برزت محاولاتٌ توفيقيةٌ بين العلم والدين في عدة رواياتٍ، مثل رواية "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي، و"نقطة النور" لبهاء طاهر. غير أن روايات نجيب محفوظ اختلفت عن المتن الروائي العربي العام بصيغتها التطورية سرداً ومضموناً، وبطبيعة حلّها التوفيقي في قراءة هذه العلاقة. إذ تكشف روايات محفوظ المتتابعة، من الثلاثية إلى "أولاد حارتنا" ومن ثم "حكاية بلا بداية ولا نهاية"، عن تتابع مراحل الفكر العربي نفسه وتنوعات اتجاهاته في التعامل مع هذه المعضلة. إذ عكست الانفصال أو التساكن، إلى الصراع، ثم إلى بروز حلم التوفيق المبدع القائم على قراءةٍ تأويليةٍ جديدةٍ للنص الديني. كذلك تتلاقى قراءة محفوظ السرديةَ الدينيةَ وموقع العلم منها مع بعض القراءات الفكرية الحديثة للقصص القرآني، وتبرِز تطويراً سردياً تفسيرياً لها.
تبوّأت الرواية مكاناً مركزياً في هذه الأنماط السردية الجديدة فصارت تمثل ديوان العرب الجديد، أو ديوان فئةٍ محدودةٍ منه، مثلما يرى الناقد المصري سيد البحراوي في كتابه "الحداثة التابعة في الثقافة المصرية" الصادر سنة 2007. واتخذتها هذه الفئة "فعالية تنويرية"، مثلما يسميها الناقد السوري عبد الرزاق عيد في كتابه "الأدبية السردية كفعالية تنويرية" الصادر سنة 2011.
كتب كثيرٌ من الروائيّين ونقّاد الراوية عن العلاقة بين الأنماط السردية وتجديد العقل ومن أهمهم يحيى حقي. ففي محاضرته "الحاجة إلى أسلوب جديد" التي ألقاها بجامعة دمشق في 25 مايو سنة 1959، المنشورة في كتاب "خطوات في النقد" المطبوع تكراراً، يرفض حقي "الأساليب السردية الموروثة من عصور الانحطاط". وهي التي يراها تبالغ في استخدام المحسّنات اللفظية والسجع اللفظي. إذ يعدّ هذه الأساليبَ غيرَ قادرةٍ على التعبير عن وجدان الفنان ولا عمّا تعاينه شخصياته. ويحاجّ أن الأساليب التقليدية تنتج جماليةً ذاتيةً نابعةً من رنين الكلمات، وهو ما يحجب ما يُراد التعبير عنه واقعياً، سواءً في روح الفنان أو في العالم حوله.
لذا ما يحاول حقي بلورته هو تصورٌ آخَر لجمالية اللغة يتناسب ومطلب "وضوح الفكر"، المطلب الأهمّ للفكر العربي الحديث. ويحصر جمالية اللغة في قدرتها على التعبير الدقيق عن الواقع، وهو ما تحققه الأنماط الحديثة مثل القصة والرواية.
كذلك تُبرز كتابات طه حسين دور الرواية فعاليةً تنويريةً، وعلاقة هذا بأنماط السرد الموروثة مثل الشعر والملحمة. اعتبر عميد الأدب العربي، فيما ينقل عنه عبد الرزاق عيد، أن الانتقال من الشعر وغنائيته وذاتيته إلى الرواية والمسرحية انتقالٌ من الكهانة والنبوّة إلى الفلسفة وانتقالٌ من النظام الاستبدادي إلى النظام الجمهوري الديمقراطي. لا تشير رؤية العميد إلى عصر انحطاطٍ أصاب الأنماط السردية يُراد التحرر منه عبر أنماطٍ سرديةٍ جديدةٍ، كما الأمر عند حقي. بل تقابل هذه الرؤية بين عصرين فكريين: من جهةٍ نجد نمطاً فكرياً يستند على تفسيراتٍ غيبيةً تتماشى مع سردٍ شعريٍ وملحمي، وفي المقابل نجد نمطاً آخر يعتمد التفسيرات الفلسفية والعلمية التي تتماشى أكثر مع السرد القصصي والروائي والمسرحي.
