من يُفعّلون سجلاتهم التجارية لا يتجاوز 15 بالمئة.
ساهم وجود هذا العدد في تداخلٍ محدودٍ بين العُمانيين والفلسطينيين. عبّر بعض من قابلناهم عن عدم وجود علاقةٍ مباشرةٍ بالعُمانيين خارج التعاملات الرسمية التي وصفوها بالممتازة والسريعة. وأشاروا إلى أن العُمانيين هادئون ويتميّزون بحسن السلوك. يقول طارق : "الشعب العُماني طيّب جداً، وكلّ إللي شفناهم مهذبين".
عبّرت مجموعةٌ أخرى عن مواقف تتناول جوانب عديدةً أخرى، منها الاقتصادي والسياسي. واجه الفلسطينيون تحدّياتٍ تتعلّق بطبيعة السوق العُماني وطريقة التوغل به والتعامل معه، وهو سوقٌ صغيرٌ نسبياً. محمد، الذي وصل عُمان في أبريل 2024، كان أحد الذين قابلناهم وتحدّثوا لنا عن الصعوبات التي واجهوها في هذه التجربة. قال إن أبرز ما اصطدم به هو مجهولية السوق العُماني عند القادمين الجدد، وغياب فهمٍ دقيقٍ لآليّات النجاح فيه، من تسعيرٍ وتوزيعٍ وعلاقاتٍ مع التجار المحليين.
بعد أربعة أشهرٍ من العمل في استيراد الخضار من مصر، قرّر محمد التوقّف عن هذا النشاط بعدما وجد أن المخاطرة عاليةٌ، خاصةً في مسألة تجميع الأموال من التجار الذين يشترون البضاعة بالتقسيط أو الوعود، وهو ما كبّده خسائر متكرّرة. لاحقاً، اتجه إلى فتح محلٍّ صغيرٍ للمثلّجات، فهو مشروعٌ أبسط وأقلّ مخاطرةً، ويتيح له البقاء في عُمان ضمن حدود إمكانياته، وبتعاملٍ مباشرٍ مع الناس بعيداً عن تعقيدات السوق الكبيرة. كان هذا محمد الذي عمل في شركة أدويةٍ داخل قطاع غزة بعد تخرّجه من كلية الصيدلة بفرع جامعة الأزهر فيه.
الغزّيون في مسقط ممّن لم يتمكنوا من فتح مشاريع تجاريةٍ تجلّت صعوباتهم في محدودية القدرة على العيش في العاصمة. إذ يُقدَّر متوسط الصرف للعازب بحسب الذين قابلناهم بين ثلاثمئةٍ وأربعمئة ريالٍ عُمانيٍ، أي ما بين ثمانمئةٍ وألف دولارٍ أمريكيٍ شهرياً. أمّا مصروفات الأسر الصغيرة فإنها تتراوح بين خمسمئةٍ وسبعمئة ريالٍ، أي ما بين ألفٍ وثلاثمةٍ إلى ألفٍ وتسعمئة دولار.
جديرٌ بالذكر أن الغزّيين القادمين إلى مسقط يُصنَّفون عادةً في الطبقة المتوسطة العليا وما أعلاها، ما مكّنهم من مغادرة معبر رفح بآلاف الدولارات ثم العيش في مصر مدّةً تتجاوز العام الواحد. يقول الكاتب محمود جودة: "إللي راحوا مسقط أغنياء". حاول بعضهم الحصول على عملٍ، لكن القانون العُماني يمنع توظيف من يحملون "إقامة المستثمر"، فلجأ بعضهم للتوظيف دون التسجيل رسمياً في النظام الحكومي، إلّا أن هذا تَرافَق مع ما أسماه أبو جودة "استغلالاً للأفراد". فزوجته التي تحمل شهادة دكتوراه في إدارة الأعمال، وخبرةَ خمسة عشر عاماً، تلقّت عرضاً بـمئتين وخمسين ريالاً عُمانياً، أي ما يقارب ستمئةٍ وخمسين دولاراً أمريكياً. لكن محمود يُعقّب بأن هذه الحالة ليست استثنائيةً، ففي كلّ مكانٍ تقريباً يتعرّض الفلسطيني للمأزق نفسه.
وبالنظر للاقتصاد ولكن من زاوية السياسة، يقول فارس، ويعمل الآن مصففاً للشعر في مسقط كما كان في الإمارات، إن أكثر ما فاجأه بعد السابع من أكتوبر 2023 هو حجم تفاعل العُمانيين مع ما يجري في غزة. فقد لمس أن المقاطعة الاقتصادية هناك ليست مجرد موقفٍ عاطفيٍ، بل ممارسةً يوميةً راسخةً، من المَحالّ الصغيرة إلى الجامعات، وأن الحديث عن فلسطين أصبح جزءاً من إيقاع الحياة اليومية.
يروي أنس تجربةً أكثر حميميةً لهذا التضامن، إذ استضافه أحد العُمانيين في منزله أحد عشر شهراً من دون أن يتقاضى أيّ إيجارٍ، قائلاً له منذ اليوم الأول: "إحنا واقفين معكم، لا تشيل همّ".
تعبّر هذه المظاهر، كما يلاحظ الباحث سعيد سلطان الهاشمي في دراسته "فلسطين والعُمانيون بين النكبة والطوفان [. . .]" في مجلة الدراسات الفلسطينية، خريف 2025، عن تجدّد الحسّ الجمعي بالتضامن داخل المجتمع العُماني.
يوضح الهاشمي أن السلطان قابوس استقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أكتوبر سنة 2018. وبعد وفاته سنة 2020 كان الاعتقاد أن خليفته السلطان هيثم سيواصل التقارب مع تل أبيب. وبهذا روّجت وسائل إعلامٍ صهيونيةٌ بأن عُمان ستكون في مقدمة الدول التي تنضمّ إلى "اتفاقيات إبراهام" التي وقعتها مجموعة من الدول العربية منها الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب لتطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية مع إسرائيل برعاية أمريكية. لكن حرب إسرائيل على غزّة بعد السابع من أكتوبر 2023 منع تطبيع عُمان مع إسرائيل.
يرصد الهاشمي في دراسته خروج الشعب العماني في مسيراتٍ حاشدةٍ بعد صلوات الجمعة من أغلب الجوامع والمساجد في مدن البلد وقُراها، بالإضافة إلى الاعتصام الأسبوعي بين صلاتي المغرب والعشاء في الجامع الأكبر، وهو جامع الدولة الرئيسي. رُفعت في المظاهرات شعاراتٌ غير مسبوقةٍ تطالب بطرد السفير الأمريكي والسفير البريطاني، بالإضافة إلى تنامي الدعوات لقطع تصدير النفط والغاز.
وكان من بين أشكال التعبير الشعبي عن التضامن مع الفلسطينيين، حسب الهاشمي، الدعوة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية، والتي نتج عنها إغلاق محالّ تجاريةٍ وعلاماتٍ عالمية. صاحب ذلك تسابق الأطباء العُمانيين للدخول إلى قطاع غزة. وعلى الجانب الرسمي طالب مجلس الشورى بتوسيع مقاطعة إسرائيل. ونقلت صحف الدولة دعواتٍ بلغة إدانةٍ قويةٍ لمعاقبة مجرمي الحرب الإسرائيليين. وتصدّر مفتي سلطنة عُمان العام أحمد الخليلي التفاعلَ الرسمي مع ما يحدث في غزة بتحشيد الفضاء الشعبي العمومي في عُمان وبقية أرجاء العالم الإسلامي. وقد وصل إلى إدانة فتاوى شيوخٍ عربٍ تُثبّط من الجهاد في سبيل التحرير. وهذا ما قد يفسّر شعور الغزّيين ممّن قابلناهم بنوعٍ من الألفة والتآخي تجاههم في عُمان.