في كتابه "ثورة الأدب"، الصادر سنة 1933، يشير الأديب المصري محمد حسين هيكل إلى العلاقة ذاتها. إذ يرى أن الأدب القديم في كل الأمم سواءً العربية أو الغربية كان يهتم باللغة، فهي كساء العمل الفني وتوضع أحياناً في المقام الأول بين كل عناصره، فيبالغ في تزيينها. غير أن ما يميز الأدب الحديث، حسب هيكل، هو اختياره من الكساء اللغوي ما يكون أكثر شفافيةً في التعبير عن المعاني والصور. والرواية قادرةٌ بشفافيتها هذه على تربية الوجدان، الذي هو أحد أسس إصلاح العقل والفن. فلا سبيل لتربية الوجدان إلا بالاتصال المباشر بالحياة الواقعية بدلاً من خلق حواجز لغويةٍ تحول دون التعبير عن هذه الحياة.
وبنمطٍ مشابهٍ، يرى عبد الرزاق عيد البناءَ الروائيَّ أكثرَ مناسبةً للعقلانية الحديثة والتعدُّدية الفكرية من البلاغة الشعرية. فلهذا البناء قدرةٌ على التعبير عن موضوعية الواقع وعلى كسر أحادية الصوت الذي تجسده "الأنا" لدى الشاعر التقليدي، موفرةً مساحةً لتعدد الأصوات وتساويها. يمكِّن ذلك الروايةَ من مقاومة النزعة الإملائية والوعظية، وما تبطِّنه هذه النزعة وفقاً لعيد من خضوع الملموس للماورائي ونزع الأحداث من سياقها السببي.
على ذلك، يعتقد عيد أن أغلب الروايات العربية ما زالت تسجل حضور "أنا المؤلّفِ" التي حوّلت الرواية في أحيانٍ مسرحاً للكاتب وتحيزاته وميوله. وهذا المنحى قد يهمش جزءاً من عناصر الرواية البنيوية، وأهمها شخصياتها. لذا لا يرى عيد أن الرواية العربية حقّقت بالضرورة الانتقال من الغنائية للعقلانية إلا في حالاتٍ قليلةٍ، وربما يكون أفضلها حالةً رواية نجيب محفوظ التي يعدّها مُحدِّداً في تاريخ الرواية.
تأتي أهمية رواية نجيب محفوظ في كونها مثالاً على تنويرية الرواية، وكذلك في طبيعة مؤلفها الذي اهتم بقضايا التنوير وانغمس بالفلسفة وعاش معضلات العقل والدين من خلالها. فهو تلميذ علمين من أهم أعلام الجدل بين الدين والعلم، وهما سلامة موسى رائد الاشتراكية المصرية، والشيخ والأديب المصري مصطفى عبد الرازق. وهو كذلك ابن حيّ الجمالية ومجاوِر مسجد الحسين، امتزج عقله في شبابه بأفكار فلاسفةٍ مثل الفرنسي هنري برغسون، وعالم الطبيعة الإنجليزي تشارلز داروين، ومؤسِّس التحليل النفسي سيغموند فرويد، ومؤسِّس الماديّة الجدليّة كارل ماركس.
تطوّر شكل السرد في رواية محفوظ ليقترب من التعددية والعقلانية التي وصفها عيد. فمثلاً تبرز رواياته الأولى، مثل "خان الخليلي" الصادرة سنة 1954 و"زقاق المدق" الصادرة سنة 1947، حضورَ "الراوي العليم" الذي يَعلم ويوجِّه مسارات شخوصه. إلا أن محفوظ آنذاك، كما يجادل عيد، ظلّ محافظاً على التوازن الدقيق بين حضور "أنا المؤلّفِ" وغيابه. ثم تأتي رواياته المتأخرة مثل "أفراح القبّة" الصادرة سنة 1989، لتُبرز تعددية أصوات الشخوص ومنظوراتهم عن الحدث ذاته بعيداً عن أيّ راوٍ متعالٍ، ولتدمج صوت المؤلف صوتاً ضمن الأصوات الأخرى في النص، وليس الطاغي عليها.
ويرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة محمد صُفّار في مقالته "أزمة التأسيس الفلسفي عند نجيب محفوظ" المنشورة في كتاب "الأصوليات" الصادر سنة 2016، أن اتجاه محفوظ للأدب بدلاً عن الفلسفة، جاء بسبب ضيق الفلسفة في مقابل رحابة الرواية. جعل ذلك الروايةَ المكانَ المناسبَ لتفلسف محفوظ ونقاشاته حول الأسئلة الكبرى عن أصل الكون والإنسان ومآلهما. فالرواية مثَّلت التطور الخلاق الحقيقي لتساؤلات الفيلسوف الشاب.