الصعوبات الاقتصادية لكثيرٍ من الغزّيين في السلطنة دفعت بعضَهم إلى اللجوء لطرقٍ التفافيةٍ للحصول على المال، عن طريق جمع التبرعات باستخدامهم تجارب وهميةً للتكسب. أشار حسن إلى أشخاصٍ يعيشون على روابط التبرعات موهمين بأنهم ما زالوا في غزة. ويجمع هؤلاء مئات آلاف الريالات، مثل حالة غسان (اسم مستعار) الذي يحتفظ بصورةٍ له من الخيمة بداية الحرب. تواصلنا مع غسان، لكنه وبمجرد الإشارة إلى الموضوع أقفل خطّ المكالمة. يعدّ أنس هذه الظاهرة غير خاصةٍ بالمجتمع الغزّي في مسقط، بل شاهدها في القاهرة بكثرةٍ، لكنه يبدي تحفّظاً حول هذه المسألة، إذ يرى أن الإشارة إلى حالاتٍ شاذةٍ كهذه يمكن أن تُستغَلّ لتُعمَّم. في حين أن كثيرين كانوا بحاجةٍ إلى المال ولم يسلكوا هذه الطرق. يقول: "أنا واحدٌ منهم، وفّرتُ خمسة آلاف دولارٍ فقط لتحصيل تكاليف التنسيق على معبر رفح من الجانب المصري".
وجد الغزّيون أن مسقط لا تشبه تصوّرهم عن "المدينة الخليجية"، إذ إنها بسيطةٌ عمرانياً ولا توجد بها ناطحات سحابٍ، وهو ما يسهم في هدوئها، الذي نوّه به جميع من قابلناهم. واعتبروا أن هذه ميزةٌ في البداية، لكن سرعان ما أصبح هذا الهدوء صاخباً. يقول أنس : "ضجيج أفكاري أكبر من ضجيج مسقط". لكن محمود جودة قال إن الفلسطينيين لا يحملون تصوراً وردياً عن الخليج، إلّا أن مسقط فاجأتهم ببساطة أهلها وتعاطفهم الكبير وتفاعلهم مع ما يحدث في العالم.
أما عن طرق التضامن بين الغزّيين، فهنالك مجموعةٌ من القنوات أبرزها على تطبيق واتساب. ومنها مجموعة "غزة في مسقط"، ومنها نوعان: الأول مختلطٌ، والثاني للنساء فقط. بعض ما يُتداول هناك رسائل عن عائلاتٍ تطبخ طعاماً فلسطينياً وتعرضه للبيع، أو عروض بيع أثاثٍ لعائلات لم يَطُل بها المقام في مسقط حتى حصلت على تأشيرة لمغادرتها. تقول مريم إنها، وقبل دخولها لمجموعة النساء، كانت تتفاجأ في كلّ مرّةٍ عندما تلمح في مجمّعٍ تجاريٍ أشخاصاً تعرفهم من غزة، كما لو أنها لم تبتعد كثيراً.
لكن أكثر ما يتشاركه أعضاء هذه المجموعات هي الأسئلة المتعلقة بكيفية الخروج من عُمان. وأهمّ هذه المجموعات على واتساب هي "المقيمين الغزيين في عُمان" وتحتوي على العدد الأقصى من الأعضاء الذي يمكن إضافتهم وهو ألفٌ وثلاثمئة مشترك. يتداول أعضاء المجموعة غالباً الأخبار الجديدة بخصوص التأشيرات لأوروبا أو الحاجة إلى مساعداتٍ ماليةٍ لأسرةٍ غزّيةٍ في مسقط. لكن الرسائل الأقلّ تلك التي ترتبط باستئناف الحياة التي أوقفتها الحرب. وقلّةٌ أولئك الذين سألوا عن آلية تسجيل أبنائهم في المدارس المحلية لإكمال تعليمهم الذي توقّف عامَيْن. يقول أبو نبيل إنه لن يُدرّس أبناءه هنا، وسينتظر فرج الحصول على التأشيرة التركية.