لا ينتهي الأمر عند الاشتغال الفلسفي. فحين النظر لعلاقة العلم بالدين، ينكشف بعدٌ آخَر لتميُّز رواية نجيب محفوظ. وفي القلب من هذا معضلة إيجاد صيغةٍ للتعايش بين قطبي هذه العلاقة.
تتابع رواية "قصر الشوق"، الجزء الثاني من الثلاثية الصادرة سنة 1956، حياةَ أسرة "السيد أحمد عبد الجواد" بعد عدّة أعوامٍ من وفاة ابنه "فهمي" أثناء أحداث ثورة 1919. يخرج السيد أحمد من عزلته ليتعرف على عالم أبنائه الآخرين. يجسد نجيب محفوظ صراع العلم والدين فيما يعيشه "كمال" ابن السيد أحمد في عِدّة مشاهد. الأول هو مشهد استدعاء الأب ابنه كمال، بعدما سمع أنه نشر مقالاتٍ تتحدث عن نظرية نشوء الإنسان متطوراً من سلفٍ حيواني. يسأل الأب ابنه أين آدم من هذه النظرية، فيجيب الابن بأن داروين لم يتحدث عن آدم. تصبح هذه المساءلة الأبوية سبباً في تذكُّر كمال تلك الليالي التي عاناها مع هذه النظرية، كيف شكّكته في القرآن وفي حقيقية السردية الدينية عن آدم والفردوس، وعرّضت إيمانه للسقوط في محضر النظريات العملية الحديثة. المشهد الثاني هو مشهد تأمُّل كمال في انهيار عالمه الذي عاشه طفلاً، صورته عن أبيه وصورته عن الدين، اكتشافه أن الحسين ليس مدفوناً على مقربةٍ منه، وأن المقام الذي طالما ذهب إليه صغيراً يدعو عنده، ليس سوى مقامٍ فارغ.
هذان المشهدان يجسِّدان ما يسميه أستاذ الفلسفة المصري علي مبروك "بنية التجاور في الفكر العربي الحديث". يرى مبروك في كتابه "ثورات العرب خطاب التأسيس" المنشور سنة 2012، أن الفكر العربي النهضوي الحديث سيطرت عليه بنيةٌ تجاوريةٌ تتمثل في وجود الأفكار التقليدية إلى جوار الأفكار الحديثة. وهو ما يشبه التجاور المؤسسي في وجود مراكز التعليم والمؤسسات الحديثة فوق بنية مجتمعٍ غير حديث. وينوّه مبروك إلى أن هذا التجاور يؤدِّي إلى تلفيقٍ أو توفيقٍ غير عميقٍ وسطحيٍّ، ما يؤدِّي إلى "تساكن الأفكار" بدلاً عن تفاعلها.
ففي مشهد السيد أحمد عبد الجواد وابنه كمال، يتساكن الفكر التقليدي والحديث في بيتٍ واحدٍ أو داخل نفسٍ واحدةٍ، نفس كمال، مع تأجيل الحسم مثلما يُعبِّر محمد جابر الأنصاري في كتابه "صراع الأضداد" الصادر سنة 1995. إلا أن هذا التساكن يؤدِّي للصراع في أيّ لحظةٍ بسبب عدم الاتساق بين المنظومات الفكرية التقليدية والحديثة وعدم الاتجاه لمحاولة التوفيق العميق بينهم.
على صعيدٍ آخر، تشهد رواية "اللص والكلاب" الصادرة سنة 1961 انتقال رواية نجيب محفوظ من السكون للحركة، ما ينبئ عن ظهور صراعٍ ما. هذا ما يشرحه يحيى حقي في دراسته "الاستاتيكية والديناميكة في أدب نجيب محفوظ" المنشورة سنة 1963 في جريدة الأهرام المسائي، والمنشورة ضمن كتاب "عطر الأحباب" المطبوع في غير طبعة. الأمر هنا متعلقٌ ببنية الرواية أكثر من الحوار السائر فيها كما هو الحال في "قصر الشوق". ينتقل السرد من "الراوي العليم" الذي يسرد أحداثاً تدور في أماكن ثابتةٍ، إلى تيار الوعي الذي ينقل لنا الصراع النفسي لبطل الرواية "سعيد مهران" في رحلةٍ واقعيةٍ يخوضها ويتحمل نتيجتها.