قدّم أنس لمكتب سفريات مبلغاً قدره ألفا ريالٍ عُمانيٍ (نحو خمسة آلافٍ ومئتي دولارٍ أمريكي) مقابل وعدٍ بالحصول خلال ثلاثة أشهرٍ على تأشيرة حضور مؤتمرٍ أو عملٍ في بريطانيا. إلّا أن المدة انقضت دون أن يتلقَّ أيّ ردٍّ، وما زال ينتظر. وكان قد قدّم في وقتٍ سابقٍ طلباً للسفارة الإسبانية بعد مرور ستة أشهرٍ على إقامته في مسقط دون نتيجة.
في الوقت نفسه، ما زال طارق وعائلته عالقين في دوامة انتظارٍ مشابهةٍ، إذ تجاوزت مدّة انتظارهم تأشيرة تركيا شهرين كاملين. وحين عاد طارق قبل أيامٍ إلى السفارة لاستعادة جواز سفره بغرض التقديم مجدداً، طُلب منه الانتظار مدّةً إضافيةً قبل ذلك.
وبينما تتكرّر هذه القصص، يتداول الغزّيون فيما بينهم أن السفارة الفرنسية أصبحت الأكثر سهولةً في قبول الطلبات وإجراءاتها، لتتحوّل الشائعات عن السفارات والتأشيرات إلى جزءٍ من يومهم العاديّ في مسقط.
وخلف الاعتبارات الاقتصادية والمعيشية، يعدّ الغزّيون حالةَ "الطوارئ" الوضعَ الطبيعيَ للقادمين من القطاع، بل إنها موجودةٌ حتى رغم استقرارهم فيه. لم يكن حسن يشعر بشيءٍ من الاستقرار قبل الحرب، على ثبات وظيفته وامتلاكه شقة سكنية وسيارة في مدينة غزة. لذلك يبرّر تعامل المجتمع الغزّي في مسقط مع كلّ شؤون الحياة كما لو أنها طارئةٌ ومؤقتة. فهذه الذهنية كما يرى تحكم جميع الممارسات، سواءً عبر قرار السكن في عُمان أو مغادرتها. لكنه قرّر أنه لن يستمرّ في التفكير بهذه الطريقة، فهو يبحث عن ما أسماه "الوصول" إلى مكانٍ ما، والتعامل معه في كونه مستقلاً عن الزمن الطارئ الذي يعيشه الغزّي. وأنه برغبته الاستثمار في مسقط والعيش فيها قد بدأ هذه الرحلة الجديدة.
يقول طارق إنه لن يتوقف عن محاولة اللجوء إلى أوروبا، وإنه مستعدٌ لفعل أيّ شيءٍ مقابل ذلك، حتى الركوب على جناح الخطر. يستدرك هذا الحديث بإشارةٍ إلى عدد المرات التي نجا فيها بأعجوبةٍ من القتل في غزة، لا يستطيع تجاوزها ولا الحديث عنها بالتفصيل. ثم يُكمل أن التجارب قد تشمل تزوير جوازٍ تركيٍ، أو السفر إلى الإكوادور أو الأرجنتين. وعندما أشرنا إلى خطورة هذه التصريحات ضمناً مع تحققها، قال إنه لم يعد يبالي وإنه سيجرّب. أمّا أمّ كريم فما زالت في خيمتها بالمواصي تنتظر قدراً يجمعها بزوجها خارج غزة.


تتجمّع في مسقط قصص الغزّيين كأنها مدينةٌ مؤقتةٌ داخل مدينةٍ، تتنفس على إيقاع الانتظار. يحاول القادمون من الحرب أن يزرعوا لأنفسهم حياةً عاديةً وسط فراغٍ لا يَعِدُ بشيء. يدرّسون أبناءهم، ويفتحون محالّ صغيرةً، ويقدّمون الطلبات ذاتها للسفارات ذاتها كلّ أسبوع. تتبدل الوجوه لكن الإحساس واحد: أن العالم لم يَعُد يملك مكاناً لهم إلّا في الهامش. بين مسقط الهادئة، ومجهولية المستقبل، ونفاد الخيارات، يمضي الغزّيون في مسقط كما لو أنهم يعيشون في استراحةٍ ما بين حربٍ وأخرى، يواصلون الحياة لأن لا خيار آخَر سوى ذلك.

اشترك في نشرتنا البريدية