يخرج سعيد من السجن بعد أربعة أعوامٍ قضاها بتهمة السرقة، فيصمم على الانتقام من الذين خانوه، ومنهم زوجته. يذهب للشيخ الجنيدي المتصوف الذي عرفه منذ طفولته، وهناك يتلقى بعض النصائح. ثم يتوجّه لصديقه "رؤوف علوان" الصحفي الاشتراكي الذي وجده وقد تبوأ منصباً وأفسدته السلطة، ويقرر أن ينتقم منه هو أيضاً ويزداد حنقه على الناس. تتسارع الأحداث مع محاولة سعيد قتل علوان ونهاية سعيد بقبض الشرطة عليه بعد عودته للشيخ جنيد. يعيش سعيد في الرواية صراعاً بين تربيته الصوفية وبين تعليمه الاشتراكي على يد رؤوف علوان. فقدان الثقة يدفع سعيد للعودة إلى الشيخ جنيدي الذي يمثِّل ماضيه الديني المكبوت بفعل التعاليم الحديثة. إلا أن العودة ليست ارتماءً في أحضان الماضي، بل بحثاً عن طريقٍ جديد. فلا يزال لسعيد شكوكه في أفكار الشيخ وفي وجود عدلٍ في الكون.
في شقة "نور"، بائعة الهوى التي عرفها قبلاً ولجأ إليها بعد محاولته قتل رؤوف علوان، يعقد سعيد محاكمةً خياليةً للجميع الذين رأى أنهم آذوه. ويستحضر محاكمته على رصاصه الطائش الذي أصاب الأبرياء خطأً أثناء محاولته تحقيق العدل بالانتقام، فينظر لها تضحيةً به. فهو فدية الجبناء الذي لا يريدون أن يشكِّكوا في عدل الكون أو في سلامة أفكار البشر، فيعيشون في أحدهما أو بالتساكن بينهما. لذا فسعيد مهران هو المسيح المصلوب لا لرفع خطايا أحدٍ بل لحجب هوّة العالم المظلمة، كما يُعبِّر الفيلسوف والروائي اليوناني نيكوس كازانتيكس في كتابه "تقرير إلى غريكو" المترجم للعريية سنة 2000. هوّةٌ كشف عنها انهيار المادية الجدلية العلمية والتصوف الديني، إذ ظهر عجزهما عن تحقيق الخلاص البشري، وتفتت الذات في الصراع باحثةً عن أفقٍ جديدٍ للنظر والفعل.
يحضر الأفق الجديد في روايات نجيب محفوظ اللاحقة عملياً لا نظرياً، ويبرز في روايتَي "السمان والخريف" الصادرة سنة 1962 و"الشحاذ" الصادرة سنة 1965.
تستعيد "السمان والخريف" موضوعات التضحية والفداء وصورة المسيح في "اللص والكلاب"، لكن ينتهي الأمر بالبطل "عيسى الدباغ" – الموظف الحكومي والعضو السابق بحزب الوفد الذي يفقد منصبه وخطيبته بعد ثورة يوليو 1952 – لتحمُّل مسؤوليته الوطنية. هذا بدلاً من التباكي على غياب العدل في العالم كما فعل سعيد مهران. العودة العملية قد تستطيع حلّ معضلاتٍ مثل العدل، والذي يربطه نجيب محفوظ هنا بحرّية الإنسان ومسؤوليته، بدلاً من ربطه بالصلاحية المطلقة للعقائد الدينية والعلمية.
في رواية "الشحاذ" يستمر نهج البحث عن حلولٍ عملية. تدور أحداث الرواية حول "عمر الحمزاوي"، رجل القانون الذي يخنقه الضيق من حياته، ما يدفعه للعزلة والبحث عن إجاباتٍ لأسئلةٍ وجوديةٍ لا يملكها. يخيِّم على أول مشاهد الرواية الظلام والحيرة الناتجان عن الوقوف خارج الثنائية الحامية "الدين والعلم" بعد ظهور فراغها. نرى في بداية الرواية طفلاً يمتطي حصاناً خشبياً في أفقٍ تُطبِق فيه السماء على الأرض سجناً. وبعد سطورٍ قليلةٍ نكتشف أن هذه مجرد لوحةٍ معلقةٍ عند الطبيب الذي يزوره عمر الحمزاوي. يأتي إطار اللوحة وأسئلة الطبيب لتصنع حاجزاً أمام البطل ولتُطبِق سماؤه على أرضه، فيبحث عن منفذٍ إلى المقدس في هذا الأفق المغلق. عمر اشتراكيٌ قديمٌ يبحث عن عدلٍ خارج الاشتراكية العلمية، وعن إلهٍ خارج التصوف الديني التقليدي. فهو بقيّة سعيد مهران في "اللص والكلاب"، إلا أن الحل العملي الذي ناسب رجلاً قليل التعليم مثل سعيد ورجل سياسةٍ مثل عيسى الدبّاغ، لا يكفي الحمزاوي الفنانَ الأديبَ مثل محفوظ. ولكن يبقى سؤال التوفيق بين ثنائية الدين والعلم مخرجاً للبطل غير مكتمل.
وفيما تتوافق محاولات محفوظ في الروايتين مع بعض الفلسفات العملية والوجودية، مثل فلسفة الأمريكي وليام جيمس، وفلسفة برغسون الأثيرة لدى محفوظ، تظلّ غير كافية. إذ يبقى السؤال النظري الأساس الذي تركه السيد أحمد في "قصر الشوق" على روح ابنه كمال وعقله مُلِحّاً: كيف يمكن فعلياً التوفيق بين أفكار الدين والعلم النظرية عن الإنسان والعالم.
تدور أحداث الرواية في حارةٍ مصريةٍ قديمةٍ عبر عدّة أجيالٍ من الشخوص الذين يواجهون الظلم. كل بطلٍ في الرواية مجازٌ تمثيليٌ لشخصيةٍ دينيةٍ تاريخيةٍ، وتتلخص عقدتها في محاولة تحقيق المساواة والعدالة في الحارة. وتمثل هذه الرواية حسب جورج طرابيشي في كتابه "الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية" الصادر سنة 1973، إعادة كتابةٍ لتاريخ البشرية منذ آدم إلى الآن. لا أهمية هنا لدقة التفاصيل التاريخية، فهي تحضر في النص مجرد تمثيلاتٍ لا حقائق تاريخية. يعني هذا قبول النص إعادة الكتابة بلغةٍ جديدةٍ وبناء شخصياتٍ وتمثيلاتٍ جديدة. ما يتيح لنجيب محفوظ دمج العلم داخل هذه السردية العامة بعد عصرنتها، أي إعادة تفسيرها وتطويرها لتتناسب مع مفاهيم العصر الحديث. هنا يصبح العلم، مثل الدين، طريقاً لمعرفة الحقيقة وتحقيق العدل.
غير أن دمج العلم داخل التاريخ الديني الشامل يبدو في "أولاد حارتنا" دمجاً قلقاً. "عرفة" الذي يمثِّل العلم المادي يظهر نبيّاً للعصر الجديد، إلا أنه بات أداةً للقوة الغاشمة وانتهى به الأمر بقتل الجبلاوي، الذي يسكن قصراً على هضبةٍ في الصحراء يمثل "الفردوس" ينعزل فيه عن سكان الحارة الذين يعانون الفقر والفاقة، ومنه يسيطر على أراضي هذه الحارة. ويبدو أن نجيب محفوظ هنا يستعيد في توصيفه عرفة والقوة الغاشمة التي قد تسيطر عليه وتستغله، وهو موضوعٌ مكررٌ في كثيرٍ من أعمال ما بعد الحرب العالمية الثانية. منها مسرحية توفيق الحكيم "سليمان الحكيم" الصادرة سنة 1943، التي تبرز كيفية تعامل الإنسان المعاصر مع القوة الكبرى التي استطاع الوصول لها بالعلم. يشكّل هذا الموضوع ضمن أدب محفوظ والحكيم جزءاً من نقدهم لشكل استغلال العلم في الحرب العالمية الثانية، والمتوَّج بالقنبلة الذرية والرعب من المستقبل الذي أحدثته.
إلا أن محفوظ في "أولاد حارتنا" يبدو أكثر تفاؤلاً، بجملته النهائية الشهيرة: "لا بُدّ للظلم من آخِر، وللّيل من نهارٍ، ولنَرَيَنّ في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب". يرجع هذا التفاؤل لكون عرفة في الرواية وعلى أخطائه ليس سوى استمرارٍ لسلالة الأنبياء، مستقيمٌ لكن ليس بلا هفوات. يبرز هذا عندما يندم عرفة على قتل الجبلاوي، ويترك كراسته المدوَّن فيها تعاليمه لتكون الطريق المعاصر للعودة إلى بيت الجبلاوي، "الفردوس".
الرمزية هنا هو أن العلم ليس سوى رسالة هذا العصر، لا يقلّ دينيةً أو نبويّةً عن تعاليم الأنبياء القدامى الساعين للحقيقة وللعدل. وهذه الرسالة وإن انحرفت عن طريقها، إلا أن تقويمها أخلاقياً ممكنٌ، والطريق الأول لهذا هو النظر لها مرحلةً من مراحل الوحي والإعجاز الإلهي في تفاعله مع الوجود البشري في العالم.
تُوّج مسعى نجيب محفوظ بدمج العلم في السردية الدينية في روايته القصيرة "حكاية بلا بداية ولا نهاية" الصادرة سنة 1971، ضمن مجموعة تضمّ خمس قصصٍ متداخلةٍ ولا تحوي أيٌّ منها بدايةً أو نهايةً محدّدةً ("حكاية بلا بداية ولا نهاية" و"حارة العشاق" و"روبابيكا" و"الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين" و"عنبر لولو"). في الرواية يثور شباب الحارة الجامعيون الفقراء على "محمود الأكرم" شيخ الطريقة الأكرمية، معتبرين أن الطريقة خرافاتٌ لا تتناسب مع العصر، ووجب طمسها واستبدالها بالحقيقة. يواجه "الشيخ تغلب الصناديقي"، أحد مريدي الطريقة، معضلةَ "كمال" النظريةَ في "قصر الشوق": الدين وقصصه في مقابل النظريات الحديثة عن الكون والإنسان. إلا أن الشيخ لا يرى تعارضاً بين قصص "الأكرمية" والنظريات الجديدة، بل ينظر لهذا القصص قصصاً تمثيلياً يُظِهر طبيعة الإنسان وتعقّده وقدرته على الانطلاق نحو السماء، على ضِعَة أصله. لا تُعارض النظريات العملية لفرويد وماركس وداروين هذه الحقائقَ القائمةَ خلف التمثيل، وتتمثّل مهمة الدين المستنير في عملية الإبقاء على قيم الدين الكبرى، مع دمج النظريات داخل هذا البناء الروحي الشامل. يحضر العلماء الثلاثة في رواية محفوظ مرمَّزين ثلاثةَ خطاةٍ مارقين، إلا أن الشيخ تغلب يُبرزهم مريدين يحرِّكهم الفهم والحبّ حتى إن جانَبَهم الصواب. هنا لا يصبح العلم خصيماً للدين ولا مجاوراً له، بل أحد مراحل انكشاف حقيقة الدين ذاته، أو مراحل تطوُّر روحه الخلاق.
تتلاقى رؤية نجيب محفوظ للقصص الديني مع رؤية الكاتب المصري محمد أحمد خلف الله في كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم" الصادر سنة 1951، وتمثِّل تطويراً لها. تقوم رؤية خلف الله على اعتبار القصص القرآني في معظمه قصصاً تمثيلياً لمجموعة أفكارٍ، وأن المهم فيه ليست تفاصيله التي قد تخالف التاريخ والعلم الحديث، بل جوهره ومعناه، القادر على البقاء لارتباطه بالقيم المركزية الأخلاقية لهذا الدين. لم يقف محفوظ عند الحدّ الفكري الضيّق بكشف تمثيلية القصة، بل استعاد برحابةِ الروايةِ القصصَ الدينيَّ تفسيرياً، طارحاً تفاصيله التاريخية، ومبقياً على مرتكزاته القيمية والروحية ضمن لبوسٍ تخييليٍ معاصر، ما يجعل رواياته أقرب لدمجٍ مبدعٍ بين العلم والدين عبر وساطة السرد.
وفيما يشهد السياق المعاصر تطوراتٍ واسعةً في دراسة الدين ولغته وبنيته السردية، وكذلك في طبيعة العلم ذاته، يظلّ الحلّ التأويلي بالسرد مهماً في إجابة الأسئلة الكبرى. وتظلّ شخوص محفوظ ومعاناتها مع حلّ هذه المعضلة وثيقةً باقيةً جديرةً بالاستعادة، ضمن رحلة الفكر العربي والإسلامي المنطلقة من رحابة النص الديني السردية لاستيعاب تحولات الواقع والعقل.

